عِبَرُ الثّوَرَات العَربية


عبد الرحمان النوضة
2013 / 3 / 14 - 19:34     

فهرس هذه الوثيقة :
1 - بعض الملاحظات العامّة حول الثورة. 3
1.1 - أنماط الثورات. 3
1.2 - الإلمام بالثورة. 4
1.3 - تقييم الثورة. 4
1.4 - تعريف الثورة. 4
1.5 - الثورة صيرورة مُمتدّة، وليست لحظة سريعة. 6
2 - أهمّ الدروس المُستنتجة من ثورتي تونس ومصر. 6
2.1 – الثورة دائمًا حَبْلَى بالمُفاجآت. 6
2.2 - هل نجاح الثورة مشروط بالعنف ؟ 7
2.3 - هل تقوم الطبقة العاملة بدور قيادي في كلّ الثورات ؟ 13
2.4 - من يقود الثورة، وكيف ؟ 15
2.5 - الأهمية الحاسمة للنضال الجماهيري السّلمي المُشترك. 16
2.6 - ما هي الطبقات المُجتمعية التي خاضت الثورة ؟ 18
2.7 - كيف كان دور الأحزاب في الثورة ؟ 19
2.8 - كيف تتعامل الأحزاب الإسلامية مع الثورة ؟ 22
2.9 - على من يمكن أن يعتمد الشعب ؟ 29
2.10 - هل أطروحة المؤامرة صحيحة ؟ 31
2.11 - ما هو دور وسائل الإعلام ؟ 32
2.12 - هل القمع ينجي الدولة من الثورة ؟ 32
2.13 - أي دور للجيش في المجتمع ؟ 32
2.14 - لماذا يمكن أن تتحوّل الدولة إلى نقيضها ؟ 33
2.15 - هل خلق أحزاب مُوالية للدولة يقيها من الثورة ؟ 37
2.16 - هل شكل الدولة هو الذي ينتج الديمقراطية ؟ 37
2.17 – ما علاقة شعوب شمال إفريقيا بالبلدان العربية ؟ 37
2.18 – من أية قِيَم ننطلق، من الطائفية، أم من الإنسانية ؟ 38
2.19 – ما هو الشّعار المرحلي الملائم ؟ 39
3 - ما هي العوامل التي تَعُوق قيام الثورة ؟ 41
4 – ما هي العوامل التي تُشجّع على الثورة ؟ 42
5 - ما هي مهام اليسار المُستعجلة ؟ 43
6 - مُلخّص أوضاع الأنظمة العربية، بين سنتي 2010 و 2012. 45



حدثت حركة شعبية، احتجاجية، وثورية، تحوّلت لاحقًا، وبشكل مُفاجئ، إلى ثورات، في تونس، ومصر، في شهر يناير 2011، وامتدّ تأثيرها بسرعة إلى عدة بلدان أخرى (مثل اليمن، والأردن، والمغرب، وليبيا، وسوريا، والبحرين، إلى آخره).
وطموح المواطنين في بلدان أخرى (مثل المغرب، والجزائر، إلى آخره) إلى ثورة ديمقراطية، هو العامل الذي يدفعهم إلى محاولة الاستفادة من ثورات تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا. ولا نعتبر هته الثورات «نموذجنا الوحيد» في مجال الثورة المُجتمعية، وإنّما نعتبرها تجارب ثمينة، يجب إضافتها إلى مجموعة التجارب التي نهتدي بها، أو نتعلّم من إيجابياتها، و نستفيد كذلك من سلبياتها.
ولا يمكن في نصّ قصير (مثل المقال الحالي) أن نستعرض مُجمل أحداث ثورات تونس ومصر، وليبيا، وسوريا. لأنها كثيرة ومعقّدة. كما لا يمكن أن نتناول أسباب هذه الثورات، ولا إشكالاتها، ولا مُعوّقاتها. بل نفترض أن القراء يعرفون هذه القضايا (عبر وسائل الإعلام مثل الانترنيت، أو الجرائد، أو قنوات التّلفزة، أو الكتب). ونُركّز فيما يلي فقط على محاولة استخراج بعض الدروس الأولية التي يمكن أن تفيد الحركات المُناضلة أو الثورية.
وفي المقال الحالي، نركّز على ثورتي تونس ومصر، ونتفادى أكثر ما يمكن الكلام عن ثورتي ليبيا وسوريا، لأننا نُفضّل غَلَبَة الجانب السّلمي في ثورتي تونس ومصر، ونتحاشى التدمير المُتبادل الذي يُؤدّي إليه العنف، أو الحرب الأهلية، في ثورتي ليبيا وسوريا.
كما نتجنّب الخوض في ثورة اليمن، نظرًا للتّعقيدات التي نتجت عن تحريف هذه الثورة عن مسارها الثوري. حيث أُجْهضت هذه الثورة من طرف «الحلّ التوافقي» المزعوم، الذي فرضته المملكة السّعودية، ودولة الإمارات الخليجية، والولايات المتحدة الأمريكية، عبر غطاء مجلس الأمن ، التّابع لِ منظمة الأمم المُتّحدة . وكان جوهر هذا «الحلّ التّوافقي» هو تنحية الرئيس المُستبد علي عبد الله صالح عن السّلطة (في 23 نوفمبر 2011)، لصالح نائبه عبد ربّه هادي منصور، مقابل منح الرئيس السابق حصانة كاملة، وإيقاف الثورة، واستمرارية النظام السياسي القديم، دون حلّ الحزب الحاكم السّابق (مثلما حدث في ثورتي تونس ومصر)( ). وذلك رغم ما ارتكبه علي عبد الله صالح من جرائم واضحة، واختلاسات معروفة. وبعد مُرور سنتين على اندلاع الثورة اليمنية، لا زال أنصار علي عبد الله صالح يحتلّون مراكز قوية في الوزارات، والإدارة، والشرطة، والجيش، إلى آخره. والاحتمال الأكبر هو أن الثورة كانت ستنجح في اليمن لَوْ لم تتدخّل السعودية، والإمارات، والولايات المتحدة الأمريكية. وهذه الدول المذكورة، فضّلت خدمة مصالحها الخاصة على حساب مصالح شعب اليمن، وهي التي حرمت الشعب اليمني من تحقيق ثورته، ومنعته من إنجاز تحرّره الديمقراطي والوطني.

1 - بعض الملاحظات العامّة حول الثورة.
وفي المقال الحالي، نفترض كذلك في القارئ أنه يأخذ بعين الاعتبار الملاحظات العامّة التالية حول كل ثورة :
1.1 - أنماط الثورات.
على خلاف بعض الآراء، لا يوجد نموذج واحد للثورة. بل الثورات هي أنواع وأصناف. والعناصر التي تُحدّد نوع كل ثورة هي : نوعية المجتمع المعني، ومكانه، وزمانه، وظروفه، ومستوى تطوّره. فَلاَ تتشابه الثورات فيما بينها، بل تختلف عن بعضها البعض، إلى درجة أننا لا نستطيع العثور، عبر كلّ التاريخ، على ثورتين تتشابهان في مجمل مظاهرهما. وعدم وجود نموذج مثالي واحد للثورة، يفرض بأن لا نحاول تقليد أية ثورة ماضية مُحدّدة، بل علينا أن نتكيّف، وأن نُبدع، حسب ظروفنا المُجتمعية والتاريخية الملموسة.
1.2 - الإلمام بالثورة.
كل خطاب عن ثورة مجتمعية محدّدة، لا يقدر على الإلمام بجميع جوانب هذه الثورة. لأن كل ثورة مُجتمعية تتضمّن جوانب مُعقّدة، وكثيرة جدّا، إلى درجة أنه يصعب على أي مُفكّر كان، أو أي خطاب كان، أن يستوعب كلّ مظاهر ثورة مُحدّدة. (وبالتّالي، فمن الطبيعي أن لا يتناول المقال الحالي كلّ جوانب ثورات تونس ومصر).
1.3 - تقييم الثورة.
كلّما طلبنا من جماعة من الملاحظين أن يُعطونا تقييمًاتهم عن ثورة مُجتمعية مُحدّدة، فإن التقييمات المُقدّمة حولها ستكون بالضرورة مُختلفة، ومُتفاوتة فيما بينها. وحتى الأشخاص الثوريون، أو المؤرّخون، الذي عاشوا بشكل مباشر ثورة مُحدّدة، يختلفون بالضّرورة في تقييماتهم لهذه الثورة، وذلك حسب مواقعهم الطبقية، أو حسب نوعية فكرهم. (وبالتّالي، فمن الطبيعي أن يختلف القارئ مع بعض التقييمات الواردة في المقال الحالي. ومن المأمول أن تتكامل مختلف هذه التقييمات).
1.4 - تعريف الثورة.
هل ما حدث، خلال بداية سنة 2011، في كلّ من تونس ومصر، هل هو ثورة، أم انتفاضة، أم تمرّد، أم عِصيان مدني ؟ إنه ثورة ! ولماذا ؟ لأنه أطاح فجأة برأس السّلطة السياسية القائمة في المجتمع ! ولأن هذه الأحداث أدخلت هته المجتمعات في صيرورة من التغييرات المُتلاحقة. وما هي إذن الثورة ؟
من الصعب جدّا إيجاد تعريف شامل لمفهوم الثورة المُجتمعية، يُعبّر عن مجمل التغييرات والحركات الدّيناميكية التي تحدث عادة خلال الثورة المُجتمعية. وعلى خلاف بعض الظّنون، لا يتغيّر المجتمع فقط خلال الثورة، بل يتغيّر باستمرار، على امتداد سيلان الزمان. لكن سرعة تغيير المجتمع تظل خلال فترات التاريخ العادية بطيئة جدّا، إلى درجة أن مواطني المجتمع المعني يشعرون كأن مجتمعهم مُستقرّ، ولاَ يتبدّل.
وميزة الثورة ، هي بالضبط أن تغيير المُجتمع يتسارع كثيرًا خلال فترة الثورة. لذا يمكن أن نعرّف الثورة المُجتمعية كما يلي : الثورة في مجتمع مُحدّد هي سلسلة من الأحداث المُتلاحقة، والمُترابطة، والتي تُنتج تغييرات مُجتمعية كيفية، أو جذرية، بشكل مُتَسَرّع، ومُتلاحق، خلال فترة تاريخية وجيزة نسبيا (يمكن أن تعدّ بالأيام، أو بالأسابيع، أو بالشّهور)، وتشمل هذه التغييرات ميادين ودوائر مجتمعية مُتعدّدة (مثل التّقاليد، والفكر، والاقتصاد، والسّياسة، ومؤسّسات الدولة، إلى آخره)، وتُغيّر على الخصوص شَكل أو مضمون الدّولة، أو الحُكم، أو السّلطة، أو النظام السياسي القائم.
