ماركس التجربة السوفياتية ؟


نعيم الأشهب
2013 / 7 / 9 - 17:27     

تمهيد: صنّفت المادية التاريخية لماركس ، تاريخ تطور البشرية الإجتماعي بالأنماط التالية : الشيوعية البدائية ، العبودية ، الإقطاع ، والرأسمالية . لكن هذا لا يعني أن جميع الشعوب مرّت ، بالضرورة ، في جميع هذه التشكيلات ، وبشكل متسلسل ؛ كما أن بعض أشكال هذه الأنماط أو النظم الإجتماعية لم تكن متماثلة. فالإقطاع في الشرق ، حيث ملكية الأرض للدولة ، يمنح الحاكم منها من يشاء للإستعمال - مقابل الخراج - ويستردها متى شاء ، تختلف عن الإقطاع في الغرب . وإذ اقتضى هذا النمط من الإقطاع في الغرب وجود طبقة الأقنان ، فلم يكن لهذه الطبقة مثيل في الإقطاع الشرقي . وإذا كانت طبقة العبيد قد اختفت في الغرب لتحل محلها طبقة الأقنان ، مع الإنتقال من النظام العبودي الى النظام الإقطاعي ( إذا استثنينا ظاهرة ملايين الأفارقة الذين أسرهم الكولونياليون الأميركان ، من موطنهم إفريقيا ، ونقلوهم للعمل كعبيد في مزارعهم في الولايات الجنوبية من أميركا الشمالية) ، فإن العبودية ، كظاهرة اجتماعية ، امتدت ، في إطار النظام الإقطاعي ، في الشرق، وبخاصة في العمل المنزلي، الى أيامنا تقريبا. فإذا كانت العبودية قد ألغيت رسميا في السعودية ، أواسط القرن الماضي ، فإن بقايا منها ما تزال موجودة فعليا هناك ، وكذلك الحال في مويتانيا وبلدان اخرى في إفريقيا.

وإذا كانت عملية الإنتقال من نظام اجتماعي طبقي الى نظام اجتماعي طبقي آخر، قد تمّت ، عموما ، بشكل تلقائي ، حيث مثل تطور أدوات الإنتاج دينامية هذا التغيير ومحركه الأساس ، فإن الأمر مختلف بالنسبة للإنتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية .

بمعنى آخر، فعملية الإنتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية تختلف نوعيا من حيث أنها عملية واعية مئة بالمئة. ويعود ذلك إلى أنها تستهدف ليس نقل المجتمع من نظام طبقي الى نظام طبقي آخر، وإنما من مجتمع طبقات متناحرة ، مستغلة ( بكسر الغين) وأخرى مستغلة (بفتح الغين) الى مجتمع خال من الإستغلال الطبقي . وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ ، منذ تفكك المشاعية البدائية ، قبل آلاف مؤلفة من السنين ، ترسّخت خلالها في ذهن الإنسان مفاهيم الإستغلال الطبقي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج .

من هنا، فعملية الإنتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية لا يمكن أن تتم ، بمجرد نضوج العامل الموضوعي لهذا الإنتقال ، والمتمثل بتطور أدوات الإنتاج الى حد تغدو فيه علاقات الإنتاج ، ومحورها الملكية الخاصة ، تمثل كابحا متزايد التأثير في إعاقة تقدم قوى الإنتاج؛ ولذلك فعملية الإنتقال هذه ، من الرأسمالية الى الإشتراكية ، بحاجة مطلقة لتوفر عامل ذاتي الى جانب العامل الموضوعي ، أي الى حزب ثوري مسلّح بالنظرية الثورية للطبقة العاملة - أكثر طبقات المجتمع التي لها مصلحة في هذا التغيير- وقادر على صياغة استراتيجية وتكتيك عملية الإنتقال هذه وقيادتها.

