أجل مغرب عربي بلا مساجين سياسيين: كلمة الرفيق حمه الهمامي


حزب العمال التونسي
2005 / 4 / 20 - 12:25     

ننشر في ما يلي أهم الفقرات الواردة في كلمة الرفيق حمه الهمامي، الناطق باسم حزب العمال الشيوعي التونسي، في الندوة المغاربية المنعقدة يوم 19 مارس تحت عنوان:"مغرب عربي بدون مساجين سياسيين" علما وأن حزب العمال كان أحد منظمي هذه الندوة.
أيتها الأخوات
أيها الإخوة

إن عقد هذه الندوة المغاربية تحت شعار "مغرب عربي بدون مساجين سياسيين"، وفي هذا التاريخ بالذات الذي يناسب كما تعلمون الذكرى الـ49 لإعلان استقلال المغرب وتونس والذكرى 43 لإبرام اتفاقيات "إيفيان" التي ستمهد لإعلان استقلال الجزائر، ليس نابعا فقط من إلحاحية مطلب العفو التشريعي العام في أقطارنا لإنهاء مأساة الآلاف من السجناء السياسيين الذين لا يزالون يقبعون في المعتقلات وأضعاف أضعافهم ممّن سرحوا ولكنهم لا يزالون محرومين من ابسط حقوقهم المدنية والسياسية أو ممّن اضطروا إلى الفرار من بلدانهم والعيش في المنفى خوفا على حريتهم بل على حياتهم أحيانا، ولكنه نابع أيضا من الاقتناع بأن مسألة السجناء السياسيين وما اتخذته وتتخذه من أبعاد وتستقطبه من اهتمام في أقطارنا إنما تمثل التعبيرة المركزة والمكثفة عن الحالة السياسية التي هي عليها بعد عقود من إعلان استقلالها.

إن من الحقائق التي يمكن تأكيدها دون الحاجة إلى كثير تدليل هو أن الأنظمة التي تحكمنا ومنذ قيامها إلى اليوم، سواء تبدل في الأثناء القائمون عليها أو لم يتبدلوا وسواء كانت هذه الأنظمة عسكرية أو مدنية، ملكية أو متجلببة بجلباب الجمهورية أو حتى الجماهيرية، لم تخل سجونها ومعتقلاتها في يوم من الأيام، من السجناء السياسيين من مختلف النزعات الفكرية والسياسية، من المثقفين وطلاب الجامعات، من العمال والفلاحين، من المبدعين والإعلاميين، من الجنود والمهمشين، من النساء كما من الرجال، من أبناء وبنات الثقافات المقموعة، والأقليات الأتنية والمناطق الموسومــة بالعداء لشخص هذا الحاكم أو ذاك. وحتى عندما تضطر هذه الأنظمة، في لحظة أزمة، إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين، كلهم أو جزء منهم، لامتصاص احتقان داخلي أو ضغط خارجي أو للإيهام بتغيير في أسلوب الحكم، فسرعان ما ترتد الحالة وتمتلئ السجون والمعتقلات بنفس السجناء أو بوافدين جدد، هذا بالطبع دون أن ننسى أولئك الذين يقضون نحبهم قبل الوصول إلى المعتقل، مغتالين أو مخطوفين، معذبين حتى الموت أو معدومين دون حكم قضائي، مقتولين في مظاهرات ومسيرات وانتفاضات أو في إطار مجازر مدبّرة ومخطط لها من أنظمة الحكم أو من بعض أجنحتها أو أجهزتها الأمنية والعسكرية.

إن هذه الحالة شاهد على الطبيعة الاستبدادية لأنظمة الحكم التي ورثت في أقطارنا النظام الاستعماري والتي غدرت بشعوبنا. غدرت بنضالاتها وتضحياتها وطموحاتها. لقد قدمت شعوبنا، أيتها الأخوات والإخوة، تضحيات جسيمة في مقاومة الاستعمار الغاشم ولم يكن هدفها ينحصر في طرد المستعمر وتحقيق الاستقلال فحسب، بل إن رغبتها في استعادة كرامتها الوطنية لم تكن مطلقا معزولة عن طموحها إلى العيش في كنف المساواة والحرية والديمقراطية وبالتالي الخروج من وضع الرعية إلى وضع المواطنة. ولم تكن الرغبة في استعادة الكرامة الوطنية معزولة أيضا عن توق شعوبنا إلى ممارسة السيادة على ثرواتها الوطنية واستخدامها لتلبية حاجاتها المادية والمعنوية في إطار العدالة الاجتماعية وتوفير شروط نهضتها في كافة المجالات، ولا عن توقها أيضا إلى توثيق الروابط بينها، وبينها وبين باقي الشعوب العربية فضلا على إقامة علاقات إخاء وتضامن مع كافة شعوب العالم المكافحة ضد الاستعمار والامبريالية والهيمنة والحرب. ومن النافل أن هذه العناصر كلها تعطي للكرامة الوطنية مضمونا فعليا وتجعل منها حقيقة ملموسة.

