النكبة والسياق التاريخي


جورج حزبون
2013 / 5 / 18 - 23:15     

النكبة والسياق التاريخي
ليس القصد اعادة قراءة التاريخ، بل مراجعة سياسية متوائمة مع الحاضر الراهن ومجرياته ، ومحاولة اسقاط الرؤية على تواصل مجريات النكبة ،حيث لم تكتمل عملية تنفيذ مخططات الحرب العالمية الاولى التي انتجت ( سايكس وبيكو ) ، وتقسيم الوطن العربي الى دويلات يسهل ضبطها ،الا ان مجريات الاحداث وبحكم طبائع الامور ، لم تتمكن الجهات التي تم تنصيبها من استكمال مهامها ، في ظل وعي شعبي عروبي ونهضة قومية ، كان ابرز ما ظهر منها حركة القوميون العرب ، وحزب البعث العربي الاشتراكي ، والحزب السوري القومي ، مع وجود الاحزاب الشيوعية العربية المتعددة والتي هي ايضا حملت مسميات التقسيم ودويلاته ، فكان ان تكرس الانقسام وتوجته بارادة بريطانية الجامعة العربية .
ولعل السؤال الاهم هنا ، طالما لم تتمكن الجهات المنصبة من البقاء لماذا استمر الانقسام والتشرذم العربي ؟ وللاجابة يجب النظر في التركيبة الاجتماعية الاقتصادية القائمة ، بعد ان ترك العثمانيون المنطقة العربية مهملة ومتخلفة ، تعيش معطيات القرون الوسطى ، وتهيمن الاقطاعية على مقدرات الامة ، وحضور الجيوش المحتلة الفرنسية والبريطانية بمعسكرات وقوات ضخمة حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية ، مما اعاق تطور الحركات القومية التي هي التي ادت المهمة الاساسية في انهاء مرحلة الاحتلال المباشر ، بما سمي الجلاء او الاستقلال .
ولا شك فان تلك الفترة شهدت تطورا اقتصاديا فرضته ظروف الحرب وحضور الجيوش الاجنبية وضرورة توفر خدمات متعددة لها ، فاوجدت طبقة اجتماعية جديدة من البرجوازية الناشئة ، ولكنها مرتبطة مصلحيا بالاجنبي سواء كان احتلال مباشرا او غير مباشر ، بما يضمن تطور تلك الظاهرة التي اخذت في اغلبها شكلا كمبرادوريا ، فكان مهما لها الحفاظ على تلك التقسيمات بقدر ما هي ضامنة لها مصلحتها وزيادة التدفقات المالية التي احتاجت ايضا ، ابقاء الوضع الاجتماعي مقموعا حتى لا يهدد مصالحها ، فكان القمع والسجون والديماغوغيا السياسية التي ارادوا بها تبرير نهجهم بكونهم يجهزون ويحضرون الوطن لاسترداد الوطن السليب ، واستكمال طريق التطور الراسمالي الذي كان خيارهم الوحيد ، حيث خلق هذا انظمة مشوهة اقتصاديا واجتماعيا ومجتمعات متاخرة ، كان من السهل تضليلها وتحويل ولائها للحاكم وولي النعم ، ساعد في ذلك عدم ظهور طبقة عاملة واسعة بفعل انماط الانتاج التي سادت ، باستثنا بعض البلدان مثل مصر ، في حين ان البرجوازيات الاخرى في العالم هي التي فجرت القورة العلمية والثقافية ، وحين توسعت ارباحها اتجهت للتوسع لتصبح امبريالية رجعية تكمن مصلحتها في ابقاء بلدان العالم مجرد اسواق وافواه لمنتجها ولزيادة ارباحها ، واحتاج ذلك تعاون قوى محلية ، وهيمنة عسكرية للاشراف والمتابعة وتنظيم اجهزة امنية قمعية في البلدان التابعة وفي مقدمها البلدان العربية ، وقد حافظت بعض الانظمة على البقاء بالتلائم والتحالف مع الارستقراطية العشائرية واوساط كمبرادورية وبرجوازية صغيرة متذبذة ، وتشجيع الوطنية المحلية ، حتى اصبحت الصراعات بين البلدان العربية تاخذ اشكال مسلحة احيانا .