وإذا كان هذا لا يضع العامل الذاتي قبل العامل الموضوعي ، الذي يبقى هو الأساس ، إلاّ أن العامل الذاتي يكتسب في هذه الحالة أهمية خاصة . ومنذ عقود طويلة ، كانت تحلّ ، بين حين وآخر، ما تسمى باللحظة الحاسمة ، حين تبلغ أزمة النظام نقطة معينة ، في بلد رأسمالي أو آخر، نضج موضوعيا للتغيير الثوري والإنتقال الى الإشتراكية ، لكن عدم توفر العامل الذاتي القادر على تنظيم وقيادة عملية الإنتقال هذه ، كان يؤدي الى ضياع تلك اللحظة.

لقد جرت ، حتى الآن، محاولتان جادتان لنقل المجتمع من الرأسمالية الى الإشتراكية ، الأولى - كومونة باريس عام 1871، ودامت سبعين يوما ، والثانية - ثورة أكتوبر في روسيا 1917، ودامت سبعين عاما. وإذا كان ماركس قد قام بتقييم موضوعي لكومونة باريس ، إيجابيات وسلبيات ، وقدّمه بإسم " الصراع الطبقي في فرنسا" لمجلس الأممية الأولى ، بعد أسابيع قلائل على قمع تلك المحاولة المجيدة ، وقبل إعلان حل تلك الأممية عام 1872 ؛ فإن تقييما كهذا لثورة أكتوبر لم يتم انجازه ، حتى الآن، رغم مضي أكثر من عشرين عاما على انهيار تلك التجربة . لقد ظهرت ، حتى الآن ، اجتهادات متناثرة ، ومتباينة أحيانا، في تقيييم هذه التجربة ، وأسباب انهيارها ؛ لكنها لا ترقى الى مستوى تقييم جاد ومتكامل لهذه التجربة الهائلة والحافلة في الوقت ذاته ، والتي تركت بصمات عميقة على تاريخ البشرية في القرن العشرين.

وإذا كانت هذه القضية تهمّ كل الإنسانية التقدمية الطامحة للخلاص من الرأسمالية المعاصرة وشرورها ، وبالتالي تمنح الحق لكل إنسان تقدمي أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع ، فإن المسؤولية الأولى في تقييم هذه التجربة تقع على عاتق الماركسيين السوفيات الذين عايشوا هذه التجربة وكانوا في قلبها ، وكذلك ماركسيو بلدان شرقي أوروبا الذين انضموا الى هذه التجربة بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا التقييم النقدي لا غنى عنه لأية محاولة جديدة للإنتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية . فما دام بناء الإشتراكية عملية واعية بالكامل ، فإن تحديد الأخطاء التي ظهرت في التطبيق في التجارب السابقة وأدت الى فشلها ، تغدو لا غنى عنها لتجنبها في أية عملية قادمة نحو الإشتراكية.

وفي إطار الإجتهاد للمساهمة في عملية التقييم النقدي هذه ، ربما تكون أكثر الطرق سلامة وتجنبا للوقوع في الذاتيات ، محاكمة أسس التجربة السوفياتياة بالإستناد الى المباديء العامة التي صاغها ماركس حول الإشتراكية استخلاصا من دراسته للرأسمالية من جهة ولتجربة كومونة باريس من الجهة الأخرى . وتكتسب مثل هذه المحاكمة أهمية إضافية من حيث أنها تمثل ردا على أعداء الماركسية من كل شاكلة ولون ، بمن فيهم المرتدون الجدد، الذين زعموا بأن فشل التجربة السوفياتية هو إعلان بفشل الماركسية ، بل وموتها ، كما ذهب البعض .

