المتدينون والاستبداد الديني


سهر العامري
2013 / 7 / 29 - 11:03     

المتدينون والاستبداد الديني سهر العامري
عايشت أنا الكثيرين من المتدينين على مدى سنوات طويلة ، وجمعتني وأياهم رفقة في هذا المكان أو ذاك من هذه الدولة أو تلك ، وكانوا هم على مذاهب دينية شتى ، ومنهم من كان من أئمة الجوامع ، أو من أصحاب العمائم ، ومنهم من كان يبحث عن مساعدة في لغة القرآن ، ولازلت أذكر عظيم فرح أحدهم حين نزلت مدينته بعد غيبة مني ، وكيف أخذني بالأحضان ، ثم أجلسني على جنب منه ، ولم يطل بنا الجلوس كثيرا حتى سألني : كيف ارتفعت هذان بالألف في قوله تعالى : " إن هذان لساحران" وحقها النصب " هذين " أجبت : هذه لغة تميم تعامل أسماء الاشارة بالحركات المقدرة على الألف في الأحوال الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالقرآن أخذ من لهجات العرب ولم يقف على لهجة قريش وحسب ، تلك اللهجة التي كانت سائدة بينهم لسبب مادي هو كون مكة مركزا تجاريا مهما كان القريشيون فيها يتبادلون الألفاظ مع المتبضعين منها ، مثلما يتبادلون البضاعة معهم كذلك .
وفي مكان آخر من بلد آخر جمعتني رفقة بشيخ معتم بعمامة كان يأنس بي وآنس به ، وفي ساعة خلت ، وحين كنا نجلس على قارعة طريق قال لي : أترى هذا البشر الذي يمر أمامنا ؟ قلت : نعم . قال : كل هؤلاء مسخوا قرودا ، لكنك تراهم بشرا ! أخذني عجب جارف ، وقلت في نفسي كيف لرجل دين أن يستهين بالإنسان الذي كرمه قرآن يتلى ليلا ونهارا ؟ ثم كيف سيكون حال الناس حين يصعد هؤلاء الى الحكم ؟
كان الشيخ هذا يتهم علي خامنئي المرشد الأعلى في إيران الحالية بالشيوعية ، ولم أبادره وقتها بسؤال عن دواعي هذا الاتهام ، ولكنه ربما كان يشير الى أن خامنئي شارك الشيوعيين الإيرانيين السجن ، فقد كان يقاسم صحفي إيراني شيوعي يدعى : هوشانك أسدي ، زنزانة ضيقة في سجن من سجون الشاه ، وقد وصلت بهم الرفقة الى أن يتنازل ذاك الشيوعي لصاحب العمامة ، خامنئي ، عن سيجارته التي تقدم له من إدارة السجن في كل يوم ، فقد كانت تلك الإدارة تقدم سيجارة واحدة كل يوم لكل سجين ، ولما كان السيد علي خامنئي شديد الشغف بالتدخين فقد رأى الشيوعي ذاك أن يتنازل له عن حقه في تلك السيجارة عطفا عليه ، وبرا بصداقته بعد أن وحدتهم محنة السجن واضطهاد أجهزة الشاه القمعية لهما .
لقد سمع هوشانك أسدي ذات مرة عليا يقول له ، وهو يذرف دموع وداع له في وقت نقله عنه الى زنزانة أخرى : " في الجمهورية الإسلامية لن يذرف بريء دمعة !!" ولكم أن تروا عظيم النفاق في ذلك القول حين تواصلون قراءة قصة أسدي التي وردت في كتابه : رسائل الى معذبي : فقد كان شابا تواقا للحرية ، يؤمن بتبدل العالم وتغيره ، مثلما يؤمن بأن النظم الدكتاتورية ستزول الى الأبد ، ولهذا كان قد ساند الثورة الإيرانية بقوة واخلاص ، ولكن سرعان ما ألقي به من جديد بجحيم السجن الذي عانى فيه ما عانى ، وتعرض لشتى أنواع التعذيب الى الحد الذي أجبر فيه على تناول الغائط . كان معذبه " حميد " يرى في نفسه أنه ظل الله على هذه الأرض ، لكنه أصبح فيما بعد سفيرا للجمهورية الايرانية في إحدى الدول مكافأة له على خدماته الجليلة في تعذيب البشر.