لكن، للأسف، ليس من العسير أن نستنتج اليوم بعد كل هذه العقود التي مرت على إعلان استقلال أقطارنا، أن طموحات شعوبنا لم تتحقق. فالاستقلال أضحى شكليا، وبالأخص اليوم أكثر من أي وقت مضى حيث نرى أقطارنا، بدون استثناء، تتحول إلى مستعمرات اقتصادية ومالية من نمط جديد، وحكوماتها إلى مجرد دمى بيد الدول والاحتكارات الامبريالية والمؤسسات المالية والتجارية الدولية الواقعة تحت هيمنتها، تنفذ إملاءاتها التي تعبّد الطريق لتكريس الهيمنة على بلداننا عبر ما يسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي وما تعنيه من خوصصة وتدمير للخدمات الاجتماعية وفتح للحدود أمام البضائع والرساميل الأجنبية، وعبر الاتفاقيات والمعاهدات التجارية والاقتصادية اللامتكافئة وغيرها.

وقد استبدت بثروات أقطارنا، أيتها الأخوات أيها الإخوة، أقليات بورجوازية وأرستقراطية، عسكرية وبيروقراطية ظلت على مر العقود تبددها في غير مصلحة، وقد أخذ هذا التبديد اليوم أنساقا متسارعة غير مسبوقة مما جعل الفساد سمة أساسية من سمات أنظمتنا السياسية والاجتماعية، في حين تكتوي شعوبنا وخاصة طبقاتها وفئاتها الكادحة بنار الفقر والتهميش والبطالة والأمية وغلاء المعيشة والجريمة والكحولية والمخدرات والبغاء السري والعلني مما دفع أعدادا كبيرة من الشبان، الضحايا الأساسيين لهذه الأوضاع، إلى الهجرة السرية نحو البلدان الأوروبية مقامرين بحياتهم، بحثا عن مورد رزق.

ولا يمكن أن ننسى أو نتناسى وضع النساء في أقطارنا. إن الحديث عن الحرية والديمقراطية كما تعلمون، يصبح لغوا بدون مساواة. خصوصا المساواة بين الجنسين. وقد ناضل النساء في أقطارنا من أجل الاستقلال. وكانت تحدوهن رغبة جامحة ليس في التخلص من المستعمر فحسب، ولكن أيضا من قيود العبودية التي تكبلهن داخل العائلة والمجتمع حتى يسهمن في نحت مصير أوطانهن. ولكن غُدر بهن وبطموحاتهن. فاللامساواة بين الجنسين ظلت القاعدة في التشريع وفي الواقع المعيش، مع بعض الفروق الجزئية طبعا، حتى أن مجتمعاتنـا ومعظم برلماناتنا المنصبة لا تزال تناقش في مستهل هذه الألفية الثالثة إن كان تعدد الزوجات، وضرب النساء وتطليقهن مشروعا أم غير مشروع، وتجد هذه المواقف الموغلة في الرجعية من يدافع عنها ومن يعبد لها الطريق كي يقع التنصيص عليها وعلى غيرها من المواقف، مثل قوامة الرجال على النساء في قوانين الأحوال الشخصية.

إنه لمن العار كذلك أن تظل العبودية تمارس إلى حد اليوم في بعض أقطارنا المغاربية (موريتانيا) والسلطات الرسمية تغض عنها الطرف بل تحاول التقليل من شأنها وتوفر الحماية للمسؤولين عنها، علما أنها لم تقدم رسميا على إلغاء العبودية إلا في تاريخ غير بعيد (1982).

فهل هذا هو الاستقلال الذي كافحت من أجله شعوبنا وقدمت التضحيات الجسيمة!!

