أي مستقبل لليسار داخل النقابات؟


التضامن من اجل بديل اشتراكي
2013 / 6 / 24 - 07:25     

من الواضح ان البيروقراطية داخل ا.م.ش مصممة على تصفية وجود اليسار حتى لو كان ثمن ذلك تفكيك وحل تنظيمات بكاملها للحيلولة دون اعادة بناء وجوده مستقبلا. فالإقدام على حل اكبر الاتحادات الجهوية والاكثرها نشاطا بالرباط وطرد الجامعة الوطنية للتعليم وإسقاط العضوية عن مسؤولين نقابيين بالأمانة العامة واللجنة الإدارية يشكلون رموزا للخط المناضل داخل النقابة، يؤكد ان الهجوم البيروقراطي معد سلفا وليست هذه سوى بعض حلقاته.
وإذا كان من الضروري والواجب التشهير بالقرارات البيروقراطية اللاشرعية والمنافية للقوانين الداخلية للاتحاد والتضامن مع النقابيين المطرودين وتعبئة العمال والنقابيين من اجل عدم تزكية هذه القرارات وعدم الامتثال لها، لكون النقابة هي ملك للعمال والنقابيين وليست ضيعة لقيادتها البيروقراطية، فان هذه المواقف المبدئية، على أهميتها، غير كافية ولا ينبغي ان تحجب عنا المعركة الحقيقية التي اصبح من غير الممكن اليوم تأجيلها.
ان المعركة ضد البيروقراطية لا يجب ان تختزل في التشهير بقراراتها، فليست القرارات هي وحدها التي تفتقد الى الشرعية، بل ان البيروقراطية نفسها لا شرعية لها. فوجودها على راس النقابة لم يكن ثمرة انتداب ديمقراطي يعكس ارادة العمال والقواعد النقابية، بل نتيجة تسلط بيروقراطي وتغييب ممنهج للديمقراطية وخرق سافر لكل القوانين الداخلية والمقررات التنظيمية للنقابة. وليس اقدامها على ما اقدمت عليه من قرارات، في غياب اية استشارة للقواعد النقابية، سوى تعبيرا واضحا عن رفضها للمحاسبة وفق ما تنص عليه القوانين المنظمة للنقابة.
ما كان بإمكان البيروقراطية الاقدام على هذا الخرق السافر لأبسط اشكال الديمقراطية، لولا يقينها بان قراراتها لن تجعلها تصطدم برفض قاعدة عمالية واعية بخطر البيروقراطية ومعارضة نقابية منظمة وقادرة على تحويل هذا الهجوم الى هجوم مضاد لإزاحة عصابة ورثة المحجوب من على راس النقابة العمالية.
في غياب هذه الشروط سيكون من الصعب على اليسار، بعد سنوات من "التوافقات الفوقية" مع البيروقراطية، تعبئة قطاعات عمالية واسعة للانتقال من "التعايش السلمي" الى "حرب مفتوحة" مع البيروقراطية.
ان الهجوم الذي تشنه البيروقرطية على اليسار لم يبدأ بتوقيف اشغال المؤتمر الجهوي او مع الاجراءات الأخيرة بل قد انطلق مع المؤتمر الوطني الذي اعقب وفاة المحجوب بن الصديق والذي اعتبره قسم من مناضلي اليسار مؤتمرا ناجحا ويتمتع بشرعية ديمقراطية، معتقدا بان التصويت على مقررات تنص على الحد من الانحرافات والموافقة على احداث لجان للمراقبة المالية والانفتاح على تمثيلية النساء والشباب في الأجهزة يشكل مؤشرا على انتقال المركزية النقابية من "الخط النقابي الخبزي" الى "خط نقابي تقدمي وديمقراطي".
بل لقد انخرط بعض قادة اليسار في التبشير بدور جديد لنقابة ا.م.ش في النضال الاجتماعي والديمقراطي وبدور محوري في اعادة بناء الوحدة النقابية للطبقة العاملة. وتحت تأثير مفعول مخذر تمثيلية بعض رموز اليسار في الاجهزة القيادية غاب التحليل النقدي والتقييم الصارم لحصيلة الممارسة خلال اكثر ثلاثة عقود وحل محله الانتشاء بنجاح المؤتمر والتأكيد على صواب تكتيك التوافق والتعايش مع البيروقراطية.