ولكن قبل الخوض في هذه المحاكمة ، من الإنصاف والموضوعية الإعتراف بأن هذه التجربة حققت نتائج مذهلة ، وبخاصة في العقود الأولى من حياتها ، استنادا الى المبدئين التاليين اللذين سبق لماركس أن صاغهما كأسس لبناء الإشتراكية: إحلال الملكية العامة لوسائل الإنتاج ، مكان الملكية الخاصة لها؛ والتخطيط الإقتصادي ، بدل فوضى الإنتاج . فمنذ أخذ البلاشفة السلطة في أكتوبر 1917 وحتى أواسط الثلاثينات ، تحوّل الإتحاد السوفياتي من بلد زراعي - صناعي متخلف الى بلد صناعي - زراعي متقدم ، يمتلك قاعدة صناعية قوية ومتقدمة ، استطاع بالإستناد اليها أن يكسب الحرب ضد ألمانيا النازية ، التي كانت أقوى دولة في القارة الأوروبية وأكثرها تقدما صناعيا ؛ رغم أن نقطة البدء في عملية بناء الإقتصاد السوفياتي كانت من أطلال وخرائب الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الأهلية المصحوبة بحرب تدخل شاركت فيها اثنان وعشرون دولة . وحتى بعد الحرب العالمية الثانية التي كان الإتحاد السوفياتي أكثر بلدان العالم معاناة منها ، من حيث الخسائر البشرية والمادية ، فقد استطاع ، في غضون سنوات معدودة ، ان ينهض من آثارها ويغدو رائدا في غزو الفضاء وأول من يرسل انسانا خارج الكرة الأرضية ، سابقا الولايات المتحدة التي لم تصبها رصاصة واحدة خلال الحرب العالمية الثانية ، بل تضاعف اقتصادها ، بسبب تلك الحرب ، أربع مرات. وبسبب من الملكية العامة لوسائل الإنتاج ، والتخطيط الإقتصادي ، كان الإتحاد السوفياتي هو البلد الوحيد في العالم الذي لم يعاني من الأزمة الإقتصادية الكبرى التي اندلعت في العام 1929 وامتد تأثيرها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

مقارنة التجربة السوفياتية مع
المباديء العامة التي صاغها ماركس للإشتراكية
كما أشير سابقا ، فإن ماركس صاغ عددا من المباديء العامة للإشتراكية كإستخلاصات من دراسته المعمقة للرأسمالية من جهة ، ومن دروس كومونة باريس من الجهة الأخرى؛ وبالتالي جاءت هذه المباديء العامة خالية من أية أحلام طوباوية أو رغبات ذاتية ؛ وفي الوقت ذاته، مركّزة ومقتضبة ، وسنركز هنا على اثنين اساسيين منها ، أولهما ، مبدأ التسيير الذاتي :

أدرك ماركس في دراسته للرأسمالية ، مخاطرالبيروقراطية على حرية الإنسان في تحديد خياراته . وفي تناوله ، هو وإنجلز، لسبل الإنتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية ، لاحظا أنه يمكن تحاشي الإنتفاضة المسلحة - التي ليست غاية في ذاتها ولا الوسيلة المفضلة - والإنتقال السلمي ، عبر الإقتراع العام ، اعتمادا على الغلبة العددية للطبقة العاملة ، في كل من انجلترا والولايات المتحدة ، حيث كانت البيروقراطية ما تزال ضعيفة ومحدودة آنذاك . لكن في وقت لاحق ، راح إنجلز- بعد وفاة ماركس - يشكك في هذا الإحتمال ، في ضوء النمو السريع للبيروقراطية في هذين البلدين ".. مما يفرض على البروليتاريا اللجوء الى العنف الثوري" ، كما قال.

أما بديل البيروقراطية وشرورها ، في الإشتراكية ، فقد جاءت به كومونة باريس ، في تعميمها في جميع خلايا المجتمع ومؤسساته ، ولا سيما الإنتاجية ، مبدأ التسيير الذاتي ، حيث ينتخب أعضاء الوحدة المعنية لجنة تمثل وتدير العمل فيها ؛ وهذه اللجنة المنتخبة عرضة للمساءلة والإقالة ، في أي وقت ، كليا أو جزئيا ، من قبل أعضاء الوحدة الذين انتخبوهم . لقد أرسى هذا المبدأ المبدع الذي جاء به عمال كومونة باريس الأساس المادي للعمليات الثلاث التالية :

