مسؤولية الرؤساء والقادة عن الجرائم الدولية


خليل البدوي
2013 / 5 / 22 - 11:28     


لا يمكن لأي مجتمع إنساني متحضر أن يقف مكتوف الأيدي أمام ما يتعرض له الإنسان اليوم من انتهاك لحقوقه وحرياته، ولا يمكن للمجتمع الدولي ان يتغاضى عن الجرائم التي تشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين لخطورة هذه الجرائم وما ترتبه من أضرار جسيمة واحتمال إفلات مرتكبيها بسبب الحصانة التي يتمتع بها اغلبهم أمام القضاء الجنائي الداخلي.
وقد حضيت الجرائم الدولية بصفتها احد أكثر الجرائم خطورة وتأثيراً على المجتمعات البشرية باهتمام فقهي وعالمي خاصة عقب المآسي التي تعرضت لها الإنسانية عقب الحرب العالمية الثانية، سواء تلك التي كانت ترتكب في النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية مما دعى إلى البحث في تقرير مسؤولية الأفراد عن الجرائم التي ترتكب وتشكل اعتداءً على الأسس التي تقوم عليها الجماعة الدولية، فلم تعد المسؤولية الناشئة عن الجرائم الدولية تنحصر في علاقة الدول وحدها، وإنما أصبحت مسؤولية الفرد الجنائية على الصعيد الدولي سمة العصر الحديث وكان لابد منها وعدم ترك الجناة بلا عقاب.
وقد ساهمت محاكمات نورمبرغ وطوكيو بتركيز الاهتمام على مسؤولية الافراد في القانون الدولي وازداد هذا الاهتمام عقب النزاع المسلح في البوسنة والهرسك، وانتشار الفضاعات والمآسي التي ارتكابها الصرب ضد المدنيين العزل من المسلمين.
ازاء ذلك كان لابد للأمم المتحدة ان تتكفل بوضع الأسس القانونية لمسائلة ومعاقبة منفذي هذه الجرائم فظهر القضاء الدولي الجنائي على مستوى الأمم المتحدة لعقاب أولئك المجرمين، وبالفعل تم إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة والهرسك واتخذت لاهاي مقراً لها. بموجب القرار 808 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 22/2/1993.
وقد مارست هذه المحكمة مهمتها في محاكمة القادة من المجرمين في يوغسلافيا السابقة عن مخالفتهم لقواعد القانون الدولي الإنساني كالقتل الجماعي والطرد والاغتصاب والاحتجاز والاعتداء والتطهير العرقي.
وبموجب قرار مجلس الأمن رقم 955 في 8/11/1994 تم إنشاء محكمة دولية أخرى. هي محكمة رواندا لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن جرائم إبادة الجنس وغيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي تم ارتكابها بين أول من كانون الثاني إلى الحادي والثلاثين من كانون الأول عام 1994.
وقد شعرت الدول بضرورة وجود نظام قضائي دولي دائم يتولى مهمة النظر في الجرائم الدولية الخطيرة ومعاقبة مرتكبيها ،فكانت للجهود الدولية السابقة أثرها في هذا الصدد.
وقد تكلل مسعى الأمم المتحدة في موجهة انتهاكات القانون الدولي في تأسيس المحكمة الدولية الجنائية وتبني النظام الأساسي للمحكمة في 17/7/1998 ومنحها الاختصاص في محاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة التي تهم المجتمع الدولي ومقرها في لاهاي، وقد كان إنشاء هذه المحكمة خطوة كبيرة نحو إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب.
ويمكن القول بأن هذه المحاكم قد اعتمدت في تقرير قواعد المسؤولية في محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية على قواعد القانون الدولي، دون النظر في قواعد المسؤولية المقررة في القانون الجنائي الداخلي.
وهنا اخترنا مسؤولية القادة والرؤساء عن الجرائم الدولية موضوعاً للبحث حيث سنبحث في الآثار القانونية للأوامر الصادرة من القادة والرؤساء والتي من الممكن أن ترتب عليها انتهاكات للقانون الدولي أو جرائم الحرب.
