فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (2-3)


هاشم نعمة
2013 / 6 / 22 - 14:43     

صخرة القصبة

تمثل الثورات التي تنتشر في الشرق الأوسط انهيارا للأنظمة السلطانية الفاسدة على نحو متزايد. وبالرغم من نمو اقتصاديات المنطقة في السنوات الأخيرة، إلا أن المكاسب لم تستفد منها غالبية الجماهير، وبدلا من ذلك، تكدست الثروات بيد عدد قليل من الأثرياء. وقد ذكر أن مبارك وعائلته أنشأوا ثروة تتراوح ما بين 40 إلى 70 مليار دولار، ويزعم بأن 39 من الموظفين ورجال الأعمال المقربين من جمال بن مبارك قد جمعوا ثروات تبلغ في المتوسط أكثر من مليار دولار لكل واحد منهم. وفي تونس، اشارت برقية دبلوماسية أمريكية تعود لعام 2008 نشرها موقع ويكيليكس إلى حالة انتشار الفساد، وحذرت بأن عائلة ابن علي أصبحت ذات سلوك لصوصي إلى حد بعيد وبأن الاستثمارات الجديدة وخلق فرص العمل يجري التضييق عليهما وأن تباهي عائلته قد أثار غضبا واسع النطاق.

وقد تضرر السكان الحضر الذين أرتفع عددهم بسرعة في الشرق الأوسط من تدني الأجور ومن اسعار المواد الغذائية التي ارتفعت بنسبة 32% في السنة الأخيرة لوحدها، استنادا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. لكن ليس من البساطة القول أن مثل ارتفاع الأسعار هذا، أو نقص النمو، يشعل هكذا ثورات؛ لكن استمرار الفقر على نطاق واسع وغير المخفف عنه وسط تزايد الثراء الفاحش ساهم في اندلاع الثورات.

كما أن هناك سخطا ناجما عن ارتفاع معدلات البطالة، التي تنتج جزئيا من ارتفاع نسبة السكان من فئة الشباب في العالم العربي. فقد تراوحت نسبة الشباب البالغين الذين تتراوح اعمارهم بين 15-29 سنة من مجموع السكان البالغة اعمارهم أكثر من 15 سنة بين 38% في البحرين وتونس وأكثر من 50% في اليمن (مقارنة مع 26% في الولايات المتحدة الأمريكية). لم تكن نسبة الشباب في الشرق الأوسط مرتفعة بصورة ملحوظة فقط، لكن نمت اعدادهم بسرعة خلال فترة قصيرة. فمنذ العام 1990، ارتفع عدد السكان الشباب في الفئة العمرية 15-19 سنة بنسبة 50% في ليبيا وتونس، و65% في مصر، و125% في اليمن.

نتيجة سياسات التحديث التي تبنتها الحكومات السلطانية، تمكن الكثير من هؤلاء الشباب من الالتحاق بالجامعات، خصوصا في السنوات الأخيرة. ففي الواقع، ارتفعت نسبة الالتحاق بالجامعات في المنطقة في السنوات الأخيرة، بأكثر من ثلاثة اضعاف في تونس، وأربعة اضعاف في مصر، وعشرة اضعاف في ليبيا.

سيكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، لأي حكومة أن توفر فرص عمل كافية لمواكبة هذا الطلب المتزايد على العمل. و كانت المشكلة من الصعب السيطرة عليها، خصوصا، في الأنظمة السلطانية. وكجزء من استراتيجية الرعاية، فقد قدم ابن علي ومبارك الدعم الحكومي لفترة طويلة للعمال والعائلات من خلال برامج مثل صندوق العمل الوطني في تونس – الذي يدرب العمال، ويوفر فرص العمل ويمنح القروض- وفي مصر تمثلت بسياسة ضمان توفير فرص العمل لخريجي الجامعات. لكن شبكات الأمان هذه انخفضت نفقاتها تدريجيا في العقد الأخير. علاوة على ذلك، كان التدريب المهني ضعيفا، وقد تمت السيطرة بإحكام على وسائل الحصول على فرص العمل في القطاع العام والخاص من قبل الفئة المرتبطة بالنظام. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع البطالة وسط الشباب بشكل لا يصدق في الشرق الأوسط: حيث وصل معدلها إلى 23%، وهو ضعف المعدل العالمي، عام 2009. إضافة إلى ذلك، كانت البطالة وسط المتعلمين أسوأ من ذلك: ففي مصر، يزداد احتمال عدم حصول خريجي الجامعات على وظائف إلى عشرة اضعاف مقارنة بأولئك الذين يتمتعون بمستوى التعليم الابتدائي فقط.

