فكر ماركس اليوم الحلقة الثانية


حمودي عبد محسن
2013 / 5 / 4 - 21:19     


هناك مقولة شهيرة لدستوفسكي مفادها ( أن التاريخ لا يصنعه الأبطال أو القادة وإنما يصنعه المضحون) وتتوافق مع هذا مقولة غوتة التي يؤكد ما توصل إليه دستوفسكي من استنتاج حيث قال: ( كم روح زهقت حتى شيدت الأهرامات) وكان تشيد الأهرامات بجهد فقراء مصر والعبيد التي توحي الدراسات الحديثة عن نظام القسوة اليومي الذي كان يفرض على العبيد بغية تشيد عظمة البناء الهندسي الذي يتناغم مع الشمس في أسطورة معمارية لم يشهد لها مثيل في التاريخ إذ لا زالت أسراره غامضة حتى وقتنا الحاضر، لكن أيضا يشير المؤرخون أن أكثر من مليونين عبد كانوا ضحية هذا التشييد إرضاءً للرب الفرعون على الأرض، ومنذ ذلك الوقت بدأت الأيديولوجية الدينية توظف وتسخر مبادئها لخدمة أغراض السيد لا العبد سواء كان ذلك في نظام الدولة المتخلف أو في أجهزته التي تديرها فئة حاشية الفرعون من موظفي إدارة شؤون المجتمع وقادته العسكريون الذين يفتحون بلدان لجلب الثروات وأهمها الجسد الإنساني ليسخر في العمل المجهد الذي غالبا ما يؤدي به إلى الموت، فذلك النظام القسري المهلك كان مفكروه الأساسيين هم الكهنة والمهندسون بالدرجة الرئيسية، ونفس الشئ ينطبق هذا التحليل على مشيدي برج بابل والجنائن المعلقة، فكم روح زهقت كي يرضي نبوخذ نصر زوجته أميديا التي صارت تشتاق إلى جبال بلادها ميديا، فشيد لها نبوخذ نصر هذه المأثرة العمرانية والتي هي مثل الأهرامات من العجائب السبعة التي تتغنى بها شعوب العصر الراهن دون أن تذكر أن ملايين البشر زهقت أرواحهم في سبيل إرضاء رغبة الفرعون الرب والملك الجبار نبوخذ نصر فاتح البلدان وقاهر الأعداء كما يورد في النصوص البابلية القديمة، وليس هذا فقط بل ليسخر الكهنة عذراوات بابل نذرا روحيا إلى رب الأرباب مردوخ في برج بابل الشاهق الذي أريد منه أن يمزق سحب السماء، ويفتت الغيوم الرمادية، ففي طابقه السابع يؤدي الكهنوتي الأكبر طقوس الزواج المقدس في رأس السنة البابلي حيث تكون العذراء مسترخية عارية على سرير التضحية عيناها مرفوعتان إلى السماء وساقاها منفرجتان وذراعاها ممدودتان إذ أكفهما تمسكان بفراش الرب الأعلى كي ترضي نزوة الكاهن الأعظم بأن يغرز نطفه الذكوري في كأس الأمومة باسم مردوخ العظيم الذي تجله الأمم، ثم ترمى الضحية العذراء في أزقة بابل سواء صار لها وليدا أو لم يحدث ذلك على الإطلاق ولولا بكارة العذراء التي مزقها الكاهن الأعظم لغضب مردوخ وأنزل غضبه على بابل لتكن في دمار ولسوف يكون مصيرها الطوفان، فمن أهرامات مصر ومن برج بابل والجنائن المعلقة التي شيدها العبيد الضحايا بملايين الأرواح بدأ التاريخ من سومر، فمن صنع التاريخ ؟!
