شرح “مبادىء الشيوعية” لفريدريش إنغلز - 1847


هشام غصيب
2013 / 6 / 7 - 16:55     

شرح “مبادئ الشيوعية”

لفريدريش إنغلز (1847)

- وضع إنغلز هذا النص بناء على طلب العصبة الشيوعية، التي كان ماركس وإنغلز ينتميان إليها. وشكلت هذه المادة لاحقاً أحد روافد البيان الشيوعي. بل وجاءت فكرة البيان الشيوعي من إنغلز نفسه، الذي عدّ “مبادئ الشيوعية” غير ملائم من حيث الشكل.

- يبدأ إنغلز بالسؤال: ما الشيوعية؟ ويجيب: إنها النظرية التي تعنى بشروط تحرر البروليتاريا. إنه يربطها منذ البداية بالبروليتاريا. فهو لا يعرفها بوصفها علماً أو دوغما آو الحقيقة المطلقة، وإنما يعرفها على أنها نظرية شروط تحرر البروليتاريا. أي أنها التعبير النظري عن الهم التاريخي الموضوعي الأساسي للبروليتاريا.

- ثم، يتبع ذلك بالسؤال: ما البروليتاريا؟ ويجيب أنها الطبقة التي تعيش وتحيا ببيع عملها (لاحقاً، صحح ماركس ذلك باستبدال قوة العمل بالعمل)، والتي لا تحصل على أي ربح من أي صنف من الرأسمال. فحياتها ومماتها، شؤونها وبلاؤها، تعتمد على الطلب على عملها، ومن ثم على الحالة المتغيرة للبزنس، على تقلبات السوق والتنافس المنفلت. وينهي إجابته بالقول إن البروليتاريا هي الطبقة العاملة للقرن التاسع عشر. لاحظوا أن إنغلز عرّف البروليتاريا بدلالة ظروف حياتنا: أنها تعيش ببيع قوة عملها، بصرف النظر عن طبيعة عملها. فهو لم يعرفها بأنها الطبقة التي تخلق ثروة المجتمع آو فائض القيمة آو القيمة، وإنما على أساس أنها تعيش ببيع قوة عملها ولا تملك رأسمالا تجني منه أرباحا. وهذا يدخل جميع العاملين باجر ضمن إطار البروليتاريا، وفق إنغلز.

ثانياً، فهو يعرف البروليتاريا على أنها طبقة العمال في أوروبا القرن التاسع عشر. فهل يعني ذلك أن البروليتاريا محصورة في ذلك المكان وذلك الزمان؟ اعتقد أن إنغلز عنى بذلك أن البروليتاريا هي وليدة الرأسمالية الصناعية المتطورة. وهذه ليست محصورة في أوروبا ولا في القرن التاسع عشر.

- ثم يسأل إنغلز: هل يعني ذلك أن البوليتاريا لم تكن موجودة دوما؟ ويجيب بان الكادحين كانوا دوما موجودين، لكنهم لم يكونوا بروليتاريين. لقد كانوا يكدحون وكانوا فقراء، ولكن ضمن ظروف تختلف نوعياً عن الظروف الحديثة. ويركز إنغلز هنا على ظروف التنافس إلحاد الذي تتميز به الرأسمالية. وبالطبع فقد أزاح تركيزه لاحقاً من ظاهرة التنافس إلى طبيعة الإنتاج الرأسمالي.

- ثم يسأل: كيف نشأت البروليتاريا؟ وهنا يتبدى النهج التاريخي العياني لإنغلز. إذ ربط وجود الطبقة بالظروف التاريخية، ومن ثم طرح السؤال عن نشوء الطبقة. فلا يجوز النظر إلى أي ظاهرة اجتماعية بمعزل عن ظروفها التاريخية.

يقول إنغلز إن البروليتاريا نشأت في الثورة الصناعية، التي بدأت في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وانتقلت فيما بعد إلى باقي العالم المتمدن. ثم يربط إنغلز ذلك كله بالثورة التكنولوجية، وبالذات الماكنة البخارية، وماكنات الغزل، والأدوات الميكانيكية المتنوعة. لاحظوا أن إنغلز يضع شرطاً أساسيا للثورة الصناعية، ومن ثم نشوء البروليتاريا، عاملاً معرفياً، هو الثورة التكنولوجيا، وليدة الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر. وهذا يقودنا إلى دور المعرفة والعلم في نشوء الرأسمالية الصناعية واستمرارها وتطورها. وهي مسألة تحتاج إلى تدقيق وتنظير. وكالعادة، نجد التحليلات العيانية لإنغلز (وماركس أيضاً) لا تنسجم تماما مع الصيغة التبسيطية الميكانيكية لمقولات المادية التاريخية، والتي روجتها بعض الأدبيات الشيوعية إبان الحرب الباردة.

