محاولة في نقد الايديولوجيا


محمد المثلوثي
2013 / 6 / 1 - 01:56     

إن الإيديولوجيا (بألف لام التعريف) هي إيديولوجيا الطبقة السائدة. لا توجد ولا يمكن أن توجد إيديولوجيا لطبقة عبيد العصور الحديثة، أي البروليتاريا (عمال، معطلين، عمال فلاحيين...). لذلك فان الأهداف التاريخية لهذه الطبقة المضطهَدة لم تكن، ولا يمكن أن تكون أهدافا إيديولوجية، وحركتها الثورية هي بالضبط حركة التخلص من براثن الإيديولوجيا السائدة، أي من كل إيديولوجيا.
والتحرر من الإيديولوجيا هو مسألة عملية، ولا علاقة له بالصراع الوهمي بين "إيديولوجية بورجوازية" و"إيديولوجية بروليتارية". أي أن التحرر من الإديولوجيا هو ببساطة التحرر من شروط وجودها الواقعية.
وما هي الإيديولوجيا؟
إنها نسق منغلق من الأفكار الوهمية التي تدعي الإجابة على كل الأسئلة من خلال نظام أفكار مسبق. أي الاستعاضة عن البحث التجريبي بمجموعة تأملات نسقية ومقدمات تبدو وكأنها لا تحتاج لإثبات نفسها تجريبيا، بل من خلال معقولية تنسب للعقل التأملي (الفلسفي) القدرة على فهم العالم من خارج مختبر البحث الواقعي.
والمذهبية هي تحويل مجموع نتائج بحث تجريبي نقدي في شروط تاريخية محددة الى نظام أفكار نسقي ثابت. ليتحول من صيغته كخلاصة وقتية للبحث، الى مقدمات إيديولوجية معزولة عن سياقها البحثي. أي الانتقال بها من وجودها التاريخي النسبي، الى مجموعة مقولات وأصناف تأملية تقف كنتيجة مسبقة لأي بحث تجريبي لاحق.
وهذه المذهبية، إضافة لكونها تقوم بأعظم تشويه لكل بحث تجريبي نقدي، بتحويله الى جملة من الأصناف الإيديولوجية المتعالية والستاتيكية، فإنها بحد ذاتها تقف حجر عثرة أمام أي تطوير لذلك البحث التجريبي، وتنزع عنه كل طابع نقدي.
فلو أخذنا، كمثال، الأعمال النقدية التي أنجزها كارل ماركس، فإننا نجدها بحد ذاتها لا تمثل أية إيديولوجية. وبهذا المعنى فإنها لا تمثل "ماركسية"، مثلما أن أبحاث نيوتن العلمية لا يمكن اعتبارها "نيوتنية"، كما أن أبحاث ريكاردو الاقتصادية لا تمثل "ريكاردية"... رغم اختراق كل هذه الأبحاث بالطابع الإيديولوجي، أي بوجهة نظر الطبقة السائدة. والمقصود بوجهة نظر الطبقة السائدة هو مجموع الأفكار المسيطرة في ذلك العصر. حيث من السهل أن نعثر على النظرة الميتافيزيقية في قلب أبحاث نيوتن المادية (مفهوم القوة مثلا). وأن نعثر على النظرة اللاتاريخية في ثنايا أبحاث ريكاردو الاقتصادية (النظر للقوانين الاقتصادية كقوانين طبيعية وليس كآليات تاريخية لأسلوب إنتاج تاريخي محدد). وهو ما ينطبق على أبحاث ماركس التي نجدها مخترقة بوضعية القرن التاسع عشر، والهيغلية، أو النزعة الفلسفية التي سادت في ذلك القرن: نزعة بناء الأنساق الفلسفية المكتفية بتناسقها العقلاني.
غير أن علاقة الماركسية، كإيديولوجية دولة أو كإيديولوجية حزبية، بأبحاث ماركس النقدية فلا تضاهيها سوى علاقة كل العقائديين بنصوصهم المقدسة. حيث أن أول خطوة نحو العقائدية تكون بنزع النص عن وجوده التاريخي، أي بصفته هو نفسه عنصرا تاريخيا، ثم اختزاله في مجموعة مقولات وأصناف تأملية وصولا الى بناء تراث عقائدي عملاق من التأويلات والتأويلات المضادة ومن الشروح والشروح المضادة، لينفصل كل هذا التراث الإيديولوجي عن النص موضوع التقديس ويعوضه في إطار نسق منغلق من الأفكار ذات تناسق داخلي عقلاني أو ميتافيزيقي منفصل عن البحث التاريخي وعن التاريخ نفسه.