وفي هذا السبيل سنبحث في التطور التاريخي للسلطة الرئاسية وما تمثله في المجتمعات القديمة في العراق والديانة المسيحية والشريعة الإسلامية.
ثم سنبحث في طاعة الرؤساء وهل تمثل أوامر الرؤساء سبباً لإعفاء مرتكب الجريمة على المستوى الوطني أو الداخلي كما سنتطرق بشيء من التفصيل إلى اثر هذه الأوامر وطاعتها عندما تشكل جريمة دولية ومدى إمكان اعتبار تنفيذ أوامر الرؤساء مانعاً من موانع المسؤولية.
كما سنتناول مسؤولية الرؤساء أو القادة باعتبارهم فاعلين أصليين اذا كانوا قد أصدروا أمراً بارتكاب إحدى الجرائم الدولية أو قصروا في واجب إشرافهم أو متابعتهم مرؤوسيهم ، وهنا لابد من التطرق الى الحصانة من المسائلة والممنوحة لهم وفقاً للتشريعات الوطنية أو الداخلية والتطبيقات العملية لذلك وموقف النظام الأساس للمحكمة الدولية الجنائية من كل ذلك.
لقد ارتبط نشوء الدولة ارتباطاً وثيقاً بالسلطة، كما دلت الشرائع والعقول على ضرورة وجود أفراد يصدرون الأوامر ويفرضون أوامرهم بالقوة والإكراه أحياناً، وبالترغيب ورضا الأفراد الآخرين أحياناً أخرى.
ونتيجة ذلك ظهرت طبقتين اجتماعيتين، طبقة الحكام الذين يملكون سلطة الأمر والنهي، وطبقة المحكومين التي يقع على عاتقها تنفيذ هذه الأوامر والامتناع عن النواهي.
وقد ظهرت العديد من النظريات التي حاولت تفسير نشأة وتطور السلطة، كما اختلف الباحثون في كيفية نشأة السلطة في المجتمع، على اعتبارها ظاهرة اجتماعية لا يمكن تصورها خارج نطاق المجتمع، وبحكم أساسها الاجتماعي هذا اتخذت السلطة أشكالاً مختلفة وتطورت بتطور المجتمع، فانتقلت السلطة من كونها سلطة جماعية إلى سلطة فردية، ثم أصبحت تدريجياً سلطة مؤسسه.
فقد كان الشعور الجماعي هو الذي يحمل أفراد الجماعة على الخضوع فيدفعهم إلى القيام بنفس الأعمال لتأمين الحماية للجماعة وتوفير احتياجاتها، واستمر الحال ذلك حتى نشأت السلطة الفردية كضرورة تاريخية أملتها ضرورة التنظيم القانوني والعسكري للجماعة في مواجهه أعدائها في النظام العشائري والقبلي فأعلن على رأس كل قبيلة قائد أو رئيس يخضع لسلطته الجميع ويمتثلون لأوامره.
وفي تاريخ لاحق تجمعت عدة عشائر وجماعات للتصدي لعدو مشترك فامتدت سلطة القائد إلى أكثر من جماعة فتكونت دويلات المدن والملكيات المطلقة المستندة إلى الحق الإلهي والتي تطورت تدريجياً إلى الملكيات المقيدة، ومن ثم إلى الأنظمة القائمة على مبدأ السيادة الشعبية و الديمقراطيات الحديثة التي انفصلت فيها السلطة عن شخص الرئيس أو القائد فلم تعد السلطة امتيازاً للرئيس وإنما وظيفة يمارسها بصفته ممثلاً عن الأمة.
ومن الجدير بالذكر أن السلطة كثيراً ما تؤدي إلى الاستبداد والتعسف والى إهدار حقوق الأفراد وحرياتهم، خاصة إذا ما تركزت في يد واحده أو هيئة واحدة.
وهذا ما حفلت به كتب التاريخ فغالباً ما كان الملوك يحرصون كل الحرص على أن تكون إرادتهم هي المرجع النهائي في كل ما يتعلق بأمور أو شئون الدولة.