ثم يبين إنغلز كيف أدت الثورة التكنولوجية إلى النمو البركاني للرأسمالية والى سيطرة البرجوازية الكبيرة على الإنتاج برمته. ويشير إلى أن الماكنات الجديدة كانت مكلفة جداً. لذلك ما كان بالإمكان لغير الرأسماليين الأغنياء اقتناؤها. وهذا مكنهم من إنتاج سلع زهيدة بكميات كبيرة وسرعة كبيرة، الأمر الذي أدى إلى هيمنتهم على إنتاج النسيج وتحويل إنتاجه من حرفة إلى صناعة. فلم يستطيع الحرفيون بأدواتهم اليدوية البدائية أن ينافسوا الصناعة الجديدة، فدمر عملهم وتحولوا إلى بروليتاريا تحت رحمة الرأسمال الصناعي. ويشير إنغلز أيضاً إلى التطور السريع لتقسيم العمل، ذلك التطور الذي أدى إلى تسارع في الإنتاجية وإلحاق العامل بالماكنة بوصفها رأسمالاً. وسرعان ما توسع نظام المنشأة الصناعية الرأسمالية من قطاع النسيج إلى القطاعات الأخرى (صناعة المعادن والخزف وتجليد الكتب، الخ…). فالرأسمالية بحكم جوهرها تتمدد باستمرار وتسارع، أي تعيد إنتاج ذاتها بصورة متسعة.

والنتيجة نشوء طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين في مجابهة بعضهما بعضاً، تنزعان إلى بلع الطبقات القديمة: البرجوازية، التي تملك وسائل الإنتاج والتبادل والاتصال والنقل وتشغيلها، والبروليتاريا، التي لا تملك شيئاً سوى عملها، التي تبيعه للرأسمالي من أجل الحصول على سبل عيشها.

- بذلك، يطرح إنغلز السؤال: تحت أي شروط يحدث بيع العمل إلى البرجوازية؟ ويجيب إنغلز أن العمل هو سلعة شانه شان السلع الأخرى، ومن ثم تتحكم فيه قوانين السوق. ويرى أنه، تحت ظروف الصناعة الكبيرة آو التنافس الحر(ويرى إنغلز في هذه المرحلة أنهما مماثلان لبعضهما بعضاً، وإن أدرك لاحقا أنهما ليسا بالضرورة كذلك)، فإن سعر العمل يساوي في المتوسط كلفة إنتاجه. ويشير إلى أن كلفة إنتاجه تساوي الحد الأدنى من السلع الأساسية اللازمة لتجديد حياة العامل وذريته، أي لتجديد البروليتاريا بوصفها طبقة. وبالطبع، فإن دخل العامل يتذبذب حسب تقلبات السوق، تماماً كالربح والأسعار والبزنس. لكن المتوسط هو الحد الأدنى. ويعد إنغلز ذلك قانون الأجور، الذي يتعمق وينطبق بدقة اكبر كلما تعمق نمط الإنتاج الرأسمالي واستحوذ على قدر اكبر من الإنتاج.

- ثم يسأل إنغلز: أي طبقات عاملة كانت موجودة قبل الثورة الصناعية؟ ويجيب إنغلز أن الطبقات العاملة كانت موجودة دائما، لكنها كانت تعيش تحت ظروف مختلفة حسب مراحل تطور المجتمع. كما إن علائقها بالملاك والطبقات الحاكمة كانت تختلف باختلاف هذه المراحل. فعمال العصر الكلاسيكي كانوا العبيد الأرقاء، الذين كانوا ما زالوا موجودين في الأقطار المتخلفة وحتى في الولايات الأميركية الجنوبية في إنغلز. وعمال العصور الوسطى كانوا أقنان الأرض، الذين كانوا ما زالوا موجودين في أوروبا الشرقية في ذلك العصر. وبالإضافة إلى الفلاحين والأقتان، كان هناك في العصور الوسطى وحتى الثورة الصناعية الأولاد الجوالون، الذين كانوا يعملون تحت إمرة معلمي الحرف. وعند نشوء المنشآت التجارية، تم إلحاق أولئك الجوالين بها تحت إمرة الرأسماليين.