هم ضحايا العراق القديم، هم ضحايا مصر القديمة التي لم يعتمدها ماركس كمصدر للتاريخ المادي الجدلي ونشوء المراحل التاريخية وتطورها وحدوث طفرات العبور بينها أو القفز على المراحل ليس لأن ماركس لم يرد ذلك لأن في زمن ماركس لم تكن هناك اكتشافات آثارية واضحة سواء عن سومر أو بابل أو عن الفراعنة التي تعود إلى 5000 سنة، لذلك سنتوقف عند مصدر ماركس الأساسي التي شيد فكره منها ـ وهي اسبرطة ـ فقد اعتمدها في بحوثه الفكرية، والتي على غرارها وضع فكره النظري ما بين الإنتاج ووسائل الإنتاج والقيمة الزائدة. فلنتوقف عند اسبرطة ثم الوركاء ونتطرق إلى نبذة عنهما وعلاقتهما بالصيرورة الفكرية بالنظر إلى التاريخ:
اسبرطة:
هذه اسبرطة الوديعة الجميلة القريبة من البحر الراقدة بين ثلاث جبال التي ينساب بينها نهر عذب يكفي لإرواء الأرض ويسقي بساتين الزيتون والحقول ويروي ظمأ الإغريقي القديم الذي كان يسكن هذه الأرض الإغريقية السحيقة في علاقة إنتاجية تكاد تكون شبه مشاعية لسكانها الأصليين، وإذا في يوم ملعون يواجه بهجوم قبائل الليديين القساة، فيحولون المجتمع الإسبرطي بغزوهم المتوحش الدموي إلى العبودية ويجعل الغازي المحتل الشخص الإسبرطي تابعا له لا يحق له المواطنة وإنما العمل في السخرة وما الإسبرطي الأصل إلا نصف مواطن يحق له العمل في التجارة والصناعة اليدوية، عندئذ نشأت عقيدة جديدة للأقلية الغازية التي لم يتجاوز عددها 30 ألفا بالنسبة إلى سكان إسبرطة الأصليين الذي يصل عددهم إلى 250 الفا، وترتكز هذه العقيدة على التفوق العنصري التي أرساها فكريا الفيلسوف كليمدون، وكان يكرر دائما:السور الذي يراد بنائه لا يحمي إسبرطة من غزوات القبائل وإنما يحميها التفوق العسكري، ولابد من البدء في الإعداد للتفوق العنصري ... وهكذا نشأت دولة جديدة في القرن العاشر حوالي 900 قبل الميلاد، ودامت قرون عديدة التي يمكن إدراج ذلك في النقاط الآتية:
أولا: النظام الإسبرطي الجديد
يقسم المجتمع الأسبرطي إلى طبقتين : العبيد والأحرار، تتوسطهما فئة وهم أهل إسبرطة الأصليين، فصار يطلق عليهم شبه الأحرار أو أنصاف المواطنين لكن حقوقهم محدودة ولا نعرف أي شيء كيف أدرجهم ماركس في الصراع الطبقي أكانوا في طبقة العبيد أم في طبقة الأحرار، وهنا لابد أن نشير إلى هذا التقسيم في المجتمع الأسبرطي:
1 ـ طبقة الأحرار: المواطن الحر هو الغازي المحتل الذي يتميز عن الآخرين فهو وحده الذي يحق له الانتخاب والترشيح وغالبا ما كان المواطنون يشكلون الطبقة الأرستقراطية المالكة للأراضي الزراعية ولا يحق لهم العمل إلا في حقل الزراعة. وهم في نفس الوقت ملك الدولة إذ يبدأ إعدادهم في سنة الطفولة أي منذ أن يبلغ الذكر سن السابعة، ويجب أن يكون سليما جسديا ليكن مواطنا صالحا أما إذا ولد الطفل عليلا فيأخذ به إلى خارج أسبرطة، ويرمى به من جبل تايجتوس، فليس عندهم وقتا لتربية وليدا عليلا، هكذا يبدأ الإعداد منذ السنة السابعة حيث يمشي الطفل حافيا، ويترك وحده في كهف مظلم ليواجه وحده مصيره، ويتمرس على الصبر والعزلة والاعتماد على الذات ويجابه الخوف، عندئذ تبدأ رياضة اللياقة الجسدية، والتدريب على آلات الحرب القاتلة في نظام الطاعة والولاء لإسبرطة، ويبقى يمشي عاريا وحافيا إلى أن يبلغ الثاني عشرة من عمره، وعندما يبلغ الثالثة عشرة من عمره يبدأ التدريب على فنون القتال إلى ان يبلغ عمره السنة الثامنة عشرة، فيسمح له الدخول إلى إسبرطة ناهبا سارقا غازيا، إذ يتدرب على نوع واحد من السلاح منذ أن يكون عمره 18 إلى حد 20 . إذ يحق له الزواج عندما يبلغ عمره العشرين، ومنذ هذا العمر إلى حد الثلاثين يكون مواطنا صالحا تم إعداده إعدادا كاملا فكريا وجسديا وهنا يكون قد تلقى تدريبا مؤهلا ليطلق عليه الاسبرطي المحارب المخلص حد الموت لاسبرطة، وكانت أم المحارب عندما تسلمه الدرع المزخرف بصورة وحش حيواني عملاق تطلق مقولتها الشهيرة: ( أبني أما أن تعود به أو لا تعود ) أي أما أن تعود منتصرا أو تموت. هكذا كانت تتم عسكرة الأحرار وليس المجتمع كما يطلق البعض، وإنما هذا الإعداد يبتغى منه الدفاع عن مصالح طبقة الأسياد ( السيد ) لمجابهة طبقة العبيد بشراسة ووحشية. وفي نفس الوقت كان لابد من نظام اجتماعي محدد يهدف إلى سيطرة هذه الطبقة واستغلال العبيد، فكان هذا النظام ديمقراطي لطبقة الأحرار، وقمعي استغلالي متعسف لطبقة العبيد، وهو أيضا نظام ذكوري وما النساء إلا أمهات الأبطال ويمكن تحديد هذا النظام بالنقاط الآتية:
أ ـ نظام الدولة دستوري يحكمه ملكان من المواطنين الأحرار، يعتمد على مبدأ السمو العرقي، وطبقة الأحرار لها حق الانتخاب والترشيح، وهي الطبقة الحاكمة، فالملك لا يحق له أن يعلن الحرب دون إقرار من مجلس الشعب، وما قام به الملك ليونيداس مع ثلاثة مئة من جنوده لوقف زحف الجيش الفارسي إلا كان خرقا لدستور اسبرطة، وقد توعده بعض عملاء الفرس في المجلس بالمحاكمة لخرق الدستور إلا أن المقاومة الباسلة التي أنقذت أثينا واسبرطة والتي على أثرها قتل الجميع مع ملكهم باستثناء جندي واحد عاد إلى اسبرطة مع جروحه وأخبر أهلها، فهب الإغريق من كل جهة للتصدي للجيش الفارسي الذي خسر أول معركة في التاريخ.
ب ـ مجلس النواب وهو المسؤول عن سن القوانين والشرائع والمراقبة والإشراف على الضرائب.
ج ـ مجلس الجيش وهو الذي يقوم بمهام الإعداد للحروب ووضع الخطط الكفيلة للاحتلال وتنظيم شؤون الجيش.

2 ـ طبقة العبيد: وهي الطبقة الواسعة الجماهيرية التي تبلورت أثناء الغزوات والعودة بهم أسرى ليتحولوا إلى عبيد في ظروف قاسية جدا، وليكونوا أيادي عاملة منتجة بالسخرة في زراعة الأرض أو في استخراج الرخام والحديد من تل تايجتوس القريب من إسبرطة، وكان عادة ما يميز العبد عن الأحرار بوضع حلقة حديدية حول رقبته مثلما كان العبد البابلي يميز عن الحر أن يرسل ضفائر شعره على رقبته.