وغالبًا ما تُشبه الثورة «الزّلْزَال»، أو «الهزّة الأرضية»، حيث تتخلّلُها «زَلْزَلة رئيسية» قوية، و«هزّات ثانوية»، مُتعدّدة، ومُتلاحقة، مع مَا يصاحب تلك «الهزّات» من نضالات، وصراعات، وتغييرات، ومُراجعات، وتقويم، وتحطيم، وإعادة بناء، وإبداعات، إلى آخره. ويمكن أن توجد «الزَّلْزَلة الرئيسية» في البداية، أو في الوسط، أو في الأخير. وقد تكون المُدّة الزمنية التي تفصل بين مختلف «الهزّات» تُعدّ إمّا بأيّام، أو بأسابيع، أو بِشُهور، أو حتّى بعدة سنوات.
1.5 - الثورة صيرورة مُمتدّة، وليست لحظة سريعة.
بعد مرور قرابة سنتين على بداية الثورة في تونس ومصر، لا زال مخاض هذه الثورة في حالة غليان. ولا زال الصراع السياسي والفكري مُحتدما بين القوى الثورية والمحافظة. ولا زالت طموحات الشعب الأساسية، وإشكالات الثورة الكبرى، لم تحسم بعدُ بما فيه الكفاية. وبالتّالي، تُذكّرنا ثورتي تونس ومصر، بأنه لا يصح اختزال الثورة في انهيار سريع لنظام سياسي بأكمله. بل الثورة هي تغيير مُجتمعي، يمكن أن يَتسارع تارةً، ويمكن أن يتباطأ تارةً أخرى. وَمُجمل الثورات ليست مُجرّد لحظة وجيزة, تحدث خلالها تحوّلات كيفيّة، على مستوى النظام السياسي، أو المجتمع، وتُحسم خلال بضعة أيام، ثم ينتهي كل شيء. وإنما الثورة هي صيرورة معقّدة وعسيرة، طويلة الأمد، تتلاحق خلالها أحداث، وصراعات، وصدامات، وتذبذبات، وتغييرات ثورية. ويُمكن أن يمتدّ فعل الثورة على طول شهور، أو سنوات، أو عُقود مُتواليّة.


2 - أهمّ الدروس المُستنتجة من ثورتي تونس ومصر.
تَحُثّ الثورات الحديثة، التي وقعت في تونس ومصر، على مراجعة استيعابنا لبعض الأطروحات في مجال «نظرية الثورة»، لأن هذه الثورات حدثت بشكل مخالف لبعض التصورات القديمة، وخاصة منها تصوّرات الماركسية اللّينِينية. أو لِنَقُل على الأصحّ، أن هذه الثورات تَدْحَض الفهم «الدّوغماتي» (dogmatique) الذي فَهِم به بعض المناضلين بعض أُطْرُوحَات الماركسية. ونستعرض في ما يلي أمثلة على التّقويمات التي تستوجبها هذه الثورات :
2.1 – الثورة دائمًا حَبْلَى بالمُفاجآت.
من الأكيد أن توفّر كلّ فاعل سياسي على «نظرية ثورية» (في مجالات المُجتمع، أو التاريخ، أو الاقتصاد، أو السياسة)، يمكن أن يُسهّل عليه فهم الثورة المُجتمعية، أو تهيئها، أو إنجاحها. لكن تاريخ الثورات عبر العالم يُبيّن، في غالب الحالات، أن الثورة تُفاجئ الجميع. بل تُفاجئ حتى الثوريين الفاعلين أنفسهم. حيث لا تخضع الثورة المُجتمعية لنظرياتهم، ولا تُطابق تنبّؤاتهم. وعلى خلاف بعض الاعتقادات، لا يمكن لأي حزب أو جماعة، أن ينجز ثورة مُجتمعية طبقًا لتصور مُسبق، أو طبقًا لنظرية ثورية، يكون ذلك الحزب قد بلورها من قَبْل. لأن الثورة المُجتمعية غالبًا ما تكون مُعقّدة، وغنيّة بالمُفاجآت، إلى حدّ أن هذه الثورة تفرض على جميع مُكوّنات المُجتمع أن تغيّر أفكارها، وتصوراتها، وحِساباتها، ومناهجها، وسُلوكياتها، وتحالفاتها، وبرامجها، أثناء صيرورة الثورة نفسها.
2.2 - هل نجاح الثورة مشروط بالعنف ؟
كان جِيل مناضلينا بالمغرب، خلال سنوات 1970, يعتقد أنه يستحيل حدوث أيّة ثورة مُجتمعية ديمقراطية بدون اللجوء إلى استعمال «العنف الثوري»، أو «الكفاح المُسلّح»، أو «حرب التحرير الشعبية». وكان هذا الإعتقاد ينبني على سَنَدَيْن. السّند الأول نابع من التجربة بالمغرب، وهو الوعي باستحالة إصلاح النظام السياسي الاستبدادي القائم آنذاك. وهذا الوعي كان صحيحًا. والسند الثاني نظري، مُستنبط من الماركسية اللينينية. وهو فهم عقائدي، أو «دُوغْمَاتي» (dogmatique)، وخاطئ، لنظرية الماركسية اللينينية (كما صاغها وروّجها تِيّار يوسف اسطالين وأنصاره). حيث كان هذا الفهم يستنتج من نظرية الماركسية اللينينية قاعدة مُطلقة تقول أنه «يستحيل تحقيق أيّة ثورة بدون استعمال العنف الثوري». والمقصود هنا هو العنف كوسيلة رئيسية في خوض وحسم الثورة. وهذا الموقف السّابق المُطلق (absolu)، يتناقض مع النهج الجدلي المَرِن، الذي نجده لدى روّاد الفكر الثوري (مثل كارل ماركس، أو افْرِيدْرِيش إنجلس، أو فلاديمير لينين، أو مَاوُو تْسِي تُونْغ، إلى آخره). حيث كان هؤلاء الرّواد يُنبّهون إلى ضرورة الانطلاق من الواقع، وينهون عن الانطلاق من نُصوص، أو من تصورات فكرية، جاهزة، مُسْبَقَة، أو قَبْلِية. وكانوا يصرّون على ضرورة التحليل الملموس للواقع الملموس. فإذا كان العنف الثوري ضروريًّا في بعض الثورات، فإنه قد يكون غير ضروري في ثورات أخرى، وذلك حسب درجة نضج الظروف الملموسة في كلّ مجتمع مُحدّد.
وفي المغرب مثلا، وخلال سنوات 1970، كان يسار حزب الاتحاد الوطني للقُوّات الشعبية ، والفصائل الثلاثة السّرية المُكوّنة للحركة الماركسية اللينينية (وهي : منظمة إلى الأمام، منظمة 23 مارس، ومنظمة لِنخدم الشعب)، كانوا يؤمنون بضرورة «العنف الثوري»، أو «الكفاح المُسلّح»، أو «حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد»، أو «القواعد الحمراء المُتحرّكة». وفي 3 مارس 1973، انطلقت محاولة لغرس «الكفاح المُسلّح»، في جبال الأطلس، في خَنِيفرة، وأَحْفِير، ومولاي بُوعزّة، وأماكن أخرى. وكان يقودها محمد البصري، ومحمد بَنُّونَة. وقُتل خلال معاركها الأولى على الأقل 3 مناضلين، و 7 أفراد من قوى الأمن. وتلتها مئات الاعتقالات. وقُدّم 157 معتقلا للمحكمة العسكرية. ونفد حكم الإعدام في 15 محكوم بالإعدام( ). وبعد هذه التجربة السريعة، الفاشلة, والمُؤلمة، اضطر عدد من المناضلين بالمغرب إلى مُراجعة بعض تصوراتهم القديمة المُبسّطة حول «العنف الثوري»، وحول حيثياته.
وبعد ذلك، جاءت الثورة السّلمية بزعامة الفقيه الخميني في إيران (بين سنوات 1963 و 1979). وما يهمّنا في هذه الثورة، ليس هو تأطيرها الإيديولوجي، أو قيادتها، من طرف رجال الدّين (الإسلام الشيعي)، وإنما هو كونها أسلوبًا سِلميا ناجحا في مجال الثورة. ونوعية التطوّرات الاستبدادية ، أو غير الديمقراطية ، التي حدثت في إيران، بعد مرور سنوات على بداية هذه الثورة، لا يُلغي أهمية الأساليب النضالية التي استعملتها هته الثورة في بدايتها.
ثم جاءت الثورتين السّلميتين في تونس، وفي مصر (في بداية سنة 2011). وأثبت هذه الثورات (في إيران، وتونس، ومصر)، أنه يمكن لِمُظاهرات سِلميّة، ومُتواصلة، أن تُسقط نظامًا سياسيا مُستبدّا، دون الحاجة إلى استعمال «العنف الثوري»، أو «الكفاح المُسلّح». (وَوُجُود، وَلَوْ مثال واحد، من هذا الصّنف من الثورات السّلمية النّاجحة، يُثبت خطأ الأطروحة المُطلقة التي تَدّعي أنه «من المستحيل إنجاح أية ثورة مجتمعية بدون استعمال العنف الثوري»).
وطرح بعض المناضلين أن : «ما وقع في الرّبيع العربي ليس ثورات، لأن هته الثورات لم تُغيّر علاقات الإنتاج». وهذا الرأي ينسى أنه يستحيل تغيير علاقات الإنتاج بين عشية وضحاها. بينما لا زالت ثورتي تونس ومصر في بدايتهما. ولا يُدرك هذا الرأي أن الثورات أصناف، وذلك في ارتباط بمُستوى تطور المجتمع المعني. فطبيعة الثورة (في البلدان العربية) في المرحلة التاريخية الحالية هي أنها «ثورة وطنية ديمقراطية شعبية»، وليست «ثورة اشتراكية». وتهدف إلى استكمال التحرر الوطني، وبناء الديمقراطية، وتعميم حقوق المواطنة، وحقوق الإنسان. ولا تهدف بعدُ إلى الانتقال بعلاقات الإنتاج من الرأسمالية إلى الاشتراكية. لأن صنف الثورة الاشتراكية يتطلب شروطًا أخرى، على مستويات تطور المجتمعي، ونمو الاقتصادي، وقوى الإنتاج، والوعي الطبقي، والتنظيم السياسي، والفعل الثوري، إلى آخره.