يقول هوشانك أسدي : إن السلطة هي التي غيرت علي خامنئي من رجل دين متواضع قاسمه زنزانة واحدة في السجن الى حاكم مستبد ألقى به فيما بعد في غياهب ذلك السجن من جديد ، وعرضه فيه لتعذيب فظيع ، تواصل على مدى سنوات من دون أن يقترف هو ذنبا . والحق هو أن السلطة قد تغير سلوك الانسان ، لكن التكوين الثقافي لرجل دين هو العامل الحاسم في هذا التغيير فرجل الدين يتصور من خلال ذلك التكوين أنه ممثل الله على هذه الأرض ، ولهذا يكون قتل الناس مبررا عنده ، أو أن القتل هذا هو قربة الى الله ، مثلما يرى ذلك آية الله صادق خلخالي الذي كان يردد بصوت عال ٍ حين يطلق النار من مسدسه على جبهة الرجل الإهوازي العربي قائلا : " أتقرب الى الله في قتلك " !!
لقد عُين خلخالي رئيسا لمحكمة الثورة التي تشكلت بعد نجاح تلك الثورة في إيران بيوم واحد ، وكان يطوف مدن إيران ويصدر أحكاما اعتباطية بحق السجناء ، وذات مرة دخل الى سجن في مدينة الاهواز فقام بإعدام خمسة رجال من دون سؤال ، وأطلق سراح خمسة آخرين من دون سؤال كذلك ، وعندما سألوه : لماذا أعدمت خمسة وطلقت سراح خمسة ؟ فقال : " إنه قد اكتشف في عيون الخمسة الأوائل شعلة الخبث والخيانة ، فيما كانت عيون الخمسة المفرج عنهم بريئة كعيون الأطفال !" يضاف الى ما كتبه في بيان صادر عنه : " أنه أعدم ما يقارب ألفي شخص ، ومن المحتمل أن يكون بين هؤلاء بعض الأبرياء ممن سيكافئهم الله بمنحهم غرفة أكثر سعة من الغرف العادية في الجنة ، وحوريات أكثر جمالا من حوريات الجنة."
أحيانا يبلغ الأمر برجل الدين مبلغا عظيما فيسئ الى المقدس لديه ، فقد شبه المرشد الحالي للإخوان المسلمين في مصر ، محمد بديع ، أن تنحية محمد مرسي من رئاسة جمهورية مصر العربية هو بمثابة هدم للكعبة ، ومعلوم للداني والقاصي أن ملايين الوجوه من البشر تتجه كل يوم نحو الكعبة ، لكن لا وجه يتجه صوب وجه محمد مرسي !
هذا المنهج هو وحده الذي يستطيع أن يفسر لنا عمليات القتل الجارية والمستمرة في كل من العراق ومصر وتونس وليبيا ، وإذا كنا لأيام نسمع عن ظلم صدام وحسني مبارك والقذافي وما يجري في سجونهم من اعدامات فإننا نرى اليوم رأي عين التصفيات الجسدية التي تجري في الشوارع ، وفي الهواء الطلق ، وبعيدا عن ظلمة السجون ، وأكثر من يقوم بهذا القتل الممنهج هم دعاة الدين على شتى مذاهبهم ، فهم يرون في أنفسهم أنهم وحدهم أبناء الله ، أما الآخرون فهم أبناء الشيطان ، أو أنهم مسخوا قرودا على حد تعبير صديقي الذي مر بنا قبل أسطر .
يقول عاصم عبد الماجد ، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية ، " إن مصر تتعرض إلى ما سماه "تسونامى" من البلطجة السياسية والإعلامية والقضائية ، تهدف إلى إسقاط الرئيس الشرعي المنتخب من خلال إعلام يشوه الحقائق ويلبس الحق بالباطل ، وإننا سوف نغلظ على هؤلاء العلمانيين تنفيذاً لأوامر ربنا فى القرآن الكريم واغلظ عليهم " يشير هو هنا الى الآية القرآنية " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير " لقد نقل عاصم عبد الماجد "الغلظة" من الكفار والمنافقين في الآية الى العلمانيين الذين يشكلون الملايين من المصريين والمصريات الذين يرد هو قتلهم جميعا لمخالفتهم له بالرأي " تنفيذا لأوامر ربنا في القرآن الكريم ! " وعلى هذا فهو يجسد هنا بوضوح كيف يرى رجل الدين في نفسه أنه ممثل الله على هذه الأرض ، وهذه - لعمري - هي الطامة كبرى !
