البيئة المدرسية : عامل طرد ام استيعاب؟


عبد جاسم الساعدي
2013 / 3 / 30 - 13:13     

تعد المدرسة وحدة اجتماعية وتربوية وثقافية في محيط اجتماعي له مقومات وعناصر معينة، تؤشر الى الحركة والنمو والتفاعل، والى الخوف والعزلة.
والمدرسة لا تعني فضاء المبنى ومساحته وحجمه، بقدر ما تستوعبه من طاقات وافاق لبناء الإنسان والمجتمع، فمنها وبها تنشأ الأجيال ويظهر الإبداع وتتفتح المواهب، وتتكون القيادات السياسية والعلمية والثقافية والمدنية.
الا ان هذه الوحدة الاجتماعية شديدة التأثر والحساسية بما حولها من مكونات ومؤثرات متنوعة، فأما ان تكون ايجابية فاعلة وحيوية في إثارة الأسئلة النقدية والمعرفية واما ان تميل الى الهدوء والانزواء حتى تفقد عناصر وجودها.
ولقراءة واقع المدرسة وامكانات التغيير لتكون اكثر استيعابا وحضورا في العملية التربوية والثقافية، اعددنا استبانة لمعلمي ومعلمات المرحلة الابتدائية، شملت سبعة عشر سؤالا مع مساحة حرة لكتابة الرأي، باستطلاع آراء اثنين وثمانين معلما ومعلمة لأربع مدارس في احياء النصر والمعامل والرشاد التابعة لقاطع 9 نيسان.
اشارت الى نوع الدوام المدرسي وعدد تلاميذ الصف وعدد الدورات التدريبية والورش التعليمية التي دعي اليها، وعن القراءة الحرة خلال الشهور الستة الماضية.
وحاولنا التعرف على البيئة المدرسية والعلاقات الاجتماعية والتربوية والنشاطات غير الصفية ودور الإدارة والمعلم والمحيط الاجتماعي وكذلك الإشراف التربوي وحال التسرب عن المدرسة.
لقد اظهرت الإجابات المشتركة حجم المشكلات التي تعاني منها المدرسة، وكان الأكثر إثارة واهمية، هو الدوامات الثلاثية والثنائية في البناية الواحدة، باكتظاظ الصفوف التي يصل بعضها الى تسعين تلميذاً.
واجمع المعلمون في حقل الكتابات الحرة ومعاناتهم الإنسانية والتربوية في عدم امكان التواصل مع التلاميذ وضبط الصفوف الدراسية التي تخرج عن المألوف احيانا، وتسود الفوضى والارتباك اضافة إلى الدروس التقليدية التي لا تطور التلاميذ ولا تكتشف مواهبهم ولاتسمح لهم بالمشاركة لضيق وقت الدرس ايضا الذي لايزيد عن ثلاثين دقيقة.
انهم معلمون في هذه الحال غير مبدعين وتقليديون جدا، ويخضعون لفوضى المبنى والإدارة وغير منتجين بالمعنى الحديث في المشاركة والتغيير وبناء علاقات تربوية اجتماعية ويرسمون صورة في اجاباتهم عن ظاهرة الانطواء والعزلة .
"نعم اكتفي بإلقاء الدروس واخرج، كما لا تتوافر في المدرسة الظروف والبيئة المدرسية الثقافية والاجتماعية ولا اشعر بوجود علاقات مشجعة واجواء ايجابية مريحة من الناحية العلمية والإدارية والاجتماعية والتربوية في المدرسة..."
بلغت نسبة الإجابات بحدود تسعين في المئة، اذا ما وضعنا جانبا نسبة الإجابات المرتبكة والتي تعبر عن الخوف والمجاملة...
ترسم الاجابات صورة حزينة لواقع المدرسة وفضاءات الحركة فيما تختفي النشاطات غير الصفية ودروس المواد الفنية والرياضية بكاملها في المدارس الأربع التي جرت الاستبانة فيها، إضافة الى ممارسة العزل بين الأطفال، فمدارس للبنين واخرى للبنات، وعزل يحدث بين المعلمين والمعلمات احياناً.