عودة الى المؤتمر
يجب التذكير بان البيروقراطية قبل المؤتمر كانت ضعيفة وأجهزتها جامدة، وشبكة علاقتها بالشغيلة مفككة. وباستثناء الاتحادات المحلية والجامعات المرتبطة باليسار، لم يكن يعد بمقدور البيروقراطية القيام بأي نشاط نقابي، فقد تحولت خلال العقدين الاخيرين الى شبكة مافيا تابعة للسلطة، موالية للباطرونا ومكروهة من قبل العمال.
بفعل ازمة البيروقراطية وشيخوختها سيلجأ المحجوب وحاشيته الى "سياسة الانفتاح" على اليسار لتغذية الاجهزة النقابية بأطر جديدة وذات مصداقية تضفي طابعا نضاليا على النقابة وتساعد على كسب منخرطين جدد.
في ظل الفراغ الذي خلفه تفكك الاجهزة البيروقراطية توسع هامش وجود اليسار مستفيدا من تساهل البيروقراطية، لكن دون القدرة على تجاوز الخط الاحمر الذي كرسته زمرة المحجوب بالقوة والعنف.
بعد وفاة المحجوب وجدت المافيا البيروقراطية نفسها بدون زعيم يوحدها ويضمن التوازن بين مختلف أجنحتها، اذ لم يكن من بين صفوفها من يتمتع بالشرعية قيادة النقابة. ولضمان "انتقال سلس للخلافة" نهجت البيروقراطية نفس التكتيك الذي نهجه النظام بعد وفاة الحسن الثاني. فلجأ خلفاء المحجوب الى "سياسة التوافق" لتفادي "انتقال ديمقراطي" على مستوى القيادة. وقد كانت احد رهانات البيروقراطية خلال المؤتمر هو دفن حصيلتها المذمرة مع جثة المحجوب طمعا في تجديد شرعيتها كقيادة للنقابة. فقد كان من مصلحة البيروقراطية تفادي كل نقاش او تقييم يضع حصيلة تسييرها للنقابة موضع تساؤل. وقد كانت مستعدة للموافقة والتصويت على أي من المقررات والقوانين ثمنا للاستمرار في التحكم في الاجهزة. فهي تعرف بان هذه المقررات والقوانين لن تتجاوز قاعة المؤتمر. بالمقابل لم يدرك اليسار انه في غياب معارضة نقابية مستقلة وقاعدة عمالية نشيطة فان هذه المقررات ستبقى حبرا على ورق.
من هذه الزاوية شكل المؤتمر انتصارا تكتيكيا للبيروقراطية وهزيمة استراتيجية بالنسبة لليسار بعد تنازله عن المعركة الديمقراطية ونهجه لسياسة التوافق مع البيروقراطية. فقد كانت اهداف البيروقراطية خلال المؤتمر اهدافا سياسية لإعطاء نفس جديد للنقابة يسمح لها بالبروز كقوة تمثيلية وشريك في اساسي في اليات الحوار الاجتماعي بينما كانت حسابات اليسار تنظيمية صرفة: مقاعد في الاجهزة ومقررات تنظيمية لتحصين وتعزيز التراكمات السابقة.
البيروقراطية ليست حليفا تكتيكيا
ليست البيروقراطية مجرد عناصر فاسدة ومرتشية، بل هي شريحة اجتماعية ذات مصالح وامتيازات تجعلها مرتبطة بالباطرونا وتابعة للدولة. اما البيروقراطية داخل ا.م.ش فقد تحولت نواتها الصلبة مع الوقت من بيروقراطية نقابية الى بيروقراطية ذات علاقة عضوية بالنظام والباطرونا. وهي علاقة لا يمكن انهاؤها من خلال المؤتمرات وبواسطة القوانين والمقررات والتمثيلية داخل الأجهزة كما يتوهم قسم من مناضلي اليسار. فالبيروقراطية تدير النقابة من خلال جهاز اداري لا يسمح بأية دمقرطة فعلية او نهوض لنشاط نقابي نقدي ومستقل. كما ان نظام اشتغال الاجهزة البيروقراطية، خاصة داخل أ.م.ش لا يسمح بتشكل باية تعددية اوتسيير ديمقراطي للجامعات والاتحادات المحلية باستقلال عن التدخل والرقابة البيروقراطية.
ان طبيعة بيروقراطية ا.م.ش وطبيعة علاقتها بالنظام والباطرونا لا تسمح، عكس ما يعتقد اليسار، بأي توافق تكتيكي بين توجه نقابي عمالي وتوجه بيروقراطي برجوازي . هو ما عبرت عنه المواقف المتعارضة من الدستور وحركة 20 فبراير والانتخابات البرلمانية وغيره من القضايا السياسية الرئيسية.