وخلافا لما كانت تطمح إليه شعوبنا من توثيق الروابط بينها وتحقيق الوحدة، لا شك أنكم تتذكرون إعلان طنجة عام 1958، فإن أنظمة الاستبداد التي حكمتنا ولا تزال تحكمنا لم تفلح إلا في بث التفرقة وخلق الظغائن بينها وجرها حتى إلى الاقتتال أحيانا. المغرب والجزائر تواجها بالسلاح في الستينات. والعلاقات بينهما متوترة إلى الآن بسبب الخلافات حول مصير الصحراء الغربية. والعلاقات بين ليبيا وتونس توترت أكثر من مرة وكادت الأمور تؤول بينهما إلى ما لا يحمد عقباه، إلى غير ذلك من التوترات. بل إن هذه الأنظمة لم تقدر أو بالأحرى لم ترُمْ توحيد شعوبها وتصليب وحدتها الوطنية فلم يحترم بعضها التنوع الثقافي وجنح إلى أساليب الاضطهاد زارعا بذلك بذور الفتنة ولم يتردد البعض الآخر في إشعال حرب أهلية حفاظا على المصالح الضيقة لبعض الأجهزة والكتل المتنفذة والأنانية، في حين لا تتورع أنظمة الاستبداد عن الارتماء في أحضان الأجنبي وعن الهرولة للتطبيع مع الكيان الصهيوني.

في قمة هذا الواقع الفاسد والمتردي تنتصب أيها الأخوات والإخوة، دولة الاستبداد التي تحافظ عليه وتعيد إنتاجه باستمرار وتتصدى بكل عنف لمحاولات تغييره. وهي تقوم بذلك خدمة لمصالح الأقليات التي تشكل قاعدتها الاجتماعية. إن النظمة التي حكمتنا ولا تزال تحكمنا يجمع بينها نمط الحكم الفردي المطلق الذي يستند إلى العسكر أو البوليس، إلى الحزب الواحد أو إلى حزب مهيمن يخفي هيمنته هذه بتعددية شكلية وزائفة. كما يجمع بينها الجور والعسف وبالتالي عدم الالتزام بقانون أو احترام مؤسسات.

لقد ألغت هذه الأنظمة منذ اليوم الأول مبدأ السيادة الشعبية ونصبت ولا تزال تنصب مؤسسات صورية في معظم الأحوال. وحتى إذا اضطرت إلى تنظيم انتخابات فالتزوير هو القاعدة. وهي تـُخضع القضاء وتوظفه لتصفية خصومها السياسيين وتصادر الحريات الفردية والعامة بما فيها حرية العمل النقابي. ولا تتورع عن تجريم كل من يجرؤ على ممارسة حقوقه السياسية، أو يرفع مطالب اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. وليس خافيا أيضا أن هذه الأنظمة جعلت من التعذيب والقتل أسلوب حكم لترويع مواطنيها.

وهكذا وجدت شعوبنا نفسها محرومة من حقوقها السياسية ومجرّمة إن هي جَرُأت على ممارستها. وفي هذا الإطار استشرى القمع الذي وضعت له دولة الاستبداد الأطر اللازمة، من بوليس سياسي ومخابرات عسكرية وفرق موت وميليشيات ومحاكم استثنائية وترسانات من القوانين الفاشستية. كما أنها هيأت لضحاياها أشنع المعتقلات. ففي كل قطر من أقطارنا توجد معتقلات ذاع صيتها.

لقد حدثكم، أيتها الأخوات والإخوة، صبيحة هذا اليوم ممثلون عن أحزاب مغربية عن القمع الذي عاناه الشعب المغربي وعن تجربة "هيئة الإنصاف والمصالحة" وتحفظاتهم عليها. كما حدثكم ممثل جبهة القوى الاشتراكية من الجزائر عن نصيب شعبه من القمع خصوصا منذ انقلاب 1991 وعن محاولات نظام الحكم في الآونة الأخيرة احتواء هذا الوضع. ومن المؤسف أنه لم يحضر بيننا ممثلون عن قوى سياسية موريتانية وليبية ليرووا لنا بدورهم ما تعرض له شعباهما من قمع على أيدي نظامي الحكم في بلديهما المغاربيين. واسمحوا لي أن أحدثكم من ناحيتي عن الوضع في بلدنا تونس وعن كفاح القوى الديمقراطية من أجل إخلاء السجون من السجناء السياسيين ومن أجل الديمقراطية.

لقد انفتحت أبواب السجون في تونس منذ اليوم الأول لوصول بورقيبة إلى الحكم لتـُطْبَقَ على معارضي نظامه الأوائل وهم من مناضلي حزبه والحركة الوطنية الذين لم يقبلوا تمشيه السياسي (اليوسفيون)، وقد كانوا تعرضوا لأشنع ألوان التعذيب والقتل دون حكم قضائي، ومحاكمات جائرة ظلت في طي الكتمان إلى حد الساعة. ومنذ تلك اللحظة اشتغلت ماكينة القمع بشكل مستمر، إلى آخر يوم في حكم بورقيبة. وقد حصدت في طريقها كل النزعات الفكرية والسياسية دون استثناء إضافة إلى الحركات الاجتماعية الاحتجاجية عمالية كانت أو شبابية، موظفية أو أو فلاحية أو شعبية.

