المجنونة


محمد باليزيد
2013 / 4 / 27 - 14:32     

دخل مخدع الهاتف وركب الرقم:
- ألو مدام.
- ألو، من على الخط؟
- صباح الخير مدام، خادمكم الفقيه سليمان.
- صباح الخير فقيه. كيف حالك؟
- الحمد لله. أنا هنا بالمدينة.
- سأكلم الخادمة لتستقبلك في المنزل. وابق هناك وسألحق بك بعد قليل. وإياك أن تتعب من انتظاري.
- حاشا مدام. خيركم علينا كثير.
- إلى اللقاء...
انقطع الخط ولم يستطع الفقيه وضع السماعة.إنه ما يزال يسمع صدى تلك الكلمات يتردد في الخط. كم هي ظريفة هذه المدام. سبحان الله. يستحيل أن يخمن المرء أن اسي الجلايدي، الرجل الذي أمضى عمره في خدمة السيد الباشا الگلاوي، وفي أصعب مهمة، يمكن أن تحتفظ بعد معاشرته عقودا أية امرأة بمثل مزاج المدام ولطافتها وفطنتها وكل مواصفاتها. وتذكر قصة المحجوبة بنت علال من مسقط رأسه هو.
٭٭٭٭٭٭٭٭٭
في العشرينات من عمره. تقدم الشاب محمود ابن المعطي الجزار وخطب شابة في الثامنة عشرة من عمرها، تدعى المحجوبة بنت علال. كانت المحجوبة فتاة نابغة تمدرست إلى حدود المستوى السادس بتفوق يندر مثيله. ولأنه لا وجود لمدرسة إعدادية في القرية، والمركز الحضري المحتوي على إعدادية يبعد عن القرية بحوالي ثلاثين كيلومترا وطرق غير معبدة. ونظرا لعدم وجود دار للطالبات بالمدينة اضطر علال، رغم تفوق ابنته أن يجعل مصيرها كمصير كل بنات قريتها اللواتي يحدد لهن هدف واحد من التمدرس: أن يعرفن كيف يقرأن ويكتبن رسالة. حاول بعض معلمي المحجوبة تشجيع أبيها واقترحوا عليه حلولا، خوفا منهم من ضياع نباغة هذه الفتاة. كأن تقيم المحجوبة عند عائلة أحد هؤلاء المعلمين، وتطوع بعضهم تشجيعا منه لعلال، ووعده بمساعدته ماديا في كل ما يتعلق بدراسة المحجوبة. لكن علالا لم يستطع أن يدخل تجربة ما دخلها أحد قبله قط ويرسل ابنته إلى المدينة.
تزوج محمود المحجوبة وقضت معه حوالي سنتين. كان خلالها محمود كجل شباب القرية يهاجر إلى البيضاء ولا يقضي في القرية إلا أسبوعا أو أسبوعين مرتين أو ثلاث مرات في السنة. بعد السنتين تلك، توفي المعطي. ولأن محمود هو أكبر إخوته، ارتأى، كما نصحته بذلك أمه، أن يستقر في القرية ويشتغل بمهنة الجزارة. وهكذا يرتاح هو من الذهاب والإياب طول السنة ويتمكن من رعاية إخوته الصغار. فلا بد للدار من رجل والرزق على الله كما قالت أمه.