أ- القدرة على الإنتخاب الحر للمسؤولين ، بمعزل عن تاثيرات ملكية وسائل الإنتاج (التي هي ، في هذه الحالة ، ملكية عامة وليست خاصة). وهذا يرسي الأساس للديوقراطية السياسية في المجتمع، بأرقى أشكالها وأكثرها نزاهة ، بدلا من ديموقراطية رأس المال . في الرأسمالية هناك انتخابات "حرة" ؛ لكن رأس المال هو الذي يحدد نتائجها. لقد كلفت انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة ، أواحر العام 2012 ، ملياري دولار. وقد خاضها ، كالعادة، من دعمته ماليا الإحتكارات الكبرى . ومعلوم أنه ألغيت في الولايات المتحدة ، مؤخرا ، حتى القيود على حجم المبالغ التي تقدمها هذه الإحتكارات للمرشحين لمراكز الدولة. وبالتالي ، فمثل هذه الإنتخابات محرم ، عمليا ، على ممثلي الكادحين خوضها، ولو أن ذلك مسموح نظريا.

ب - تأمين رقابة من أسفل الى اعلى - مقابل المراقبة من أعلى الى أسفل - على مدى الساعة على المسؤولين والقدرة على التدخل لتصحيح الأخطاء والتجاوزات في الوقت المناسب ، ولو تطلّب الأمر تغيير المسؤولين ؛ وهذا أرقى أشكال سلطة الطبقة العاملة ، وممارسة النقد والنقد الذاتي بأكثر تجلياته فعالية.

ج - وبهذه السلطات للعامل يغدو سيد المنتج الذي يقدمه للمجتمع ، لا عبدا لهذا المنتج كما في الرأسمالية ، وهذا يحرره بالبداهة من الشعور بالغربة ، ويحقنه بالشعور بأنه السيد الفعلي في هذا المجتمع
الطريق الآخر الذي سلكته التجربة السوفياتية

وفقا لدراسة لينين للرأسمالية في مرحلة الإمبريالية ، وبخاصة تصدير رأس المال ، توصّل الى الإستنتاج بإمكانية كسر السلسلة الرأسمالية في أضعف حلقاتها. وفي نهاية العام 1917 كانت روسيا هي هذه الحلقة الأضعف . وهكذا نجحت ثورة أكتوب . لكن لينين ، كان يعتقد، في الوقت ذاته ، أنه بمجرد كسر السلسلة الرأسمالية في أضعف حلقاتها فإن حلقات أخرى ، وبخاصة في أوروبا الغربية ، حيث المجتمعات الرأسمالية ناضجة موضوعيا للإنتقال الى الإشتراكية ، ستتداعى تباعا. وبهذا ستعتمد روسيا المتخلفة على الدعم المادي والتكنيكي من هذه الأقطار لبناء اشتراكيتها. لكن هذا لم يحدث لإعتبارات أهمها عدم جاهزية العامل الذاتي ( القيادة الثورية) في تلك الأقطارلعملية الإنتقال هذه . وهكذا وجدت ثورة أكتوبر نفسها أمام مهمة بناء الإشتراكية في روسيا المتخلفة دون أي عون ، ولا سيما مادي وتكنيكي .

أدرك لينين ، بذهنه الديالكتيكي المتوقد ، طبيعة المأزق، ولذلك تبنّى خطة لمرحلة انتقالية ، سميت " النيب" NEP (أي السياسة الإقتصادية الجديدة) ، تجري في إطار رأسمالية الدولة ، تحت قيادة ورقابة سلطة الطبقة العاملة ، لبناء إقتصاد عصري ، الذي بدونه لا يمكن الانتقال الى الإشتراكية. وقد كان هذا إدراكا واضحا من لينين بأن القوانين الإقتصادية يمكن ترويضها ولكن لا يمكن تجاهلها وإحلال الرغبات الذاتية مكانها ؛ وإلاّ فإنها سترتد ، إن عاجلا أو آجلا ، على شكل كوارث ، تماما كقوانين الطبيعة.