[بعد ذلك عدد الرفيق حمه الهمامي المحاكمات السياسية التي شهدتها تونس خلال الستينات والتسعينات والثمانينات بدءا بمحاكمة المتهمين بالمحاولة الانقلابية سنة 1962 ووصولا إلى محاكمات "الإسلاميين" واليساريين من مناضلي حزب العمال الشيوعي التونسي واتحاد الشباب الشيوعي التونسي في آخر أيام حكم بورقيبة ومرورا بمحاكمات اليساريين والقوميين في أواخر الستينات واليساريين بمختلف نزعاتهم ونشطاء الحركة الطلابية ومناضلي حركة الوحدة الشعبية والنقابيين في السبعينات و"الإسلاميين" واليساريين والمهمشين والمعدمين (انتفاضة الخبز) والنقابيين في النصف الأول من الثمانينات. وشدد الرفيق حمه الهمامي على ضرورة الاهتمام بضحايا القمع من أبناء الفئات الكادحة الذين شاركوا في حركات احتجاجية ضد المظالم الاجتماعية التي سلطها عليهم نظام بورقيبة أمثال سكان برح سيدي علي الرايس والفلاحين الفقراء المتضررين من سياسة التعاضد في النصف الثاني من الستينات والعاطلين عن العمل والمهمشين الذين شاركوا في أحداث 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز 3 جانفي 1983 وقد انتهى كلاهما بمجزرة رهيبة وباعتقال أعداد كبيرة من المحتجين الذين أودعوا السجون.]

وأضاف:

عندما يقع الحديث عن ضحايا القمع، أو عن العفو التشريعي العام عادة ما تقع اّلإشارة إلى المناضلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين فقط ويتم نسيان أعداد كبيرة من الناس غير المعروفين الذينقمعوا وسجنوا لمشاركتهم في حركات اجتماعية احتجاجية. هؤلاء أيضا معنيون بالعفو التشريعي العام ولا بد من رد الاعتبار إليهم وإلى إخوانهم الذين ماتوا برصاص الجيش والبوليس في عهد بورقيبة.

وفي سنة 1987 أزيح بورقيبة من الحكم ولم يتحقق مطلب العفو التشريعي العام الذي رفعته الحركة الديمقراطية منذ الستينات وبالتالي لم يقع رد الاعتبار لآلاف المواطنات والمواطنين الذين طالهم القمع في عهده. وحين انتصب بن علي في الحكم مكان بورقيبة أغدق الوعود الديمقراطية الكثيرة على التونسيات والتونسيين لامتصاص غضبهم واحتواء مطالبهم وكسب الشرعية. وقد أطلق سراح السجناء السياسيين وأصدر بعد حوالي العامين من وصوله إلى السلطة "عفوا تشريعيا عاما" هو أقرب إلى العفو منه إلى العفو التشريعي العام. ولكن ما أن رتـّب بن علي البيت الداخلي حتى شغـّل ماكينة القمع من جديد لتحصد الأخضر واليابس. فبعد 17 سنة من حكمه لم تتحقق الديمقراطية، بل إن تونس أصبح يشار إليها في مختلف أنحاء العالم بوصفها تأوي واحدة من أشنع الدكتاتوريات البوليسية التي لا تزال قائمة في مستهل هذه الألفية الثالثة. فقد ضرب القمع كل العائلات الفكرية والسياسية ولم يسلم منه حتى "المعتدلون" الذين تحالفوا مع بن علي في هذه الفترة أو تلك والذين لم يغفر لهم نقدا جزئيا أو احتجاجا بسيطا، بل إن القمع ضرب حتى عناصر تجمعية. ودون الدخول في تفاصيل فإن ما بين 35 و40 ألف مواطنة ومواطن اعتقلوا خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة لأسباب سياسية. وقد مات منهم العشرات تحت التعذيب. وزج بمعظمهم في السجن إثر محاكمات جائرة وتعرضوا في سجنهم إلى أشنع وسائل التنكيل. ولا يزال المئات منهم إلى اليوم يقبعون في سجون مختلفة من سجون البلاد. ولا تزال الإيقافات والمحاكمات الجائرة مستمرة. وقد استغل بن علي أحداث 11 سبتمبر 2001 ليصدر قانون "مكافحة الإرهاب" الذي يستعمل في الحقيقة غطاء لمواصلة ضرب الحريات وانتهاك حقوق الإنسان. ولا بد من قول كلمة بشأن الآلاف من قدماء المساجين السياسيين فهم معرضون لميز خطير بسبب أفكارهم بل إن نظام بن علي يحاول أنيجعل منهم "منبوذي تونس" لتدميرهم جسديا ومعنويا. فلا حق لهم في الشغل والعلاج والتنقل بحرية. ولا حق لهم في المشاركة في الحياة العامة. ولا يقتصر القمع عليهم وحدهم بل يشمل أفراد عائلاتهم وأقاربهم، وأحيانا أجوارهم وأصدقاءهم. وبالإضافة إلى هؤلاء المسرحين لا بد من ذكر آلاف المغتربين من التونسيات والتونسيين في مختلف أنحاء العالم الذين تركوا بلادهم هروبا من الاضطهاد. ويعيش أغلبهم في ظروف صعبة بعيدين عن عائلاتهم. وقد ظل العديد منهم بعيدا عن زوجاته وأطفاله سنوات طويلة. ولم يسلم البعض منهم من اضطهاد بوليس بن علي حتى وهو في المنفى فاعتدى عليه اعتداءات فظيعة.

