العراق بين الجماهير والنخب [ 2-2 ]


عزيز الحاج
2013 / 7 / 22 - 15:55     

كل حالة عربية يجب أخذها بخصائصها وتاريخها ومحيطها. وكذلك عند تناول النخب والمجتمعات. وكما أشار مثقف نبيه، تعقيبا على المناقشة مع عدنان حسين، فإن مصر دخلت سلم الحضارة الحديثة قبل العراق بأكثر من قرن. والنهضة العربية الحديثة بدأت في مصر، سياسيا وفكريا وعلميا واجتماعيا وثقافيا وحركة نسائية. ومنذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تطورت في مصر نخب متميزة كان عددها يزداد من عقد لعقد. وأما العراق، فقد واجه الحضارة مع الوجود البريطاني، ولكن على جرعات وأقساط ومع عراقيل كثيرة وتشوهات- فضلا عن أن العراق بلد متعدد القوميات والأعراق والأديان والمذاهب. وحتى التاريخ العراقي القديم هو غير تاريخ مصر، الذي كان الأهدأ نسبيا بالمقارنة مع تواتر الحروب في العراق، وتتالي الغزوات الأجنبية. وهناك من علماء الآثار العراقيين من يرون أنه حتى الأنهار لعبت في البلدين أدوارا مختلفة، ما بين هدوء النيل، وهياج الرافدين في فيضانات عارمة مكتسحة، تركت تأثيراتها على المزاج العراقي المتوتر والقلق، والمتقلب أبدا.
هكذا، كانت النخب المصرية متقدمة في العصر الحديث على معظم النخب العربية، وظلت متقدمة نسبيا حتى بعد فشل المشاريع القومانية المتكلسة وصعود الموجة الإسلامية المتطرفة.
إن الأزمة العراقية الراهنة متعددة الجوانب، وهي متشابكة جدا، وأسبابها عديدة، داخلية وخارجية: ما بين تركات النظام السابق وبصماتها السلبية القوية على سلوك الفرد العراقي، وعامل الأخطاء الأميركية، وعامل التدخل الإقليمي - وبالأخص التدخل الإيراني – السوري، وعامل التواجد القاعدي. لقد حارب صدام القوى السياسية والثقافية العلمانية والديمقراطية، وشتتها. وهاجر الملايين لخارج العراق. وأما الأحزاب التي برزت بعد سقوطه، فمعظمها نشأ أو تطور في إيران تحت "رعاية" حراس الثورة، ومنها ما كان تحت "رعاية" المخابرات السورية في دمشق. ومع أن النزعة الطائفية برزت لدى النظام البعثي المنهار بروزا خاصا بعد انتفاضة 1991، إلا أن الطائفية لم تنزل بقوة لأعماق المجتمع العراقي. ولكن الشعب العراقي، تعرض لعمليات تشويه في الشخصية والعلاقات الاجتماعية. فكيف حدث أن تطفو الموجة الطائفية هكذا على السطح بكل قوة، وحتى بين المثقفين، خلال السنوات العشر منذ سقوط النظام السابق؟ أليس العامل الرئيسي في الظاهرة هو أداء ونشاط وغسل دماغ الأحزاب الإسلامية ومرجعياتها الدينية، زائدا تأثيرات الأطراف الإقليمية؟ أليس شعبنا هو نفس شعب الانتفاضات المتكررة، ذات الطابع السياسي البحت عبر التاريخ الحديث؟ أليس هو من التف حول زعامة عبد الكريم قاسم دون أن تسيره الطائفية والفئويات الأخرى؟ هل كان المثقف العراقي والمناضلون العراقيون يميزون في علاقاتهم بين من هو شيعي ومن هو سني؟ كلا. بينما اليوم طغت النظرة الطائفية على فريق وفريق من النخبة الثقافية نفسها، ناهيكم عن الطبقة السياسية الحاكمة.
إن السبب الأول والرئيسي والحاسم لتردي وخطورة الوضع العراقي هو مستوى وأداء وعقلية الطبقة السياسية، ولاسيما حكومة المالكي بالذات في ولايتيه. والسبب الأول في طغيان الطائفية هو هذه الأحزاب الإسلامية ورجال الدين، وكيف يتاجرون بالمذهب والمشاعر الطائفية. العراقيون الشيعة المتدينون كانوا، في العصر الحديث، يزورن بانتظام المراقد المقدسة، فرادي أو جماعات، وحتى سيرا على الأقدام، ولكنهم، في الوقت نفسه، كانوا يهبون وراء النخب السياسية المناضلة دفاعا عن حقوقهم وحرياتهم وعن السيادة الوطنية. واليوم صار ثمة تسابق وتبادل في النفخ في هوس الزيارات المليونية بين الحكام والشارع الشيعي، واستطاع الحكام ودعايات رجال الدين تخدير العقول والنفوس بحيث لا تثور، إلا لماما ومؤقتا وجزئيا، لما تتعرض له من مظالم كبرى ومن محن يومية. ويساهم إسلاميو الشيعة الأصوليون في المنطقة، بقيادة إيران ومع القاعدة وكل المتطرفين التكفيريين السنة، في محاولات تحويل الصراع الحقيقي في سوريا لصراع طائفي إقليمي، ويجري استغلال العدوان الأثيم على مرقد حجربن عدي والخوف على مرقد السيدة زينب من جرائم القاعديين إلى راية نضال شيعة المنطقة بزعامة ولاية الفقيه، التي تتاجر باسم الشيعة، وهي التي لا تتورع عن اضطهاد الشيعة المعارضين عندها. ونسي الساسة الشيعة في العراق أن نظام الأسد لم يقم للدفاع عن الشيعة، بل هو نظام قوماني شمولي، وأنه هو من كان يسمح، بعلم وتنسيق إيرانيين، للقاعدة وكل المتطرفين التكفيريين، بالعبور للعراق لمقاتلة أبناء شعبنا وتنفيذ عمليات التفخيخ والتفجير.