- ويسأل إنغلز: ما الفرق بين العبد والبروليتاري؟ ويجيب أن العبد يبيع نفسه لمرة واحدة. أما البروليتاري، فعليه أن يبيع نفسه في كل ساعة. كذلك، فإن العبد يملكه سيد واحد من مصلحته أن يؤمن له الحد الأدنى من مستلزمات حياته برغم شحه. أما البروليتاري، فتملكه الطبقة البرجوازية برمتها. ولا يؤمن أفرادها له الحد الأدنى من مستلزمات حياته إلا إذا صدف أن شعروا بالحاجة إلى ذلك. لذلك، فيما يقع العبد خارج التنافس الاقتصادي، يقع البروليتاري في قلبه، ويكون تحت رحمته. لكن العبد لا يعد جزءاً من المجتمع، وإنما يعد شيئاً. أما البروليتاري، فبرغم بؤسه، فإنه ينتمي إلى مرحلة تاريخية أعلى، وله مكانة اجتماعية أعلى. وفيما يسعى العبد إلى إلغاء شكل واحد فقط من الملكية الخاصة، هو امتلاك العبيد، فإن البروليتاري يسعى إلى إلغاء الملكية الخاصة في حد ذاتها وفي جميع أشكالها.

- ويسأل إنغلز: كيف يختلف البروليتاري عن القن؟ ويجيب أن ألقن يملك أرضا وأدوات إنتاج يدوية بسيطة. وبها يعيل نفسه وذريته والسيد الإقطاعي وحاشيته. فهو يعمل ويعطي السيد. أما البروليتاري الذي لا يملك شيئا، فهو يشغل أدوات البرجوازي، ويأخذ نصيبه من البرجوازي. القن يعطي. والبروليتاري يأخذ. القن مضمون في معيشته. أما البروليتاري، فهو تحت رحمة التنافس وقوى السوق.

ويسعى القن إلى تحرير نفسه إما بالهروب من الريف إلى المدينة، حيث يصبح حرفيا، وإما أن يستبدل النقد بالمنتوج العياني والخدمات التي يقدمها إلى السيد، فيصبح مستأجراً، وإما أن يطيح السيد الإقطاعي ويعدو مالكا بدوره. وفي جميع الأحوال، فإنه يحرر نفسه عن طرق الملكية الخاصة ودخول التنافس. أما البروليتاري، فهو يحرر نفسه بإلغاء الملكية الخاصة والتنافس كلياً.

- بعد ذلك، يميز إنغلز بين البروليتاري والعامل الحرفي من جهة وبينه وبين عمال المنشآت الحرفية. ونقطة التمايز الأساسية هنا هي أن البروليتاري لا يملك أي رأسمال ولا تربطه بالسيد المالك سوى علاقة النقد المالي.

- بعد ذلك، يسأل إنغلز عن نتائج الثورة الصناعية وتقسيم المجتمع إلى برجوازية وبروليتاري،ا فيجيب:

أولاً، إن البضائع الصناعية زهيدة الأسعار تغزو العالم، محطمة الصناعة الحرفية بكل أشكالها. وبالتحديد، فإنها تدمر القاعدة الإنتاجية للأمم شبه البربرية، كالهند والصين، ومن ثم ملايين الحرفيين وعمال الصناعات الحرفية. ويرى إنغلز جوانب ايجابية في هذه العملية. إذ إنها تدفع هذه الأمم الخارجة من التاريخ، والتي اعتادت على الجمود والسكون التاريخي لآلاف السنين، صوب الحضارة الحديثة والتقدم والعودة إلى التاريخ والحركة. وقد تساءل ماركسيو ما بعد الحرب العالمية الثانية حول دقة هذه المقولات. فهل توقف التاريخ في الشرق لآلاف السنين، كما اعتقد ماركس و إنغلز؟ أم إن معلوماتهم عن تاريخ الشرق كانت منقوصة ومشوهة، بالإضافة إلى وقوعها تحت تأثير المركزية الأوروبية وآيديولوجيا الاستشراق؟ في التراث الماركسي العربي، هناك من يميل إلى طروحات ماركس و إنغلز في هذا الصدد، مثل صادق احمد سعد. لكن هناك من يناقضها تماماً، مثل سمير أمين وحسين مروة.

كذلك، فهناك من يناقض افتراض إنغلز بان الرأسمالية الأوروبية جلبت الحضارة والحداثة إلى الشرق، وبالذات مدرسة التبعية ( بريبش، أندريه غوندر فرانك، إيمانويل فلرستاين، سمير أمين، مهدي عامل). إذ ترى هذه المدرسة أن الرأسمالية أنتجت التقدم والحداثة في مراكزها، لكنها أنتجت التخلف وأشكالاً من ما قبل الحداثة في الأطراف.