ثانيا:التوسع: نهج دولة العبيد اعتمد بالدرجة الأساسية على الغزوات واحتلال الدويلات المجاورة الإغريقية بالقوة وخضوعها لسيطرتها والحصول على الغنائم وتوسيع الأراضي وفرض ضرائب قاسية مستفيدة من التفوق والقدرة العسكرية وغالبا ما كانت تقيم ثكنات عسكرية في الدويلات التي احتلتها لتراقب خضوعها وتقديم الضرائب، فكانت نموذج غريب مختلف كليا عن أنماط التطور الاجتماعي متخذا أيديولوجية التفوق العسكري من مبدأ النقاء العرقي والسمو الذاتي الذي على أساسه أنشأ طبقة الأسياد المشوهة المعزولة عن المجتمع التي لا مكان للضعفاء بينها.
ثالثا: ثورات العبيد:
أن تبلور طبقة العبيد في مجتمع التناقضات والتناحر الحاد وإرهاق العبد في العمل اليومي ليعيش الإذلال والمهانة والمعاناة، ويبقى مكبلا بالدين ما زال يمتلك جسدا يبيعه إلى السيد إذ هو لا يمتلك إلا قوة جسده يباع ويشترى من قبل السيد ويستخدم للترفيه عن سيده في ساحة مصارعة الموت كحيوان بشري غالبا ما كان هذا العبد الذي يمتلك روح شفافة ينتفض ويثور ضد سيده بغية التحرر من العبودية، فثورته لم تكن إلا حفر قبر سيده التي كانت تواجه بالبطش والقمع الذي لا مثيل له، فقد شهدت اسبرطة مئات الثورات حتى أن بعضها لم تسجل في التاريخ، هذه الثورات التي دمرت المجتمع الاسبرطي العبودي على مدى قرون عديدة ليس في اسبرطة وحدها وأيضا في الدويلات التابعة لها، وكان من أبرزها ثورة نابيس الذي كانت تمهيدا لتخلخل العبودية والانتقال إلى مرحلة اجتماعية أخرى التي فيها نحر الأسياد مثلما نحروا رفاقه، وقد رفع شعار التحرر من العبودية معتمدا على فلسفة ليقورغ التي كانت تدعو إلى نظام مساواتي عادل حدده في النقاط الآتية:
1 ـ حق المواطنة للجميع.
2 ـ إلغاء الديون.
3 ـ توزيع الأراضي بالتساوي.
فكانت هذه الثورة التي انتكست لاحقا المهد الحقيقي لتدمير المجتمع العبودي الذي لم يعد مناسبا للتطور الاجتماعي، وتطور وسائل الإنتاج، فهي كانت أشبه ببركان كان يغلى حتى تفجر.

الوركاء:
هذه الوركاء المدينة المدورة المبنية من الخشب والطين الواقعة على الفرات، عاصمة الدولة السومرية المؤسساتية والقوانين والحقوق المدنية التي يعود تاريخها إلى قبل خمسة آلاف سنة، العاصمة الأولى في تاريخ الحضارة البشرية المدنية التي كونت نفسها بنفسها معتمدة على نتاج قدرتها العقلية والجسدية، فالكتابة صور رمزية ولذلك يطلق عليها المسمارية، والموسيقى مرتبطة بترانيم العبادة والأفراح وعودة دموزي في الربيع المزدهر،وكذلك الفن يطرد عفاريت الجلا، ولتبقى قابعة في ظلامها في العالم السفلي أما الآداب فتعود إلى عصور قديمة ويطلق عليها عصور الآداب السومرية خاصة وصايا ـ شورباك ـ النصوص القديمة جدا، فالسومري تجلى ارتباطه بالسماء وحركة أفلاكها وأطلق على بعضها أسماء وغاص في مختلف العلوم الكونية المختلقة فدولة المدينة الوركاء كانت مكتفية ذاتيا وسيرت حياتها اقتصاديا بنظام إداري يدير شؤون المجتمع، فكان الكهنة ليسوا عبدة الآلهة فقط بل لهم دور بارز في إدارة المجتمع حيث في صباح كل يوم عمل توزع من مخازن المعبد آلات الحراثة وشق القنوات وإقامة السدود البسيطة لمقاومة طوفان الفرات، وغالبا ما تعود هذه الآلات إلى مكانها في مخازن المعبد لأنها آلات الجميع أما في فترة الحصاد وجني الثمار، فيخزن الناتج أيضا في مخازنه الخاصة، وتوزع الحصص بالتساو حسب الحاجة وحسب الخدمة، فهذا النمط الإنتاجي أطلق عليه بعض الماركسيين ـ أسلوب الإنتاج الآسيوي ـ نعم، هذا الأسلوب الراقي المتطور يخص العراقيين الأوائل الذين شيدوا