وطرح مناضلون آخرون أن «هته الثورات العربية ليست ثورات سلمية ناجحة لكي نقول بإمكانية قيام ثورات سلمية». وفي حالتي ليبيا، وسوريا، نتفق على أن «العنف الثوري»، أو «الكفاح المُسلّح»، مُورس في هاتين الثورتين، وذلك لاعتبارات قاهرة ومعروفة. بينما في حالات تونس، ومصر، واليمن، فإنها بقيت على العُموم «سِلْميّة»، ولو تخلّلتها بعض الصّدامات الثانوية العنيفة، والتي لا ترقى إلى درجة الحسم في الثورة عبر الاستعمال الواسع ل «الكفاح المُسلّح»، أو الأسلحة النارية، أو القنابل المُتفجّرة، وما شابهها. ونعتبر هته الثورات «ناجحة» نسبيا في تونس، ومصر، وليبيا، (وإلى قدر محدود في اليمن). ولماذا ؟ لأن هذه الثورات أطاحت برأس النظام السياسي الاستبدادي، وفتحت إمكانية تغييره بشكل جذري، ولو أن هذا التغيير لا زال هو نفسه مشروطًا بِصِراعات سياسية لاحقة، قاسية، ومُعقّدة، وغير مضمونة النتائج.
أّمّا في حالة ليبيا، فقد كان كل تَعبير عن مُعارضة نظام القائد معمّر القدّافي مُحرّمًا، وممنوعًا. ويعاقب عليه بالاعتقال، أو بالقتل. لذلك بدأ مُباشرةً الحراك الشعبي في ليبيا (في 13 فبراير 2011) بهجوم انتحاري على قاعدة عسكرية في مدينة بنغازي، وذلك بهدف الحصول على أسلحة. وتلتها صدامات مُسلّحة، وقُتل خلال 4 أيام منها قرابة 174 من بين المتظاهرين. وانتهت هته المعارك الأولية بتحرير بنغازي.
وأمّا في حالة سوريا، فقد كانت في البداية، المظاهرات المُحتجّة، أو المطالبة بإسقاط النظام، كانت سلمية تمامًا. ولم يكن المُتظاهرون في البداية ينوُون الانتقال إلى استعمال العنف الثوري. فحاول نظام بشّار الأسد المُستبد قمعها بفرقه البوليس الخاصة. وانتشرت الاعتقالات، والاختطافات، والتعذيب. ولَمّا فشل في إيقاف هته المظاهرات السّلمية بواسطة البوليس و البَلْطَجِية ، سارع النظام المستبد إلى استعمال الجيش، والرّصاص الحي، والإعدامات الخارجة عن القانون. وبعد تكاثر الضحايا بين صفوف الشعب، اضطرّ الثوار، سواءً في ليبيا، أم في سوريا، إلى استعمال الأسلحة العسكرية للدفاع عن أنفسهم، وعن الجماهير المنتفضة. وفي حالتي ليبيا وسوريا، أصبح اللّجوء إلى العنف الثوري مشروعًا، بل ضروريًا. لأنه غدا مسألة حياة أو موت. وانتشر هذا العنف في البلاد إلى أن تحوّل إلى حرب أهلية. وحسمت الثورة بالأسلحة، أو بالكفاح المُسلّح( ).
والشرط الأول لنجاح الثورة السّلمية، هو أن تكون المُظاهرات جماهيرية، ضخمة، حَاشدة، احتجاجية، ثورية، سِلميّة، مُتكرّرة، ومتواصلة( ). حيث تَدُوم هذه المظاهرات، ليس فقط خلال أيام، ولكنها تتكرّر، وتتواصل، خلال عدّة أسابيع، أو عدّة شهور، إلى أن ينهار النظام السياسي المُستبد. والشرط الثاني هو أن تكون شروط الثورة المُجتمعية قد نضجت بما فيه الكفاية (مثلاً على مستويات الوعي، أو النضج السياسي العام، والتنظيمات الجماهيرية النضالية، إلى آخره). وفي مثل هذه الحالات، يصبح ممكنًا إسقاط نظام سياسي استبدادي، حتّى وَلَوْ كان هذا النظام يظهر قويّا، أو راسخا، أو مستقرًّا، أو مُدعّمًا من طرف قوى الإمبريالية العالمية. وحتّى ولو كان ميزان القوى بين هذا النظام والشعب يظهر لصالح النظام.
ويكتسي هذا الدرس أهمّية ثمينة. لماذا ؟ أولاً، لأنه توجد دائما في كل مجتمع، قوى ثورية، أو جذرية، أو متطرّفة، تعتقد أنه يستحيل إنجاز أي إصلاح ديمقراطي، أو تغيير اشتراكي، إذا لم نستعمل «العنف الثوري»، أو «الكفاح المُسلّح». وثانيا، لأن اللّجوء إلى استعمال «العنف الثوري»، داخل مجتمع تتصارع مُكوّناته بشكل حادّ، يمكن أن يُشعل بسهولة نار «حرب أهلية» (مثلما حدث في ليبيا، ثم في سوريا، خلال سنتي 2011، و 2012). وغالبًا ما يكون تفجير «حرب أهلية» سهلاً، بينما إنهاءها يكون صعبًا جدّا. وإذا كان الانقلاب العسكري سريعًا، فإن الحرب الأهلية تظل بطيئة. وغالبًا ما تدوم الحرب الأهلية طويلاً. وحتى إذا كان حسمها سريعًا، فإن مفعول خرابها يدوم كثيرا.
ويُؤدّي هذا الاستعمال الواسع للعنف إلى انتشار التّقتيل المُتبادل، والتدمير، والتّخريب. وينهار الإنتاج والاقتصاد. كما يُحْدِث داخل جماهير الشعب عذابات مُوجِعة، وفظاعات وحشية، ومعانات حزينة. وفي ظلّ العنف المُتبادل، تصبح حياة المدنيّين صعبة، أو مستحيلة. حيث ينعدم الأمن، والسلامة، والماء، والكهرباء، والأكل، والعلاج الطبي، إلى آخره. فيظهر «أمراء الحرب». ويسهل تدخّل القوى الإمبريالية. ويلجأ المواطنون إلى البلدان المُجاورة. وغالبًا ما لا يستطيع بعض المناضلين الشباب تصوّر أصناف المُعانات التي يؤدّي إليها استعمال العنف الثوري، إلاّ بعدما يسقطون بلا رجعة في متاهاته المُذهلة.
أليس مُدهشًا أن يكون بعض المناضلين الشباب، المُتحمّسين للدّفاع عن العنف الثوري، هم أولائك الذين لم يسبق لهم أن سقط بين أيديهم قريب جريح، ينزف دَمًا، ويَحتضر، أو جُثّة ضحية ميّتة وهامدة، من بين أحبّائهم ؟
بينما يمكن لِمُظاهرات حاشدة، سّلمية، ومُتواصلة، أن تُجنّب الشعب معظم هذه المُعانات التي يمكن أن تنتج عن العنف (مثلما تأكّد في ثورات إيران، وتونس، ومصر). كما يمكن لهذه المظاهرات السّلمية أن تحقّق نفس التغييرات السياسية الجذرية التي ينتجها العنف الثوري، لكن مع اقتصاد في شَلاّل الدّم، وفي حجم الخراب في البنيات التّحتية، وفي اللّوائح الطّويلة للموتى، والمفقودين، والمعطوبين، والمُعوّقين. فمهما كان النظام السياسي استبداديا وشرسًا، فإنه سيسقط حتمًا إذا استمرت قرابة 70 أو 80 في المئة من الشعب في التظاهر السّلمي، أو العصيان المدني، أو الإضراب العام، على امتداد أيّام أو أسابيع أو شهور، وهي تطالب برحيله، ولا تتراجع أمام قمعه أو حِيَله.
والغريب في حالة اليمن، أنه كانت غالبية القوى المُتواجدة داخل الشعب اليمني حريصة على تجنّب السّقوط في حرب أهلية، رغم احتدام الصّراعات السياسية، ورغم أن قُرابة 14 مليون شخص من بين 24،7 مليون من سّكان اليمن، يتوفّرون على قطعة سلاح. وقد يكون السبب في التشبّث بالنضال السّلمي يرجع إلى التجربة المُرّة للحرب بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي، خلال سنة 1994.
أليس الأفضل هو أن نحاول فرض الديمقراطية، كلّما أمكن ذلك، بأصوات الشعب، وليس برصاص البنادق ؟
2.3 - هل تقوم الطبقة العاملة بدور قيادي في كلّ الثورات ؟
كان جيل مناضلينا بالمغرب، خلال سنوات 1970, يعتقد أنه يستحيل حدوث أيّة ثورة مُجتمعية ديمقراطية، إذا لم تكن هذه الثورة «خاضعة لقيادة حزب الطبقة العاملة». وكان جيلنا يعتقد أن الطبقة العاملة هي «الطبقة الطليعية»، أو «الأكثر ثورية في المجتمع». وكان جيلنا يميل إلى تأجيل تهيئ أيّة ثورة، أو المشاركة فيها، إلى أن ينتهي من عملية بناء «حزب الطبقة العاملة». بينما بقيت مُحاولات تجدّر الحركات الثورية داخل الطبقة العاملة عسيرة جِدًّا، وذلك لاعتبارات مُتعدّدة، ومُعقّدة.
وهذا الاعتقاد (المذكور سابقًا) هو أيضا فهم دوغماتي خاطئ للماركسية اللينينية. لماذا ؟ لأنه إذا كانت الظّروف الموضوعية للطبقة العاملة تُؤهّلها فعلاً لكي تكون ثورية، أو طليعية، فهذا لا يعني أن الطبقة العاملة تكون دائما، في كل مكان، وفي كل زمان، ثورية، أو طليعية. بل يمكن لوعي الطبقة العاملة، ولتنظيمها، ولفِعلها السياسي، أن يكون تارةً مُتقدّما، كما يمكنه أن يكون تارةً أخرى مُتوسّطًا، أو ضعيفًا، أو مُتدنّيا، أو مُتخلّفا، وذلك حسب الظروف المُجتمعية والتاريخية القائمة. ويمكن أن نقول شيئا مُماثلا حول طبقات الشعب الأخرى.
