الأنوثة المغلولة ..


رشيد قويدر
2013 / 3 / 17 - 14:54     


الحياة أنثى، الموسيقا الغناء القصيدة أنثى، الماء الجمال الرقّة أنثى، أعناق يليق بها الياسمين، لا سكين المطبخ أو طلقة بالرأس وباسم "الشرف" أو "العار" البغيض.
المرأة العربية والشرقية عموماً باتت تقتحمها "ثقافات" بعيدة كل البعد عن الدين، مجتمعات متأسنة، باتت أرصفتها قطعان نساءٍ سود مجلببات بلا روح، فالواحدة هي مجرد رأس في القطيع، وجمال المرأة "عورة"، والجمال والثقة ضدان، من موقع النظرة الدونية؛ فهي وفق هذا الحال بلا أحاسيس ... بلا خيال ... بلا ملامح، واللذة ليست جسداً ينبض، بل وعاء تفريغ لـ "الفحولة"، والرجولة "مقدسة" في الزواجات الأربعة، وبعيدة عن أي تهمة بالدنس ...
المرأة هي بداية التاريخ المدني للعالم، بداية نُويات الاستقرار الحضري، وهي اليوم في هذه المجتمعات مغتصبة العقل والروح. إن مجرد "الرجولة" بمواصفات "الفحولة" البدوية من المتوارث كقيّم بدم وثقافة الذكورة، والسارية في المجتمعات المتأسنة؛ تتيح لها أن تفعل ما تريد، ومَنْ شاء فليقرأ مقدمة بن خلدون فيما ورد "ما بين الربع الخالي وصحراء النفوذ"، أو مذكرات جون فيليبي (الشيخ عبد الله فيليبي) في ذات الأمر، وسداسية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، وكتاب كلوب باشا "اللواء الصحراوي" ...
شاءت البداوة بعد أن دخلت "تحضرها" بالبترودولار؛ بل شاء مخيالها الذكوري أن تستلئم بـ "ألاتكيت"، كديك بين قطيع دجاج، وهي تنأى بنفسها عن ارتكاب الخطيئة (!) وقد أضافت على الأنوثة اغتصابات واستباحات بأصناف النساء ببعدها الأممي، مستعيدةً عصرها الأول للغلمان والقيّان والجواري الحسان والليالي الملاح، عندما دخلت المدن الراسخة بحضارتها المدنية، وفي عصر المعلوماتية مستفيدةً من الفضائيات، فسراة حُظوة المخدع؛ يستعرضون همجية الجنس على واقعه المزري، ثم ستر الدنس الأنثوي للمحظيات، بإخصاء العبيد من الأحلاس، الرجولة المتوهجون كالنحاس، مع فارق كبير يذكر بـ "عُطيل" شكسبير (أوتلو)، باعتبار أجساد هؤلاء العبيد مثاراً للمخيال الجنسي للبغايا "المصونات"، فمفهوم الرجولة يحددونه بذلك العضو الذكري الذي سيتحول إلى مجرد قطعة لحم، لا قيمة له سوى أنه أداة تفريغية ليس إلاّ ... فهل الرجولة تتحدد بهذا العضو (؟!) أم أن هواجس ومخيال خوف صاحب الحظوة من الإنجاب، والخوف على وراثة السلطان والمال ..، نتساءل هنا حول مفهوم "الرجولة والفحولة، وقد مرَّ على التاريخ العربي في مجتمعاتها المتحضرة والمدنية؛ ملكات وأميرات في اقوامهم، موصوفات بالجمال والإرادة والحكمة، وقد قدنا مجتمعاتهن المزدهرة آنذاك ضد امبراطوريات قطبية..(!)
طالما أن "الشرف" يتحدد بالجسد، والضحية أنثى، فهي إما أن تتجلبب؛ أو تتبرج على إحدى الفضائيات المنتشرة كالفطر، تتبرج كسلعة وفق النظرة الغربية تحت قانون السوق بالعرض والطلب، وعرض أجزاء من إثارتها، بدلاً من الحرية الحقيقية للمرأة، والمساواة الكاملة المرتبطة بالوعي الحقيقي للدور والذات ...
نحتفي اليوم بالمرأة في عيدها ... والمرأة بحد ذاتها عيد، وهذا كله في واقعنا المتأسن لا يلغي أن هناك نساءً طليعيات أفذاذ بامتياز إنساني عام وأنثوي حقيقي خاص، بمتضمنات الضرورات التاريخية، في مواجهة المجتمعات الذكورية المغلقة، توغلن عميقاً في الأنثوي الموؤود، نحو الحياة السويّة السليمة وانتصاراً لحرية الإنسان وحقوقه ...