بمعنى آخر، كان على روسيا ، ثم الإتحاد السوفياتي ( بعد تشكله عام 1922) أن يباشر عملية إقتصادية - إجتماعية غير مسبوقة في التاريخ في ضخامتها وتعقيداتها ، ليس في روسيا وحسب حيث يسيطر الإنتاج البضاعي الصغير في إقتصادها ، بل وفي جمهوريات أخرى في نطاق الإتحاد السوفياتي بالغة التخلف كانت ما تزال ، بعض منها ، في مراحل الإقطاعية والقبلية . كان هذا يتطلب بالضرورة الإستعانة بعمل قوانين السوق حتى تستنفد ، هذه القوانين ، دورها الإيجابي ، في تحقيق التقدم الإقتصادي ، بحلول الإنتاج الكبير محل الإنتاج الصغير والحرفي، وكل ذلك تحت إشراف سلطة الطبقة العاملة ، لتأهيل البلاد إقتصاديا واجتماعيا ، في عملية واعية ومبرمجة ، للإنتقال الى الإقتصاد الإشتراكي العصري المتطور.

إن هذه العملية تجري عبرتقوية وتوسيع قطاع الدولة ، الذي تمثل المؤسسات الإقتصادية والمالية الكبيرة والناضجة للتحول الإشتراكي ، والتي اممتها الثورة ، قاعدته الأساسية وتحتل موقع القيادية فيه ، وذلك في مباراة مع القطاع الخاص ، المنتشر على نطاق واسع في الإنتاج الصغير والمتوسط ، كما كان عليه الحال في الإتحاد السوفياتي عقب نجاح ثورة أكتوبر.

إن مباراة من هذا القبيل ، بين المؤسسات العصرية وغيرها المتخلفة عنها وبين كبيرها وصغيرها ، تجري أمام أعيننا في الرأسمالية ونتائجها معروفة . لكن الفارق الوحيد هو أن هذه المباراة في الرأسمالية تجري لصالح عملية الاصطفاء والتمركز التي لا تنقطع لصالح عدد متناقص من عمالقة رأس المال ، بينما هي في ظل سلطة الطبقة العاملة تستهدف إنضاج المقومات الإقتصادية المطلوبة للإنتقال الى المجتمع الإشتراكي .

أما في الريف ، فلم تكن القضية أقل تعقيدا ، بل ربما العكس . ففي أيار 1917 ، أي قبل ثورة أكتوبر ، وبعد ثورة شباط التي أسقطت الحكم القيصري ، انعقد المؤتمر الأول لمندوبي الفلاحين في عموم روسيا . وقد أيدت غالبية المندوبين برنامج حزب الإشتراكيين الثوريين ( حزب برجوازي صغير) الداعي الى تفتيت أراضي الإقطاع المصادرة وتوزيعها كملكيات خاصة على الفلاحين ، بينما كان البلاشفة يدعون الى تأميم الأرض كلها ( كما جرى لاحقا في كل من الصين وفييتنام) مما يرسي الأساس المادي للبناء الإشتراكي في الريف . كان هذا يتطلب ، بعد ثورة أوكتوبر ، عملا صبورا في الريف يعتمد في الأساس على الإقناع عبر قوة المثل . أي إدراك واقتناع الفلاحين ، ولا سيما الصغار، أن الزراعة التعاونية ، التي تدعمها الدولة بالآلات الزراعية العصرية والأسمدة والقروض ، تعود بمداخيل أعلى على المشاركين فيها .

لكن بعد وفاة لينين المبكرة ، عام 1924، وبعد تسلّم ستالين لقيادة الإتحاد السوفياتي بفترة وجيزة ، جرى التخلّي عن سياسة النيب قبل أن تؤتي أكلها وتتلاشى تقائيا، وبدلا عنها جرى تأميم كل وسائل الإنتاج المدينية. وإذا كانت ثورة أوكتوبر قد سبق وأممت البنوك والمصانع والمؤسسات الإقتصادية الكبيرة ، فإن موجة التأميمات الثانية هذه قد طالت ما دونها من المؤسسات الإقتصادية بما فيها الحرف وحوانيت تجارة المفرق الفردية ، وهي وحدات صغيرة يصعب حصر عددها الهائل في البلاد.