ولكي لا يُقَوّلني البعض ما لم أقله، فإن معنى هذه الملاحظة، ليس هو أن الماركسية اللينينية خاطئة بِرُمّتها، أو مُتجاوزة، ولكن معناها هو أن الفهم الدوغماتي للماركسية اللينينية هو الخاطئ. فَلا يصحّ أن نردّد مقولات الماركسية اللينينية إذا لم نستوعب جيّدًا مجمل حَيْثِيّاتها. زيادة على أن أوضاع الطبقة العاملة المُعاصرة تختلف نسبيا عن أوضاعها أيّام كارل ماركس، ولو أن الاستغلال الرأسمالي لم يتغيّر في جوهره. وإذا كان إيجابيًا أن نسترشد بالنظرية الثورية في تفكيرنا، فإنه يتوجب علينا، في نفس الوقت، أن نُخضع هذه النظرية للفحص، والمُراقبة، والتدقيق، والإِغْنَاء. والجوهر في الماركسية هو الانطلاق من الواقع الملموس، وليس من نصوص مُسبقة أو قَبْلية، ولو كانت نصوصًا ماركسية. والماركسية اللينينية ليست عِلمًا، وإنّما هي فلسفة نسبية. فلا يصحّ أن نُحوّل الماركسية اللينينية إلى قرآن جديد. والفهم الدوغماتي هو الذي يُفْرغ هذه النظرية من مُرونتها، ومن جَدَلِيّتها، ويُحوّلها إلى قواعد مُطلقة، أو جامدة، أو ميكانيكية.
وخلال مرحة تاريخية مُعيّنة، يمكن مثلا أن تكون فئات من طبقة الذين لا يستغِلّون ولا يُسْتَغَلّون، أو من طبقة المُستغِلّين الصّغار، أو من طبقة المستغِلّين المتوسّطين، واعيّة، وتقدّمية، أكثر من الطبقة العاملة، أو من طبقة المُستغَلّين. كما يمكن أن تكون فئات مُجتمعية أخرى أكثر ثورية من الطبقة العاملة. الشيء الذي لا يُلغي إمكانية أن تعود الطبقة العاملة، في مراحل أخرى لاَحِقة، فتصبح ثورية، أو طليعية( ).
وبتركيز، فإن ثورتي تونس ومصر نجحتا في إسقاط رأس نظام سياسي استبدادي، دون أن تكون هاتين الثورتين خاضعتين لقيادة حزب الطبقة العاملة. وأثبتت ثورتي تونس ومصر أن انطلاق ثورة، ذات طموحات ديمقراطية، ثم نجاحها في إسقاط نظام سياسي استبدادي، لا يتوقّف بالضرورة على توفّر شرط وجود حزب الطبقة العاملة، ولا على توفّر شرط وجود قيادة هذه الثورة من طرف حزب الطبقة العاملة. (وَوُجود، وَلَوْ مثال واحد، من هذا الصّنف من الثورات الطموحة إلى الديمقراطية، يُثبت خطأ الأطروحة الدوغماتية التي تدّعي عكس ذلك بشكل مُطلق).
صحيحٌ أن النقابة العمالية المركزية في تونس إلتحقت بالثورة ودعّمتها، وساهمت في إنجاحها. لكن أحداث الثورة في تونس، لا تثبت أن مشاركة هته النقابة العمّالية في الثورة كانت من مستوى يتجاوز بشكل كيفي مشاركة كل القوى الأخرى المتواجدة في المجتمع التونسي. ويمكن إبداء ملاحظة مماثلة حول النقابات العمّالية في حالة ثورة مصر. فلم تأت الضربة القاضية في الثورة من الطبقة العاملة وحدها، وإنما جاءت من تعاون وتكامل جهود فئات وطبقات متعدّدة من الشعب.
وصحيحٌ أيضًا أن الثورة لم تنته بعدُ، ولم تستكمل كلّ مهامّها، سواءً في تونس، أم في مصر (وكذلك في اليمن، وفي ليبيا، وفي سوريا). لكنّها حقّقت الانتقال من وضع مُجتمعي راكد، إلى وضع آخر مُتحرّك، ومُخالف كيفيّا.
2.4 - من يقود الثورة، وكيف ؟
أثبتت ثورتي تونس ومصر أن اندلاع ثورة، ثم نجاحها في إسقاط رأس نظام سياسي استبدادي، لا يتوقّف بالضرورة على توفّر هذه الثورة على قيادة موحّدة، أو مركزية، تتجسّد مثلاً في شخص زعيمٍ، أو في جماعة مُعيّنة، أو في حزب ثوري مُحدّد. (حيث لا يظهر، في ثورتي تونس ومصر، أن حزبًا ثوريًا، أو تحالفًا حزبيا ثوريا، هو الذي قاد هاتين الثورتين). وقد تظهر هذه الملاحظة كأنها تُزكي النزعة الفَوْضَوِية (anarchisme). لكن نِيّة الكاتب تخالف ذلك. ونسجّل في نفس الوقت أنه لم يسبق لنزعة الفوضوية أن أثبتت عبر العالم أنها قادرة على تهيئ ثورة مجتمعية وإنجاحها. ورغم هذه الملاحظة، نؤكّد، وبدون أدنى تردّد، أن توفّر حدّ أدنى من التنظيم المُنضبط، وتوفّر قيادة جماعية مركزية، كُفئة وثورية، يُسهّل نمو حركة الثورة، ويقوي حظوظ نجاحها. بينما انعدام هذا التنظيم، أو غياب هذه القيادة الجماعية، أو نقص الانضباط، يضعف هذه الحظوظ بقدر كبير.
وتجارب مُجمل الثورات الكبرى القديمة المشهورة، مثل الثورة الفرنسية في سنة 1789؛ والثورة الروسية في 1905, ثم في فبراير وأكتوبر 1917؛ والثورة الصينية بين 1921 و 1949؛ والثورة الفيتنامية بين 1941 و 1975؛ والثورة الكوبية بين 1956 و 1959؛ والثورة الإيرانية بين 1963 و 1979؛ إلى آخره، كانت كلّها تتوفّر على قيادة مُوحّدة، أو زعامة مركزية. بينما ثورات تونس، ومصر، وليبيا، وسوريا، لم توجد فيها قيادة موحّدة، أو زعامة مركزية.
2.5 - الأهمية الحاسمة للنضال الجماهيري السّلمي المُشترك.
من بين أهمّ الأشياء الجديدة، المُبدعة، والإيجابية، التي جاءت بها ثورات تونس، ومصر، واليمن، وكذلك حركة 20 فبراير بالمغرب، نجد النضال الجماهيري السّلمي المُشترك . ويتجسّد في مظاهرات جماهيرية، حاشدة، سلمية، احتجاجية، أو مطالبة بإصلاحات، أو منادية بإسقاط النظام الاستبدادي القائم. وتُنظّم في البداية هذه المظاهرات خلال كل يوم عطلة أسبوعية. وقد تتحوّل إلى مظاهرات يومية، في أكبر ساحة من المدينة المعنية، أو عبر شوارعها الهامّة. وقد تصبح مرفقة بعصيان مدني، أو بإضراب عام. ولم نكن نعرف هذا النوع من النضال، أو نستوعبه، جيّدًا من قبل. وهذا الصنف من النضال يختلف عن النضال التقليدي النقابي، أو الحزبي، أو الجَمْعِي (نسبةً إلى الجَمعية). ويختلف كذلك عن النضال الجبهوي ، لأنه لا يتجسّد في تنسيق بين أحزاب، أو هيئات سياسية مُحدّدة. و النضال الجماهيري السّلمي المُشترك هو أكثر جماهيريةً، وأكثر فعاليّةً، من مُجمل أشكال النضال التقليدية الأخرى (مثل الإضراب المهني، أو الحراك الفئوي، أو المطلبي، أو الجِهوي، أو الطائفي، أو الإثني).
والأعضاء المشاركون في النضال الجماهيري السّلمي المُشترك ، ليسوا هيئات حزبية، أو نقابية، أو جمعية، وإنما هم مواطنون أفراد تقدّميون، (سواءً كانوا ذكورًا أو إناثًا، شبابًا أو مُسنّين، مُتحزّبين أو غير مُتحزّبين، مُعتدلين أو يساريين، إسلاميين أو علمانيين، اشتراكيين أو ليبيراليين، مأجورين أو رجال أعمال، إلى آخره). ويمكن للمواطنين التقدّميّين، متى شاءوا، أن يلتحقوا به، أو أن ينسحبوا منه. المهم أن جميع المشاركين في هذا النضال يتّفقون على شعاره العام، الملائم للمرحلة القائمة، ألاَ وهو في حالة المغرب : «الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، ضد الفساد، وضد الاستبداد». والمشاركون في هذا النضال الجماهير السّلمي المُشترك هم الذين ينظّمون أنفسهم، حسب الأشكال التنظيمية التي تُلائمهم. ويتشاورون فيما بينهم، ويخطّطون أنشطتهم، ويتشاورون فيما بين الأقاليم، ويقرّرون نضالاتهم، وينفّذون اختياراتهم، بشكل جماعي، وذلك عبر لقاءهم في جمع عام، أو من خلال مجالس محليّة، أو لِجان عَمَليّة، أو وَظِيفية، أو مُتخصّصة( ).
وفي المغرب، طرح بعض المناضلين المتحزّبين : « لم تكن حركة 20 فبراير في أي وقت فاعلاً سياسيا» ! مَا معنى هذا التقييم ؟ هل معناه أن حركة 20 فبراير لم تفعل أي شيء ؟ هل يتضايق هذا الطرح من النضال الجماهيري السّلمي المُشترك ، أو يُحاول التقليل من أهميته ؟ حيث أن حركة 20 فبراير تُجسّد نوعًا من بين أنواع هذا النضال الجماهيري المُشترك . فإذا كان المعنى المقصود من ذلك التّقييم هو أن حركة 20 فبراير تختلف عن الحزب، ولا تتوفّر على قيادة ثابتة، ولا على مقرّات معروفة، ولا على برنامج مُدقّق، ولا على انضباط مضمون، فهذا صحيح تمامًا. أمّا إذا كان المعنى المقصود هو أن حركة 20 فبراير عاجزة على القيام بأي «فعل سياسي»، فهذا كلام خاطئ. لأن حركة 20 فبراير حقّقت، ولو بشكل غير مباشر، ما لم تستطع أن تنجزه الأحزاب التقدّمية مجتمعة خلال العشرين أو الثلاثين سنة الماضية. حيث كسّرت نسبيًا حركة 20 فبراير حاجز الخوف من الأجهزة القمعية، وعبّأت جزءًا هامًّا من الشعب، ودفعت بشكل غير مباشر النظام الاستبدادي القائم إلى طرح دستور جديد في 17 يونيو 2011، وتبعًا لذلك، ساقته إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها. ومن المحتمل أنه، لولا وجود حركة 20 فبراير ، لما حصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي على أغلبية الأصوات، ولمَا سمح له القصر الملكي بِتَرَأّس الحكومة. وقد كان من الممكن أن تنجز حركة 20 فبراير أكثر من ذلك (مثلما حدث في تونس، أو مصر)، لَوْ انخرطت أحزاب اليسار في هذه الحركة بفعالية أكبر من تلك التي ساهمت بها. أي أن ما يظهر كأنه ضعف، أو قصور، في حركة 20 فبراير ، هو في الحقيقة ضعف لأحزاب اليسار. لذا نُكرّر أن : النضال الجماهيري السّلمي المشترك هو أعلى مستوى، وأكثر فعالية، من النضال الحزبي الصّرف.