لكن، وفي ضوء التطورات اللاحقة، فهناك الكثير من الصحة في ما ذهب إليه إنغلز. فهو يقول إن الرأسمالية الأوروبية جلبت إلى الهند والصين الثورة بعد طول جمود. وقد دلت التطورات في الخمسين عاما الأخيرة على صحة ذلك. ومن ملاحظاته الثاقبة أن اختراعاً لماكنه إنتاجية في إنجلترا مثلا تؤدي إلى تسريح ملايين العمال في الهند والصين. ومن ملاحظاته الثاقبة أيضاً أن الرأسمالية جمعت أمم العالم في رباط عضوي حميم وقربتها عضويا من بعضها بعضا، ووحدت أسواقها المحلية في سوق عالمية واحدة. من ثم، فإن الثورة على الرأسمالية ستكون بالضرورة عالمية. فإذا ثار عمال إنجلترا وفرنسا من أجل تحرير أنفسهم، ستنتشر الثورة بالضرورة إلى باقي بلدان العالم.

ثانياً، فإن التطور السريع للصناعة الكبيرة أكسب البرجوازية الصاعدة قوة وثروة هائلتين، جعلتا منها الطبقة الأولى في المجتمع. وقاذ ذلك إلى استيلائها على السلطة السياسية والحلول مكان طبقة النبلاء وأصحاب المهن والملكية المطلقة. وقد حطمت القوة الاجتماعية لهذه الطبقات القديمة بتحطيم امتيازاتها وحصاناتها وترتيباتها وبرجزة عزبها ومزارعها الكبيرة. وهكذا فعلت مع النقابات المهنية. وأحلت محلها التنافس الحر، أي حق كل فرد في الدخول الحر إلى أي صناعة شريطة أن يتوافر لديه الرأسمال اللازم. فالكل متساوون من حيث الأساس. ولا يميز بينهما سوى حجم الرأسمال الذي يملكونه. فالرأسمال هو القوة الحاسمة في المجتمع. ويرى إنغلز أن التنافس البرجوازي شرط ضروري لنمو الصناعة وقوى الإنتاج. ويرى إنغلز أن البرجوازية تؤكد سلطتها السياسية عبر الديموقراطية التمثيلية والملكية الدستورية، التي تقوم على أساس مبدأ المساواة البرجوازية، حيث لم يكن يسمح في الملكيات الدستورية سوى لمالكي الرأسمال في الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات.

ثالثاً، فإن البروليتاريا تزداد عدديا إذ تزداد البرجوازية نفوذا وثروة. فالبروليتاريا تنمو بقدر ما ينمو به الرأسمال. ومن جهة أخرى، فإن هذا النمو يقترن بنمو المدن حيث تتجمع أعداد كبيرة من البرجوازيين والعمال. وهذا يولد وعيا لدى البروليتاريا لقوتها وقدرتها. ويرى إنغلز أن عملية النمو هذه مقترنة بالتقدم التكنولوجي الهائل، الذي يرفع الإنتاجية، تقود باستمرار إلى تزايد الضغط على الأجور، التي تنزع إلى الهبوط إلى مستواها الأدنى، الأمر الذي يجعل شروط حياة العمال لا تحتمل. وهكذا تلتقي تزايد قوة البروليتاريا مع تزايد شقائها. وهذا مبدأ أٍساسي من مبادئ الشيوعية.

- ويسأل إنغلز: ما هي النتائج الأخرى للثورة الصناعية؟ هنا يضع إنغلز بذور نظرية ماركسية في ما يسمى الأزمات التجارية. وقد لاحظ ماركس لاحقاً أن مسألة الأزمات التجارية في الرأسمالية اعقد من ذلك بكثير، وحاول أن يعالجها في الغروندريسا والرأسمال ونظريات فائض القيمة بعمق أكبر وبشمول أكبر.

ومفاد نظرية إنغلز هنا أن تطور التكنولوجيا في الرأسمالية يعود إلى النمو المتسارع لحجم الإنتاج، ومن ثم إلى توسع متواصل للرأسمالية، وخصوصا في التنافس الحر، الذي رأى إنغلز أنه ملازم للصناعة الكبيرة. وهذا بدوره يقود إلى الإنتاج المفرط، أي إلى إنتاج كميات لا يستطيع السوق أن يستوعبها. والنتيجة أن عدداً من المصانع تضطر إلى إغلاق أبوابها وتسريح عمالها، مدخلة الاقتصاد الرأسمالي في أزمة تجارية، تعاني الطبقة العاملة فيها الأمرّين. ثم، ما يلبث الاقتصاد الرأسمالي أن يتغلب على أزمته لكي يبدأ من جديد مسيرته التوسعية. لكنه سرعان ما يتأزم مرة أخرى، وهكذا دواليك. ويذكر إنغلز أن الاقتصاد الرأسمالي يمر في أزمة من هذا النمط مرة كل خمس أو سبع سنوات. وهي فترات تتزايد فيها بشكل لافت معاناة العمال، ومن ثم حراكهم الثوري.

