من العمل الشيوعي إلى العمل السياسي


عقيل صالح
2013 / 3 / 29 - 00:27     

(( البرجوازي الصغير , و هذا يشمل الفلاح , على العكس من البروليتاري يميل نحو الليبرالي أكثر , لأنه أقرب إلى أن يكون مالكاً , منتجاً صغيراً-وضيعاً . و بهذا , من الجانب السياسي , و من وجهة نظر الاشتراكية , سيكون من السخيف جداً و رجعي أن نوحد ما بين البرجوازية الصغيرة و البروليتاريا في حزب واحد .. )) – لينين 1907

يصف لينين التحريفية بأنها : (( نزعة معادية للماركسية ضمن الماركسية نفسها )) – 1908

لابد أن اشير قبل أن اشرع في الكتابة عن هذا الموضوع المهم إلى ورقة الاستاذ كريم مروة حول نهوض جديد لليسار في العالم العربي , فيكتب – ملبياً طلب عبد الغفار شكر – في مقدمة كتاب حوارات مع أطروحات كريم مروة ( نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي ) بتحرير حلمي شعراوي و عبد الغفار شكر : (( لكنني , و أنا أتحدث هنا كإشتراكي بحكم انتمائي التاريخي إلى الاشتراكية فإنني بت أختلف في أمور جوهرية مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس , التي شاخت و صارت جزءأ من الماضي و تغيرت علاقتها بالعصر . لكن اختلافي هذا مع تلك المفاهيم لا يلغي ارتباطي الأساسي بما حلم به ماركس (...) إنني كإشتراكي اليوم بمعنى التزامي بقيم الاشتراكية و بالأساسي من افكار ماركس التي تعطي للحرية و للتقدم و للعدالة الاجتماعية في تلازمها المعنى الذي عبر عنه مشروع ماركس لتغيير العالم, أرى ما سأقترحه من مهمات للحاضر من تاريخنا و للمستقبل لا يتصل , و لا في الشكل و لا في المضمون , بالقواعد التي سادت في التجربة الاشتراكية المنهارة . ))

و يتحدث فيما بعد عن الحقوق و ضرورة إقامة دولة ديموقراطية حديثة , و ثم تحدث عن الفصول الفرعية في كتابه , فعن الفصل الفرعي الثالث يقول : (( أما الفصل الفرعي الثالث فهو يتضمن القضايا التي أعتبرها مهمات اليسار في بلداننا , في الوقت الراهن , أي في هذه الحقبة بالتحديد من تاريخ العالم , و من تاريخ بلداننا فيه و و في الوقائع التي لا يمكن تجاوزها و القفز فوقها .

هذه القضايا و عددها عشرون قضية ألخصها بالعناوين العامة التالية :
1- بناء الدول الديمقراطية الحديثة , دولة الحق و القانون و المواطنة و حقوق الإنسان. و هي بنظري , القضية رقم واحد في البرنامج الذي أقترحه لليسار الجديد.
(...)
5- الإهتمام بالثروة الوطنية على صعيد كل بلد , و الثروة القومية على صعيد البلدان العربية عموماً , لصالح التقدم و سعادة الانسان
6- الإهتمام بالتنمية الاجتماعية , التي تتصل بالإنسان الفرد و الإنسان الجماعة
7- الإهتمام بالضمانات الاجتماعية في كل فروعها , في العمل و في الصحة و في التعليم و في السكن , و في الأمومة و في الشيخوخة إلخ..
(...)
14- الإهتمام بالبيئة ))

أشير إلى هذه المقدمة , لأنها بشكل أو آخر تعبر عن أسلوب عمل أغلب الأحزاب الشيوعية العربية اليوم . هذا الكلام الذي كتبه الإستاذ كريم مروة هو في برنامج الأحزاب الشيوعية العربية سلفاً – قبل ان تكون مطروحة في 2009 - حتى لو أن لم تكن مكتوبة في الورق.

و الحق هو أن تلك الأطروحة تم تطبيقها في أوروبا حالياً بتبني اقتصادات شبيهة بالإقتصاد السوق الاجتماعي التي تضمن العدالة الاجتماعية للإنسان الفرد و الجماعة , هو الاقتصاد الذي أخذ المجرى الوسطي ما بين الرأسمالية و الاشتراكية Third Way .

الإشارة إلى مقدمة كريم مروة هي بعيدة عن الشخصنة و ليست هدفها تشخيص أفكار كريم مروة أو ما شابه ذلك , بل استخدمتها كوثيقة تعبر عن اسلوب العمل الشيوعي ( الذي هو في الحقيقي العمل السياسي-الوطني ) اليوم . بالرغم أن هذه الأطروحة لا تفرض نفسها على الأحزاب الشيوعية الأخرى إلا تلك الأحزاب تبنت تلك البرامج في هذه الاطروحة سلفاً بشكل أو آخر.