2.6 - ما هي الطبقات المُجتمعية التي خاضت الثورة ؟
الغريب في ثورات تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، هو أن القوى الطّبقية الثورية الرئيسية، التي كانت سبّاقة إلى إشعال الثورة، وإلى الاستمرار في المُشاركة فيها، لم تكن هي جماهير العمّال والفلاحين الفقراء (مثلما كان بِوُسعنا أن نتوقّع، حسب فهمنا الذوغماتي للماركسية). وإنما كانت هي عمومًا فئات غاضبة من الشباب المُتَعلّم في المَدارس في المدن الكبيرة والمتوسّطة، وفئات محرومة من طبقة الذين لا يستغِلّون ولا يُستغَلّون( )، مع وجود مساندة نِسبية من طرف طبقة المُستغَلّين، أو مع مباركة جزء من طبقة المستغِلّين الصّغار، أو من طبقة المُستغِلّين المتوسّطين. أمّا النّخب السياسية التقليدية، فإنها كانت تعارض الثورة، ولم تنزل إلى الميدان السياسي إلاّ بعد انتهاء الصّدامات، أي بعد سقوط الحَاكم المُستبد. وبعدئِذٍ، حاولت هذه النخب السياسية استرجاع تحكّمها في كلّ شيء، وأرادت أن توجّهه لصالحها.
2.7 - كيف كان دور الأحزاب في الثورة ؟
المُدهش أيضا في تجربتي تونس ومصر، هو أن الأحزاب التقليدية، بما فيها الأحزاب التّقدّمية، كانت على العُموم مُفاجأة، أو حَائرة، أو مُتذبذبة، أو متأخرة، في الإلتحاق بصفوف الثورة. ولم تجرؤ في البداية على مُساندة شعار «إسقاط النّظام». وكان مُستوى مُشاركتها في الثورة أقلّ ممّا هو مطلوب، أو أضعف مِمّا هو ممكن. (بل في حالة اليمن، ساهمت فيما بعد هذه الأحزاب التقليدية في إجهاض الثورة، عبر موافقتها على «الحلّ التوافقي» الذي فرضته المملكة السّعودية. وذلك نظرًا لتورّطها في شبكات تَتَلَقّى ريع النفط الذي تُوزّعه السعودية والإمارات).
وفي المغرب مثلا، عبّرت أحزاب تقليدية مثل حزب الاستقلال ، وحزب الاتحاد الاشتراكي ، و حزب التقدم والاشتراكية ، و حزب العدالة والتنمية الإسلامي، عبّرت كلّها عن رفضها لِ حركة 20 فبراير الثورية. بل عارضتها، واحتقرتها. ورفضت أن تُشارك في مظاهراتها.
والأحزاب المغربية الوحيدة التي ساندت حركة 20 فبراير ، وساهمت فيها، هي أحزاب اليسار الأربعة، وهي : حزب النهج ، و حزب الطليعة ، و الحزب الاشتراكي الموحّد ، و حزب المؤتمر الاتحادي . كما أن تيارات صغيرة، أو جماعات ثورية، ساهمت هي أيضا في تقوية حركة 20 فبراير . وقد لعب مناضلُو الجماعات والأحزاب اليسارية دورا فعّالاً في تنشيط حركة 20 فبراير ، وفي دعمها، وفي تقوية تأثيرها. كما أن مناضلين كثيرين غير مُتحزّبين، قاموا، هم أيضا، بدور هامّ في تفعيل حركة 20 فبراير . وتحمّلوا جزءًا من أعبائها. وهذه الاعترافات السابقة، لا تلغي أن أحزاب اليسار كانت، على العموم، غير قادرة على التّأقلم السّريع مع احتياجات حركة 20 فبراير الثورية. ولم تفلح أحزاب اليسار في تطوير فكرها، وتقويم أساليب عملها. لكن النقد البنّاء لأحزاب اليسار لا يُبرّر العداء لها. وكلّ من يسقط في مُعاداة أحزاب اليسار، أو يتهمها ب «الخيانة»، يمكن أن ينحاز إلى جانب النظام السياسي الاستبدادي القائم.
أمّا جماعة العدل والإحسان الإسلامية، فقد ساندت حركة 20 فبراير خلال سنة 2011. لكنها إنسحبت منها وتجاهلتها، منذ نوفمبر 2011، عندما صعد إلى الحكومة أَخُوها حزب العدالة والتنمية الإسلامي. واستفاد حزب العدالة والتنمية الإسلامي من النّتائج التي تسبّبت في إحداثها حركة 20 فبراير , مثل دستور سنة 2011، والانتخابات السّابقة لأوانها (ب 11 شهرًا)، التي مَكّنت هذا الحزب من الصّعود إلى الحكومة. ونَكَرَ حزب العدالة والتنمية واجب الاعتراف بدور حركة 20 فبراير فيما استفاد منه. بل سَلَّطَ فيما بعد، ومن موقع الحُكومة، على مناضلي حركة 20 فبراير ، القمعَ، والهراوات، والضرب، والاعتقالات، والتّهم الملفّقة، والمحاكمات غير العادلة، والعقوبات السِّجْنية القاسية. واعتقل أزيد من مِئة مناضل من حركة 20 فبراير . واتّهَمَهم البوليس بِتُهم إجرامية كاذبة بهدف نزع صفة المعتقلين السياسيين عنهم. وأسقط من مناضلي حركة 20 فبراير عدّة شهداء.
وطرح بعض المناضلين أن «الأحزاب هي التي تحسم الصراع السياسي». وكأنهم يقصدون بهذا التعبير، أن نمط النضال الجماهيري المُشترك ، مثل نمط حركة 20 فبراير بالمغرب، لا يستطيع حسم الصراع السياسي. وكأنهم يعنون أن الأحزاب السياسية هي وحدها التي تقدر دائما على حسم الصراع السياسي. وهذا الطرح مُبالغ فيه، إلى حدّ أنه يصبح غير سليم. فإذا كانت الأحزاب تستطيع فِعلاً أن تحسم في الصراع السياسي، خلال بعض الفترات المُحدّدة، فإنه من الممكن أيضا أن تعجز عن الحسم في فترات أخرى. بينما يتوفّر النضال الجماهيري السّلمي المشترك على قُدُرات أكبر للحسم، وفي مناسبات أكثر، بالمقارنة مع النضال الحزبي الصّرف. وإن كان هو أيضا لا يقدر على الحسم في الصراع السياسي في كل المناسبات. وتُثبت تجربة المغرب، ما بين سنوات 1960 و2012، أن الأحزاب، بما فيها الأحزاب الثورية أو اليسارية، الموجودة منذ 20 أو 30 سنة، لم تستطع أن تحسم في أية قضية سياسية هامّة (تتعلّق بِنوعية النظام السياسي). وفي ثورتي تونس ومصر، تُثبت التّجربة أن الذي خلخل النظام السياسي الاستبدادي، بل وأسقط رئيسه، وأدخله في صيرورة مُراجعة شاملة، ليس هو الأحزاب السياسية، وليس هو النضال الحزبي الصّرف، وإنّما هو النضال الجماهيري السّلمي المشترك . بمعنى أن الذي حسم في هروب زين العابدين بن علي في تونس، وفي تنحّي حسني مبارك في مصر، وفي انسحاب علي عبد الله صالح في اليمن، مع ما يتبع ذلك من انتخابات ودساتير ومؤسّسات جديدة، ليست هي الأحزاب التقليدية، رغم وجود هذه الأحزاب منذ عدّة عقود. وإنما الذي حسم ذلك الصراع السياسي، هو النضال الجماهيري السّلمي المُشترك ، الذي شارك فيه خليط واسع من المُواطنين الغاضبين ضد الاستبداد وضد الفساد. وقد شارك هؤلاء المواطنين، في ذلك النضال الجماهيري المشترك ، بصفتهم مُواطنين مُناضلين أفراد، وليس بصفتهم أحزاب، أو هيئات، أو جماعات، أو تيارات. وهذا التّذكير لا ينقص من دور الأحزاب وأهميتها. فالأحزاب السياسية التقدمية، أو الثورية، ضرورية بالتّأكيد، لتعبئة المواطنين، وتنظيمهم، وتوعيتهم، وتأطير نضالاتهم. لكن علينا أن لا ننسى، أنه من الممكن أيضا، أن تتكلّس هذه الأحزاب، أو أن تترهّل، أو أن تنحرف، أو أن تصبح عاجزة، أو بلا منفعة، وذلك دون أن تعي انحرافها هذا. لذلك نُصِرّ دائما على المزاوجة بين النضال الحزبي، والنضال الجماهيري السّلمي المُشترك.
2.8 - كيف تتعامل الأحزاب الإسلامية مع الثورة ؟
الغريب في ليبيا، هو أن الجماعات الإسلامية لم تظهر (بهذه الصّفة) إلاّ بعد انتهاء الثورة (أي بعد قتل الزعيم مُعمّر القدافي في 20 أكتوبر 2011). وفي كلّ من تونس ومصر، عارضت في البداية الأحزاب الإسلامية إنطلاق الثورة، ولم تلتحق بها إلاّ بشكل مُتأخّر، عندما أدركت أنه يمكن أن تنجح هذه الثورة بِدون مشاركة هته الأحزاب الإسلامية .
