عصر التنوير ونقد الفكر الديني. هولباخ نموذجاً


أشرف حسن منصور
2013 / 5 / 15 - 08:50     


مارس فلاسفة عصر التنوير مراجعات شاملة للفكر الديني التقليدي. وكان الأكثر جرأة وثورية منهم الجناح الراديكالي الذي مثله ديدرو وهولباخ وهلفشيوس. وقد اخترنا هولباخ لإبراز أهم أفكاره الناقدة للفكر الديني نظراً لكونه الأكثر صراحة والأكثر ثورية؛ إذ أنه غير مسبوق في هذا المجال، كما أن من أتوا بعده لم يبلغوا لما بلغه من راديكالية.
نتناول فيما يلي نقد هولباخ لعدد من الأفكار الدينية: المعجزة، صفات الله، استحالة الخلق من العدم، االصورة البشرية عن الله، مفهوم الروح.
حمل عصر التنوير، وخاصة الجناح الراديكالي منه، إنكاراً للمعجزات. هذا الإنكار هو تطوير لما كان معروفاً في الرشدية الراديكالية في أوروبا، وعلى الأخص لدى ممثليها المهمين مثل بومبوناتزي وإليعازر آيلبرج. فها هو البارون هولباخ يقول في كتابه "رسائل إلى يوجينيا، أو الحامي من التحاملات الدينية": "... ما هي المعجزة؟ قيل لنا إنها عملية مضادة لقوانين الطبيعة التي ثبتها الله بنفسه؛ وأرُد وأقول إنه وفقاً للأفكار التي كونتها عن الحكمة الإلهية، يظهر لي أنه من المستحيل على إله لا يتغير أن يغير القوانين الحكيمة التي أسسها هو بنفسه. وأستنتج من ذلك أن المعجزات مستحيلة، متأكداً من أنها غير متفقة مع أفكارنا عن حكمة وثبات خالق الكون. وبجانب ذلك فإن مثل هذه المعجزات لا نفع منها للإله. فإذا كان كلي القدرة، ألم يكن قادراً على تغيير عقول مخلوقاته وفق إرادته؟ فكي يقنعهم يكفيه أن يقتنعوا. إذ لم يكن عليه إلا أن يقول لهم أشياء واضحة ومعقولة، أشياء يمكن البرهنة عليها؛ وكانوا سيجدون أنفسهم قابلين لما هو على بينة واضحة. وكي يفعل ذلك لم يكن بحاجة إلى معجزات أو متأولين؛ فالحقيقة وحدها كانت كافية لفوزه [بتصديق] الإنسانية كلها"( 1).
وحول التناقض بين الإله الحكيم مطلق القدرة والصورة التي يقدمها عنه الفكر الديني، يقول هولباخ: "إله حكيم لا يصل تدبيره إلى النجاح أبداً؛ إنه إله عظيم، يشغل نفسه دائماً بصغائر الأمور وأتفهها؛إله مكتفي بذاته، لكنه عرضة للغيرة؛ إله قوي، لكنه شكاك ومنتقم وقاس؛ إله عادل، لكنه يسمح بحدوث أكثر الأفعال ظلماً"( 2).
ويتمسك هولباخ بفكرة استحالة الخلق من العدم على أساس استحالة وجود الإله عاطلاً عن الخلق قبل أن يخلق العالم. إن الفكر الديني يقول لنا: "إن الأزلي [الإله] بعد أن ملَّ من عدم الفعل، قدر ذات يوم أن يخلق عالماً ضرورياً لمجده. وكي يحقق ذلك فقد خلق مادة من العدم؛ روح خالصة تنتج جوهراً ليست بينه وبينها أي نسبة؛ وعلى الرغم من أن هذا الإله يملأ كل المكان بعظمته، إلا أنه لا يزال يجد مكاناً فيه يسمح بوجود الكون، بالإضافة إلى كل الأجسام التي يحتويها"(3 ).
ويحلل هولباخ مفهوم الروح الذي يظهر في الفكر الديني والفلسفي على السواء ويوضح تهافته، رغبة منه في هدم هذا المفهوم من أساسه وإحلال المادة محله، ويقول في ذلك: "إذا سألناهم مي هي الروح، أجابونا بأنها ليست المادة، وإذا سألناهم ما هو ذلك الذي ليس بمادة، وهو الشئ الوحيد الذي لا يمكننا أن نشكل عنه أي فكرة، قالوا لنا أنه الروح. وبعامة فمن السهل علينا أن نرى أنه من اليسير على الناس الأكثر همجية كما الأكثر دقة من المفكرين يستخدمون كلمة الروح للدلالة على الأسباب التي لا يمكنهم أن يشكلوا عنها أي مفاهيم واضحة"( 4).
وينظر هولباخ إلى كل الصفات التي يلحقها الفكر الديني بالإله على أنها صفات بشرية، ويقول: "كل الصفات التي يصف بها الكتاب المقدس الإله مستقاة دائماً من الإنسان أو من حاكم فخور؛ ونجد فيه دائماً أنه بدلاً من أن يخلق الإله الإنسان على صورته، فإن الإنسان هو الذي خلق الإله على صورته، وأنه هو الذي ألأحق بالإله طرقه في التفكير وفضائله ومساوئه"( 5). والملاحظ أن ما وضعنا تحته خط يكاد يتطابق مع عبارة ابن رشد الشهيرة في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة". يقول ابن رشد: "وأما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع الموجد للعالم بها، فهي أوصاف الكمال التي للإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام"( 6). وإذا استبعدنا باقي عبارة هولباخ السابقة والتي ينقد فيها التصور البشري عن الإله نقداً لاذعاً،وركزنا فقط على الجزء الذي تحته خط، وجدناه متطابق مع ابن رشد. إنني لا أقطع بالقول بأن هناك تأثيراً رشدياً على هولباخ أو على أي من أعلام التنوير الأوروبي، بل أحاول إثبات أثر غير مباشر من ابن رشد على عصر التنوير. وهو أثر انتقل عبر عصور عديدة وقنوات إيصال متعددة امتدت من القرن الثالث العشر وحتى القرن الثامن عشر، وعبر وسطاء حضاريين هم الرشدية اليهودية والرشدية اللاتينية ورشدية عصر النهضة، وأخيراً سبينوزا الذي أثبتنا رشديته المتسقة. ويبدو أن الأفكار الرشدية صارت جزءاً من النسيج الفكري الغربي عبر تلك القرون العديدة من الهضم والاستيعاب للفكر الرشدي. وعندما نجد مثل ذلك التطابق في الأفكار بين ابن رشد وهولباخ فإن هذه الظاهرة هي أكبر دليل على ما نقول.
1 ) D’Holbach, Letters to Eugenia; or A Preservative Against Religiuos Prejudices. Translated by Anthony Middleton (Boston: Josiah P. Mendum, 1870), first published in French 1768, pp. 35 – 36.
2) Ibid, pp. 45 – 46.
3) Ibid, P. 47.
4) Ibid, P. 92.
5 ) Ibid, P. 52.
6 ) ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة، ص 129.
د. أشرف حسن منصور