(( نهايات صيف ..... نهايات ديكتاتور)) - نقد ادبي


حميد الحريزي
2013 / 7 / 23 - 23:44     

دراسة نقدية لرواية ((نهايات صيف)) للقاص العراقي موسى كريدي، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة لوزارة الثقافة والإعلام العراقية عام 1995 ب ((145)) صفحة من الحجم المتوسط ....
توصيفـــــــــــــات ومعاني
((كان اللون الرمادي الحائل يطغى على ملابسي مما اظهرني بمظهر فتاة متعبة عائدة للتو من مطبخ عمالي ، ومما ضاعف احساسي بانتشار اللون الرمادي نظارتي السوداء، وتعرقي ادى الى تسايل طبقة من الملح خلال مسامات جسمي كله)).
هكذا تصف ((هناء عبد الحميد)) نفسها كما مثبت على ظهر الغلاف الخلفي للرواية ، هذه ((الهناء)) صوت وضمير الشعب المقاوم للتعسف والديكتاتورية والسادية المتوحشة المتمثلة بشخصية ((نايف كنعان )) زوج والدتها ..... الذي يتحدث عن نفسه في القسم (26)) من الرواية قائلا :-
((تجد من يطيعك بعد ادنى اشارة ومن يقوم على خدمتك باقل ثمن ليس امامك سوى الضحك تعبيرا عن سوء طويتك وشعورا بالتفوق يطغيان لديك ، ويصبحان عادة تلازمك ملازمة الظل للجسم )) ص135
الطاغية هنا يستعرض حياته من الطفولة الى حين جلوسه على كرسي الاعتراف الخمري ، انه يبرر لنفسه قسوته ووحشيته وهمجيته ، يرى ان الناس يتهمونه باطلا ودون وجه حق ، فمن مات هذا قدره ان يموت ومن جاع لا يحتمل وزر جوعه وحرمانه فما ذنبه وقد امتلك الذهب والاملاك ، ما ذنبه ان يكون الاخرين فقراء فهو ليس مقسما الارزاق .. متناسيا انه هو مستاجر التلة وهو قاطع الارزاق وهو المستحوذ على عمل وكد الفقراء .... فهو يعلنها صريحة قائلا :-
((لست اندم على فعل قمت به مقتنعا ، وليس الضعف من شيمي.....)) ص136
((نايف كنعان )) هذه الشخصية التي لا تعرف الحب ولا العطف ولا الرحمة ، همها الاول جمع الثروة واكتساب الجاه والحفاظ عليه مهما كان الثمن وآيا كان الاسلوب ......
لا يسمع الى رأي ولا يأخذ بنصيحة اقرب الناس اليه
(( رجل كلما نبهته الى اخطائه واجهني بقلة الحياء )) ص19
شخصية متجبرة متغطرسة مستبدة استطاعت ان تجمع الثروة والجاه والسطوة في ظل واقع اجتماعي متردي فقد ذاتيته وأصبح جزءا من قطيع حيث الطريق يتساقط اوراقها السماء باحتجاب الزرقة، الزهور الملابس، الحدائق الدكاكين وأبواب البيوت (( كل شيء بدا خاليا من اللون ... الوجوه ونتوءات عظامها ، الارصفة يتشقق حافاتها اشجار المنازل ، مصابيح الليل ......)) ص48
المؤلف هنا يؤثث وبكفاءة وقدرة وذكاء للبنية والواقع الاجتماعي البائس الذي يصنع الطاغية والمستبد ، حيث افتقد كل شيء لونه خصائصه توصيفاته ، البشر ، الشجر حتى السماء فقدت زرقتها وصفاء لونها ... الابواب مداخل مملكة الانسان ومستقره وحيز حريته وخصوصيته فقدت هويتها بفقدانها خصيصة الوانها التي تميزها بعضها عن البعض الاخر ....
وهنا نستذكر فقدان ابوابنا لخصوصيتها زمن الحكم الشمولي الديكتاتوري السابق حيث اصيبت الابواب بجدري العلامات والأرقام والعلامات الدالة المختلفة والمؤشرة من قبل اجهزة الحكومة الامنية والخدمية فضاعت هوية الابواب وهوية سكنة هذه الدور واستبيحت قدسيتهم واستقلاليتهم .....
كل هذا يؤشر مدى ضياع الانسان وغربته في ظل مثل هكذا حكم ..... هذا الانسان السلبي الخاضع هو احد اسباب ظهور الدكتاتور وطناطله ، هو سبب طغيانه وتغوله واستهتاره ....(( ترى من وضع في يده المال والذهب والسلطة ؟؟؟ السنا نحن الذين يسرنا له كل شيء وجعلنا منه داهية الزمان )) ص10
ولكن الى متى يدوم تسلط وطغيان وقهر الصيف اللاهب الحارق ، فناموس الطبيعة وقوانينها تقتضي تعاقب وتوالي الفصول فبعد الصيف خريف وبعد الخريف شتاء وبعد الشتاء يحل الربيع وهكذا تتوالى الفصول والمواسم ......