وبعد نجاح الثورة، وحينما جاء وقت الانتخابات العامّة، فُوجئ الجميع بِحُصول الأحزاب والجماعات الاسلامية على أعلى نسب الأصوات الممعبّر عنها. وتلتها الأحزاب التقدّمية، أو الثورية، في الرُّتب المُتدنّية. وانتفعت الأحزاب الإسلامية من استغلالها للدّين في مجال السياسة. واستفادت هذه الأحزاب الإسلامية من تفوّقها المرحلي على مستوى التنظيم. حيث في الفترات الانتقالية، لا يستطيع أن يصل إلى السّلطة السياسية إلاّ الذي يتفوّق على مستوى التنظيم. وكالعادة، فالمواطنون الذين يَخُوضون الثورة، والمناضلون الذين يُضَحّون من أجلها، ليسوا هم الذين يفوزون في انتخاباتها اللاّحقة.
والسّر الذي يُفسر تفوّق الأحزاب الإسلامية في الانتخابات التي تلت الثورة، يكمن في الجماهير الشعبية الأمّية، أو الأقلّ تعليمًا، أو الأقلّ ثقافة، أو الأقلّ تَسْيِيسًا، أو الأكثر مُحافظةً. لأن هته الجماهير، هي التي تُشكّل القاعدة الانتخابية للأحزاب الإسلامية . وهي التي تُمَكّنها من الحُصول على أغلبية الأصوات المُعبّر عنها. بينما الجماهير الأكثر تعليمًا، أو الأكثر ثقافةً، أو الأكثر تقدّميةً، تُساند عُمومًا القوى التقدّمية، أو اليسارية. وقد فسّرت بعض الجهات نجاح بعض الأحزاب الإسلامية باستفادتها من دعم مالي خارجي (سعودي، أو خليجي، أو قطري).
والأحزاب الإسلامية ، مثل كل القوى السياسية التي تنحصر مرجعيتها الفكرية في الدّين، تكون حَتمًا مُحافظة (conservative). وقد تَتبنّى تَارةً موقفًا سياسيا تقدّميا، وقد تُدافع تَارةً أخرى عن مواقف ذات طبيعة رجعية (réactionnaire). خاصّة وأن نموذجها المرجعي يوجد دائما في الماضي (أي في عهد النّبوّة)، وليس في الحاضر، ولا في المستقبل.
وبعد فوزها في الانتخابات، عَملت هذه الأحزاب الإسلامية كلّ ما في وُسعها لِتَمَلّك الثورة، أو السّيطرة عليها، أو احتكارها. وحَيْتُما تُسيطر الأحزاب الإسلامية ، يظهر الاستبداد. وقد حاولت هذه الأحزاب الإسلامية تحريف الثورة عن مسارها الثوري الأصلي. وحرّفت الأحزاب الإسلامية الثورة من هدف «تحقيق الديمقراطية»، إلى هدف «تطبيق الشريعة الإسلامية». كما حرّفت الثورة من هدف «إسقاط الاستبداد»، إلى هدف «بناء الدولة الدينية»، وذلك بدلاً من بناء «الدولة المدنية الديمقراطية».
ومنذ صعودها إلى الحكومة، حاولت الأحزاب الإسلامية تعيين أنصارها في مجمل مواقع المسئولية المُتاحة، وفي مختلف أجهزة الدولة الممكنة، وذلك بهدف تثبيت سيطرتها على الدولة. وتمارس «العصبية الإسلامية» (حيث تناصر كل ما هو «إسلامي»، وتناهض كلّ ما يظهر لها مخالفا للإسلام). ولا تتوفّر الأحزاب الإسلامية على برنامج سياسي، ولا على مشروع مُجتمعي، غير «الشّريعة الإسلامية». وتدّعي الأحزاب الإسلامية أن «الحلّ لكل مشاكل المجتمع هو الإسلام»، بينما الحلول السّليمة لا توجد سوى في «العقل، والعدل، والديمقراطية، والاجتهاد، والتضامن، والمواطنة، والالتزام بحقوق الإنسان». وأرادت الأحزاب الإسلامية أن تنفرد بكتابة الدستور الجديد. وحاولت أن تُتْخِم نص الدستور الجديد بِمُعتقداتها الدّينية. وألحّت الأحزاب الإسلامية على أن تكون «الشّريعة الإسلامية» هي المصدر الرئيسي، أو الأساسي، في التّشريع. وعمِلت الأحزاب الإسلامية على استخدام قوّة الدّستور، والقانون، والتّشريع، لفرض عبادات، أو طقوس دينية، على كل المُجتمع، رغم أن الآية القرآنية تقول بوضوح «لاَ إكراه في الدّين» (سورة البقرة، رقم السورة 2، رقم الآية 256).
وسارعت الأجهزة الدبلوماسية الغربية، ومُخابراتها، إلى الإتصال بقيادات الأحزاب الإسلامية . تارةً بشكل سِري، وتارة أخرى بشكل علني. واسْتَفْسرتها عن نواياها السياسية المُستقبلية. فَطَمْأنت الأحزاب الإسلامية القوى الإمبريالية الغربية. وضَمِنت الأحزاب الإسلامية للدّول الإمبريالية استمرارية إمتيازاتها، أو دوام مصالحها الاقتصادية. ولا تتوفّر الأحزاب الإسلامية على بديل للعولمة، أو للرأسمالية، أو الليبرالية. وبالتّالي، فمن يظنّ أن الأحزاب الإسلامية ستُحرّر الشعوب من التّبعية للإمبريالية، هو وَاهِم.
وقامت الأحزاب الإسلامية في تونس، ومصر، بِتَهْميش الشبّان الثّوريين (الذين صنعوا الثورة). كما عَملت الأحزاب الإسلامية على تَقْزِيم دور الأحزاب اليسارية أو الثورية. وحاولت إقصاءهم جميعًا من المشاركة في عملية بناء النظام السياسي الجديد البديل. ولم تتردّد الأحزاب الإسلامية في مُحاولة إسكات الشباب الثوري، أو قمعه، أو تجريمه. وكأن الثورة لم تكن تهدف إلى إقامة الديمقراطية، وإنما كانت تهدف إلى وصول الأحزاب الإسلامية إلى السّلطة، وإلى فرض «الشّريعة الإسلامية» !
ويَتّضح في ثورتي تونس ومصر، خلال المرحلة الانتقالية، من نظام سياسي قديم إلى نظام سياسي جديد، أن الأحزاب الإسلامية تميل إلى الهيمنة، وإلى الاستبداد. وتُبرّر دِكْتَاتُوريتها بحصولها على أكبر نسبة من الأصوات في الانتخابات. رغم أن الثورة التي جاءت بهذه الانتخابات ليست من صنع هذه الأحزاب الإسلامية . وكأنّ الأحزاب الإسلامية تُؤوّل حصولها على أكثرية الأصوات بكونها هي «المُمثّل الشرعي والوحيد» لكل الشعب. بينما في الواقع، كان هدف الثوريين، ليس هو إيصال الأحزاب الإسلامية إلى السّلطة، وإنما كان هو تحقيق الديمقراطية والتّقدّم. وتُحرّف الأحزاب الإسلامية «الثورة من أجل الديمقراطية»، إلى «ثورة من أجل الشّريعة الإسلامية». وكأن «شَرْعية صندوق الانتخابات» تُلغي «شَرْعية الثورة»، وتبطل «مَنْطِق الثورة»، وتُبرّر ذبح الديمقراطية. ولا تستوعب الأحزاب الإسلامية أن الدستور يختلف عن البرنامج الحُكومي، حيث يلزم أن يخضع تحرير الدستور لتوافق وطني واسع. ولا يُعقل احتكار تحرير الدّستور على أساس غلبة الأصوات في الانتخابات. وتتناسى الأحزاب الإسلامية أنها هي نفسها مجرّد مُكوّن مُجتمعي جزئي ومُؤقت. ولا تفهم أن فوزها في الانتخابات لا يعطيها الحق لكي تُلغي الحرّيات العامّة، والحقوق الشخصية، وحقوق الإنسان، بما فيها حرية العبادة، وحرية عدم العبادة. ولا تُدرك القوى الإسلامية ، أن مُكوّنات الشعب التي تُخالفها في المُعتقدات، لها الحقّ في الاستمتاع بحقوق المُواطنة كاملة. حيث لا يحقّ لأي كان، وَلَوْ كان هو الفائز بالأغلبية المُطلقة في الانتخابات، أن يَسْتغلّ «الدّين» لتبرير إلغاء العقل، والمنطق، والحريات العامّة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.
[ومثلاً في حالة تونس، تعرّض المناضل الثوري شُكري بَلْعِيد (وهو الأمين العام ل حزب الوطنيين الديمقراطيين )، لعدّة تهديدات بالقتل. ثم نُفّد اغتياله في 6 فبراير 2013، بطلقات رصاص على رأسه. واتُّهِمَت جماعة إسلامية مُتطرّفة، مرتبطة بأحد قياديي حزب النهضة الإسلامي. ودعت أكبر نقابة (UGTT) إلى إضراب عام. وأدرك رئيس الوزراء حَمّادي جْبَالي (وهو الذي يحتلّ المرتبة الثانية في حزب النهضة الإسلامي، بعد رئيسها رَاشد الغَنُوشي)، أدرك خطورة غَلَبة وزراء سياسيين (من حزب النهضة )، دخلوا الحكومة فقط على أساس المُحَاصَصَة فيما بين أحزاب فازت في الانتخابات، دون أن يتوفّروا على الكفاءات الضرورية. وطالب حمّادي جبالي بتكوين «حكومة كفاءات»، بدلاً من «حكومة أحزاب». ولمّا رفض حزب النهضة الإسلامي اقتراحَ حمّادي جبالي، فضّل هذا الأخير التّضحية بمنصبه كرئيس حكومة، ثم استقال. ويُعبّر سلوك حمّادي جبالي (الإسلامي) هذا عن وعيه بخطورة بعض أطر الأحزاب الإسلامية التي لا تتوفّر على الكفاءة اللازمة. ولاحظنا نفس الظاهرة في مصر، وفي ليبيا، وفي العراق، وفي السودان، وفي الصومال. ويمكن أن تتكرّر نفس الظاهرة غدًا في سوريا. وهذه التجربة تُؤكّد أن الثقافة الإسلامية لا تكفي وحدها لِتَهيئ أطر الأحزاب الإسلامية إلى تدبير دولة عصرية، أو حَدَاثِية. وقد سبق لرئيس الجمهورية التونسية مُنصف المرزوقي أن ندّد مِرارًا بِمُيول الأحزاب الإسلامية ، (وعلى رأسها حركة النهضة )، إلى الهيمنة على الدولة، وسحق المعارضين].