ليست المساومة مع البيروقراطية خطأ في حد ذاته، فقد تكون المساومة تارة ضرورية، لكن الخطأ هو الاعتقاد بإمكانية "التعايش السلمي" مع البيروقراطية خلال مرحلة كاملة من مراكمة القوى. فهي ليست حليفا تكتيكيا لليسار بل هي عدوه الاستراتيجي داخل النقابة.
مغزى الهجوم البيروقراطي
ان الهجوم البيروقراطي على اليسار يجد تفسيره في السياق العام، اقتصاديا (ازمة الرأسمالية) وسياسيا (الثورات العربية). كما يجد تفسيره في بروز بوادر نهوض عمالي وشعبي عام لصد الهجوم الطبقي بعد فشل النضالات الدفاعية في تحصين المتكسبات. ليس لدي البيروقراطية ما تقدمه للعمال وهي تخشى من ان يلعب اليسار دورا في تحفيز النضالات. كما ان النظام والباطرونا يعيان جيدا ان استمرار موجة النضالات التي حفزتها الثورات العربية من شأنه تعميق حالة عدم الاستقرار الذي يخيم على المنطقة وإرغام النظام على الدخول في حرب مفتوحة مع الجماهير الشعبية.
ان المشترك بين اطراف التحالف الثلاثي (البيروقراطية، الباطرونا والنظام) هو تشديد القبضة القمعية وشن حرب استباقية لمواجهة انفلات الوضع من تحكمها. وليس غريبا ان تتزامن الحملة القمعية التي شنتها بيروقراطية ا.م.ش ضد القوى المناضلة مع الحرب التي يشنها النظام على الحركات الاحتجاجية باسم استعادة "سلطة الدولة".
فليس لدى البيروقراطية من وظيفة في مرحلة الهجوم على الطبقات الشعبية سوى وظيفة "كلب الحراسة" لحماية النظام ومصالح الباطرونا.
من اجل خط نقابي هجومي
ان نفس الاسباب التي تقف وراء الهجوم البيروقراطي، يجب ان تقود اليسار الى بلورة خط نقابي هجومي يدمج بين اعادة بناء التنظيم النقابي وبين مواجهة الهجوم على حقوق ومصالح الشغيلة. فالمسالة المطروحة على اليسار في المرحلة الراهنة تتجاوز حدود معركة الدفاع عن الشرعية التنظيمية. فالاستمرار او الانسحاب من ا.م.ش ليس حلا في حد ذاته، فكل الاختيارات التكتيكية يجب ان ترتبط بالهدف الاستراتيجي الذي هو اعادة بناء مشروع نقابي كفاحي ومستقل عن المشروع النقابي البيروقراطي المنهار.
ان الجواب الوحيد على هجوم البيروقراطية هو حشد اكبر عدد من القوى النقابية المناضلة من داخل كل النقابات والمركزيات وتجمعيها حول هدف بناء تجمع نقابي ديمقراطي مستقل عن البيروقراطية. وضمن هذا الافق يجب الاسراع بتشكيل تنسيق نقابي بين القطاعات والجامعات النقابية المعنية مباشرة بالهجوم ليكون نواة والية لتشكيل فضاء للنقاش والتفكير الجماعي حول الخطوات التي يجب سلوكها. ليس المطلوب حاليا هو دعوة باقي الجامعات والاتحادات المحلية الى الانسحاب من ا.م.ش، بل المطلوب هو التنسيق بين "الداخل" و"الخارج" لمواجهة الهجوم على جبهتيه: جبهة الهجوم البيروقراطي على القوى النقابية المناضلة وجبهة العدوان البرجوازي على الطبقة العاملة.
اذا كانت المرحلة تقتضي اكثر من أي وقت مضى فتح النقاش في صفوف القوى النقابية المناضلة حول أي مشروع نقابي كفيل بمواجهة الهجوم الطبقي وقادر على تنظيم النضالات وتوحيدها، فان المهمة المباشرة المطروحة على القوى النقابية المناضلة هي تحديد الخطوط العامة لتوجه نقابي ديمقراطي وتشكيل اليات للمتابعة والتنسيق لبحث سبل ترجمة هذا التوجه على ارض الواقع: اتحاد نقابي مستقل؟ نقابة جديدة؟ تجميع القوى داخل نقابة قائمة؟