لكن تشكل بناءات إيديولوجية غير ممكن بدون وجود مسبق لقوة مادية تحول مجموع تلك الأفكار الإيديولوجية الى أفكار سائدة، سواء من خلال تحويلها الى أفكار عمومية (باسم الدين أو باسم العلم أو باسم العقلانية...)، أو من خلال زعمها كونها أفكار معبرة عن مصالح طبقة اجتماعية.
فتحول أبحاث ماركس الاقتصادية والتاريخية الى إيديولوجيا ما كان ممكنا بدون اندماج الحركة العمالية في أوروبا في إطار النظام الرأسمالي، كنتيجة طبيعية للهزيمة المدوية للحركة الثورية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتحول هذه الحركة العمالية الى عنصر من عناصر النظام السياسي، بما يستوجبه من ظهور التمثيلية السياسية للعمال بصفتهم قوة العمل، أي القسم المتغير من الرأسمال. وبطبيعة الحال فالاشتراكية الديمقراطية، كمؤطر لطبقة الشغيلة وأداة إدماج اجتماعي لهذه الطبقة في النظام البورجوازي، كان عليها أن تبني لنفسها إيديولوجيتها الخاصة، أي فرعها الإيديولوجي الخاص ضمن إيديولوجيا النظام السائد. وهكذا بدأت ما تسمى "الإيديولوجية العمالية" بالظهور، بصفتها المعارض للإيديولوجية البورجوازية. ومن هنا بالضبط بدأت عملية تحويل الشيوعية كحركة تاريخية واقعية الى تيار إيديولوجي ضمن التيارات الإيديولوجية المختلفة التي تشكل البناء الإيديولوجي السائد.
غير أن الماركسية ما كان لها أن تسود كإيديولوجية موجهة للعمال بدون ظهور الدولة التي ستعتمدها كإيديولوجيتها الرسمية. وهكذا، وعلى يد البلاشفة في روسيا، أصبحت الماركسية عنصرا قارا من عناصر إيديولوجيا العالم البورجوازي.
فبعد أن كانت أعمال ماركس أبحاثا تجريبية، هي برغم أهميتها فاصلة بحثية يمكن تناولها تناولا نقديا ومواصلتها وفق تطور شروط وأدوات البحث التاريخية، وبعد أن كانت تمثل تعبيرا عن درجة محددة من التطور التاريخي للحركة الثورية في مواجهة النظام البورجوازي السائد، تحولت، بفضل قوة الدولة السوفيتية الى مجموعة تعاليم مقدسة. فأصبح كل بحث تجريبي لا ينطلق من الواقع التاريخي كما هو متحقق، كميدان للبحث،بل بالعودة الى النصوص، ليس بصفتها نتائج مؤقتة للبحث، بل بصفتها "مرجعية إيديولوجية" تبرر بها الدولة وجودها وسيادتها، وتبرر بها الأحزاب تكتيكاتها السياسية المختلفة.
وهكذا فان أكثر الأفكار ثورية يمكن لها أن تتحنط في قوالب إيديولوجية. فتصبح مساهمات ماركس ذات الجوهر النقدي "ماركسية". وتتحول أفكار باكونين الثورية الى "أناركية". وليتفسخ تراث الحركة الثورية في شكل تيارات إيديولوجية متعارضة ومتنازعة، هي انعكاس لمجتمع المنافسة البورجوازي، ولتفقد الشيوعية طابعها التاريخي، أي بصفتها حركة واقعية، لتتحول الى تصنيفات إيديولوجية متصارعة.
ولحسن حظ التاريخ وسوء حظ الإيديولوجيين فان الحركة الثورية، في لحظات انبثاقها وكسرها لكل الأطر الاجتماعية التي تلجمها، لا تلتفت الى القوالب الإيديولوجية والنزاعات المذهبية، بل إنها توجه طاقاتها في البراكسيس العملي. وتجد في حركتها بالذات المادة الواقعية لتحقيق تقدمها نحو الأهداف التاريخية التي لا يحددها هذا الزعيم أو ذاك، ولا هذه الفرقة الإيديولوجية أو تلك، بل الشروط الواقعية التي تواجهها الجماهير المنتفضة.
غير أن الايدولوجيا، كقوة مادية، تقف دائما حجر عثرة أمام تطور هذا الانبثاق الثوري التلقائي، محاولة إعادته الى حضيرة النظام الاجتماعي السائد. وتعمل على زرع الانقسامات في صفوف الحركة الثورية من خلال استعادة ظلال الماضي والتقاليد البالية والروح السكتارية والحزبية. ومن غير الممكن لهذه الحركة الثورية أن تكسر قشرة البيضة التي تسجنها بدون تجاوز عملي للايدولوجيا، لكل إيديولوجيا.