الأحزاب الشيوعية , خصوصاً العربية , أغلبهاً تعمل في مجال السياسة أكثر , و إذ يصح القول فهي قامت بأدلجة و تسييس الفكر الماركسي . تخلت عن العمل الشيوعي بسبب إفلاسها الشديد بعد سقوط المنظومة الاشتراكية.

تعمل تلك الأحزاب , بوعي أو دونه , لصالح الاقتصاد الوسطي ما بين الاشتراكية و الرأسمالية , و هو حصراً اقتصاد الطبقة البرجوازية الصغيرة , و الفضل يعود إلى الرفيق النمري في تحديد خصائص Characteristics هذا الصنف الاقتصادي الذي يعتمد على انتاج الخدمات. انتاج الخدمات مثلاً في الولايات المتحدة يصل إلى 79.6% من الناتج المحلي الاجمالي بينما الإنتاج في مجال الصناعة يصل إلى 19.2 % من الناتج المحلي الاجمالي . أما بريطانيا فإنتاج الخدمات يصل إلى 77.8% من الناتج المحلي الاجمالي بينما الانتاج في مجال الصناعة يصل إلى 21.5 % من الناتج المحلي الاجمالي. أما فرنسا فإنتاج الخدمات فيها يصل إلى 78.9% من الناتج المحلي الاجمالي بينما الانتاج في مجال الصناعة يصل إلى 19% من الناتج المحلي الاجمالي. و عندما نأتي لنقارن تلك الأرقام بالإقتصاد الصيني نجد أن إنتاج الخدمات في الصين تصل إلى 43.7% من الناتج المحلي الاجمالي و بينما نجد ان الانتاج في المجال الصناعي يفوق عدد انتاج الخدماتي حيث الانتاج في مجال الصناعة يشكل 46.6% من الناتج المحلي الاجمالي.

تلك الأرقام و الإحصائيات لفرنسا و الولايات المتحدة و بريطانيا تدل على الشح في الانتاج السلعي بسبب التركيز على انتاج الخدمات , هذه هي الحالة الاقتصادية الموجودة عند فحول الرأسمالية و الامبريالية.

تلك الأحزاب تؤيد هذا النوع من الاقتصاد ( دون الإشارة إلى تلك الدول ) الذي يعزز العدالة الاجتماعية و التنمية الاجتماعية و التوزيع العادل للثروات ( الذي لا يمكن ان يحدث ) .

تلك الأرقام ايضاً تدل على أشياء أخرى , و هي أن تلك الأحزاب تحارب رأسماليات و إمبرياليات وهمية , أيّ إمبريالية هذه و بأي تنظير علمي التي لا تصدر فائض انتاجها ؟! اي امبريالية هذه التي يتم التصدير لها فوائض الانتاج من الخارج ؟ . أي رأسمالية هذه التي لا تنتج سلع بما الكفاية ؟ أي رأسمالية هذه التي ليس فيها عمال بروليتاريون بعدد كافي ؟ أي رأسمالية التي لا تعتمد على فائض القيمة كمصدر ربحيتها ؟

تلك الأحزاب تحارب الأوهام . و لماذا ؟

افلست الاحزاب بعد سقوط المنظومة الاشتراكية , فقررت – من اجل استئناف عملها – ان تنتقل إلى العمل السياسي - المحلي - الوطني , و يخرج نفراً من المفكرين من باطن الأرض ليقولوا ان التنمية الاقتصاد المحلي هو الحل , و نفر آخر ليقول الاقتصاد الوطني المستقل هو الحل , و نفر آخر يقول الديموقراطية هي الحل , و نفر آخر يقول أصلاً مشروع لينين كان باطلاً من الأساس و خاطئ من وجهة نظر الماركسية , و هناك من يطالب بالتعويم الإيديولوجي و العودة إلى الحس القومي و إقامة حزب يتضمن كل الاطياف الفكرية .

تلك الأفكار يسارية بحته و لا تمت بصله إلى الشيوعية الماركسية !.

تلك الأحزاب التي تدعي الشيوعية لا تختلف عن الاحزاب اليمينية أو الديموقراطية أو الليبرالية الأخرى , جميع تلك الأطياف بمختلف التسميات تهدف إلى العدالة الاجتماعية و الحق و المساواة , هذا هو العمل السياسي البحت ! .

و لكن بالرغم هذا , فأنها لا تزال (حفاظاً على ماء الوجه) تحارب اليمينيين و الليبراليين و الديموقراطيين , و تدعو فوق هذا محاربة الإمبريالية و تقويض الرأسمالية , و بناء الاشتراكية ! .