كل هذا جعل أيتها الأخوات والإخوة من مطلب العفو التشريعي العام مطلبا ملحا، بل شرطا لا بد منه لأي انفراج سياسي أو تحسين للأوضاع. فلا انفراج دون إطلاق سراح السجناء السياسيين ومعظمهم الآن وليس كلهم من الإسلاميين ودون إعادة الاعتبار إليهم وإلى كافة قدماء المساجين السياسيين والمغتربين بإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم وتمكينهم من حقوقهم المدنية والسياسية والتعويض لهم على ما لحقهم ولحق أهاليهم من أضرار مادية ومعنوية. ولكن لنكن واضحين. فهذه الإجراءات غير كافية. فنحن لا نريد أن تغلق أبواب السجون لتفتح من جديد في وجه نفس السجناء المسرحين أو في وجه آخرين جدد. نحن نريد أن يوضع حد نهائي للمحاكمات السياسية. لذلك لا بد من أن يرتبط النضال من أجل العفو التشريعي العام بالنضال من أجل الحريات السياسية. ولا تحقيق لهذه الحريات دون إلغاء ترسانة القوانين القمعية والفاشستية التي شكلت ولا تزال الأساس القانوني للقمع السياسي، وتعويضها بمنظومة قانونية جديدة تضمن الحريات وتحميها من الانتهاك. كما أنه لا بد من حل أجهزة البوليس السياسي التي أنشئت للسهر على تطبيق تلك الترسانة وترهيب المواطنات والمواطنين وثنيهم عن ممارسة حقوقهم الأساسية. ولا بد أيضا من رفع الوصاية عن السلطة القضائية والكف عن استخدامها أداة لتصفية الخصوم السياسيين وبالتالي احترام استقلاليتها. وأخيرا وليس آخرا لا بد من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات أمرا وتنفيذا. فلا طي لصفحة الانتهاكات دون هذه المحاسبة. فالإفلات من العقاب واستمرار هؤلاء المسؤولين في مواقعهم ليس فيه نيل من حقوق ضحاياهم فحسب بل يعني أيضا مكافأة لهم عما اقترفوه من جرائم وتشجيعا على اقتراف جرائم مماثلة في المستقبل.

هذه شروط دنيا، أيتها الأخوات والإخوة، للخروج من النفق سواء تعلق الأمر ببلادنا أو ببقية الأقطار المغاربية. ولكن حين نقول "شروط دنيا" فمعناه أنه توجد شروط أفضل منها لضمان خروج نهائي من النفق وعدم العودة إليه نهائيا. وهذا "الأفضل" يتمثل، بالنسبة إلينا في تونس كما بالنسبة إلى إخواننا في بقية الأقطار المغاربية، في التخلص النهائي والجذري من أنظمة الاستبداد التي تحكمنا. فـ"مغرب عربي بدون مساجين سياسيين" هو في الحقيقة "مغرب عربي بدون أنظمة الاستبداد"، لأن هذه الأنظمة هي التي تمارس القمع وتملأ السجون بالمعارضين والمحتجين وغيرهم… "مغرب عربي بدون مساجين سياسيين" هو مغرب الجمهوريات الديمقراطية الحقيقية النابعة من إرادة الشعوب والضامنة للحريات والحقوق والمساواة وخاصة المساواة بين الجنسين، والحامية لها من الانتهاك والمحققة لطموحات الطبقات والفئات الكادحة في العيش الكريم والراعية للتنوع الثقافي والساهرة على توثيق الروابط بين شعوبنا المختلفة.

