ثورة الثلاثين من يونيو - الواقع والتحديات


صلاح السروى
2013 / 8 / 2 - 06:34     

جاءت ثورة الثلاثين من يونيو 2013 استكمالا مظفرا لمسيرة ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011, حيث تعد الحلقة الثالثة من حلقاتها. فاذا كانت الحلقة الأولى قد تمكنت من الاجهاز على نظام الفساد والاستبداد والتبعية الذى كان يراسه مبارك, فلقد تمكنت الحلقة الثانية من ازاحة نظام المجلس العسكرى بقيادة طنطاوى وعنان الذى حاول اجهاض الثورة واغتيال اهدافها وشبابها معا, والوقوف بها عند مجرد ازاحة مبارك ومشروعه التوريثى, دون السماح لها باستكمال باقى أهدافها فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية, وعندما فشل سيناريو اجهاض الثورة لجأ طنطاوى وعنان برعاية أمريكية الى التمهيد لسيطرة الاخوان وقوى الاسلام السياسى على مقاليد السلطة فى محاولة متجددة لتمرير المخططات المريكية فى الابقاء على مصر تابعة وأسيرة للقرار الامريكى. ومن ثم جاءت الحلقة الثالثة لتزيح أخطر ما منيت به فى تاريخها, ألا وهو خطر الردة الحضارية والانفصال عن الزمن والعودة الى الوراء لآلاف السنين الذى تمثله قوى الاسلام السياسى وعلى رأسها جماعة الاخوان المسلمين, فضلا عن التهديد الخطير للأمن القومى المصرى الذى مثله استيلاء هذه الجماعة على حكم البلاد. فلقد حاولت هذه الجماعة مع حلفائها اختطاف الثورة والوطن لصالح مخطط تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويجرى تنفيذه برعاية قطرية وتركية من اجل تفتيت التراب الوطنى وتهديد كيان الدولة المصرية باغراقها فى لجة التناحر الطائفى والصراع الدينى, ربما للوصول بها الى النموذجين العراقى والسورى.
لقد حاول الغرب الامبريالى استخدام نظام الاخوان ليصبح بمثابة الاسفنجة التى يتم من خلالها امتصاص قوى التطرف والارهاب لحماية دوله من خطرهما, وفى نفس الوقت جلبهما الى مصر ليعيثا فيها الفساد ويشيعا فيها التخلف والجهل ويغرقاها فى الدماء والانقسام والتفتت بما يؤدى الى الضمان التام لأمن اسرائيل وأن تصبح القوة الأعظم فى المنطقة بعد تدمير كل الدول والجيوش التى تمثل خطرا ولو محتملا عليها. وفى مقابل الاعتراف بالاخوان والتمكين لهم سياسيا بتنصيبهم حكاما لأكبر دولة عربية يجرى تطويعهم لخدمة المخططات الأمريكية – الصهيونية, ولقد كانوا على أتم استعداد لذلك.
فالاخوان هم الذين رعوا اتفاق الهدنة بين حماس واسرائيل وبموجب هذا الاتفاق تنعم اسرائيل لأول مرة فى تاريخها القصير بكل الأمن والسلام. وهم الذين صموا آذانهم ولم يدلوا بأى تعليق على قرار أوباما باعتبار القدس عاصمة أبدية لاسرائيل, وهم الذين خرسوا ازاء الانتهاكات الصهيونية للمسجد الأقصى, بعد أن كانوا يخدعوننا بشعاراتهم عن "خيبر يا يهود" و"عالقدس رايحين شهداء بالملايين". والأخطر أنهم قد أظهروا كامل الاستعداد للتنازل عن التراب الوطنى لتوسيع قطاع غزة واستيعاب اللاجئين الفلسطينيين فى شبه جزيرة سيناء , وشرعوا فى تنفيذ المشروع المشبوه الخاص بقناة السويس فى محاولة محتملة لفصلها عن الجسد الجغرافى والسيادة الوطنية المصرية, فضلا عن تساهلهم فى منح اقليم حلايب وشلاتين الى السودان.
ان عملية انشاء دول فى الشرق الأوسط على اسس دينية انما يهدف بالأساس الى التمهيد لاعلان اسرائيل دولة يهودية لكل يهود العالم باعتباره أمرا منطقيا وطبيعيا فهى دولة تقوم على أساس دينى تقع وسط دول تقوم على أسس دينية. فضلا عن النتائج المهمة التى تستتبع ذلك من دخول هذه الدول على نحو حتمى فى أتون صراع طائفى ودينى بين المكونات الطائفية الفسيفسائية لهذه البلدان, فيحل الصراع الاسلامى – المسيحى والصراع السنى – الشيعى .. وهلم جرا, محل الصراع العربى الاسرائيلى. ولقد رأينا بوادر ذلك واضحة وماثلة للعيان فى مصر حيث تعاظم مسلسل الاعتداء على الكنائس وتمت محاصرة الكاتدرائية المرقسية للاقباط الأرثوذكس واطلاق قنابل المولوتوف والأعيرة النارية عليها لأول مرة فى التاريخ منذ الفتح العربى, كما تم كذلك لأول مرة فى التاريخ مهاجمة أبناء الطائفة الشيعية فى قرية أبو النمرس وقتل وسحل أربعة من أبنائها والتمثيل بجثثهم, فضلا عن انتشار جماعات المر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المدن والقرى وما صاحب ذلك من اشتباكات وجرائم قتل فى السويس وغيرها, وظهور انواع من القتل الوحشى خارج القانون, الذى يعقبه تعليق الجثث على أعمدة الانارة. هكذا بدأ سيناريو البربرية والتوحش المنفلت من عقال القانون واحترام حرمة الدم وحق الاختلاف. فأصبح الهدف ان نقضى بأنفسنا على انفسنا وأن يرتد بأسنا الى نحورنا بدلا من نحور أعدائنا الحقيقيين.
ومن ثم بات من المطلوب على المستوى الاستراتيجى أن يصبح الصراع الرئيسى فى المنطقة صراع الطوائف المتناحرة والقوميات المتصارعة بعد أن كان صراعا بين الامبريالية وربيبتها اسرائيل من ناحية وحركة التحرر العربية من ناحية أخرى.
هكذا كان مقدرا علينا أن نصل الى هذا المصير البائس. ولكن وعى ويقظة الشعب المصرى أفسدا كل هذه المخططات فجاءت ثورة الشعب المصرى العارمة فى الثلاثين من يونيو واقصاء الرئيس المنتدب من جماعة الخيانة فى الثالث من يوليو لتفسد كل هذه المخططات ولتجعل دوائر صنع القرار الأمريكية فى حالة أزمة حقيقية, حيث قاربت مصر على الافلات من قبضة الهيمنة الأمريكية الغربية بعد قرابة الأربعين سنة من التبعية والتذلل. ولعل هذا ما يفسر الحركة المحمومة لقادة الغرب فى رحلاتهم المتكررة الى مصر وضغوطهم المتواصلة عليها من اجل اطلاق سراح الرئيس المعزول وقادة الجماعة المعتقلين على ذمة قضايا تمس الأمن القومى للبلاد, والدفع باتجاه الوصول الى صيغ للمصالحة مع قادة هذه الجماعة بما يضمن استمرارهم فى الحياة السياسية المصرية لضمان امكانية مواصلة ذات الخطة فى التفكيك والتفتيت أو على الأقل استثمار وضعهم القانونى من اجل ابتزازالقيادة المصرية الجديدة والعمل على تطويعها للقيام بذات المهام السابقة.
طبيعة التناقض القائم وأطرافه
ان التناقض القائم فى مصر اذن ليس مجرد تناقض بين قوى سياسية معارضة وجماعة رجعية وصلت الى السلطة ففشلت فى الاقتصاد والسياسة وظهرت مخاطر استمرارها فى ممارستها فجرى اقصاؤها منها بواسطة ثورة شعبية أيدها الجيش, وانما يتبدى التناقض فى مستواه الأعمق قائما بين الشعب المصرى بمختلف طوائفه وطبقاته وقواه السياسية المدنية الديمقراطية, من ناحية, وبين القوى الامبريالية وعملائها وصنائعها من قوى الاسلام السياسى من ناحية أخرى.
لذلك فاننا نعتبر ان ثورة الشعب المصرى فى 25 يناير 2011 فى حلقاتها المتعددة انما هى امتداد لكل مراحل الثورة الوطنية الديمقراطية التى بدات مع الثورة العرابية عام 1881 وتواصلت مع ثورة عام 1919, لتتوج بالاستقلال والانطلاق فى التنمية مع ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 . ومن الواضح أن الامبريالية قد طورت من أدواتها فى المرحلة التى ورثت فيها الولايات المتحدة زعامة معسكرها فاستغلت فشل وضعف وتشوه بعض القادة المنتمين الى البرجوازية الصغيرة التى قادت ثورات التحرر الوطنى لتحول الدول المتحررة حديثا الى دول تابعة قابعة تحت الهيمنة الغربية رغم كل الدماء التى انهمرت قربانا للحرية, وان بدت فى اهاب يبدو مستقلا.