- ويسأل إنغلز: ماذا ينجم عن هذه الأزمات التجارية؟

أولاً، يرى إنغلز أن رأسمالية عصره تخطت التنافس الحر مع أنها سبق أن خلقته في مراحلها الأولى. إذ أضحى التنافس الحر قيداً على الصناعة الكبرى لا بد من كسره. فأمام الصناعة الكبرى خياران، إما أن تنهار وتعم الفوضى ويتمرض المجتمع البشري برمته، وليس فقط البروليتاريا، للهلاك، وإما أن يتم تخطي الرأسمالية. أي تنظيم الصناعة الكبرى على أسس غير الملكية الخاصة والملكية الفردية والتنافس الحر، أي على أساس التضامن بين الناس وعلى أساس أن تدار من جانب المجتمع برمته وفق خطة معينة تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الفعلية للناس.

ثانياً، إن قدرة التوسع غير المحدودة في الإنتاج، والتي خلقتها الرأسمالية، تتيح الفرصة لخلق نظام اجتماعي قادر على سد حاجات كل أفراده وتوفير فرصة أن يطلق كل فرد قدراته وإمكاناته بحرية تامة. فخصائص الصناعة الكبرى، التي تخلق الفوضى والبؤس والشقاء في ظل الرأسمالية، تغدو نعمة في المجتمع البديل تزيل هذا البؤس وحالة التأزم الدائم.

ويخلص إنغلز إلى النتيجة أن جميع شرور الوضع الراهن تعود إلى النظام الرأسمالي، الذي لا يطابق المتطلبات الحقيقية للوضع الراهن، وأنه يمكن التغلب على هذه الشرور ببناء نظام اجتماعي جديد. وهذه مقولة أساسية في المشروع الماركسي، ومبدأ جوهري من مبادئ الشيوعية. والأساس الفلسفي لهذه المقولة أن الاغتراب البشري ليس ملازما للوجود البشري، وإنما هو حالة اجتماعية تاريخية يمكن تخطيها.

- ويسأل إنغلز: كيف ينبغي أن يكون شكل هذا النظام الاجتماعي الجديد؟

أولاً، ينبغي انتزاع القاعدة الإنتاجية من مصانع ومزارع ووسائل نقل واتصال من أيدي البرجوازية (يسميها إنغلز الأفراد المتنافسين معاً)، ووضعها تحت تصرف المجتمع برمته، وفق خطة عامة وبمشاركة جميع أفراد المجتمع. من ثم، فإن النظام الاجتماعي الجديد يستبدل التجامع أو الترابط التضامني بالتنافس.

وعلينا هنا أن ندقق النظر في هذه المقولات. فماذا نعني بالمجتمع برمته، وما معنى مشاركة الجميع في إدارة المجتمع؟ لقد تعمقت هذه الأفكار لاحقاً، خصوصاً في ضوء كومونة باريس وسوفييت بتروغراد. لكن التطورات اللاحقة في الأقطار الشيوعية أبرزت مدى ما تعانيه مقولات إنغلز هذه من غموض وإشكالية.

ثم يشير إنغلز إلى انه، لما كانت إدارة الإنتاج الرأسمالي من جانب أفراد تنطوي بالضرورة على الملكية الخاصة، وكان التنافس في حقيقته هو الكيفية والصورة التي يعبر بهما ضبط الصناعة من جانب مالكي الملكيات الخاصة، فإنه لا يمكن فصل الملكية الخاصة عن التنافس والإدارة الفردية للصناعة. من ثم، لا بد من إلغاء الملكية الخاصة وان يحل مكانها الاستخدام الجمعي المشترك لجميع أدوات الإنتاج وتوزيع المنتوجات وفق اتفاق عام، أي ما يسمى الملكية الجمعية للبضائع.

بذلك، يرى إنغلز أن إلغاء الملكية الخاصة هو، بلا شك، أقصر الطرق وابلغها لوسم الثورة في النظام الاجتماعي برمته، والتي جعلها تطور الصناعة ضرورية. لذلك يرفع الشيوعيون هذا الشعار بوصفه مطلبهم الرئيسي.