وكانت نية الأحزاب الإسلامية ، عند منطلقها، سليمة وإيجابية، لأنها تبتغي تحقيق الخير. لكن إقحامها للدّين في السياسة، بالإضافة إلى معتقداتها الدغماتية ، وعَمَلها بمبدأ «الغاية تُبرّر الوسيلة»، يؤدي بها، في آخر المطاف، إلى سحق الشعب. وخطأ الأحزاب الإسلامية الأكبر، هو أنها تحمل إيديولوجية شمولية، مُطلقة، وتُريد أن تُجبر كل المواطنين على أن يفكّروا، وأن يتصرّفوا، حسب نمط ديني واحد، جامد، لا يقبل الخلاف، ولا المُراجعة، ولا الإبداع، ولا النقد، ولا التّغيير. وذلك بدعوى أنه منزّل، أو مقدّس. وتلجأ إلى تعبئة أنصارها، وإلى تَجْيِيشهم، وشَحنهم بِعَداوة مُطلقة، ضدّ كلّ مواطن يُخالفهم في الفكر، أو في السّلوك. الشيء الذي يؤدّي دائما، وفي آخر المطاف، إلى الإرهاب الفكري، وإلى الاستبداد السياسي، وإلى الجرائم السياسية المُرتكبة باسم الدّفاع عن الدّين. وحيثما يسيطر الإسلام السياسي ، تحلّ الفوضى، والخراب، والاقتتال، والتَدَخّلات الإمبريالية. وهو ما بدأ يظهر إلى الوجود، بعد صعود الأحزاب الإسلامية إلى الحكم، في تونس، ومصر (بالإضافة إلى ما حدث سابقًا في أفغانستان، والسودان، والصّومال). وتشكّل تُرْكيا استثناءًا، لأن الدستور يلزم الفاعلين السياسيين باحترام الفصل بين الدّين والسياسة، أو علمانية الدولة، وإن كان هذا الجانب يبقى خاضعا لتطوّر الصراع السياسي( ).
ولا تُدرك الأحزاب الإسلامية أن المواطن الذي يكسب خبرة في مجال الدين، أو الإيمان، أو العبادة، لا يكتسب بالضرورة خبرة مُشابهة في ميدان إدارة الدولة، أو تدبير الاقتصاد، أو تسيير المجتمع، أو تطويره، أو إصلاحه. وَلاَ تَفهم القوى الإسلامية أنه يستحيل تحقيق الديمقراطية بدون فصل الدّين عن الدولة( ). وَلاَ تعي الأحزاب الإسلامية ، أنها تميل إلى تعويض نظام سياسي استبدادي قديم، بنظام استبدادي جديد، من نوع آخر، مَكْسُوّ بِمِعطف دِيني. وتدّعي الأحزاب الإسلامية أنها تُطبّق إرادة الله، بينما هي تُنفّذ فقط إرادتها الخاصة، ولا تخدم سوى مصالحها الخاصة. والله بريء منها، ولم يُكلّفها بشيء، ولا يحتاج إليها لتنفيذ إرادته.
وهناك حدث جسيم، لا بُدّ من التذكير به (في التحليل الحالي). فاعتبارًا للمخاطر المذكورة سابقًا، فكّر البعض في منع القوى الإسلامية من الوصول إلى السّلطة السياسية، ولو بالقوّة. وهذا مَا جرّبه جِنرالات الجيش في الجزائر، حينما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأكثرية الأصوات (أي 47 % من الأصوات المُعبّر عنها، في الانتخابات التشريعية، في 26 ديسمبر 1991، مع نسبة الامتناع عن التصويت تصل إلى 41 %). حيث خاف الجيش من أن يقيم الإسلاميون «جمهورية إسلامية»، مبنية على «الشّريعة الإسلامية». فَتدخّل الجيش في بداية سنة 1992 لِإيقاف مسلسل الانتخابات. واستقال رسميًا الرئيس الشّاذلي بن جديد (في 11 يناير 1992). وتولّت ’لجنة عليا للدولة‘ (عسكرية) السلطة السياسية (في 14 يناير). ودخلت الجزائر في دوّامة شبه حرب أهلية، بين الدولة وجماعات إسلامية مُسلّحة، دامت قرابة عشرة سنوات. ويتراوح عدد القتلى الناتج عنها، حسب التقديرات المُختلفة، بين 60000 و 150000 قتيل, وآلاف المُختفين، ومئات الآلاف من المُهجّرين أو المنفيين. ومعظم هؤلاء الضحايا بريئون، ولا علاقة لهم بالصراع الدائر بين الجيش و الإسلاميين .
فهل يُعقل منع الأحزاب الإسلاميين بالقوّة من الوصول إلى السّلطة عبر انتخابات شعبية نزيهة ؟ أليس نجاحهم في الانتخابات هو مجرّد تعبير عن المُستوى المُتدنّي في النّضج السياسي الموجود مُؤقّتًا داخل الشعب ؟ أليس الحلّ الأحسن هو الاعتراف بفوز الإسلاميين في الانتخابات، وتركهم آنئذ يمارسون السّلطة ؟ أليست ممارستهم للسلطة (خلال قرابة 5 سنوات) هي التي ستفضح، أمام الجميع، عدم كفاءتهم، أو رِجْعيّتهم، أو تَخلّفهم ؟ أليست ممارسة الإسلاميين للسّلطة هي التي سَتُعلّم الشعبَ أن الأحزاب الإسلامية هي غير مُؤهّلة لتحقيق الحرّية، أو الديمقراطية، أو العدالة، أو التقدّم ؟ ألا تكون الأحزاب الإسلامية مضطرة، من خلال الممارسة، وبالتّدريج، إلى استيعاب قيم الحداثة، وإلى تبنّي الديمقراطية ؟ ألم تُبيّن التحقيقات (sondages) في الجزائر، وتونس، ومصر، أنه منذ اللّحظة التي تصل فيها الأحزاب الإسلامية إلى السّلطة، تتضاءل نسبة الأصوات التي تحصل عليها هته الأحزاب ؟ ألاَ تَتَقَهْقر بالتّدريج نسبة الجماهير التي تَرْضَى عن الأداء السياسي لهته الأحزاب الإسلامية ، إلى أن تصبح ضئيلة جدًّا ؟ أليس الالتزام بقواعد الديمقراطية، بما ينتج عنه من فرص لصعود الأحزاب الإسلامية إلى السلطة، أحسن بكثير من مُغامرة الدّخول في حرب أهلية مدمّرة ؟ أليس هدف الثورة هو تغيير البشر، وليس قتلهم، أو تهميشهم ؟
2.9 - على من يمكن أن يعتمد الشعب ؟
تُبيّن ثورات تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، أن كلّ شعب مُضطر إلى الاعتماد على نفسه فقط. بينما الاتّكال على مُساعدة دول أجنبية، يؤدّي دائما إلى فقدان السّيادة الوطنية. ويفتح المجال لكي تتدخّل القوى الإمبريالية، فَتَعْبث بمكوّنات المجتمع وخيراته. ويستحيل أن تَتَحَقّق مصالح شعب مُحدّد، إذا لم يُنجز هذا الشعب هو بنفسه مصالحه. والتّجارب التاريخية تُثبت أن مجمل تدخّل الدّول الإمبريالية (مثل فرنسا، وإنجلترا، والولايات المتّحدة الأمريكية، وغيرها) كان دائما في جوهره في مصلحة هذه الدّول، وليس في مصلحة الشعوب المُستهدفة. وظلّت هذه الدّول الإمبريالية تساند وتدعّم الحكّام المستبدّين في بلدان العالم الثالث. وفي بداية الأحداث الثورية في تونس، ومصر، سارعت الدول الإمبريالية إلى محاولة إنقاذ الحكام المُستبدّين( )، نظرًا لكونهم دُمى طيّعة تخدمها. ولمّا إتضح للقوى الإمبريالية أن هذه الأنظمة الاستبدادية في طور السقوط، عبّرت عن «تعاطفها» مع الجماهير المُعارضة. ولمّا فرضت الثورة انتصارها على الحكّام المستبدّين، إضطرّت الدول الإمبريالية إلى مُسايرة نتائج هذه الثورات. ثم حاولت التّأثير في توجّهاتها المستقبلية.
وفي ليبيا، أسرع حلف شمال الأطلسي (NATO) إلى التدخّل، ووَفّر حظرًا جوّيا ضد طائرات معمّر القذّافي، ليس حُبّا في الجماهير اللّيبية، أو رغبةً في حمايتها من قصف هذه الطّائرات، ولكن لأن الدّول الرئيسية في هذا الحلف أرادت الحصول، فيما بعد الثورة، على عُقود امتيازية في مجال النفط الليبي. وذلك ما حدث فعلاً. وإذا تدخّلت الإمبريالية في ليبيا (بسبب النفط)، فإنها لم تتدخل بشكل مُمَاثل في تونس، أو مصر، أو اليمن (التي لا يوجد فيها نفط بكميّات مهمة).
أمّا في سوريا التي لا يوجد فيها نفط كثير، فإن روسيا والصين ساندتا في البداية نظام بشّار الأسد، وذلك في إطار مُقاومتهما، أو منافستهما، للدول الإمبريالية الغربية، والتي تُحْكِم سيطرتها على مجمل منطقة الشرق الأوسط. ثمّ استمرت روسيا (دون الصّين) في دعم حليفها بشّار الأسد، حتى النّهاية، وَرَغْم قيامه بجرائم ضد الإنسانية. كما أن دول حلف شمال الأطلسي (NATO) رفضت مساعدة الثّوار السّوريين بالسّلاح لكي يدافعوا عن أنفسهم، وعن السكان. ولم تكن الدول الإمبريالية تكترث بالجرائم التي تُرتكب ضد الإنسانية داخل سوريا. بل منعت هذه الدّول الغربية بيع أي سلاح، ولو دِفاعي، للثّوار في سوريا. وبرّرت هذه الدول الإمبريالية موقفها ب «خوفها من وصول هذه الأسلحة إلى جماعات إسلامية إرهابية، يمكن فيما بعد أن تستعمل هذه الأسلحة ضد إسرائيل». لأن دوام إسرائيل يهمّها أكثر من الحصول على النفط العربي. واضطر الثّوار في سوريا إلى الاكتفاء بالسّلاح الذي يشترونه في السّوق السوداء، أو يغتنمونه من جيش بشّار الأسد. واتّضح أن الدول الإمبريالية وإسرائيل، يريدون استمرار الحرب الأهلية داخل سوريا، لأن أمنيتهم الأساسية هي تدمير سوريا، مثلما دمّر الاحتلال الأمريكي من قبل العراق، على الخصوص خلال سنتي 1990 و 2003. ولم تقبل الدول الغربية تقديم مُساعدات شحيحة، و«غير قِتالية»، إلى الثّوار في سوريا، إلاّ بعد مرور عامين، أي بَعْدَ أن إتّضح أن الثّوار السّوريين أصبحوا قريبين من الإنتصار على جيش بشّار الأسد.