ففي تورية عالية الذكاء والفطنة والجرأة ايضا استطاع المؤلف ان يواري نبوءاته بانهيار الديكتاتورية حيث بشر بقرب حلول خريفها عبر مضمون دقيق الدلالة لعنوان الرواية ((نهايات صيف )).......
الخريف يحصد اوراق (( نايف كنعان - الطاغية )) وهي حتمية لابد منها كحتمية تناوب الفصول ..... ان فطنة وقدرة الكاتب على التنبؤء بمصير النظام الشمولي واقتراب خريفه المهلك تدل على قدرة عالية على التحليل واستنطاق الظواهر الحياتية المختلفة في ذلك العهد حيث كانت تدق جرس الانذار لنهاية صيف الديكتاتورية المحرق .. والذي بدى واضحا جليا منذ بداية عقد التسعينيات على وجه الخصوص وغزوه للكويت ووقوفه بوجه الارادة الدولية ......
هذه الدلالة لعنوان الرواية ربما لم تؤشر بشكل واضح من قبل العديد من الكتاب والنقاد اللذين تناولوا رواية (( نهايات صيف )) للروائي القدير موسى كريدي رغم انها روايته اليتيمة الحكيمة والوحيدة ذات النظرة الثاقبة للأحداث في رصد تحولات وفصول النظام البعثي الحاكم عبر سلوك ((القائد الضرورة)) الحاكم الاول المتفرد بالثروة والجاه والقرار ......
أسمـــــــــــــاء ودلالات
كان المؤلف بارعا في اختيار الاسماء والأوصاف لشخصيات ارواية ، فهناء حلم الناس ، السعادة والتقدم والجمال والسلام ، هناء الخصب والحب والمعرفة ، هناء تحدي الجمال للقبح ،؟ هناء الفضيلة ضد الرذيلة .....
((ربيع محمود)) الشاب المهندس الجميل الانيق ذو النظرات الساحرة المعبرة النافذة ، بذرة المستقبل السعيد وسط الحاضر البائس ، بذرة الربيع في قلب الصيف اللاهب ، هذا الربيع يطمح بالاقتران بالهناء الموعود فلا هناء بلا ربيع ولا ربيع إلا بعد هزال وموت واندثار كائنات الصيف الذي اشر الكاتب نهايته المرتقبة ......
(( ربما انهى حياته بطلقة ، وقيل انه قتل خنقا بعد شجار مع احد ازلامه....قيل هناك من دس له الترياق ... وقيل انه يعاني تعبا في القلب فمات بعد ليلة صاخبة وذلك امر محتمل اما من سيذكر الصحيح فذاك متروك للزمان))....
المؤلف لم يشأ ان يفصل طريقة ووسيلة نهاية ((نايف كنعان )) الطاغية – الصيف الحارق فهو ليس ساحرا ولا عرافا ولكنه واثق تماما بان نهايته نتيجة عبثه وتهوره واستبداده ، لذلك بقية قصة موته غامضة غير معروفة وقابلة لمختلف التاويلات والتحليلات والتوقعات : خنق ، تسم، انتحار ........ ولكنه وجد ميتا وسط فوضى كؤوسه وخموره وشظايا مراياه المهشمة
(( نايف كنعان جمجمة من الماضي تكاد تتفسخ ، يغادرها اهابها وتتسرب منها الرائحة ، وتنتشر في كل الانحاء ، رائحة سوداء حريفة انتشرت في سرعة .... لم ارى سوى الفراغ خلفته الجثة، كان الفراغ حاطا بأشياء صغيرة ، قنينة من الويسكي ح النصف . كاس فارغة ، دورق ماء انية ثلج مع ملقطها الفضي صحيفة يعود تاريخها الى سبعة ايام ....... وهناك تحت المائدة قطع من مرآة محطمة )) ص 143.
اثر انتفاضة آذار في السرد
تاريخ صدور الرواية سنة 1995 اي بعد مرور اربعة سنوات من انتفاضة اذار المجيدة وهي بالحقيقة اولى بوادر الربيع العربي ، لابد ان لإحداث الانتفاضة وقمعها بشكل وحشي لا يوصف بالتاكيد كان المؤشر الاكبر على بداية خريف الديكتاتورية وانهاء الحكم الفاشي .....
لا نريد ان نكرر ما كتبه العديد من النقاد حول التكنيك السردي المكين الذي سكتبت به الرواية ، ورشاقة العبارة وجمال الصورة ، تعدد طبقات الرواة بين راوي عليم وشاهد حاضر وحاكي مستتر ومسجل اعترافات عبر حوار ذاتي يستكشف دواخل الذات للشخصيات المختلفة .... وصف دقيق تسجيلي لزمن السرد للمكان والعمارة والاسواق ، وبعض السلوكيات للاشخاض لهامشيين في المجتمع العراقي ابان تلك الحقبة الزمنية .....
ختاما نتمنى ان لا نكون قد افرطنا في التاويل والتحليل ولا نكون ابتعدنا كثيرا عما اراده المؤلف او تضمنه النص