في الكثير من الاقتصاديات النامية، يوفر القطاع غير الرسمي متنفسا للبطالة. مع ذلك، جعل السلاطين في الشرق الأوسط حتى هذه النشاطات صعبة المنال. بعد كل هذا، اندلعت الاحتجاجات بعد أن ضحى الشاب التونسي محمد بو عزيزي بنفسه وهو بعمر 26 سنة والذي لم يتمكن من الحصول على عمل رسمي، وكانت عربته التي يبيع بها الفواكه قد صودرت من قبل الشرطة. وكان الشباب المتعلم والعمال في تونس ومصر قد نظموا احتجاجات وإضرابات محلية لسنوات من أجل جلب الانتباه إلى البطالة المرتفعة، وانخفاض الأجور، ومضايقات الشرطة والفساد الحكومي. لكن في هذا الوقت، باتت احتجاجاتهم مشتركة وامتدت إلى الفئات السكانية الأخرى.

إن استحواذ هذه الأنظمة على الثروة والتمادي في الفساد أساءا بشكل متزايد لجيوشها. لأن كل من ابن علي ومبارك قدما من المؤسسة العسكرية؛ وفي الواقع، مصر حكمت من قبل ضباط سابقين منذ عام 1952. وفي كلا البلدين، كان الجيش ينظر إلى مكانته بأنها في تراجع. وقد سيطر قادة الجيش في مصر على بعض الأعمال التجارية المحلية، لكنهم كانوا مستاءين بشدة من جمال مبارك، الذي كان ولي عهد حسني مبارك. وهو كمصرفي، فضل بناء نفوذه من خلال الأعمال التجارية والسياسيين المقربين بدلا من بنائه من خلال الجيش، وقد كسب أولئك المرتبطون به أرباحا ضخمة من الاحتكارات الحكومية ومن التعامل مع المستثمرين الأجانب. وفي تونس، أبقى أبن علي الجيش على مبعدة لضمان أن لا تكون له طموحات سياسية. وقد سمح لزوجته وأقربائها أن يبتزوا أموالا بطريقة غير مشروعة من رجال الأعمال التونسيين وبناء القصور على شواطئ البحر. نتيجة استياء الجيش، في البلدين، كان هناك احتمال قليل بقيامه بقمع الاحتجاجات الجماهيرية؛ حيث لا يريد الضباط والجنود قتل أبناء بلدهم فقط من أجل بقاء ابن علي ومبارك وعائلاتهم ومفضليهم في السلطة.

وقد حدث تخل مماثل عن النظام من قبل أقسام من الجيش الليبي، وأدى ذلك إلى فقدان القذافي وبسرعة السيطرة على مناطق واسعة من البلاد. وحتى كتابة هذه السطور، استخدم القذافي المرتزقة وسخر الولاءات القبلية التي أخرت سقوطه. وفي اليمن، ظل صالح واقفا على قدميه، بالكاد، نتيجة المساعدات الأمريكية المقدمة له لدعم مناهضته للإرهابيين الإسلاميين وبسبب الانقسامات القبلية والمناطقية وسط معارضيه. ومع ذلك، إذا توحدت المعارضة، يبدو أنها تفعل ذلك، وإذا احجمت الولايات المتحدة الأمريكية عن دعم نظامه القمعي على نحو متزايد، فإن صالح يمكن أن يكون السلطان القادم الذي سيطاح به.

حدود الثورات

حتى كتابة هذه السطور، لم تشهد السودان وسوريا والأنظمة السلطانية الأخرى في المنطقة، احتجاجات شعبية واسعة. ومع ذلك، فإن فساد البشير وتركز الثروة في الخرطوم بات يواجه بتحد. إن أحدى المبررات التاريخية لحكمه – إبقاء كل السودان تحت سيطرة الشمال- وقد تلاشت هذه السيطرة مؤخرا مع تصويت جنوب البلاد في كانون الثاني| يناير 2011 لصالح الاستقلال. وفي سوريا، احتفظ الأسد حتى الآن بدعم وطني بسبب سياساته المتشددة تجاه إسرائيل ولبنان. أنه لا يزال يحتفظ ببرامج عمل حكومية كبيرة والتي ابقت السوريين في موقف سلبي لعقود، لكنه لا يملك قاعدة اجتماعية كبيرة لدعم حكمه وهو يعتمد على نخبة قليلة، والتي بسبب فسادها على نحو متزايد باتت معروفة بسوء سمعتها. وعلى الرغم، من الصعب القول كيف أن صمود النخبة والجيش يمكن أن يدعما البشير والأسد، لكن من المرجح أن كلا النظامين هما اضعف مما يبدوان عليه ويمكن أن يتدهور وضعهما بسرعة في مواجهة احتجاجات ذات قاعدة جماهيرية واسعة.