ترتب على هذا الإجراء الذاتي النتيجتين التاليتين : الأولى - تولي الدولة بنفسها إدارة كل إقتصاد البلاد ، كبيره وصغيره ؛ والثانية - لجوء الدولة للوسائل الإدارية المقرونة بالعنف في بعض الأحيان ، وبخاصة ضد الكولاك ( أغنياء الفلاحين ) لتشكيل التعاونيات الزراعية في الريف.

وفيما يتعلق بإدارة الدولة بنفسها للإقتصاد بدلا من لجان المنتجين ( التسيير الذاتي) والتي كانت سببا في نشوء البيروقراطية التي كان لها دور حاسم في فشل التجربة السوفياتية ، فإن اعداء الإشتراكية خلطوا عمدا بين قضية امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج ، نيابة عن المجتمع - وهو إجراء لا غنى عنه لبناء الإشتراكية - وبين إدارة الدولة لوسائل الإنتاج هذه ، وزعموا أن فشل التجربة السوفياتية مرده مصادرة الملكية الخاصة وتحويلها الى ملكية عامة ، بهدف إضفاء قداسة خاصة على الملكية الخاصة ، التي تؤكد أزمات الرأسمالية المتلاحقة ، أن لا حل لها الاّ بتحويل المكلية الخاصة للرأسماليين الى ملكية عامة.

لكن تولّي الدولة لإدارة الإقتصاد بدل التسيير الذاتي الذي أبدعته كومونة باريس وأوصى ماركس بتبنّيه في بناء الإشتراكية ، كان يعني تشكيل بيروقراطية لا سابق لها في حجمها وسطوتها في التاريخ، في مهمة فاشلة سلفا. وهذا ما كان يخشاه ماركس ويحذر منه ، حتى بالنسبة للبلدان الرأسمالية المتقدمة لدى تحوّلها الى الإشتراكية ، فما بالك في بلد يسود فيه الإنتاج البضاعي الصغير. كان هذا يعني في التطبيق العملي حلول موظف حكومي محل صاحب الحانوت الفردي الصغير، الذي يستحيل مراقبة كفائته وأمانته ، بينما معالجة ذلك - كما جرى - بإنشاء لجان مراقبة حكومية ، كان بمثابة خلق مراتبية بيروقراطية ، دون جدوى حقيقية . بل إن هذا الإجراء أرسى الأساس للفساد ، الذي راح ينمو ويتفشى بلا انقطاع .

ومع مرور الزمن تكلّست هذه البيروقراطية وغدت كطبقة جليدية فوق صدر المجتمع السوفياتي ، يتفاقم تأثيرها في عرقلة وشل حركته الطبيعية ، واضعفت العلاقة بين القيادة والقاعدة في المجتمع ، بحيث كفت القيادة عن الإحساس برغبات وهموم الشعب ، وقتلت أي ممارسة حقيقية لمبدأ النقد والنقد الذاتي ولحرية التعبير ، وبنتجة كل ذلك عمّ الشعورفي قاعدة المجتمع بالغربة ، وحلّت اللامبالاة محل الغيرة على الملكية العامة . وهذا بدا جليا ساعة انهيار النظام ، فلم تتصدى لا الطبقة العاملة ولا حتى العضوية الحزبية التي بلغت تسعة عشر مليونا للدفاع عنه .