- ويسأل إنغلز: ألم يكن من الممكن إلغاء الملكية الخاصة في الماضي؟ يجيب إنغلز بالنفي. وهنا نراه يضع مبدأ أساسيا في المادية التاريخي يتمثل في اعتبار أي تغيير في النظام الاجتماعي، أي ثورة في علائق الملكية، ناجماً بالضرورة عن نشوء قوى إنتاج جديدة ما عادت علائق الملكية القائمة قادرة على احتوائها. وهو ما عاد وأكد عليه ماركس عام 1859 في مقدمة كتاب، “إسهام صوب نقد الاقتصاد السياسي”، حيث عد الثورات الجذرية ناجمة عن التناقض بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج.

ويرد إنغلز قائلا إن الملكية الخاصة لم تكن دائما موجودة. ويعقب بأن نشوء التصنيع في نهاية العصور الوسطى هو الذي قاد إلى الملكية الخاصة. فالملكية الخاصة هي شكل الملكية الملائم للتصنيع والمراحل الأولى من الصناعة الكبيرة. بل إنها كانت الشكل الوحيد الممكن.

ويضع إنغلز شرطا لتخطي الملكية الخاصة يتمثل في وفرة الإنتاج. فطالما كان الإنتاج غير كافٍ لتلبية حاجات الجميع بالإضافة إلى توفير ما اسماه إنغلز الرأسمال الاجتماعي ومستلزمات توسيع قوى الإنتاج، كان هذا التخطي غير ممكن، ومن ثم كان من المحتم أن تدار قوى الإنتاج من جانب طبقة حاكمة على حساب طبقة محكومة من الفقراء الكادحين. لذلك، كان التاريخ حتى تلك اللحظة سلسلة متعاقبة من الطبقات المتناحرة: السيد الإقطاعي والقن، المعلم الحرفي والولد وعامل المياومة، التاجر وعامل التصنيع، الرأسمالي والبروليتاري. ولم يكن بالإمكان إلغاء الملكية الخاصة.

ويرى إنغلز أن الصناعة الكبيرة لها قابلية توسيع مذهلة تمكنها من توفير شروط إلغاء الملكية الخاصة، أي تأمين حاجات الجميع وحاجات التطور المستدام. بل إن الملكية الخاصة أضحت قيدا على تطور قوى الإنتاج، الأمر الذي يجعل تخطيها ليس ممكنا حسب، وإنما ضرورياً أيضاً.

- ويسأل إنغلز: هل إن إلغاء الملكية الخاصة سلميا ممكن؟ يجيب إنغلز: حبذا لو كان الأمر كذلك، وهذا من منى الشيوعيين. لكن الثورات لا تحصل إراديا ولا اعتباطيا، وإنما تحتمها شروط موضوعية وصراعات موضوعية. وعلى أي حال، فإن قهر أعداء الشيوعية للبروليتاريا يدفع الأخيرة دفعا صوب الثورة. وعلى الشيوعيين مساندة البروليتاريا بالفعل حينها كما يفعلون الآن بالكلام.

- ويسأل إنغلز: هل سيكون من الممكن إلغاء الملكية الخاصة بضربة واحدة؟ ويجيب: بالتأكيد لا، مثلما أنه لا يمكن توسيع قوى الإنتاج بضربة واحدة إلى مستوى إقامة المجتمع الجمعي (الشيوعي). والأرجح أن الثورة البروليتارية ستعمل على تحويل المجتمع القائم تدريجيا ولن تفلح في إلغاء الملكية الخاصة إلا عندما توفر وسائل الإنتاج بوفرة وبصورة كافية.

- ويسأل إنغلز: ماذا سيكون مسار الثورة؟ ويجيب إنغلز: على الثورة أولا وضع دستور ديموقراطي، وعبره تأمين السيطرة المباشرة أو غير المباشرة للبروليتاريا. ففي انجلترا، حيث العمال هم الأغلبية، يمكن أن تقوم سيطرة بروليتارية مباشرة. أما في فرنسا وألمانيا، حيث الأغلبية من الفلاحين وأشباه العمال والبرجوازيين الصغار، يمكن أن تسيطر البروليتاريا بصورة غير مباشرة خصوصاً في ضوء حقيقة سير هذه الجماهير صوب وضع البروليتاريا واعتمادهم المتزايد سياسيا على البروليتاريا، الأمر الذي سوف يدفعهم إلى التأقلم مع مطالب البروليتاريا.