ولسائل أن يسأل كيف ستتحقق الجمهورية الديمقراطية الحقيقية في أقطارنا؟ دعوني أجيب هنا بكل وضوح: إن أنظمة الاستبداد لا تتمقرط بل تسقط. هذه الحقيقة أكدتها كل التجارب في العالم. وقد رأينا نحن في تونس بأم أعيننا كيف أن كل محاولات "إصلاح" الدكتاتورية قد باءت بالفشل، لا لشيء إلا لأن الدكتاتورية غير قابلة للإصلاح. وهو ما جعلنا في حزب العمال نؤكد باستمرار أن الديمقراطية لن تتحقق عن طريق الدكتاتورية أو بالتعاون معها ولكن بالنضال ضدها وعلى أنقاضها. وبطبيعة الحال فإن وضع حد لأنظمة الاستبداد التي تحكمنا موكول إلى شعوبنا وقواها الحية الديمقراطية والتقدمية وليس لأقليات انقلابية أو إرهابية مهما كانت الشعارات التي ترفعها. فكلما لعبت هذه الشعوب دورا فعالا واعيا وحاسما في القضاء على أنظمة الاستبداد وبالتالي كلما كان النضال ضد هذه الأنظمة ذا طابع شعبي وجذري، كان ذلك من العوامل التي ستساعد على قيام الجمهورية الديمقراطية الحقيقية في أقطارنا. وكما ذهب إلى ذلك د. مصطفى بن جعفر قبلي فإن المجلس التأسيسي يمثل الأداة التي يمكن أن تضمن الانتقال إلى النظام الديمقراطي الجديد وصياغة الدستور الذي يضع أسسه.

ولا يمكنني أن أنهي مداخلتي دون التطرق إلى الظرفية الخارجية التي تحف بنضالنا من أجل إرساء الديمقراطية في أقطارنا. فأنتم على علم بـ"مشروع الشرق الأوسط الكبير" وبخطب بوش التبشيرية حول الحرية والديمقراطية بهذه المنطقة التي تمتد من المغرب إلى أفغانستان. وكما أثار هذا المشروع نوعا من الجدل في بلدان المنطقة المعنية فقد أثار أيضا نفس الجدل في تونس، إذ يوجد من يتساءل إن لم يكن من المجدي استغلال الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية على أنظمة الاستبداد في الوطن العربي لتشديد الخناق عليها دون السقوط في فخ هذه الإدارة وهو ما يفترض محاورتها وإبلاغها مطالب الحركة الديمقراطية وتحفظاتها على السياسات الأمريكية في العراق وفلسطين خاصة. وتعبّر هذه الأوساط عن خشيتها من أن يشكل رفض المشروع الأمريكي بشكل مطلق "خدمة" غير مباشرة لنظام بن علي في بلادنا الذي يعمل على احتواء الضغوط الخارجية من أجل "الإصلاح السياسي" في تونس حتى لو تطلب منه ذلك تقديم شتى التنازلات للإدارة الأمريكية بما في ذلك التطبيع مع الكيان الصهيوني.

ونحن نعتبر أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اتخاذ موقف سليم من المشروع الأمريكي ودعواته "الإصلاحية" دون فهم أبعاده وأهداف المروجين له علاوة على تجلياته الميدانية. فـ"المشروع الأمريكي" ليس له من دافع غير "المصالح القومية" للامبريالية الأمريكية وليس له من هدف غير تكريس هيمنتها المطلقة على المنطقة المعنية بالمشروع بما فيها من ثروات نفطية هائلة، وليس القائمون على هذا المشروع غير فريق بوش اليميني المتطرف، العنصري العدواني، الذي لم يرشح كأسه حتى الآن بغير الحروب العدوانية في أفغانستان والعراق التي ترافقها أعمال إجرامية غير مسبوقة والتدخلات السافرة في شؤون البلدان الصغيرة والضعيفة، ومساندة السفاح أرييل شارون في قتله لأبناء الشعب الفلسطيني وبناته. فهل أن ما تم في أفغانستان والعراق المحتلين ديمقراطية؟ لقد نصبت الإدارة الأمريكية في كلا البلدين بيادق قابلين، أولا بوصايتها وثانيا بنهب ثروات بلديهما. كما أنها أججت الصراعات الطائفية والقومية والأتنية لتسهيل سيطرتها على الوضع. لذلك فإن "الإصلاح السياسي" الذي تروج له الإدارة الأمريكية ليس الهدف منه إقامة أنظمة ديمقراطية حقا مقام أنظمة الاستبداد التي تمتعت من الأول بدعم الامبريالية الأمريكية، وكانت في بعض الأحيان من صنعها، بل إقامة أنظمة ليبرالية عميلة لها قابلة بهيمنتها وبالتخلي عن القضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان الصهيوني وبإجراء تحويرات على المناهج التعليمية والثقافية من أجل خلق مناخ إيديولوجي يسوّغ هذا الوضع ويقي بالتالي المصالح الأمريكية الصهيونية من نقمة الشعوب. إنه يعني الانتقال من فترة إلى فترة. من فترة الصراع بين القطبين إلى فترة الهيمنة الأحادية الأمريكية.