نعم، إن أداء الطبقة الحاكمة هو المسؤول الأول عما آلت إليه أحوال عامة الناس من سلبية ونوع من القدرية. ولكنها حالة يمكن ويجب أن تعالج لو أن النخب الفكرية والاجتماعية والقوى المدنية والعلمانية تخطت بشجاعة ما تواجهه من صعاب كبرى، ومن حساسيات ذاتية، وتحركت بقوة لتصحيح الأوضاع.
لقد كانت ثمة بداية في ساحة التحرير عام 2011، ولكنها توقفت مع الأسف. وصرنا نقرا بيانات وتحليلات عمومية مطاطة عن الوضع والمشاكل، لا تضع النقاط على الحروف خوفا من إزعاج هذا أو ذاك. وأما حركات الاعتصام في الأنبار وغيرها والمستمرة، فصارت ظاهرة جيدة بعد أن تطهرت من المتسللين المغرضين، وقد اعترف المالكي بأن لها مطالب مشروعة. وشخصيا، لا أسمي مطالبها بالمطالب السنية، كما يصف الأستاذ ضياء الشكرجي؛ ولكن الواقع أن المظالم التي يعترضون عليها مست وتمس شرائح هم من السنة بالذات. وهو ما ردده مرارا القاضي منير حداد. إن هذه الحركة كان يمكن، ويجب، تطويرها عراقيا لو التحقت بها تحركات متضامنة، وبمطالب عراقية مشتركة في المناطق الأخرى، كبعض التحركات الشعبية من أجل الكهرباء في البصرة ومدن جنوبية أخرى، وكتظاهرات جديدة يمكن تنظيمها في بغداد بمطالب وشعارات للجميع.
أما في إقليم كردستان، وبرغم التقدم الكبير في مختلف الميادين، فإن الأطراف الكردستانية الرئيسية وقعت في فخين: الانزلاق في الأزمات التي كان يفتعلها المالكي والشهرستاني، والتحالف " الإستراتيجي" مع الإسلاميين الأكراد الذين يخلقون اليوم مشكلة بعد أخرى، ومع الأحزاب الإسلامية الشيعية بعنوان " الحلف الكردي- الشيعي"، وهو عنوان يناقض مبدأ المواطنة ومفهوم التحالفات السياسية السليمة. إن الضامن الحقيقي لحماية الحقوق والمكتسبات الكردستانية هو قيام حكم ديمقراطي مدني علماني في العراق، وهذا يستدعي تظافر وتعاون جميع القوى المدنية العلمانية العراقية، كردستانية وعربية وتركمانية وكلدو- آشورية وغيرها.
إن النخب الاجتماعية والثقافية والتيارات المدنية والعلمانية العراقية تواجه الكثير من العقبات وسوء التعامل الحكومي، وحملات قوات الحكومة ومليشياتها على حرية الصحافة وعلى النوادي الثقافية والشبابية، وحتى على المقاهي الشعبية؛ لكن هذا لا يبرر عدم التحرك النشيط لتوعية الناس في العمل الجماهيري، والسير أمامهم في حركة تصحيح عراقية الطابع، سلمية، متصاعدة ومثابرة. وقد برهنت التجارب النضالية الكثيرة لشعبنا على أن كل ما هو خير ونبيل وروح تحدي كامن في أعماق وجدانه وتاريخه يمكن أن يبرز عندما ينخرط وراء النخب المناضلة الشجاعة في حركة ذات شعارات ومطالب واضحة ومحددة ومفهومة، وتمس صميم مصالحها وشكاواها، بينما تنحسر تدريجيا الظواهر السلبية التي تطفو زمن الركود النضالي وتتراجع.
وبناء عل ما مر، يمكن القول إن العلاقة بين النخب والجماهير هي علاقة تفاعل وتأثير متبادلين، وأنه، مهما كان تخلف الشرائح الواسعة من الشعب، فإن بإمكان النخب السياسية والاجتماعية والثقافية البصيرة والمجربة والشجاعة أن تلعب دورا مؤثرا وفعالا في تحريك الجماهير للعمل من أجل غد أفضل.
إن سلبيات الشخصية العراقية ما كانت لتستفحل اليوم لو كانت النخب بمستوى المسؤولية، ولو عملت جميعا بنكران ذات. ولعل شعبنا سوف ينجب في المستقبل نخبا جديدة، ومن بين الشباب خاصة، قادرة على تحريك الشارع وأيضا على إعطاء دفعات قوية ودم جديد للنخب المدنية والديمقراطية الموجودة نفسها، في حركة موحدة تقهر الحواجز والعقبات التي وضعتها في طريق تقدم شعبنا أحزاب الإسلام السياسي وكل المتاجرين بالدين والمذهب وبالحساسيات الفئوية، وجميع الذين يكرسون ولاءهم لما وراء الحدود! .
لحوار المتمدن في 22 تموز 2013