وهنا كان على الشعب أن تقول كلمته الباترة الحاسمة لتعيد الثورة من اجل الحرية الى فلكها. وهكذا كانت ثورة الشعب المصرى ثورة تسعى الى استكمال الاستقلال الوطنى عن كل اشكال التبعية والاذعان للأمريكان , ولعل هذا ما جعل الجماهير تبدى كل هذا الاستبشار والأمل فى موقف الجيش وقائده وتسعى من خلاله الى استعادة زخم المرحلة الناصرية.
وهذه الثورة من ناحية أخرى انما هى ثورة ديمقراطية, تعادى الاستبداد والدولة البوليسية وتسعى الى تحقيق الكرامة الانسانية ولعل هذا ما تبدى فى شعارها الأثير: "ارفع راسك فوق انت مصرى". فى ترجمة مباشرة لمعنى التحرر السياسى والقانونى من ربقة العسف البوليسى وقيم الدولة الشمولية.
ثم ان هذه الثورة لاتعدم جانبها الاجتماعى , بل انى اكاد أعتبره جبل الثلج العائم الذى لايظهر منه الا جزؤه العلوى اما البقية العظمى من جسده فهى تقبع تحت السطح منذرة بالموجة الثورية القادمة.
الجيش ينتصر للارادة الشعبية
ولأن كل ثورة يتعين عليها أن تحوذ على عنصرين: الأول هو الحركة الاحتجاجية السياسية المنظمة للجماهير العادية, والثانى هو القوة التنفيذية المتمثلة فى جيش الثورة وقواها المسلحة المنظمة التى تحول شعارات الثورة وأهدافها الى واقع ملموس فتجهز على رموز وعناصر النظام القديم وترسى الأسس المادية والشروط الأمنية اللازمة لقيام النظام الجديد, فقد توفر للثورة المصرية عنصرها الأول بجدارة ملحوظة, حيث وصلت العرامة الثورية للجماهير المحتشدة الى معدلات غير مسبوقة فى التاريخ الانسانى حتى وصلت بعض التقديرات الى نزول عشرات الملايين (33 مليون) من أبناء الشعب الى الشارع فى وقت واحد, ناهيك عن عمليات التبديل والانصراف والحضور التى تتم على مدار الأيام والأوقات. الأمر الذى ينفى أية محاول للتشكيك فى أن ماحدث فى الثلاثين من يونيو حتى السادس والعشرين من يوليو انما هو ثورة شعبية كبرى تفوق أكبر الثورات فى العالم من حيث الاحتشاد الجماهيرى. الا أن هذه الثورة افتقدت الى العنصر الثانى المتمثل فى القوة التنفيذية أو جيش الثورة, فتعين عليها أن تستعيض عن ذلك بالجيش الوطنى المصرى الذى أبدى انحيازه الواضح للخيار الشعبى لاعتبارات تقع فى صميم مهمته الوطنية , ألا وهى الحفاظ على الأمن القومى المصرى, وهى المهمة التى ماكان لأحد القيام بها الا هذا الجيش الذى يشهد تاريخه على جدارته بهذه المكانة الجليلة فى الوجدان الشعبى المصرى. ومن هنا تبنت قيادة الجيش مطالب الشعب, الذى هو مصدر الشرعية الوحيد والقادر وحده على منح السلطة أو نزعها, فى انهاء حكم ذلك النظام الكارثى على حاضر ومستقبل المصريين.
ان موقف الجيش من الثورة اذن انما هو موقف المساند والمستدعى وليس موقف المملى والمبادر, ومن ثم فان تسمية ما حدث بأنه انقلاب عسكرى لهو أمر مجاف بالكلية للحقيقة والواقع , والتسمية الحقيقية له انه ثورة شعبية ساندها الجيش الذى هو جيش الشعب المتكون فى جميع رتبه من ضباط وصف وجنود من أبناء الشعب كل الشعب بكل شرائحه ومناطقه وطوائفه دون استثناء.
المرحلة الانتقالية واستحقاقاتها
لقد احتوى بيان الثورة الذى ألقاه الفريق أول عبد الفتاح السيسى على مجموعة من النقاط التى سميت بخريطة المستقبل, وهى فى جوهرها لم تخرج عن ما جاء فى وثيقة تمرد التى وقعها أبناء الشعب المصرى منذ ستة أشهر سبقت الثورة فى الثلاثين من يونيو, وهى تحتوى على تولية رئيس المحكمة الدستورية السلطة باعتباره رئيسا مؤقتا للبلاد الى حين تعديل الدستور (أو صياغة دستور جديد) ومن ثم انتخاب برلمان ورئيس جديد للبلاد, ومن ثم تستأنف مصر حياتها السياسية الطبيعية بعد ذلك.