وعلى أي حال، فإن الديموقراطية تغدو لا قيمة لها إذا لم تستخدم لوضع إجراءات ضد الملكية الخاصة وداعمة لمعيشة البروليتاريا.

والإجراءات التي يقترحها إنغلز هي:
1.1. وضع قيود على الملكية الخاصة عبر فرض ضرائب تصاعدية وعلى الميراث، وخصوصاً ميراث الأقارب، وعبر القروض القسرية.
2.2. النزع التدريجي للملكية من أيدي كبار ملاك الأراضي والمصانع ووسائل النقل، جزئياً عبر التنافس مع منشآت الدولة، وأيضاً عبر التملك العام والتعويض بالسندات.
3.3. مصادرة أملاك المتمردين والمهاجرين والمعادين للثورة.
4.4. تشغيل العمال على أراضي الدولة وفي منشآتها الصناعية، وإلغاء التنافس بين العمال، وإلزام المنشآت الخاصة برفع أجور العمال إلى مستوى نظرائهم في الدولة.
5.5. على جميع أعضاء المجتمع أن يعملوا حتى يتم إلغاء الملكية الخاصة، وتكوين جيوش صناعية، خصوصاً في الزراعة.
6.6. مصادرة البنوك الخاصة وتوحيدها في بنك وطني واحد تديره الدولة.
7.7. التوسع السريع في الإنتاج والبناء والتشغيل.
8.8. توفير التعليم للجميع.
9.9. توفير السكن الكريم للجميع. وبالذات بناء قصور لإيواء الجماعات العاملة على أساس بيئة تجمع بين حسنات المدينة والريف، وتتفادى مساوئهما.
10.إزالة أماكن السكن البائسة وغير الصحية.
11.التساوي في الميراث بين الأبناء الشرعيين وغير الشرعيين.
12. تأميم جميع وسائل النقل والتنقل. وبالطبع، فإنه لا يمكن تحقيق هذه المطالب دفعة واحدة، وإنما بالتدريج وبتسارع، حيث إن كل مطلب يقود إلى الآخر، وحيث إنها جميعا تهدف إلى تأميم جميع مرافق الحياة، وحسب تطور قوى الإنتاج. وعندما يتحقق ذلك، سوف تزول الملكية الخاصة والمال والعادات الاقتصادية السائدة.

- ويسأل إنغلز: هل يمكن لهذه الثورة أن تقوم في قطر واحد؟ ويجيب إنغلز بلا تردد بالنفي، بالنظر إلى عالمية الرأسمالية ووجود نظام رأسمالي عالمي. فالثورة البروليتارية عالمية بطبعها، ويتوقع أن تندلع بالتزامن في أكثر من قطر متقدم (إنجلترا، أميركا، فرنسا، وألمانيا). لكنها سوف تؤثر على العالم اجمع وتغير مسار تطور الأقطار الأخرى.

- ويسأل إنغلز: ماذا ستكون نتائج التلاشي النهائي للملكية الخاصة؟ سيتولى المجتمع إدارة جميع المنشآت الإنتاجية من مصانع ومزارع وسكك حديد وينظم الإنتاج وفق خطة متفق عليها ويدير عملية توزيع المنتوجات. بذلك يقضي على شرور الرأسمالية وعلى أزمنتها المتكررة. ففي الرأسمالية، يكون الإنتاج المتعاظم وبالاً على الناس ومصدراً لبؤسهم، أي يكون قيداً على قوى الإنتاج. لكنه، في المجتمع الجديد، لا يعاني من هذا القيد، وإنما يكون باستمرار غير كاف، الأمر الذي يستلزم مزيداً من التوسع في الإنتاج. وسيتنامى الإنتاج حتى يشبع حاجات المجتمع ويعمد إلى خلق حاجات جديدة يوفر أيضاً شروط سدها. وسيغدو شرط مزيد من التقدم، بدلاً من أن يكون مصدراً للفوضى والاضطراب، كما هو الحال في الرأسمالية. وستتعاظم الصناعة إلى حد أن يبدو وضعها اليوم كلعب الأطفال بالنسبة إلى وضعها غداً. إذ سيتحول التوسع في الإنتاج من نقمة وشقاء إلى نعيم وسعادة. ولن يعود هناك حاجة إلى الطبقات الاجتماعية في ظل هذه الظروف، بل إنها لن تطاق في هذه الظروف. فالطبقات الاجتماعية هي نتاج تقسيم العمل، وتقسيم العمل، كما كان سائداً حتى اليوم، سيختفي كلياً. وهنا يشير إنغلز إلى أن قوى الإنتاج ليست فقط العمليات الصناعية والتكنولوجيا، وإنما هي البشر أيضاً وقدراتهم ونوعيتهم. وهذا يعني أن التطورات الجديدة ستؤدي إلى خلق أنماط جديدة من البشر. فلن يظل الأفراد العاملون محصورين في تخصصات معينة، أي لن يظلوا ملحقين بتقسيم العمل، وإنما العكس. سيلحق تقسيم العمل بالأفراد. لن يكونوا تحت رحمة مهارة معينة على حساب قدراتهم الأخرى. ويرى إنغلز أن صناعة عصره بدأت تتخطى هذه الأحادية حتى في عصره. ويرى أن الإدارة الاشتراكية للإنتاج ستستلزم أنماطاً من البشر متكاملين وناضجين من جميع الزوايا ومسلحين بقدرات نامية ومتوازنة وقادرين على استيعاب نظام الإنتاج برمته.