به حضارتهم، فنحن لا نعرف عن المراحل الأولية المتوحشة التي أطلق عليها مورغان، وأكدها إنجلز في أصل العائلة والملكية الخاصة في مراحل تطور المجتمع السومري بل نجد أن السومريين شيدوا أسوارا حول الوركاء تمتد إلى تسعة كيلومتران ومساحتها إلى 260 كيلومترات لتجنب أهل الوركاء التي كان يبلغ عددهم 40 ألف هجمات المتوحشيين من القبائل الغريبة، فالوركاء هي المهد الأول لنمو حياة المدينة بنمطها الخاص الاقتصادي الإداري المتقدم كما وصفها الخبير الألماني أيزنهاور، ومن خلال دراسة العلماء نتوقف على أنماط الملكية:
1 ـ الملكية العامة، وهي تخص إسلوب الأنتاج الآسيوي. إذ تمتاز بالعمل الجماعي.
2 ـ الملكية المشتركة، وهذه الملكية تخص العائلة وهي أشبه بملكية تعاونية توحد العائلة بالقرابة والدم بالرغم من أن رب العائلة يعتبر المالك الأكبر.
3 ـ الملكية الخاصة، وهي ملكية الملك والكهنة والأمراء العسكريين لأنها تكاد تكون فائضة عن الحاجة بالسعة والكبر.
ونلاحظ مما تقدم أعلاه أن عصر فجر السلالة السومرية لأولى أو ما يطلق عليه المؤرخون والعلماء العصر الكلاسيكي السومري أو عصر ما قبل الطوفان أو بداية التاريخ الحضاري لسومر الذي غلب عليه الجانب الروحي التعاوني سواء في العائلة الواحدة أو عدة عوائل ذات صلة قرابة برابطة الدم الذي وحد الرابطة المشتركة في المجتمع على أساس الإنتاج التعاوني، فهذا العصر كان عصرا صعبا فيه الكدح والتفكر والبحث عن أساليب جديدة للارتقاء في المجتمع إلى حالة الاكتفاء الذاتي، ولهذا توحد السومريون إزاء الطبيعة وإزاء علاقة الفرد بالآخرين وإزاء العمل، هذا التوحد جرى ضمن قانون ـ التآلف المعاش ـ والذي يصوغه العلماء بقانون ـ التعايش الفعال ـ إذ بفاعلية هذا القانون المبدئي الذي وظف كل شئ من أجل غاية محددة مشتركة تديم الرابطة الأخلاقية بين السومريين، فلم تكن الملكية الخاصة قد تبلورت، ولم تنتشر نزعة التملك الأنانية الفردية على حساب الآخرين ليسود الاستغلال بل تواصل جهد العمل المشترك والتفكر بمقتضيات الحاجة الأساسية من أجل العيش المشترك، ففي هذه المرحلة الطويلة الصعبة لم تظهر التكوينات البدائية للدولة، إذ كان خط الصعود يتمركز تلقائيا بإندماج المرحلة الرعوية مع الزراعة كما يشير العلماء أن أول سنبلة قمح ذهبية ظهرت في الوركاء، فهذه الخاصية تم التوقف عليها من قبل المستشرقين واعتبروها نوعا متميزا في التطور الاجتماعي الآسيوي، وقد سبقهم في ذلك بعض الماركيسين في السبعينات حيث أشاروا إلى هذا النمط من التطور فأطلقوا عليه أسلوب الانتاج الآسيوي الذي يختلف كليا عن النموذج الإسبرطي الإغريقي المتوحش الأوربي، وكان في هذه المرحلة يلعب المعبد الدور الأساسي في الحكم ليس على قانون الاستغلال من تكون طبقة مترفة غنية تملك وسائل الانتاج وتستغل طبقة فقيرة محرومة تبيع قوة عملها إلى المالك، بل ممثل المعبد هو الكاهن الذي كان يطلق عليه ـ الأمير الكاهن ـ المفوض من الآلهة التي تسكن السماء، أجل، الأمير الكاهن هو الراعي للرعية الذي تمركزت بيده المسؤوليات والصلاحيات المتعددة في سبيل مجتمع التوازن الاقتصادي لحاجات الناس، إذ في أسفل زقورة المعبد المدرج كانت هناك قاعة يجتمع فيه أهل سومر لتدبير شؤونهم اليومية، وتأدية طقوس احتفالات رأس السنة حيث كانت أشهر معابد الوركاء ( أي ـ أنانا ) التي تعني معبد السماء، والتي ترمز إلى إلهة السماء أنانا، وكذلك معبد إله السماء ـ آنو ـ وكان الأمير الكاهن يتخذ مسكنه في المعبد مع أتباعه، فكان الأمير الكاهن آنذاك أشبه بالراعي الصالح.