أما في ميدان التخطيط الإقتصادي ، وهو بالإضافة الى الملكية العامة لوسائل الإنتاج ، يشكلان أساس الإقتصاد الإشتراكي وأهم عناصر تفوق الإشتراكية على الرأسمالية في الميدان الإقتصادي ، فإن البيروقراطية السوفياتية راحت ، أكثر فأكثر، تجريه بشكل فوقي وبمعزل عن حاجات المجتمع المتنامية والمتطورة ، ودون احترام لقوانين الإقتصاد السياسي للإشتراكية . وبنيجة ذلك نشأت هناك ثلاث اختلالات راحت تنمو وتكبر، مع مرورالأيام ، الإختلال الأول : بين فرعي الإنتاج الصناعي أ وب . أي بين إنتاج وسائل الإنتاج وانتاج وسائل الإستهلاك . وحين انهار الإتحاد السوفياتي كان ينتج من الجرارات الزراعية ضعف ما تنتجه الولايات المتحدة ؛ بينما انتاج البضائع الإستهلاكية في الإتحاد السوفياتي متخلف ، بشكل ملحوظ عن انتاج وسائل الإنتاج فيه ؛ الإختلال الثاني : بين حياة المجتمع السوفياتي الثقافية والمادية. في الميدان الثقافي ، يمكن القول بأن الإتحاد السوفياتي كان الأول في العالم من حيث رخص أسعار الكتب والإسطوانات وغزارة الترجمات من اللغات الأجنبية ، وتوفر المسارح ودور العرض ، وغيرها من مقومات الثقافة ؛ بينما لا يترافق الإرتفاع المتواصل للثقافة بمستوى مواز في الحياة المادية للمجتمع السوفياتي ، بل المزيد من الفوارق . وطبعا لا يجري الحديث عن تقليد مظاهر البذج لقطاع محدود في الرأسمالية ؛ أما الإختلال الثالث ، فهو ما بين القطاع العسكري والقطاع المدني . في الأول ، كان الإتحاد السوفياتي في مستوى الولايات المتحدة ، بل ومتفوق عليها في بعض الميادين ، وبالمقابل ، كان التخلف باديا ويتزايد في القطاع المدني . وحين انهار الإتحاد السوفياتي ، كان ما يزال شائعا في متاجره العد وتحديد الحساب على الخرزات ؛ وحتى في الأماكن التي جرى فيها ، في وقت متأخر، كموسكو، إدخال الحاسبات الآلية البسيطة ، كان تأثير العادة أن يدقق المحاسب نتائج الآلة الحاسبة بالعودة الى الخرزات !

أما المبدأ الثاني الذي صاغه ماركس لمرحلتي الإشتراكية والشيوعية في التقييم لقوة العمل فكان كالتالي : في الإشتراكية أو المرحلة الدنيا من الشيوعية ، من كل حسب مقدرته ولكل حسب عمله . هذا المبدأ قائم على تقييم قيمة العمل وفق قانون القيمة الرأسمالي ، كما لاحظ انجلز . لكن ماركس استخلصه من دراسته للإقتصاد السياسي للرأسمالية. فالرأسمالية منذ نشوئها راحت تعاني من أزمات فائض الإنتاج . والسبب في ذلك أن العامل في بيعه قوة عمله للرأسمالي ينتج قيمة لا ينال إلاّ مقابل جزء منها ، أما الباقي فيقتطعه الرأسمالي - القيمة الزائدة . وطالما لا يتلقى العامل كامل قيمة ما أنتجه ، فإن قدرته الشرائية تظل دون ما طرحه في السوق من السلع ، وبالتالي يتراكم فائض الإنتاج وتنشأ أزمات فيض الإنتاج . وللحيلولة دون وقوع هذه الأزمات في الإشتراكية كان لا بد من حصول العامل على أجر مساو لما ينتج ، بحيث ترتفع قدراته الشرائية لتوازي ما يطرحه في السوق من السلع . وهكذا يتضح أن ماركس لم يصغ هذا المبدأ طلبا للعدالة الإجتماعية ؛ بل إن هذه العدالة تتحقق كنتيجة وليست هي السبب . أما السبب فهو تلافي وقوع أزمات فائض الإنتاج في الإشتراكية ، هذه الأزمات التي ترافق الرأسمالية من المهد الى اللحد. تماما كما كان استنتاجه بحتمية حلول الملكية العامة لوسائل الإنتاج مكان الملكية الخاصة ، لم يكن سببه تحقيق العدالة الإجتماعية ، بل إن هذه العدالة تتحقق كنتيجة . أما السبب فهو أن الملكية الخاصة تغدو منذ أن يصبح طابع العمل اجتماعيا - نتيجة التصنيع الآلي - وليس فرديا أو شبه فردي ، فإنه يحتاج الى علاقات اجتماعية مماثلة . أي ملكية عامة ، حتى يواصل تطوره بلا عوائق.