والمدرسة في ضوء الإجابات تصبح "طاردة" وعاملا من عوامل الانسحاب والتسرب وعدم الشعور بجدوى المدرسة واهميتها ناهيك عن الضغوط العائلية والاجتماعية على "البنات" حينما يبلغن العاشرة من عمرهن.
ونسوق نموذجا من تسرب البنات في مدرسة اسماء بنت عميس الابتدائية ابتداء من تسجيلهن في الصف الأول الابتدائي العام 2006/2007 حتى مرحلة البكالوريا في السادس الابتدائي، اذ كان عددهن 198 تلميذة ثم تناقص الى 132 تلميذة ونجحن 125 تلميذة وكان عدد الراسبات 15 تلميذة فالمتسربات يبلغن 58تلميذة لتكون نسبة تسرب التلميذات في المرحلة الابتدائية 34% في المئة.
الا ان تسرب البنات في مدرسة "الأخوة" الابتدائية تبلغ نسبة 50%، اذ كان عددهن في الأول الابتدائي 200 تلميذة ويتناقص عددهن كل عام دراسي حتى وصل الى 65 طالبة العام 2013 مع عدد الراسبات.
وتظهر الاستبانة مستويات المعلمين الثقافية والمعرفية ومسؤولياتهم التربوية من خلال سؤالين اثنين هما: عدد الدورات التدريبية والورش التعليمية التي اجرتها وزارة التربية ومديرياتها والثاني عن عدد الكتب التي قرأها المعلم خلال الشهور الستة الماضية...
لم تكن الإجابات عن الدورات التدريبية مقنعة لوجود خلل في توزيع الدورات والدعوة إليها، فيمكنك ان تجد معلماً له من الخدمة خمس عشرة سنة في التعليم، لكنه لم يدع او بمعنى اخر لم يشارك في واحدة منها، وان اخرين يدعون الى الدورات التدريبية بمعدل مرة واحدة كل عام.
ومهما يكن فالدورات كما اجاب عدد كبير من المعلمين لا تتوافر فيها الشروط العلمية وانها بمثابة اسقاط فرض لاغير، ولا تسهم بتطوير المعلم ورفع مستواه العلمي والثقافي اما القراءة واهتمام المعلم بها فإنها تكشف حال التراجع والإهمال، اذ بلغ عدد المعلمين الذين لايقرؤون كتاباً 85% وان النسبة المتبقية لا تخرج عن كتب دينية تقليدية ويلاحظ ان المعلمين بحاجة الى إعادة تطوير وبناء بخاصة في مستويات الكتابة، تكاد تبلغ الأخطاء النحوية والإملائية والأسلوبية نسبة 90% في المئة، حينما كتبوا بضعة سطور في هامش حرية التعبير.
فماذا يكتبون امام تلاميذهم وكيف يقرؤون؟
لابد عندئذ من تنظيم برامج علمية طوال العام الدراسي للمعلمين والمعلمات الاستعانة باساتذة اللغة والأدب من خلال دورات منتظمة لا تقل الواحدة منها عن مدة شهر بتفرغ كامل.
ومن الضروري جدا في هذا الباب، إقامة "مكتبات" مدرسية يشرف عليها احد المعلمين في اللغة والأدب وان تزود بالكتب الحديثة المناسبة لثقافة التحول والتغيير وإعادة بناء الإنسان والمجتمع، بخاصة الثقافة المدنية والقانونية وثقافة النقد والسؤال.
والمدرسة بحاجة الى إعادة تنظيم وإدارة وتوسيع ثقافة المشاركة وثقافة التنوع وثقافة العمل التطوعي لإضفاء طابع العمل الجمعي في تكوين مدرسة خضراء تزهو بتلاميذها... فالمدارس بصفة عامة قاحلة لانبت فيها، وعبر عدد كبير ن المعلمين عن طموحهم بخلق ظروف مدرسية جديدة في توفير وسائل الإيضاح والمختبرات العلمية، والعمل لنشر ثقافة المشاركة وضمان الحرية والتعبير من دون كوابح وتهديدات قبلية او عشائرية...