ونعتقد أن هذه المرحلة يكتنفها الكثير من المخاطر: لعل أهمها حالة التوتر التى تعيشها البلاد بفعل اعتصامات ومسيرات الاخوان وحلفائهم من المتأسلمين, تلك التى يمكن أن تؤدى الى توتير الأجواء على الصعيد الأمنى , الأمر الذى سيؤدى بالضرورة الى مفاقمة المشكلات الاقتصادية التى تمر بها البلاد مثل عرقلة امكانية استعادة السياحة لحركتها الطبيعية, وعودة حركة الاستثمار وتشغيل المصانع المتوقفة .. الخ . كما أن استمرار هذه الاعتصامات والمسيرات يخلق مبررا لمزيد من الضغوط والتدخلات المحلية والاقليمية والأجنبية بدعوى أن أمر السلطة لم يحسم بصورة نهائية بعد, وهذا ما تسعى الى الايحاء به جماعة الاخوان ومن ثم تستقطب المساعدات وتجهز الميليشيات وتصبح عملية استئناف الحياة الطبيعية فى مصر أصعب مع الوقت وأكثر تعقيدا. لذا فاننا نطالب الجهات المسؤلة فى الرئاسة والحكومة سرعة حسم أمر هذه الاعتصامات حماية للثورة وحفاظا على ما حققته من مكاسب حتى الآن واستكمالا لبرنامجها الذى ورد فى خريطة المستقبل.
ان الضغوط الأمريكية والغربية على مصر لن تتوقف فهاهى آشتون وكيرى وبيرنز لا يمهلون الوقت ويحضرون الى مصر بصورة تكاد تكون يومية, فضلا عن تصريحات هولاند وميركل وباقى قادة الغرب, الذين بدوا غير قادرين على استيعاب أن مصر قد أصبحت ملكا لشعبها وأصبح أمرها بيده لابيد عملائهم السابقين , ولذا فاننا نطالب باتخاذ خطوات ايجابية اكثر حسما مع الموقف الامريكي (خاصة, والغربى, عامة) المعادي للثورة والمساند للاخوان, والتعامل الحاسم القاطع مع أية تدخلات فى الشأن الداخلى المصرى.
ان حسم أمر هذه البؤر الارهابية المسماة بالاعتصامات انما يتطلب التفافا شعبيا مؤكدا حول السلطة الجديدة وهو ما تأكد مبدئيا بصورة واضحة فى السادس والعشرين من يوليو, الا أنه لن يتأكد بصورة نهائية وقاطعة الا اذا أبدت هذه السلطة حسما واضحا فى تنفيذ القانون على الأرض وحزما ملموسا فى حفظ الأمن وانتظام الخدمات ورفع المعاناة عن الكادحين من أبناء الشعب المصرى فى هيئة اجراءات ملموسة على نحو مباشر, مثل اقرار قانون الحد الأقصى والدنى للأجور على ألا يتجاوز الحد الأقصى 15 ضعف الحد الأدنى, واعفاء الفلاحين المتعثرين من الديون المتراكمة عليهم حتى 50 ألف نيه, ورفع الضرائب عن كاهل من لايتجاوز دخلهم الخمسة آلاف جنيه شهريا .. الى آخر الاجراءات الممكنة والتى تضمن تأكيد احساس الغالبية العظمى من الشعب المصرى بأن الثورة التى قاموا بها انما جاءت نتائجها لصالحهم فيزدادون التفافا حولها.
كما انه لابد من التأكيد على ضرورة اعادة كتابة الدستور كاملا دون ترقيع أو تنقيح , فدستور 2012 الاخوانى السلفى انما هو دستور طائفى معاد للحريات الشخصية والعامة ولحرية التفكير والتعبير ولحقوق المراة والطفل , ولابد من الغاء المادة الثانية السلفية التى تلزم المشرع المصرى بوجه تأويلى وحيد من وجوه الشريعة الاسلامية والعودة الى المادة الثامنية فى دستور 1971 التى تقول بالشريعة الاسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع دون زيادة او اضافة. كذلك لابد من النص على عدم جواز تكوين أحزاب على أساس دينى والغاء كافة الأحزاب القائمة التى لاتستوفى تلك الشروط الى جانب التأكيد على فصل الدين عن الدولة . كما لابد من النص الواضح والصريح على ضرورة الحفاظ على الملكية العامة والتعاونية وحمايتها بالنصوص الدستورية اللازمة.