من المرجح أكثر أن تبقى الأنظمة الملكية في المنطقة في السلطة. هذا ليس بسبب عدم مواجهتها مطالبات بالتغيير. ففي الواقع، تواجه بلدان المغرب، والأردن، وعُمان، والأنظمة الملكية في الخليج العربي نفس تحديات البنية السكانية، والتعليمية، والاقتصادية التي تواجهها الأنظمة السلطانية، ويجب عليها تنفيذ اصلاحات لمواجهة ذلك. غير أن الأنظمة الملكية تتوافر على ميزة مهمة: تتمثل في مرونة بناها السياسية. حيث يمكن للملكيات الحديثة أن تحتفظ بسلطة تنفيذية مهمة، في حين تتنازل عن السلطة التشريعية إلى برلمانات منتخبة. وفي اوقات الاضطرابات، من المرجح أكثر أن تطالب احتجاجات الجماهير بتغييرات تشريعية بدل المطالبة بالتخلي عن النظام الملكي. وهذا يعطي الملكيات مجالا أكبر للمناورة لتهدئة الناس. فعلى سبيل المثال، في مواجهة الاحتجاجات عام 1848، وسّعت الملكيات في ألمانيا وإيطاليا، دساتيرها، وقللت من سلطة الملك المطلقة، ووافقت على إجراء انتخابات المجالس التشريعية كثمن لتفادي مزيد من المحاولات لتصعيد الثورة.

علاوة على ذلك، في الأنظمة الملكية، يمكن في ظل النظام الوراثي أن يتم التغيير والإصلاح بدل هدم كامل النظام. وبما أن الوراثة العائلية تتوفر على شرعية وبالتالي قد يكون مرحبا بها بدلا من سيادة الخوف، كما في الدولة السلطانية النموذجية. فعلى سبيل المثال، في المغرب عام 1999، استحسن الجمهور تولي الملك محمد السادس العرش مع أمال كبيرة بالتغيير. وفي الواقع، حقق محمد السادس في بعض الانتهاكات القانونية للنظام السابق وعمل على تعزيز حقوق المرأة بعض الشيء. وقد هدأ من الاحتجاجات الأخيرة في المغرب بالوعد بأجراء اصلاحات دستورية رئيسية.(4) من المرجح أن يتمكن الحكام من البقاء في السلطة في البحرين، والأردن، والكويت، والمغرب، وعُمان، والسعودية، إذا رغبوا بتقاسم السلطة مع مسؤولين منتخبين أو أن يقوموا بتسليم زمام الأمور إلى أحد أعضاء العائلة من الشباب الذي يباشر اجراء إصلاحات مهمة.

على الأرجح، النظام الذي يتفادى حدوث تغيير هام في بنيته في المدى القريب يتمثل في النظام الإيراني. رغم أن إيران ينطبق عليها مفهوم النظام السلطاني أيضا، إلا أنها تختلف في العديد من النواحي: فهي لا تشبه أي نظام آخر في المنطقة، حيث أن تبني آيات الله ايديولوجية شيعية معادية للغرب وتبني القومية الفارسية قد لاقتا دعما كبيرا من الناس العاديين. وهذا ما يجعل من إيران أكثر شبها بدولة الحزب الواحد مع تمتع النظام بدعم قاعدة جماهيرية. أيضا تقاد إيران من قبل مجموعة تضم العديد من القادة الأقوياء، وليس من قبل قائد واحد فقط: المرشد الأعلى علي خامنئي، الرئيس محمود أحمدي نجادي، ورئيس البرلمان علي لاريجاني. وبالتالي لا يوجد سلطان واحد فاسد أو غير كفوء تتركز عليه نقمة المعارضة. أخيرا، يتمتع النظام الإيراني بدعم الباسيج، وهي ميليشيا ملتزمة ايديولوجيا، والحرس الثوري، الذي يتشابك بعمق مع الحكومة. لذلك، تتوفر فرصة قليلة بتخلى هذه القوى عن النظام في مواجهة احتجاجات واسعة.


المقالة بقلم البرفسور جاك غولدستون وهو عالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو إعدادا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May-June 2011

هوامش المترجم

4- تم اجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد في 1 تموز| يوليو 2011 والذي أقر بغالبية كبيرة ونص على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات ويتمتع بصلاحيات أوسع من السابق بعد أن رحلت بعض من صلاحيات الملك له رغم أن الأخير ظل يتمتع بصلاحيات هامة، علما أن هذه الانتخابات قاطعتها حركة 20 يناير التي انبثقت في سياق اندلاع الانتفاضات في البلدان العربية ورفعت شعار "الشعب يريد اسقاط الفساد" وفي الفترة الأخيرة تراجعت نشاطاتها بشكل ملحوظ.