اوضحت تجربة محمد علي مطلع القرن التاسع عشر ، ضرورة اعاقة وحدة المنطقة العربية او اقامة دولة عربية كبيرة وقوية ، وتحرك اللورد منتفيوري وروتشيلد لزيارة رئيس الوزراء البريطاني وتحذيره مما تقوم به جيوش محمد علي !! التي تشكل تهديدا لمصالح بريطانيا وعلاقاتها مع الهند ، اضافة الى بوادر ظهور النفط ، قائلين له ان الضمان الوحيد هو اقامة دولة اسرائيل تقسم الوطن العربي وتدافع عن مصالح بريطانيا !! كان هذا قديما وسابق بعقود لوعد بلفور ، فقد ادركت الحركة الصيونية مبكرا اهمية ارتباطها بالمخططات الامبريالية ، حيث ان تلك الحركة انشئتها البرجوازية اليهودية في اوروبا ، وتحتاج الى كيان لاخذ دورها في التكون القائم بعد وصول البرجوازيات العالمية الى مرحلة النهب وبالتالي الاستعمار ، وهكذا جرى استخدام يهود العالم اداة لمصلحة تلك الفئات الطفيلية التي لم تتورع عن عقدت معاهدة خاصة مع هتلر سميت ( هعفرا ) مضمونها ترحيل الاغنياء اليهود من المانيا النازية وابقاء الفقرا منهم والعمال والفلاحين !!! وبهذا التحالف اصبحت جزء من الحركة الاستعمارية العالمية ، واستحقت ان يطلق عليها تسمية الحركة الصهيونية الرجعية ، وهنا يجب ان نلاحظ انها جمعت الاف اليهود وشكلت منهم الفيلق اليهودي الذي حارب مع الحلفاء وكان هذا الفيلق نواة ( الهجاناه والجيش الاسرائيلي ) و كان له الدور الاساسي في تهجير الفلسطينين ، وتنظيم المذابح الشهيرة لهم .
واذ لا بد من وقفت مطلوبة ، لفهم دور القوى الماركسية العربية خاصة المشرقية من موضوع الانقسام والوحدة العربية ، فقد اتخذت كافة الاحزاب الشيوعية العربية لنفسها المسمى الاقليمي ، وان كان الاتحاد السوفيتي يسميها بالبلدان العربية استنادا الى فهمه العقيدي للواقع برؤية ماركسية ، وقد تذرعت جميعها باحتراِم البعد الوطني ( المحلي )، مع ان ذلك البعد مناط به عدم الاقرار بالتقسيم الاستعماري ، والتوجه نحو الطبقة العاملة العربية ، والتي هي المؤهلة لانجاز مهمة الاستقلال الوطني وتحفيز برامج التنمية وتحجيم تذبذب البرجوازية العربية ، وخلق علاقات انتاج ذات مضمون وطني وحدوي ( قومي ) ، الا انها اثرت الارتخاء في صفوف النخبة واحيانا بالتحالف مع الانظمة الحاكمة ، مما ساهم في تبديد دورها والغاء حضور يساري عربي جدي، في المرحلة الراهنة ، مما افسح المجال للحركات الاسلاموية لتعبئة الفراغ ، مع جهوزية موضوعية للاتحاق بخدمة ولي الامر والنعم ، ضمن فتاوى ما انزل الله بها من سلطان ، شوهت الاسلام واذت العروبة ، بمنهج الارهاب والدمار والقتل واستعباد المراءة والتراجع بالمجتمع الى القرون الوسطى بفكر وهابي سلفي لا ارتباط له بالواقع ،وهو ما بدد فرصة معاصرة لقيام حركات عروبية قادرة على مواصلة طريق التحرر ، وهو التوقيت الذي اطلقت به عملية الفوضى الخلاقة ، التي دعتها اجهزة الاعلام الممول !!بالربيع العربي، وغيره من المسميات التي لا ارتباط لها بالواقع ، بل هي وسيلة توفرت لاستكمال تقسيم البلدان العربية ، وقيام حركة اسلامية عربية مشوهة ، تعيق تقدم المنطقة لعشرات السنين .
ليست النكبة لشعب فلسطين ، مع انه كان في واجهة الصدام ، لكنها نكبة امة تساوقت فيها انظمة وقوى عربية ، توافقت مصالحها مع هذا النهج ، فنكبت في مستقبلها وامنها واصبحت مكشوفة امام كل الطامعين في مقدراتها ، والازمة الراهنة ، التي تستخدم فيها شباب الامة لتحقيق التدمير الذاتي ، هي نكبة اعمق واشد هولا ، وخاصة حين تلبس الثوب المقدس وتصبح ظل الله على الارض ، تعز من تشاء وتذل من تشاء !!!، فالنكبة العربية وبحق بداءت في فلسطين لاكنها لم تتوقف فيها ، وهي متواصلة حتى التدمير الكامل والتشرذم والانهاك لتكون السيِطرة وتمدد اسرائيل ، وضمان شرق اوسط خامد طويلا دون ازعاج .