متى ظهر المجتمع الطبقي في الوركاء ؟
ظهر المجتمع الطبقي ما بعد فجر العصر السومري أي في الألف الثالث ق.م حيث صارت الوفرة الضخمة في الانتاج الزراعي وتمركزت السلطة الدينية والسياسية بيد الأمير الكاهن، وصار يمارس صلاحياته كحاكم فرد ضمن الحق الإلهي في قدس الأقداس المعبد وحيث تكدست الثروة الضخمة في مخازن المعبد، وساد الاستغلال لتوسيع ممتلكات المعبد لمآرب الأمير الكاهن التوسعية وأصبح هو المقدس الذي اختارته الآلهة ليمارس هذا الحق الالهي في شخصه لأنه الوحيد الذي يتلقى التعاليم العلوية المتدفقة عليه في أناشيد وأهازيج وصلوات وابتهالات، عندئذ حدث التمايز الطبقي في المجتمع السومري وظهر البائسون والمحرومون والمستغلون كمحكومين بقرارات الآلهة الخفية المنزلة تعاليمها سرا على الأمير الكاهن الذي اتخذ عرشه في المعبد ذاته. لكن هذا لم يدم إلى الأبد إذ ظهر في السيرورة التاريخية البطل المقدام حامي الوركاء قاهر الأعداء في حروب ضد لكش أسفرت عن غنائم وعبيد صاروا يباعون ويشترون بتعامل نقدي في التجارة، وأيضا تحولت الكتابة من صور إلى مقاطع، ثم من مقاطع إلى مسمارية، وكثر أمراء الجيش الذين يشكلون المحور الأساسي للدولة الناهضة المنظمة بمؤسساتها، وتوسعت ملكية الأرض، وانتشرت مزارع خاصة وقصور، فتفجر صراع حاد بين المعبد والقصر الذي توج بانتصار البطل المقدام الذي لابد أن يصبح ملكا على الوركاء، فصار الملك هو الحاكم الحقيقي، وهو المختار من الآلهة، وهو المستبد، وهو الراعي للرعية، وهو الحق الالهي، وهو الذي استلم من الآلهة ثلاثة إشارات رمز الملكية في الوركاء: 1ـ عصبة الرأس 2ـ الصولجان 3ـ عصا الرعاة المعكوفة. وهكذا ظهرت الوركاء أول حضارة وعاصمة وأكبر مدينة آنذاك الذي تعود بداياتها إلى العصر البرونزي، نعم، كان السومري في هذه المرحلة يدخل عصره الذهبي في شق القنوات الجديدة الملائمة للتوسع وبناء المباني والمعابد والجسور، ويمارس التعدين والصياغة والنقش على الألواح الحجرية والأختام ويشيد أعظم سور على أرواح المحرومين، فها هو الملك الذي يحكم مدينة واحدة يطلق عليه ـ إنسي ـ أي السيد كما يطلق على الملك الذي يحكم أكثر من مدينة ـ الوجال ـ أي العظيم، فصار هو يؤدي دور الكاهن ـ ان سي ـ أي الرجل الكبير الذي زال نفوذه بعد أن كان الحاكم الأول، لكن هذا لا يمنع على الإطلاق من وجود مجلسين منهما نستمد نواة التوجه الديمقراطي في الوركاء: 1 ـ مجلس الأمراء 2 ـ مجلس الشيوخ كما جرت إشارة إلى المجلس الثاني في ملحمة جلجامش:
وجاء الناس إلى جلجامش وتمنوا له قرب العودة