التطرف هذا والغلظة تلك هي التي جعلت من الدوائر الغربية خاصة الأمريكية منها تقوم بتجنيد الكثير من هؤلاء في حرب الجهاد الأمريكية في أفغانستان أبان الحرب الباردة ، وعلى هذا الأساس يكون أسامة بن لادن وملا عمر ومن على شاكلتهما أبناءً شرعيين لتلك الحرب التي قدمت فيها أمريكا صنوفا من الدعم المادي والعسكري لهؤلاء بهدف كسر الجيش السوفيتي الذي يقاتل جنوده في أفغانستان بعد أن نجح انقلاب عسكري فيها كان مدعوما بقوة من قبل الحكومة في الاتحاد السوفيتي ، والتي دعمت من قبل انقلابا عسكريا في اثيوبيا ، وهذا ما أفزع الأمريكان وجعلهم يفكرون مليا بمصير حليف قوي لهم في المنطقة هو شاه إيران ، فقد كانوا يخشون كثيرا من قيام انقلاب عسكري فيها على غرار ما حدثت في أفغانستان وأثيوبيا .
تقول زوجة الشاه الثالثة والأخيرة ، فرح بهلوي ، حين تصاعدت نيران الثورة في ايران زارنا السفير الأمريكي في بيتنا من طهران طالبا من الشاه منع الجيش من التصدي للمتظاهرين ، ثم وجوب مغادرتنا إيران حالا . ويبدو أن أمريكا كانت تريد قيام نظام قوي في إيران ولهذا وجدت أن النظام الديني هو أفضل نظام سيقف بوجه الزحف السوفيتي نحو مياه الخليج العربي الدافئة مثلما كانوا يرددون ، وقد أكد هذه الحقيقة الكاتب المصري الشهير ، محمد حسنين هيكل ، في كتابه " مدافع آية الله " حين ذكر أن عملاء المخابرات الأمريكية كانوا قد وصلوا لكل المحيطين بآية الله الخميني ، وهو جالس في قبته الخضراء في إحدى الضواحي من العاصمة الفرنسية ، باريس .
هؤلاء وأولئك المتطرفون من المتدينين ، الذين أعدتهم واعتنت بهم الدوائر الأمريكية ، قد انقلب بعض منهم على الأمريكان فيما بعد ، وقد تجسد هذا الانقلاب في أقسى صوره بعمليات الحادي عشر من شهر أيلول " سبتمبر " سنة 2001م ، تلك العمليات التي أطاحت بأبراج المال في عاصمته نيويورك ، وقد جاءت هذه العمليات بعد أن شعر المخططون لها أن أمريكا قد تركتهم في منتصف الطريق حين تحقق هدفها في أفغانستان خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ، العدو الحقيقي للدول الرأسمالية .
بعد انسحاب الجيش السوفيتي من افغانستان عمدت أمريكا الى كبح جماح التطرف الديني في المنطقة ، فعاقبت حكومة الخميني بصدام ، ومن ثمة طاردت القاعدة ورجالها ، وقامت بوضع صناديد الدعوة للجهاد الأمريكي في سجونها ، ويأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ عمر عبد الرحمن، ثم ذهبت الى استبدال التطرف بالاعتدال الديني ، ووجدت أخيرا أن خير من يساعدها في انجاز هذه المهمة هو قيام أنظمة حكم دينية معتدلة تستطيع أن تكبح المنظمات المتطرفة ، وتحافظ على مصالح أمريكا والدول الأوربية في المنطقة العربية ، فكان الربيع العربي ! الذي قادت أمريكا فصوله من خلف ، ولكن هبة الجموع المصرية ، وبإسناد من الجيش المصري في الثلاثين من شهر حزيران " يونيو " المنصرم ، قد عطل المشروع الأمريكي ذاك ، وهذا ما قد يضطرها الى إعادة النظر فيه من جديد ، وذلك بسبب من اكتشاف الملايين من الناس زيف الربيع العربي ذاك الذاهب الى نظم الاستبداد الديني ، استبداد يصبح فيه وجه محمد مرسي المعتم كوجه بلاط الكعبة المشرق !!