أما في الشيوعية - أو المرحلة العليا منها- فيسود مبدأ من كل حسب مقدرته ولكل حسب حاجته، استنادا الى تكنولوجيا رفيعة وإنتاج مادي غزير ، مقرون مع مستوى رفيع من الثقافة الإجتماعية التي لا تعرف الأثرة.

مع مرور الزمن وتطور الإقتصاد السوفياتي ، كان يتفاقم خرق وتجاهل البيروقراطية السوفياتية لمبدأ : من كل حسب مقدرته ولكل حسب عمله ، البالغ الأهمية في تحريك الحوافز في الإنتاج . وساد بدلا منه نوع من مساواة الأجور . وقد نتج عن ذلك ، بالإضافة الى اقصاء العامل عن المشاركة في عمليات التخطيط وإدارة العملية الإنتاجية ، الشعور بالإغتراب ، وما أسفر عنه ذلك من الترهل وتفاقم الإهدارللخامات واللامبالاة تجاه الملكية العامة ، وغدا المعيار السائد هو معيار الكسول وليس العكس ، إذ ما جدوى النشاط إذا كان المردود متساو مع الكسل! ومن المفارقات الناجمة عن قتل هذا الحافز المادي ، أن أصبحت إنتاجية العمل في الرأسمالية ، على نفس الآلة ، أعلى منها في الإتحاد السوفياتي ، مع أن المفروض هو العكس ؛ وإذا كان الإتحاد السوفياتي ينتج من الجرارات الزراعية ضعف ما تنتجه الولايات المتحدة - كما أشير سابقا - فإن انتاجية العمل في الزراعة بقيت في الولايات المتحدة أعلى منها في الزراعة السوفياتية بشكل ملحوظ .

كانت الحصيلة العامة لتجاهل القوانين الأساسية للإشتراكية وللإقتصاد السياسي الإشتراكي ، أن حلّت الرغبات الذاتية للقادة السوفيات ، أكثر فأكثر، محل تلك القوانين . فقد أعلن بريجنيف ، في المؤتمر السادس والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ، وذلك قبيل وفاته عام 1982، أن الإتحاد السوفياتي قد أنجز بناء الإشتراكية المتطورة ، وأنه يدخل مرحلة بناء الشيوعية ! في وقت كانت طوابرالمواطنين الطويلة ما تزال ظاهرة شائعة للحصول على بعض السلع الأساسية .

وفي لحظة معينة من تراكم هذه التجاوزات ، حانت ساعة "انتقام" القوانين الموضوعية التي طال وتفاقم تجاهلها ؛ وبدأ تباطؤ النمو الإقتصادي في الإتحاد السوفياتي ، منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي ، ثم دخل مرحلة الركود . وراح قادته في التفتيش عن حلول براغماتية لهذه الأزمة . وكان هذا مؤشر واضح بأنهم قطعوا علاقتهم بالإشتراكية والمشروع الإشتراكي ؛ وحين انهار النظام السوفياتي ، ذهب بعض هؤلاء القادة الى حد الإعلان عن عدائهم السافرللإشتراكية ، كغورباتشوف وياكوفليف ويلسين وشيفرنادزه . وتحوّل آخرون من رموز البيروقراطية السوفياتية الى قادة مافيات لنهب ثروات الإتحاد السوفياتي .

ومستقبلا ، سيكون على بناة الإشتراكية ، ليس فقط استخلاص الدروس الأساسية من التجربة السوفياتية الحافلة وتقييم ماركس ، من قبلها لتجربة كومونة باريس القصيرة ؛ بل والعودة الى المباديء العامة والملاحظات البالغة الغنى التي صاغها ماركس حول بناء الإشتراكية .