وباركه الشيوخ، واسدوا له النصح في سفره وقالوا له:
أيها الملك كنا نطيعك في مجلس الشورى
فاستمع الينا وخذ بمشورتنا ايها الملك

هو الملك العظيم الذي يسمى قصره ـ الجال ـ أي البيت العظيم، يسن القوانين ويصدر الأوامر وهو كبير القضاة لتنفيذ العدالة الإلهية على الأرض، ويقود جيش الأبطال، هو الذي تتغنى باسمه البلاد، فهو الراعي الحاكم بسيادة سلطته مثل راعي الماشية يتحكم بشؤون ماشيته سواء أن يقودها إلى الحظائر أو إلى المرعى الخصب ومصادر المياه ويجنبها الحيوانات المفترسة، فالرعية مطيعة تسير في أوامره يتحكم بمصائرها، وقد اتخذ هذا اللقب من الطقوس الكهنوتية مثلما اتخذ لقب الهيكل من المعبد، وتوارد هذا المفهوم في الميثولوجيا السومرية حيث تشير أحد الألواح أن دموزي الراعي حكم البلاد ( 36000 ) سنة كما ورد في كتاب ( رمز الراعي في بلاد الرافدين ) لمؤلفه زايبرت، لكن دموزي في الأسطورة السومرية في عصر الآداب يكون ضحية عفاريت الجلا التي مسكنها أعماق باطن الأرض ـ العالم السفلي ـ عالم الأموات المظلم الرهيب، ففي الخريف عندما تكون الأرض جدب تخرج عفاريت الجلا وتقوده بسلاسل حديدية، منهالة عليه ضربا ورفسا وسط بكاء ونحيب بنات الوركاء، فيكون يوم إختفاء دموزي يوم حزن وأسى، ثم يظهر دموزي في الربيع ليعود الخصب والرخاء والفرح، فكل شيء في الوركاء ارتبط في بدايته بمؤسسة كهنوتية ثم تحول إلى ملكية كهنوتية كأيدولوجيا لممارسة السلطة، والتخفي بالآلهة السماوية المتعددة ذات المهمات المختلفة المخولة للحاكم الظالم كما ورد في ملحمة جلجامش وهو من الأسرة الخامسة في الوركاء:
وعلى ضربات الطبل تستيقظ رعيته
لازم أبطال اروك حجراتهم متذمرين شاكين:
لم يترك جلجامش ابنا لابيه
ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
ولكن جلجامش وهو راعي اوروك، السور والحمى
انه راعينا: قوي وجميل وحكيم
لم يترك جلجامش عذراء لحبيبها، ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل
واخيرا سمع الإله شكواهم

فنلاحظ مما تقدم أعلاه أن التمايز الطبقي ظهر في مراحل متأخرة عند ظهور الملكية الخاصة ونشوء الدولة كي تحافظ وتصون مصالح طبقة الملك وأمراء الجيش والموظفين سواء كانوا من حاشية الملك أو الكهنة وفي نفس الوقت كان المحرومون البائسون المستغلون سواء يؤدون عمل السخرة أو خدمات تلك الطبقة السائدة، فهذه الطبقة المضحية التي تمت الإشارة إليها في البداية مستندين على قولي دوستوفسكي وغوتة قد صنعوا التاريخ بأرواحهم، ونعود ونكرر: كم روح زهقت حتى شيد السور العظيم للوركاء. لكن التاريخ يبقى صراع بين الحكام والشعب.

