سندان السلفية ومطرقة دعاة تطبيق القانون


محمد المثلوثي
2013 / 4 / 18 - 22:16     

في كل مرة تتصاعد فيها موجة الاحتجاجات، في كل مرة يكشر فيها الفقراء عن أنيابهم ويطوّرون نضالاتهم من أجل فرض مطالبهم الحيوية في مواجهة منطق الاقتصاد الرأسمالي القائم على الربح والمنافسة وما يسمى بالمردودية الاقتصادية، تبدأ عجلة الدعاية في الاشتغال بهدف إعادة الجمهور المنتفض الى حضيرة النظام السائد وحضيرة الدولة وكل أجهزة التدجين الاجتماعي من النقابة الى المسجد ومن المدرسة الى الجمعيات والأحزاب... فما من شيء يرعب هذا النظام الاجتماعي المتفسخ أكثر من انفلات حركة الشغيلة وعموم المهمشين والمعطلين عن الضوابط المرسومة لهم سلفا وعن القنوات المعدة لهم لتصريف غضبهم في "كنف التعبير السلمي والحضاري" وفي إطار "احترام القانون" وبدون "تعطيل الاقتصاد" وبدون "الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة"... وما من شيء ينزل الرعب في قلوب السياسيين أكثر من كسر الجماهير لاحتكار العنف من طرف الدولة وأجهزتها القمعية. لذلك فإنهم، وبقدر ما يتنازعون فيما بينهم على السلطة، نجدهم صفا واحدا من أجل "فرض احترام القانون" ومن أجل "دولة القانون والمؤسسات" وضد العنف "مهما كان مأتاه"... ولأنهم لا يرغبون في الظهور بمظهر المعادي للنضالات الاجتماعية التي تخوضها الجماهير (وهم في الواقع معادون لها)، ولأنهم يريدون وضع ساق في مستنقع النظام السياسي (كسلطة أو كمعارضة) وساق في الحركة الجماهيرية باعتبارها رصيدا انتخابيا قابل للاستثمار، فإنهم يستعملون أكثر الحيل قذارة وأكثر أساليب المناورة دهاء. فهم من جهة يعبرون عن "تعاطفهم مع المطالب الشرعية للجماهير" و"مساندتهم للتحركات المدنية والسلمية"، وإذا كانوا في السلطة فإنهم يعبرون عن "تفهمهم لمطالب الأهالي"، من جهة أخرى يقولون بأن شرعية تلك المطالب لا تبرر "وقف آلة الإنتاج" أو "قطع الطرقات وتعطيل مصالح المواطنين" ولا تبرر مواجهة قوات القمع و"الاعتداء على مقرات السيادة" و"تهديد السلم الأهلي"... وفي اللحظة التي يشعر فيها أولائك السياسيين "الجوعى" للسلطة، حسب تعبير أحد زعماء المعارضة الراديكاليين، أن حركة الجماهير قد تجاوزت الخط الأحمر، الخط الذي ستعصف بعده الجماهير بكل المؤسسات والأطر التي تكبل حركتهم، وتتجاوز القوانين الموضوعة لوقف هيجانهم الثوري، فإنهم يُخرجون من طيات مؤامراتهم ودسائسهم فزاعات هم صناعها لتحويل وجهة الصراع وتشويه الحركة الثورية وتوجيهها نحو صراعات بين أقطاب النظام نفسه. فإذا كانت السلطة، لتبرير قمعها، تنسب كل حركة احتجاجية "لأزلام النظام البائد" و"بقايا التجمع" أو لأحزاب المعارضة التي "تتآمر على الشرعية" أو "العصابات الإجرامية المنظمة"... فان "المعارضة" وجدت لهم عدوا اسمه "السلفيين"، ووجدت لهم أهدافا اسمها "الحفاظ على النمط المجتمعي" وعلى "مدنية الدولة" والدفاع عن "المكاسب الحداثية" في مواجهة "المد الوهابي"، وعن "مجتمع الوسطية والاعتدال" ضد "التطرف اليميني واليساري"، وباسم مقاومة "السلفية" تتآلف السلطة والمعارضة تحت قبة "تطبيق القانون على الجميع"، والتطبيل لآلة القمع البوليسي تحت أكثر الشعارات تضليلا: "الأمن الجمهوري" و"الجيش الوطني الشعبي". وهكذا يحاول هؤلاء الساسة حرف حركة الجماهير من ميدانها الفعلي، أي النضال ضد النظام الاجتماعي الذي يسحقهم، الى ميدان غريب عنهم، ميدان يتحول فيه الى وقود للنزاعات بين أجنحة هذا النظام ذاته، وقود لإعلاء هذا الطرف وكسر شوكة الطرف الآخر، لكن في الأخير لإبقاء واقع البؤس والاستغلال قائما.