أسوق لكم بعض الأمثلة. أليس الرئيس الفينزويلي "شافيز" منتخبا انتخابا حرا ومباشرا، ومع ذلك فإن النظام الديمقراطي الذي أوصل شافيز إلى الحكم لم يرق لواشنطن، لأن شافيز لا يحقق مصالح احتكاراتها النفطية في فينزويلا وفي الخارج لذلك دفعت الأطراف الرجعية في فينزويلا للانقلاب عليه. ولكن الشعب أعاده إلى السلطة. فحاولت تأليب الرأي العام عليه وفرضت انتخابات قبل الأوان. فأعاد الشعب انتخاب شافيز. ومع ذلك لم تنته المناورات الأمريكية لإزاحته إن اقتضى الأمر عن طريق الاغتيال. وهذا يبين أن الديمقراطية التي يريدها بوش ليست الديمراطية التي تكون في صالح الشعب والوطن ولكن الديمقراطية المسخ التي يتنافس فيها حفنة من عملاء واشنطن المنظمين في أحزاب أو طوائف والذين يتصارعون من أجل السلطة تحت مظلتها.

ويوجد مثال آخر قريب منا. فأنتم على علم بأن بوش، وكذلك شيراك، لم يحركا ساكنا عندما حور بن علي الدستور في عام 2002 ليتمكن من البقاء في الحكم مدى الحياة ويضمن لنفسه حصانة قضائية مدى الحياة أيضا. ولكن حين عدل البرلمان اللبناني الدستور لتمكين الرئيس أمين لحود من ولاية ثالثة مدتها ثلاث سنوات أقام بوش وشيراك الدنيا ورفعت المسألة إلى مجلس الذي أصدر قرارا في الموضوع لا يلزم سوريا بالانسحاب فقط ولكن ينص أيضــا على ضرورة إجراء "انتخابات حرة" في لبنان. وليس سبب كل هذا غيرة الإدراة الأمريكية على الشعب اللبناني الطامح حقا إلى الحرية والديمقراطية والاستقلال الفعلي. بل مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني التي تقتضي "تطبيع" الوضع في لبنان ثم خنق النظام السوري ودفعه إلى الانهيار وتعويضه بنظام على المقاس الأمريكي - الإسرائيلي، في انتظار أن يأتي دور النظام الإيراني، وهلم جرا، إلى أن تصبح كامل المنطقة تحت السيطرة الأمريكية في إطار شراكة استراتيجية مع الحليف الصهيوني.

لذلك نحن نقول أيتها الأخوات أيها الإخوة، إنه من واجب القوى الديمقراطية الحقيقية أن تتصدى للمشروع الأمريكي وتفضحه وتكشف أهدافه الاستعمارية الجديدة. كما أنه من واجبها أن تكون يقظة حيال محاولات الاختراق التي تقوم بها السفارات الأمريكية وأعوانها في المنطقة. هذه المحاولات موجودة في تونس أيضا وهي تستهدف الأحزاب كما تستهدف المثقفين والإعلاميين والحقوقيين من أجل تأطيرهم وتحويلهم إلى جنود في خدمة المشروع الأمريكين وليس من الصعب ملاحظة تلازم الترويج لهذا المشروع مع الترويج للتطبيع مع الكيان الصهيوني.

ولكن ما قلته لا يجيب عن السؤال بالكامل. بقية الجواب هي أنه علينا في المعركة الديمقراطية أن نعول على شعوبنا وأن نعمل من أجل رفع وعيها وتنظيم صفوفها حتى تصبح قادرة على دك حصون أنظمة الاستبداد. هذا الطريق صعب ويتطلب تضحيات جسيمة ولكنه الطريق الأضمن لأن المكاسب الديمقراطية التي يحققها الشعب بذاته ولذاته هي الأقدر على البقاء والاستمرار.

وعلينا أن ندرك أن موقفا وطنيا واضحا من المشروع الأمريكي وأهدافه الاستعمارية الجديدة من شأنه أن يقربنا إلى شعوبنا أكثر بينما التردد أو التواطؤ لا يزيد أصحابه إلا عزلة عنها. وفوق ذلك، وهنا أتحدث عن تونس، هل الإدارة الأمريكية (وكذلك الاتحاد الأوروبي) جادة حقا في الضغط على الدكتاتورية عندنا؟ لا بالطبع. إنها تثني عليها باستمرار وتحاول أن تقنعها فقط وبكل ود أن شيئا من الانفتاح ستكون فيه فائدة لها وللولايات المتحدة. وفي انتظار ذلك فهي تقدم إليها الدعم المالي والعسكري والأمني وتعتبرها "حليفا قويا في مقاومة الإرهاب" وفي "انتهاج الاعتدال والحث عليه" أي قبول المشاريع الأمريكية، في علاقة بالصراع الفلسطيني الصهيوني والعربي الصهيوني والترويج لها. وتأكّدوا أن الإدارة الأمريكية لن تتحرك ولن تضع تونس ضمن أولوياتها إلا حين تقوى الحركة الديمقراطية والشعبية وتمثل تهديدا جديا لمصالحها في البلاد وفي المنطقة. وقتها من الممكن أن يشتد ضغطها على نظام الحكم وتطالبه بتغيير أسلوب حكمه. ووقتها أيضا ستلتفت إلى الحركة الديمقراطية وتحاول احتواءها وكسب رموزها لإقامة نظام ليبرالي تحت مظلتها. وبعبارة أخرى فإن الامبريالية الأمريكية لا تضغط بجد إلا حين يوجد عائق أمام مصالحها (لبنان، سوريا، جورجيا، أكرانيا) أو خطرا يتهددها. وهي لا تريد ديمقراطيين حقيقيين مخلصين لشعوبهم بل عملاء لها متلحفين بلحاف الديمقراطية والليبرالية. ونحن نعتبر أن القول بأن معارضة المشروع الأمريكي قد يستفيد منها نظام بن علي قول غير سليم بل إن هذا القول لا يصح إلا في حالتين: الأولى عندما، يقع المطالبون بالتغيير الديمقراطي، في فخ هذا النظام وترهبهم اتهاماته بـ"اللاوطنية" و"التبعية للخارج" فيصطفون وراءه باسم وطنية زائفة، وهو الذي رهن بلادنا للأجنبي. أما الحالة الثانية فهي عندما يكتفون برفع الشعارات دون أن يمارسوها أي دون مقاومة الدكتاتورية ميدانيا. ونحن لسنا لا من هؤلاء ولا من أولئك. فنحن نناضل باستمرار ضد الدكتاتورية، ولا نترك لها أية فرصة لاحتواء نضالاتنا أو مغالطتنا. كما أننا لم ولن ندافع عنها حين تسلط عليها ضغوط أجنبية بشأن إمعانها في القمع بل إننا نشرح لشعبنا حقيقة تلك الضغوط وحدودها وأهدافها. وإن تعلق الأمر بتدخل في الشأن الداخلي فنحن إذ نرفضه، نحمل مسؤوليته لنظام بن علي الذي وفر الفرصة لهذا الطرف أو ذاك كي يتدخل لأنه ربط مصيره بتلك الأطراف مقابل أن تغض عنه الطرف وهو يكبت أنفاس الشعب التونسي ويقمعه. وقد بينت التجربة أن الدكتاتورية على استعداد للتنازل للإدارة الأمريكية على حساب الوطن في حين أنها تقابل أدنى ضغط جماهيري بالقمع الوحشي رافضة تقديم أي تنازل للشعب يحقق له الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا مفهوم لأن التنازل للامبريالية الأمريكية يساعدها على البقاء بينما التنازل للشعب يفتح عليها باب جهنم ويؤذن بنهايتها.

لذلك فبقدر ما أننا مطالبون اليوم بفضح المشروع الأمريكي ومقاومته ومساندة ضحاياه من أشقائنا في العراق وفلسطين وفي العالم أجمع، فإننا مطالبون أيضا إلى بالاستعداد لمواجهة مناورات المستقبل حتى نضمن لبلدنا وشعبنا نقلة ديمقراطية حقيقية يكون الشعب محركها والاستقلال الوطني الحقيقي إطارها. فلا ديمقراطية بدون استقلال وطني ولا ديمقراطية بدون شعب يحققها بذاته ولذاته.

[وختم الرفيق حمه الهمامي كلمته بتوجيه التحية إلى أجيال المناضلين والمناضلات الذين قدموا تضحيات جسيمة من أجل الحرية والديمقراطية في تونس وكونوا اللجان من أجل الدفاع عن المساجين السياسيين والمطالبة بالعفو التشريعي العام، وهي اللجان التي شكلت أول نواة للحركة الحقوقية التونسية قبل تأسيس الرابطة، ومهدت في التسعينات لتكوين المجلس الوطني للحريات. كما وجه تحية إلى كافة المعتقلين السياسيين إسلاميين وغير إسلاميين الذين كان آخرهم محمد عبو وكافة المغتربين.]

وشكرا لكم.