بعد أن أخذ الحزن على الأب المعطي يتوارى خلف الأيام شيئا فشيئا. بدأت المحجوبة تشعر بالدفء العائلي وتسعد بوجود زوجها إلى جانبها وتتساءل في نفسها: "كيف تعتبر نساء القرية، وهي مثلهن قبيل قليل، أنفسهن متزوجات وهن في وضع المطلقات؟ كيف يمكن لامرأة لا ترى زوجها إلا بضعة أسابيع في السنة أن تحبه، وهي التي لم تكن قد أحبته قبل الزواج وربما لم تكن رأته حتى؟
لكن لسوء حظ المحجوبة ومحمود معا لم تطل أيام السعادة هذه. ففجأة، بدأت المحجوبة تشمئز وتتقزز وتبدي شعورا لم تعرف كيف تفسره في الأيام الأولى كلما اقترب منها محمود. ثم بعد ذلك صرحت له أنها، كلما اقترب منها تشم فيه رائحة الدم. لم يأخذ محمود في الأول كلامها مأخذ الجد نظرا لحبه لها وتيقنه من حبها له. كذلك لم يدع نفسه تتهم المحجوبة بأي سوء قصد كيف ما كان. لكن حينما رأى أن الأمر بعيد عن أن يكون هزلا، وفهم من تصرفها أن شعورها من الأعماق. فرض على نفسه المرور بالحمام كل يوم قبل ملاقاتها. وإذا اضطر إلى العودة للبيت لغرض ما قبل أن ينهي يوم عمله فإنه يحاول ألا يلتقيها ويتعمد أن يطلب ما أراد من أمه أو من أحد إخوته. لكن بدل أن يحل المشكل بهكذا تفهم من طرف محمود. صارت الأمور تزداد تعقيدا، وبدأت المحجوبة تتهرب من فراش الزوجية بكل الأعذار. وقبل أن يشتكي محمود لأمه من تصرف المحجوبة، فهمت الأم ما يجري . إذ أنها على علم مسبق بأن ابنها يحاول دائما أن لا يلتقي بزوجته إلا بعد الاستحمام. وهكذا أخبرت أم محمود أمَ المحجوبة كي يتداولا في الأمر قبل أن يشتكي محمود لأنه، كما قالت أم محمود، إذا انتظرنا حتى يشتكي فلا ندري ماذا سيحصل.
تذكرتا كلتاهما التفاهم والسعادة اللتان كان الزوجان يعيشانها. والحب المتبادل الذي ما يزال محمود وفيا له، ولولاه لكان تصرفه غير ما فعل. واتفقتا، خاصة بعد أن أرغمت أم محجوبة ابنتها على أن تصرح لها بسبب كراهيتها لزوجها، فقالت مكرهة: "أماه، كنت في البداية أشم فيه رائحة الدم ثم صرت كلما اقتربت أنفاسه من أنفاسي أتصوره بسكينه يهوي بها على رقبة ثور أو كبش والحيوان المسكين يحملق بعينيه وهو يجر السكين من الأذن إلى الأذن محملقا بدوره في عيني الحيوان. ثم أجدني أكاد أختنق من رائحة الدم المتخثر. وقد حدث أن تقيأت مرتين تحت أنفاسه..." ثم اغرورقت عيناها بالدموع وضمتها الأم إلى صدرها وبكتا وقالت الأم بعد أن هدأتا من البكاء: ”لم يخطئك ظنك بنيتي. إنها العين، لكنها ليست لا عيني زوجك ولا عينيك ولا عيني الحيوان. إنها عين لعينة بنيتي فحاولي واصبري عسى الله يفَرجها“. اتفقت المرأتان على أن عينا حاسدة دخلت بين الزوجين وأنه لا بد من اللجوء قبل فوات الأوان إلى فقيه، خبير في العين والسحر قصد ”التسبب“ للمحجوبة.
لكن وصفات الفقهاء، كانت كمن يصب الزيت في النار وبقيت الحال تسير من سيء إلى أسوأ، والمحجوبة يزداد توترها. فمرة ترفض طقوس التسبب، ومرة تضرب عن رؤية الناس والطعام وتبقى حبيسة غرفتها طول النهار. حتى إذا وصل الليل تسللت من غرفتها إلى غرفة أخرى لتبيت فيها. وبضع مرات سبت وشتمت الفقيه وهو يقرأ على البخور بحضور أمها وحماتها... حتى يئس من حالتها فأصبح الكل يحسبها مجنونة لا أمل في علاجها واضطر محمود لطلاقها.
ورغم أنها، بعد الطلاق في منزل أبيها، لم يحك أحد أنه صدر عنها أي تصرف يوحي بأنها ما تزال "مجنونة". إلا أن لعنة الناس أبت أن تعفو عنها وبقي الناس، عدا أهلها، ينعتونها بالمجنونة.
مقتطف من رواية "في كهوف عصر الآقمار، الجزء الأول: التقييدة"
لمحمد باليزيد