هؤلاء على حسب رأيي ترعرعوا على مفاهيم خاطئة جداً التي تقول أن الاشتراكية هي نظام اقتصادي و سياسي و اجتماعي ثابت هدفها تحقيق العدل و المساواة و الحرية و حقوق الإنسان و التوزيع العادل للثروات و العدالة الاجتماعية . و لهذا نجدهم عندما يهاجمون الاشتراكية السوفييتية دائماً يشيرون إلى حقوق الانسان و الحرية , إعتقاداً بشكل خاطئ ان تلك المصطلحات تنتمي إلى الاشتراكية .

تلك المفاهيم لا شك تعززت بعد إقامة حزب الشعب كله و دولة الشعب كله في الاتحاد السوفييتي الذي قوض كل حس ثوري اشتراكي في الاحزاب الأخرى.
و الحق هو أن تلك الأفكار ليست حديثة و لم يؤسسها خروتشوف , بل كانت موجودة بشكل واسع في الأممية الصفراء ( الأممية الثانية ). قادة الاممية الثانية مثل بيرنشتاين و لاحقاً كاوتسكي فضلوا الديموقراطية البرجوازية على ديكتاتورية البروليتاريا , فمشاركة الطبقات الأخرى في الحكم و إعطائها الحق في الحركة و التعبير تقوض و تطمس مبدأ الصراع الطبقي و تستبدل هذا المبدأ بمبدأ التوافق الطبقي.

العمل السياسي في الأحزاب الشيوعية اليوم يسير على مبدأ التوافق الطبقي , و إقامة العدالة الاجتماعية و المساواة .

سلفنا و قلنا أن العمل الشيوعي الحالي هو تحديد العدو الطبقي و كيفية العمل ضده . لكن لا تنفك تلك الأحزاب من تحديد الطبقة الرأسمالية المتجسدة في الولايات المتحدة التي تطبق مشروعها التوسعي و الصهيوني هي العدو اللدود (!!) , بينما هو ذاك البرجوازي الصغير الذي ينتج الخدمات على عاتق العمال و يقبض اجراً على اساس مدى تقديمه للخدمة - المعرفة الذي يتعدى بأشواط من القيمة الحقيقة لتلك الخدمات التي لا تضيف أي ثروة للمجتمع , هو الذي ينهب العمال بشكل لا يصدق , هو الذي يصرخ بأعلى صوته بأنه من يحقق (( دولة الرفاه )).

الأحزاب الشيوعية الحالية لا تفعل سوى ترديد مفاهيم قديمة التي لا تثري العمل الشيوعي اليوم.

ليس هناك فقط من تخلى عن العمل الشيوعي من أجل العمل السياسي , هناك أيضاً من تخلى عن الفكر الماركسي ليتبنى أفكاراً يسارية في ضمن إطار الماركسية , و يجدر بنا القول ان هذه النزعة ليست جديدة بل قديمة و قد حذر لينين منها.

أنها نزعة خطرة جداً , و لا نقول هذا لأننا نقدس النصوص , بل نجد أن هذه النزعة تعرقل كل شكل من الأشكال تقدم العمل الشيوعي.

تطوير الماركسية , ليس سوى مفهوم يعبر عن الإفلاس الشديد بعد سقوط المنظومة الاشتراكية , تعبيراً واضحاً عن الفهم الغير صحيح لجوهر الماركسية الديالكتيكي المتطور على الدوام , هؤلاء ينفصلون عن الماركسية بكل شكل من الأشكال تحت راية الماركسية نفسها.

الماركسية متطورة سلفاً و لا تحتاج إلى من يطورها !.

الماركسيون لا يخشون النقد و لا النقد الذاتي , و هم أول من يرحبون بالنقد , و لكن لن تقبل هذه النزعات التي تبحث عن تقويض الماركسية من محتواها العلمي الصرف.
هؤلاء يطورون الماركسية و فقاً "لمعايير العصر " - كما يدعون – كأنما توجد ماركسية العصر القديم و ماركسية العصر الجديد , نسأل هؤلاء هل هناك ماركسية تريدون أن تأسسونها للمستقبل ؟ هذا هو الفهم الاجوف للفكر الماركسي الصعب.

من المهم جداً نشر الوعي الماركسي الحق , و تقويض بكل شكل من الاشكال حفظ الكليشيهات الجاهزة التي تمنع أي ماركسي من تحليل الأمور بشكل مثالي تاركاً المنهج المادي الديالكتيكي .

العمل السياسي الذي استبدل بالعمل الشيوعي ليس سوى نتاج للفقر الفكري الذي تفوح رائحته العفنه اليوم , الإنتقال من العمل الشيوعي إلى العمل السياسي يضلل العمال نحو نفق طويل مظلم لا مخرج منه.