ويرى إنغلز أن تقسيم العلم الذي يجعل احدهم فلاحاً وآخر حداداً وآخر تاجرا أو موظف بورصة سيختفي كلياً، وهو قد بدأ بالتضعضع حتى عصره. وسيمكن التعليم الجميع من الإحاطة بكل جوانب الإنتاج، بحيث يستطيع الأفراد أن ينتقلوا من فرع إلى آخر من دون عناء حسب حاجات المجتمع وميولهم. وهذا سيقود إلى خلق أفراد متعددي القدرات والمواهب والشخصيات، وسيختفي إنسان الرأسمالية أحادي الشخصية المقموع نفسياً. وفي هذه الحالة، ستختفي الطبقات بالضرورة. كذلك، سيزول الاختلاف بين المدينة والريف. إذ ستدار الصناعة والزراعة من جانب الجماعات ذاتها. لا من جانب صنفين أو طبقتين مختلفتين من الناس. فذلك شرط أساسي من شروط الاجتماع الشيوعي. فبدلاً مما نشاهده في الرأسمالية من مدن مكتظة بالعمال وريف يتبعثر فيه العاملون في الزراعة، وهو قد أضحى قيدا على تطور قوى الإنتاج، فستدار الصناعة والزراعة إدارة شيوعية مشتركة.

وهكذا، فإن إلغاء الملكية الخاصة يؤدي إلى:
1.1. تعاون الجميع من اجل الاستغلال المخطط لقوى الإنتاج.
2.2. توسيع الإنتاج بحيث تسد حادات الجميع.
3.3. إلغاء وضع يستلزم سد حاجات بعض الناس على حساب الآخرين.
4.4. تصفية الطبقات جميعاً وتناحراتها.
5.5. التطور المتوازن والمتكامل لقدرات جميع أفراد المجتمع بإلغاء تقسيم العمل الرأسمالي وشيوع التعليم الصناعي وتعدد الأنشطة للأفراد ومشاركة الجميع في التمتع بالإنتاج الجمعي.
6.6. دمج المدينة والريف معا في وحدة واحدة.



- ثم يسأل إنغلز عن أثر المجتمع الشيوعي على الأسرة. ويجيب أن العلائق بين الجنسين ستصبح علائق شخصية بحتة تعني فقط الأشخاص المعنيين، لا المجتمع برمته. وستتكفل الجماعة المتضامنة بتعليم الأطفال. وستنهي الشيوعية اعتماد المرأة والأطفال على الرجل. ويقول إنغلز: هاكم، أيها المتزمتون أخلاقيا، الرد على اتهامكم إيانا بأننا نريد مشاعية النساء. إن مشاعية النساء تنتمي فعليا إلى المجتمع البرجوازي، وتجد تعبيرها الكامل في العهر. لكن العهر يرتكز إلى الملكية الخاصة ويقع ضمن إطارها. من ثم، فإن المجتمع الشيوعي يلغي مشاعية النساء بدلاً من إنشائها.

- وماذا بشأن الموقف من القوميات والأديان؟

- ثم الموقف من الأحزاب الاشتراكية السائدة في عصر إنغلز؟

يرى إنغلز أن القوميات والأديان سوف تؤول إلى التلاشي في المجتمعات الشيوعية. أما الأحزاب الاشتراكية السائدة في عصره، فهو يصنفها إلى إقطاعية وبرجوازية وبرجوازية صغيرة وإذ يبين رجعية الصنفين الإقطاعي والبرجوازي، فإنه يشير إلى بعض الجوانب الديموقراطية التقدمية للصنف الثالث، والتي تتيح المجال لتحالف الشيوعيين معه في مراحل معينة وضمن حدود معينة.