نتناول هذه المعضلة من موقع الانحياز الماركسي وترجمته للتاريخ، وتفسير العلاقات الاجتماعية وما يتواشج معها من تداخلات ليبرالية وقوى السلطة، من وجهة القراءة لكل حقبة زمنية، حيث تظهر المفاهيم و"التابو" الممنوع، في صراع بين المعرفة والسلطة، في سياق شبكة حاكمة من العلاقات، ضد تمظهرات الأنوثة على قلتها، والتقسيم الجنسي للعمل، كما تُقرُّها تأسيسات الهيمنة. وحين تكون هناك اختراقات أنثوية للتغيير، تغدو في حالة احتدام وقمع حين محاولتها اختراق القشرة، حيث لن تترك السلطة الذكورية؛ الأنثوية حرة الحركة، وقبل أن يتواصل مضمونها الأنثوي بالسياسي، لتبدأ مرحلة رعب وقمع متواصل للتدجين، وصولاً إلى الاندماج والعيش ضمن حركة الواقع المرسومة لها، معاكساً للحركة النسائية في الغرب.
وعلى وجه العموم لم تستوعب الأنثوية العربية دروس الفهم السياسي للهيمنة البطريركية وشبكتها وطبقتها المتراكمة، وماذا يعني اتصالها بالعمق السياسي، وماذا يعني لها القمعيّن: القمع السياسي السلطوي، والقمع الذكوري الاجتماعي العام، والمستند إلى تاريخ طويل من المَحْق والمصادرة والتسلط الذكوري ...
وعليه؛ لا تغدو مطالب المرأة العربية سوى المطالب العامة بصيغتها السياسية المذكورة، باعتبارها إطاراً لحريتها، في سياق النضال من أجل الحريات العامة، وهذا على العكس عما تتوجه له الماركسية التي تبدأ بحرية المرأة والمساواة في الحياة والعمل.
إن العقلية الشرقية ممثلةً في شهريار، بأن تمتلك شهرزاد في كل ليلة قصيدة أو قصة مُرفِهة، أو تكون دماءها مداداً لتقييمات رفاهية نصها ... خطابها ... روايتها ... قصتها ...
في واقع حرماني لأنظمة صارمة ... وللضغوط الاجتماعية المتعددة، تقع الأنوثة بين رغبة معلنة ورغبة مقموعة، فالقوانين الناظمة ذكورية ماحقة، والمعاناة لا منطقية ولا إنسانية، ولما ينبغي أن تكون عليه الأنوثة، وانسجامها مع المواصفات المطلوبة ذكورياً، أما الحفاوة بها فهو من موقعها الإقصائي هذا، فهو بسبب الانصياع أولاً، وثانياً من المباهج التي يقدمنها للذكورة ...
إن المطلوب هو أن تتشكل ذاتها في ضوء الرغبات المقموعة التي تطوِّقها، طالما أن أغبى رجل من الرجال هو أقدر من أي ألمعية نسائية (!) والمطلوب منها استجداء هذا الرأس البائس، بشكوى ذليلة تنتهي محصلتها بالانصياع..
أما إذا حضرت المرأة الباذخة في جمالها وإثارتها، ترى الذكورة مجسدة في سلبية ملاحقاتها واستجداءاتها وتوسلاتها، لكن في سبيل مناطقها (الجسد) في أحسن الأحوال لا في سبيل رأسها، فبالنسبة له إنها بلا رأس ...
كم من النساء يحتفلن بجمالهن لجمالهن، يتعطرن لروحهن، وللاحتفاء بالجمال الإنساني، أم هي للرجل الذي يتوغل به الماضي السحيق، بالسلفية المعتقة والموروثات، كما للمشاعر المستباحة البعيدة عن التعاون العقلي والروحي الجسدي.
في القرن الحادي والعشرين نرى العداء التاريخي لهؤلاء اليوم ضد أُمّ كلثوم لأنها "سافرة وعورة"، ولكن مجسداً في تمثالها، حيث يضعون على رأسها قطعة من القماش، المرأة التي وحّد صوتها العرب من الماء إلى الماء، فهم ضدها وضد كل رموز التنوير والإبداع النسائية، كما أنه لا يقتصر فقط على الجانب الإبداعي، فهو موقف "غريزي" عام من المرأة، طالما أنها ليست سوى جسد، يرتمي في فلك الاشتهاء الغريزي، وصولاً إلى منع المرأة المصرية من المشاركة السياسية في الأحداث والأنشطة المعارضة، وإرهابها عن طريق مجموعات مدرّبة تقوم بالتحرش والاغتصاب في التظاهرات ...
حين استهوت الذكورة الصحراوية الألوهية، امتطت السماء لتأكيد سرمديّتها، وأولت ونازعت الرَّب في عليائه ... ثم تذابحت على لحم الوليمة ... تجمعت حول دمها ودخانها كالذباب ... واقع اغتصابي لم يعرف حبيبة ... يمتصّ منها رحيق الحياة ... بدلاً من أُلوهيته وهو بين الرمل والسماء الزرقاء ... مفتوحاً على ملأ القبيلة في كل فتوح ومعاشرة، حتى بات الدمُّ ماركة عربية بامتياز ... من دم البكارة ... إلى أوردة الأعناق ...