إن "السلفية" ليست عدوا إلا بالقدر الذي تمثل فيه هي نفسها جزءا من النظام السائد، وعنصرا مكونا من عناصر تلجيم حركة الجماهير في حدود تقديس الأساسات العامة التي يقوم عليها هذا النظام بالذات. ف"السلفية" إضافة لكونها تلعب دور تخريب وعي الشغيلة وعموم الكادحين، من خلال إقناعهم بقدسية الملكية الطبقية الخاصة، وقدسية الحكم السياسي للبشر تحت مبررات دينية، فإنها تمثل أداة مثالية لخلق استقطابات وهمية بين مسلمين/كفار، هوية/علمانية، خلافة/ديمقراطية...الخ، وهي استقطابات تهدف الى حجب الاستقطاب الاجتماعي بين الطبقات الفقيرة والمهمشة وبين طبقة مالكي وسائل الثروة والدولة وكل حشراتها البيروقراطية. وليس غريبا أن هذه "السلفية" (وهنا نتحدث عن المجموعات المنظمة) تجد في هذا الطرف البورجوازي أو ذاك الممول والداعم وفق متطلبات حروب المنافسة بين الأقطاب الرأسمالية المحلية والعالمية.
لكن تحويل "السلفية" الى غول سيلتهم المجتمع، وتهديدا يستوجب "الوحدة بين القوى التقدمية والديمقراطية"، أي جر الشغيلة وراء قطب بورجوازي (ليبرالي ناعم) في مواجهة آخر (فاشي)، هو من جهة يعمي الفئات الاجتماعية المسحوقة عن حقيقة "السلفية" بصفتها الوجه الآخر لنظام الاستغلال الرأسمالي، وبصفتها مجموعة سلطوية لا تختلف عن بقية الأحزاب والمجموعات السلطوية الأخرى إلا بخطابها المتزين براديكالية يمنية دينية، وهو من جهة أخرى محاولة بورجوازية تقليدية لصناعة طرف (فاشي) تلصق به كل كوارث النظام السائد، لتبرئة النظام ككل من جرائمه اليومية، بحيث يتم إقناع الشغيلة ومن ورائها كل الفئات المسحوقة بأنهم بدل النضال ضد السبب العميق لبؤسهم، أي ضد الرأسمالية وكل آلياتها الاقتصادية التي أثبت تاريخها الطويل أنها لا تنتج غير الفقر والبطالة والتهميش للجزء الأعظم من المجتمع في مقابل مراكمة الثروة لرجال الأعمال وطفيليي الإدارة البيروقراطية للدولة، بدل النضال ضد ما يدمر حياتهم يوميا باسم "الاقتصاد الوطني" و"دعم القدرة التنافسية لمؤسساتنا" و"الحفاظ على مناخ الاستثمار"...الخ، بدل مواصلة نضالهم الثوري وتطويره باتجاه تجاوز هذا النظام الاقتصادي الذي لا يهدد قوتهم وقوت أبنائهم، بل يهدد حياة البشر نفسها بكوارث التلوث والأمراض وسوء التغذية وحتى المجاعات، بدل ذلك فإنهم يحاولون إقناعهم بأن عدوهم هو "السلفية"، ويتم حشر كل مظهر من مظاهر التمرد الاجتماعي في خانة "السلفية"، وبذلك يتم تشريع كل أشكال القمع، وتبرير استعمال القوانين "الفاشية" من قانون الطوارئ ومنع التجول وصولا الى تشريع استعمال الرصاص الحي.
إن الفاشية هي فاشية النظام الرأسمالي بكل ممثليه السياسيين من يمين ويسار وليبراليين واشتراكيين ديمقراطيين يحاولون إقناع الفقراء بأن تأميم هذه الشركة أو تلك، وإجراء هذا الإصلاح أو ذاك، وتقديم منحة اجتماعية للعاطلين أو إعادة رسكلة النظام الجبائي أو حتى الترفيع الشكلي في الأجور واستبدال أفراد "فاسدين" بآخرين "نزهاء" باسم إصلاح القضاء والإدارة والبوليس...يمكن لهذا أن يفض مشاكل الفقر والبطالة والأزمات والإختلالات بين الطبقات والجهات. والديكتاتورية الحقيقية في الواقع هي ديكتاتورية قانون القيمة وتوجيه الاقتصاد نحو الربح بدل تلبية الحاجات الفعلية للبشر. والإرهاب الفعلي واليومي هو إرهاب الدولة من البوليس والمحاكم والسجون الى مؤسسات التدجين الاجتماعي من التلفزيون الى حلقات الدعاية الحزبية. فالخطر المحدق بالإنسانية اليوم ليس "السلفية" بل الكارثة الرأسمالية وما تحضره البورجوازية العالمية من حروب ونزاعات من أجل إرضاء نهمها للأرباح.