عرائض مليونية في لبنان


محمد علي مقلد
2013 / 7 / 22 - 10:40     



ثلاث عرائض مليونية في لبنان . الأولى ينظمها تيار المستقبل تحت شعار ، "بيكفي حروب" ؛ الثانية لهيئة التنسيق النقابية دعما لسلسلة الرواتب ، والثالثة تنظمها إذاعة صوت لبنان الحر دعما للجيش . ومن المحتمل تنظيم رابعة دعما للمقاومة .
الشعب اللبناني سيكون مشغولا بحملات التوقيع في الأسابيع ، وربما الأشهر ، المقبلة . الحملات كلها مرشحة للنجاح ، لأن كلا منها تستطيع نظريا بلوغ الرقم الذي تنشد الوصول إليه ، ولأن نسبة كبيرة من المواطنين قد توقع على العرائض الثلاث ، فيما الرابعة المفترضة التي قد تكون مليونية هي الأخرى ، لن تجد الحجم ذاته من الانتشار في كل المناطق وبين كل الطوائف.
بوعزيزي دشن الربيع العربي فألهم شعوبا ، وربما تكون المليونية المصرية قد ألهمت المليونيات اللبنانية ، لكن عنصرا جوهريا يبطل هذه الفكرة من أساسها في الوضع اللبناني ، وهو أن المليونية المصرية حاولت جمع تواقيع شعبية في مواجهة سلطة عدت مستبدة ، وكان ذلك مصدر قوتها وجماهيريتها وانفتاح المليون الأول على ملايين أخرى وقّعت بالنزول المباشر إلى الساحات والميادين في سائر المدن المصرية ضد السلطة التي اغتصبها الإخوان لا ضد الاخوان .
بيد أن المليونيات اللبنانية تقف في مواجهة بعضها بعضا ، وكأنها تمرين على الحشد تحضيرا لحرب أهلية لا درءا لها ، وذلك بالرغم من المنسوب الرفيع من المشروعية التي تنطوي عليها كل عريضة.
مع أن العريضة الأولى تدعو إلى نبذ العنف ووقف الحروب الأهلية الممتدة في لبنان ، وهو شعار صحيح ومطلب محق يفترض أن يجمع عليه كل من يقع خارج دائرة الصراع الدائر ، غير أنها تبدو موجهة ضد خصم مضمر هو المقصود بأنه ينافس في استخدامه السلاح ويتوسل العنف لتحقيق برنامجه السياسي ، ونعني به حزب الله .
العريضة الثانية ذات مضمون اجتماعي لكن هيئة التنسيق النقابية التي تدافع عن حقوق الموظفين وذوي الدخل المحدود لم تكن محصنة بما فيه الكفاية ضد مرض الانقسام اللبناني ، ما جعل مطالبها المحقة تسقط في طاحونة الفرز العامودي بين معسكري آذار. حصل ذلك بمكيدة دبرتها بعض أطراف السلطة ضد بعضها الآخر لتنآى بنفسها عن الأزمة ، فوضعت الهيئات الاقتصادية في مواجهة النقابيين في حين أن النظام السياسي الميليشيوي هو المسؤول عن كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والاخلاقية ، الخ التي تعصف بالبلاد. وما زاد في طين المطالب النقابية بلة هو منسوب عال من التشوش في طريقة تناول الوضع الاقتصادي والمالي للدولة ، ولا سيما أن هذا الشأن غريب على العقل الميليشيوي الحاكم ، الذي بدا تحليله في واد وتحليل الهيئات الاقتصادية في واد آخر.هذا فضلا عن أن المنهج اليساروي الذي جمع حوله جمهورا من كل المناطق ومن كل الطوائف في مواجهة "الرأسمال المتوحش " بدا عقيما ، أو على الأقل أثبت الرأسمال أنه أكثر مهارة منه في إدارة هذه اللعبة التي باتت مكشوفة ، وبالتالي أكثر قدرة على استرداد أية زيادة وعلى سحبها قبل وصولها إلى جيوب أصحابها، ثم على إعادة اللعبة إلى نقطة الصفر .
المليونية الثالثة تطالب بدعم الجيش ، وهو مطلب يفترض أن يجمع عليه الشعب اللبناني. غير أن طاحونة الصراع ذاتها اقحمت المؤسسة العسكرية التي تحظى بإجماع شعبي ، في سياسة لا تبدو موضع إجماع . وبذلك يمكن أن يوقع على هذه العريضة من لا يرتضي أن يكون لمؤسسة الجيش شريك في حفظ الأمن ، ومن يأمل أن يكون الجيش الأداة الوحيدة لحماية السيادة الوطنية ، ومن يريد من المؤسسة أن تحزم أمرها ضد كل من يحمل السلاح خلافا للقانون ، وخصوصا سلاح حزب الله . في المقابل يبدو أن حزب الله راض عن مستوى التنسيق الذي يقيمه مع قيادة الجيش ، وبالتالي فقد يوقع على العريضة أنصار المقاومة وخصومها في آن واحد ، فيختلط الحابل بالنابل ويضاف إلى خلط السلطة بالمعارضة خلط آخر بين مفاهيم متناقضة عن الدولة والسيادة جسدها شعار بالغ الالتباس أقرته الحكومات في بياناتها الوزارية ، يتحدث عن ثالوث لا أساس له في بناء الدولة الحديثة ، عنينا به شعار : الشعب والجيش والمقاومة .
وجه الالتباس الأول في هذا الشعار يتمثل في اختيار الثالوث الذي يدمر الدولة ويضرب عرض الحائط المصطلحات العلمية والعملية التي قام عليها ثالوث الدولة الحديثة : الأرض والشعب وسيادة القانون ، على الحدود وداخل الحدود. أما الوجه الثاني فهو تحويل الجيش إلى ركن من أركان الدولة ، بدل أن يكون مؤسسة من مؤسساتها أو جهازا من أجهزتها .
يضاف التباس رابع يتعلق بهوية الداعمين ، فقد بدا من لائحة الموقعين الأول أن غلبة مسيحية وقواتية بالتحديد تطغى عليها ، ما يذكر بالحشد الانقسامي الذي حصل تحضيرا للحرب الأهلية عام 1975 يوم انتظمت مظاهرات دعما للجيش في المناطق المسيحية وأخرى ضدها في المناطق الاسلامية .
أما المليونية الرابعة المفترضة فهي تجسد الانقسام العامودي بعينه بين أنصار المقاومة وخصوم حزب الله ، وبين أنصار الدولة وخصومهم من الميليشيات الحاكمة .
هذه العرائض ، على أهمية ما تطرحه ، تجري فرزا يلائم منطق الانقسام والتحضير للحرب الأهلية . وبالتالي فإن البديل عنها هو عريضة تنتصر لقيام الدولة ، و تستبعد عنها كل الصفات والنعوت المتداولة ، (مثل القوية و العادلة ) وتركز على أن البديل عن دولة الميليشيات هو دولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات.
إما أن يمتنع أهل السلطة الميليشيوية الذين يدمرون المؤسسات ومعهم حلفاؤهم تجار المذهبية والطائفية ،عن التوقيع فيفضحون أنفسهم ، أو يذهبون مرغمين إلى التوقيع فتلاحقهم تحركات شعبية أخرى ضاغطة تحت الشعار ذاته : في سبيل قيام دولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات.