مشاكل الشريعة الإسلامية والدستور المصري


إبراهيم فتحي
2013 / 7 / 11 - 01:00     

يقوم الإسلام السياسي على فكرة الحكم بكتاب الله – القرآن دستورنا- وقد يعتمد ذلك أحيانًا على فكرة حاكمية الله التي أطلقها أبو الأعلى المودودي (كل الأعلام الواردة أسماؤهم دون ألقاب)، فالحكم والتشريع مختصان بالله وحده وليسا لأمة أو طبقة ولا حتى للنوع البشري بأكمله. فليس للبشر إلا دور المستخلفين في الأرض فهم خلفاء لله، ولا تتأتى هذه الخلافة إلا من جهتين: إما أن يكون الخليفة رسولاً من الله أو رجلاً يتبع الرسول فيما جاء به من شرع وقانون من عند ربه (أبو الأعلى المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور). فالإسلام السياسي دعوة إلى تجاوز حكم البشر إلى حكم الله بأن يكون القرآن دستورًا وأن تطبق الشريعة. وقد يفهم من دعوة تطبيق الشريعة أنها بناء جاهز كامل لم يتغير ولا يتغير من المعايير السلوكية والقواعد القانونية المثالية والنموذجية. ويتساءل محمد نور فرحات ما المقصود بالشريعة؟ إن كانت تعني نصوص المعاملات في القرآن والسنة فهي عامة غاية العموم تحدد المقاصد أكثر من كونها تقدم حلولاً. أما إذا كانت تعني تخريجات الفقهاء من الكتاب والسنة بما كان يناسب مجتمعاتهم فهي متباينة أشد التباين متدرجة في تغيرها وتطورها. وهكذا تباينت آراء الفقهاء حول أغلب ما تعرضوا له في مسائل المعاملات والعقوبات (محمد نور فرحات: المجتمع والشريعة والقانون. ص 21). كما أن حسين مؤنس في مقالاته يعتبر فكرة الجهاز الحاكم الذي يمتلك كل السلطات وآلياته فكرة غير إسلامية، فالذين آمنوا بالرسول ودخلوا الإسلام أطلق عليهم اسم الأصحاب وليس الرعية. وعندما تحول الإسلام إلى دولة بمعنى حاكم ورعية وقع التدهور. وقد انتقد حسين مؤنس جميع الحكام المسلمين بما فيهم أبو بكر وعمر. فهو يذكر أن أبا بكر حرق رجلاُ بالنار وهو ما لم يفعله الرسول وأن عمر قصر الشورى على نفر ضئيل من قريش، وهذا عكس مسلك الرسول. وبعد الراشدين بدأ الابتعاد عن روح الإسلام وخاصة ابتداءًا من معاوية حيث تحول الحكام إلى طغاة فقد أمر بلعن على فوق منابر المساجد وحول الخلافة لملك عضوض . ويواصل محمد نور فرحات اجتهاده فيرى أن هناك مستويات متعددة لما اصطلح على تسميته بالشريعة الإسلامية تختلف في مضامينها وكثيرًا ما تتناقض في محتوى هذا المضمون. المستوى الأول النصوص القطعية التشريعية في القرآن والسنة، وتستمد هذه النصوص عالميتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان من قلة عددها وعموميتها إلا في نصوص الزواج والأسرة والميراث والحدود وما شابهها. فهي في مجملها دلائل للاستنباط والاسترشاد في ظل وقائع اجتماعية متباينة دون أن تقدم حلولاً تفصيلية لكل واقعة مستجدة، ولهذا كان الفقه؛ أي أن هذه النصوص بذاتها لا تمثل نظامًا قانونيًا متكاملاً يطلق عليه اسم الشريعة وإن صلحت لتحدد مقاصد هذه الشريعة. أما المستوى الثاني فقد أبدعته قرائح علماء المسلمين استلهامًا لمقاصد الكتاب والسنة ونصوصهما. وهذا المستوى تتباين فيه الحلول إلى درجة التناقض في بعض الأحيان. ومبعث ذلك اختلاف الأعراف والأزمان كما أخبرنا بذلك ابن عابدين والشاطبي والشهرستاني.
وكان الطهطاوي في ستينات القرن التاسع عشر مناصرًا للحكم العثماني ومقتنعًا به. وكان يرى في وضع مصر كدولة تابعة للعثمانيين منة من الله وذلك بسبب الحكم الإسلامي المؤسس على الفضيلة، وعنده أن سلطات الحكومة كافة مستمدة من الحاكم الإسلامي، كما تعتمد مؤسسات الدولة على السلطة المفوضة من هذا الحاكم وسلطة هذا الحاكم مقيدة بالشرع. ويرى الطهطاوي أن سلطة هذا الحاكم الإسلامي هي سلطة مركزية تتشعب منها ثلاثة فروع، السلطة التشؤيعية والقضائية والتنفيذية، وهذه الفروع الثلاثة تعتمد على سلطة الحاكم فلا استقلال للقضاء ولا للسلطة التشريعية. فالقضاء هو أحد امتيازات الحاكم والقضاة ينوبون عنه كما يملك الحاكم امتياز إصدار القوانين وتنظيمها بالإضافة إلى تنفيذها، فالحاكم الإسلامي تؤول إليه السلطات الثلاث التي هي أعمدة الهيئة الحاكمة. ويقلب الطهطاوي أفكار مونتسكيو الذي قال بين الأتراك حيث تتحد هذه السلطات الثلاث في شخص السلطان يكمن حكم مطلق رهيب (الطهطاوي: الأعمال – الجزء الأول ص 519). وعلى الرغم من دفاع الطهطاوي عن نشر التعليم وحقوق العاملين فقد نشر في فبراير 1879 مقالاً في جريدة مصر يستعرض فيه أشكال الاستبداد التي يقسمها إلى وحشي (تيمور لنك) وجائر (يفرض الضرائب على الشعب من أجل رفاهية الحكام) ولكنه زعم أن هناك استبدادًا مستنيرًا مثل الاستبداد المستنير في حكم الدولة الخديوية أيامه.
والتشريع الإسلامي عند حسين فوزي النجار تشريع للحياة والحضارة وليس تشريعًا للدولة. ويقول بعض المفكرين إن الإسلام لم يقدم آية أو حديثًا صحيحًا يبين طريقة اختيار الحاكم أو الخليفة أو يحدد مدة الحكم وعزل الحاكم. ويرون ذلك دليلاً على أن الإسلام أراد أن يترك كثيرًا من قضايا السياسة والحكم للاجتهاد الإنساني وفق ظروف الزمان والمكان والملابسات. وعلى النقيض من هؤلاء المفكرين يدعو ممثلو الإسلام السياسي القائلون بأن القرآن دستورهم إلى نموذج حكم مثالي وجد خلال حكم الرسول والخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز وذلك عندهم سبيل إلى تجديد حياة المسلمين بل البشرية كافة في العصر الحاضر. فهم يقابلون الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الحالية بأمجاد المسلمين الأوائل. وهناك من يكررون تعبير الجاهلية ويفسرونه بالاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. فالله في هذا الرأي لم يأذن للبشر بوضع الشرائع والقوانين والأنظمة والتصورات والقيم، فالأمة الوطنية لا تصلح مصدرًا للسلطة في الدستور، بل يذهب بعضهم كالشيخ عبد العزيز جاويش إلى أنه لا وطنية في الإسلام، فمصر عنده للمسلمين وليست للمصريين وحدهم.
وإذا عدنا للمودودي وجدناه لا يعتد برأي الأغلبية. فالإسلام عنده لا يجعل من كثرة الأصوات ميزانًا للحق والباطل. وهو يرى أنه من الممكن في نظر الإسلام أن يكون الرجل الفرد أصوب رأيًا وأحدّ بصرًا في مسألة من المسائل من سائر أعضاء مجلس الشورى. فالأمير له الحق في أن يوافق الأقلية أو الأغلبية في الرأي، وكذلك له الحق أن يخالف أعضاء المجلس كلهم ويقضي برأيه (أبو الأعلى المودودي:نظرية الإسلام السياسية. القاهرة 1975. ص 29-30).
ولكن محمد عمارة يرى أن الشورى ملزمة للحاكم لأن الذين يقولون بغير ذلك تجاهلوا الحديث الشريف "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" (والأمة هنا هي أمة المسلمين) الذي يعني عصمة الأمة التي يتجسد اجتهادها ويتمثل في الصفوة الجامعة لقدرات المشورة وإمكانات الاجتهاد. فمن هم أهل المشورة عند محمد عمارة في رؤيته المدققة؟ هم رؤوس الناس وخيارهم وهذه الأمة تختار ممثليها العارفين بالواقع وبالشريعة معًا. وهو يرى أن الأمة من وراء ممثليها عليها وعليهم مراقبة حكومتها ومحاسبتها ولها بل عليها فريضة تغيير هذه الحكومة إن هي جارت أو ضعفت عن النهوض بما فوضت إليها الأمة من مهام، تصنع ذلك بالسلم إن أمكن وبالثورة إن لم يكن بد من ذلك. فمقاومة الظلم بالثورة واجب. أما حسن البنا فعنده أن إهاجة العامة ثورة وأن الثورة فتنة وأن الفتنة في النار. ولا يتجه عمارة إلى حل الأحزاب بل يقول بمشروعية المعارضة، ولكن البنا يرى أن الأحزاب تقسم الأمة وأن حل الأحزاب السياسية سيتلوه قيام حزب واحد على أساس برنامج إسلامي إصلاحي. وأهل الشورى عنده من رجال الدين أو المتمرسين على القيادة مثل رؤساء العائلات والقبائل ولا تكون الانتخابات مقبولة إلا إذا أسفرت عن اختيار أناس من هاتين الفئتين (حسن البنا: الرسائل الثلاث). كما يرفض البنا عمومًا حق الإضراب لأنه في رأيه مخل بروابط الإخاء بين المسلمين ومثير للجفاء بين فرقهم.
فالدعوة إلى الدستور الإسلامي وتطبيق الشريعة يحيطهما في التطبيق تناحرات في الرأي شديدة. كما أن شعار الإسلام دين ودولة استعمله عبد الرازق السنهوري في مطلع بحث له لمجلة المحاماة الشرعية (أكتوبر 1929) ولكنه عمل بجهد لكي يتفق القانون المدني الحالي مع مبادئ الشريعة. وقد أقر علماء الشريعة أن هذا القانون أقرب القوانين إلىها، فهي إعمال مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم. كما أن النظام الدستوري البرلماني القائم في مصر يمكن عند البنا والهضيبي وعدد من كتاب الإخوان إذا ما أدخلت عليه بعض إصلاحات أن يلبي المتطلبات السياسية للدولة الإسلامية. فالقطيعة الكاملة التي يصورها بعض دعاة الإسلام السياسي بين ما يسمونه بالقانون الوضعي والشريعة الإسلامية لا محل لها.