المقارنة بين اسبرطة والوركاء:
1 ـ أن الوركاء أقدم بآلاف السنين من اسبرطة التي لم يطلع ماركس على حضارتها المدنية، ولم يطلع ماركس أيضا على عموم حضارة وادي الرافدين، ولم تجر الاشارة أيضا في فكره إلى الحضارة المصرية أو الصينية أو الهندية، فارتكزت أساسياته على اسبرطة أو بالأحرى على المجتمع الأوربي، لذالك صار فكره أقرب إلى أوربا.
2 ـ أن اسبرطة تبلور فيها المجتمع الطبقي بشكل واضح من خلال الملكية الفردية للعبيد أثناء الحروب والتوسع، وهذا لم يحدث في أوروك بتلك الوحشية التي كن يتبعها الأسبرطيون، وقد حدثت ثورات كثيرة للعبيد في اسبرطة، لكن لم نطلع لحد الآن على ثورات للعبيد في الوركاء.
3ـ كانت ثورات العبيد في اسبرطة هدامة بغية تغير المجتمع وأبرزها ثورة نابيس التي يشبهها بعض الباحثين إنها دعوة للشيوعية التي كان يحلم بها ماركس بينما نجد في لكش يقوم الملك ـ اورو اجينا ـ بثورة إصلاحية لإحياء مجتمع العدالة لكن هذا لا يمنع أن شعب الوركاء كان يدعو الآلهة أن تنقذها من ظلم الملك.
4 ـ أن الملكية تختلف في طبيعتها في الوركاء عن اسبرطة حيث كانت اقرب إلى التعاونية من الإستغلال البشع في اسبرطة.
5 ـ أن الأيديولوجية الكهنوتية لمجتمع الوركاء كانت تتمثل في تعدد الآلهة خاصة بعد التحول من عبادة القمر الذي يمثل المرحلة الرعوية إلى الشمس الذي يمثل الزراعة، فنظامها إلهي كهنوتي سماوي على الأرض يعتمد الأيمان والمعرفة، فهو مقدس، والسومري السعيد هو الذي يرضي الآلهة ورب العائلة هو الرب، والملك هو الإله نفسه، والشيء العجيب أن الميثولوجيا الكهنوتية السومرية تركز على الإتحاد الخصب بين الذكر والأنثى حيث أنكي إله المياه العذبة وننبرساج هي إلهة الأرض، فبهذا الإتحاد المقدس بين المياه والأرض يأتي الإخصاب، ويظهر أن مرحلة الأمومة قد انتهت حينما عير جلجامش في الملحمة عشتار بعشاقها، وصار المجتمع ذكورى إلى حد وقتنا هذا.أما في اسبرطة قد لا يختلف النظام كثيرا عن الأيديولوجية الكهنوتية التي غالبا ما كانت تسخر للقوة والعسكرة والسيطرة على العبيد وما المرأة إلا أم الأبطال.
6 ـ أن اسبرطة دمرت من الداخل بتأثير ثورات العبيد بنما الوركاء فقد دمرت من الخارج أثر الغزوات المختلفة التي تعرضت إليها من قبل المتوحشيين العيلاميين وقبائل أخرى لم يعرف عنهم شيئا ويطلق عليهم ( سوا ).

ونختم هذه الحلقة بعودة إلى كتاب الباحث لطفي حاتم الذي تحدثنا عنه في الحلقة الأولى، ونقتبس منه مقطعا من نص ما يخص هذه الحلقة عن طبيعة الصراع الطبقي إذ يقول:
( أعاد ماركس منظومته الفكرية / السياسية على أساس موضوعة الصراع الطبقي ملخصا اياها بالأفكار التالية:
. لا يقترن وجود الطبقات الاجتماعية إلا بمراحل تاريخية محددة من تطور الإنتاج )
....................................
...................................)
أما المسألة الثانية والثالثة الواردة في النص فستكون في متناول الحلقات القادمة.

حمودي عبد محسن
4 . 5 . 2013