2.10 - هل أطروحة المؤامرة صحيحة ؟
إدّعى البعض أن هذه الثورات التي حدثت في البلدان العربية، خلال سنتي 2011 و 2012، إنما هي مجرد مُؤامرات أجنبية . وينسبون هذه المُؤامرات ، تارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتارة إلى المملكة السعودية، وتارة إلى إمارة قطر، وتارة إلى إسرائيل، وتارة إلى إيران، أو إلى خليط بينهم. وقد لجأ نظام بشار الأسد هو أيضا إلى تفسير الحراك الشعبي في سوريا بكونه مجرد مُؤامرات أجنبية ، وذلك بهدف تبرير قمعها. لكن كلّ من تتبّع بِدقّة أحداث هذه الثورات، أمكنه أن يُلاحظ أن القوى الأجنبية، أو الإمبريالية، كانت تُفاجأ بما يقع داخل هذه المجتمعات الثائرة. وأنه مهما كانت محاولات القوى الخارجية للتّأثير في هذه التطوّرات، فإن قوى هذه الشعوب الدّاخلية، كانت هي التي تحسم، في آخر المطاف، وعلى الأرض، في تطورات الأحداث.
وطرح بعض المناضلين أن «المملكة السعودية، وإمارة قطر، هي التي تُؤَطّر هته الثورات». وطرح مناضلون آخرون أن «القوى الإمبريالية تتحكّم بشكل تام في تطور هذه الثورات العربية». وهذا تصوّر مُبالغ فيه، وغير سليم. والواقع ينفيه. ومن الأكيد أن القوى الإمبريالية تتمنّى، أو تحاول، أن تُوجّه هذه التطوّرات. لكنها لا تنجح في ذلك إلا نادرًا، أو جزئيا، أو مؤقّتًا. والمُراقب الذي يتتبّع هذه التطوّرات بشكل دقيق ومتواصل، يمكن أن يُلاحظ كَمْ أن القوى الإمبريالية تُفاجأ في كثير من التطوّرات. وحتى حينما تنجح الإمبريالية في التأثير، فإن تأثيرها يبقى محدودًا، أو مؤقّتًا. وعلى خلاف بعض الأطروحات، ليست «الإمبريالية هي التي تدخّلت لتنصيب الأحزاب الإسلامية في السّلطة». بل الجماهير الأقل تمدرسًا، أو الأقل ثقافة، أو المُحافظة، هي التي منحت غالبية الأصوات في الانتخابات لتلك الأحزاب الإسلامية .
2.11 - ما هو دور وسائل الإعلام ؟
ظهر في ثورتي تونس ومصر، أن وسائل الإعلام الرقمية الحديثة (Télévision, Internet, Blogs, Facebook, Twitter, SMS, …)، يمكنها أن تُساهم بقدر كبير، كوسائل لتبادل الأخبار، والصور، والأفكار، والمعلومات. كما يمكنها أن تُساهم في تعبئة أصناف مُعيّنة من الجماهير (خاصة الشباب المتعلم، وبعض الفئات الطبقية الميسورة). وميزة هذه الوسائل الإعلامية الحديثة أنها تعمل كعنصر يُسَرع وثيرة التّفاعلات داخل المجتمع.
2.12 - هل القمع ينجي الدولة من الثورة ؟
يَتّضِح في ثورتي تونس ومصر، أن لجوء نظام استبدادي إلى قمع وسحق قوى اليسار، خلال سنوات أو عُقود مُتوالية، لا يُنجي هذا النظام من حدوث الثورة المُجتمعية، في حالة إذا ما نضجت بما فيه الكفاية شروط انطلاق هذه الثورة المُجتمعية. بل يمكن أحيانًا للقمع الشرس أن يُعجّل تناميَ سخط الشعب، أو أن يُسَرّع انتشار الحركة الثورية. وحينما تتعاون، وتتكامل، أو تتوحّد، قوى اليسار، تكبر حظوظ نجاح الثورة. ويَسْهُل التحاق الجماهير بصفوفها. أمّا حينما تتشتّت قوى اليسار، أو تنشطر، أو تتفتّت، أو تتنافر، فإن حظوظ نجاح الثورة تَضْمَحِلّ إلى أن تُصبح مُنعدمة.
2.13 - أي دور للجيش في المجتمع ؟
يَتّضح جَلِيّا في تجارب تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، أن الأنظمة الاستبدادية لا تُبالي بإعداد الجيش للدّفاع عن الوطن، ضد العدوان الخارجي، أو الإمبريالي، وإنما تكتفي بتعبئته لاستعماله عند الحاجة، لاضطهاد المُعارضين، أو لقمع الحركات الثورية، أو لإخماد الانتفاضات، أو لإطفاء التمرّد الشعبي.
وفي حالتي تونس ومصر، كان الجيش يتميّز نسبيًا بحمل عقيدة وطنية. فلمّا أمر الحُكّام المستبدون الجيشَ بالمشاركة في قمع المتظاهرين الثائرين، رفض الجيش تطبيق هذه الأوامر، أو بيّن تحفّظه على تنفيذ قمع الجماهير الثائرة. ولكن، إذا لم يشارك الجيش في قمع الثورة، فإنه في نفس الوقت، لم يُدَعّمها، أو لم يُغلّبها.
ويَتّضح في تجارب مصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، والجزائر، وموريتانيا، أنه كلّما وصل الجيش إلى السلطة السياسية، فإنه يصبح مُتشبّتًا بها، ولا يقبل أبدًا التّخلي عنها، إلاّ إذا أزاحته ثورة شعبية (مثلما يحدث في مصر، وسوريا). فالجيش غير مُؤهّل لتدبير المُجتمع. وحكم الجيش يؤدي دائما، وفي آخر المطاف، إلى نظام سياسي استبدادي (مثلما حدث في مصر، واليمن، والعراق، وليبيا، وسوريا، والسودان، والصومال، والجزائر، وموريتانيا). والحلّ هو أن تكون الدولة مَدنية ديمقراطية، عبر حَصر دور الجيش في الدّفاع الوطني، وإخضاعه للسّلطة السياسية، ومنعه من الوصول إلى السّلطة السياسية.
2.14 - لماذا يمكن أن تتحوّل الدولة إلى نقيضها ؟
لِنَتَسَاءَلْ : هل الحفاظ على السّلطة السياسية لدى حَاكم مُعَيّن يُبرّر تقتيل الشعب ؟ نعرف أن الدّور الأصلي للدولة، وللجيش، هو طبعًا خدمة الشعب. لكن يمكن أن تأتي ظروف خاصة، تتحوّل خلالها الدولة، أو الجيش، إلى نَقِيضهما، فيلجآن إلى اضطهاد الشعب، أو تقتيله. وفي حالتي ليبيا وسوريا، تُعلّمنا التجربة أنه من الممكن أن يفقد الحُكّام المستبدّون رُشْدهم، وأن يلجأوا إلى التّحدّي، وأن يتصرّفوا كالأحمق، أو كشخص مُختل العقل. فعندما تخوض الدولة حربًا حقيقية ضدّ الشعب المُعارض، ألاَ يعتبر هذا السلوك حُمقًا ؟ ألا يُعتبر قصف الأحياء السكنية بالطائرات، والقتل الجماعي العشوائي، نوعًا من الحُمق ؟ أليست جرائم ضد الإنسانية ؟ ألاَ تشكّل ليبيا وسوريا نموذجًا لهذا الحُمق، أو الاضطراب النّفسي، الذي يمكن أن يُصيب الحُكّام المُستبدّين ؟ ألاَ يُحتمل أن تتكرّر مثل هذه الظواهر في بلدان أخرى ؟
(وقد كان زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، أكثر ذكاءًا من مُعمّر القدّافي في ليبيا، ومن حافظ الأسد في سوريا. لأن الأولين فَهِمَا بسرعة أن الثورة الصّاعدة اكتسبت كل حظوظ النجاح، فقبلا التنحي عن السّلطة. بينما الثانيّين لم يفهما ذلك، حيث تَشَنّجَا في مواقف تَحَدّ بُلِيد، ورَمَوْا بالجيش ضدّ الشعب).
فعندما يحتدم الصراع السياسي، يمكن أن يأمر الحَاكم المُستبدُ الجيشَ بتقتيل الجماهير المُتظاهرة، أو المُنتفضة، أو الثّائرة، حتى وَلَوْ بقيت احتجاجات الجماهير سِلميّة. وقد رأينا أن المُستبد معمر القذّافي، ثم حافظ الأسد، لم يتردّدا في الزّجّ بالجيش، ليس فقط لتقتيل المُتظاهرين المُعارضين، أو الثّائرين، ولكن أيضًا لإبادة السّكان الذين يشكّ المُستبدّ في أنهم يحتضنون الثّوار، أو يَأْوُونَهم، أو يُساندونهم، أو يتعاطفون معهم، أو يتعايشون فقط معهم في نفس المكان.
وفي سوريا، كنّا نرى يوميا، عبر قنوات التلفزة، أن مظاهرات متعدّدة وحاشدة، كانت في البداية سلمية. وظلّت خلال عدة شهور هذه المظاهرات تطالب سِلميًا بإسقاط النظام. وبدلاً من أن يهرب بشار الأسد مثلما فعل زين العابدين بن علي في تونس، أو أن يتنحّى عن السلطة مثلما فعل حسني مبارك في مصر، دخل بشار الأسد في تحدّ مطلق، ضد الجماهير الثائرة. ورفع أنصاره شعار «إمّا الأسد، أو لا أحد»، ثم شعار «إمّا الأسد، أو نحرق البلد» ! ومنذ البداية، ادّعَى حافظ الأسد أن المُتظاهرين هم مجرد «جماعات صغيرة من الإرهابيين، مُرتبطين بتنظيم القاعدة» ! ثم سَلّح ضدّهم العناصر«البَلْطَجِية»، و«الشبّيحة». ومنذ شهر مارس 2011، أخذ بشار الأسد يستعمل الجيش لمُطاردة، واعتقال، وتعذيب، وتقتيل المُتظاهرين والمُعارضين.
ودعّمت روسيا والصّين بشّار الأسد، خوفًا من تكرار سِيناريو تدخّل حلف شمال الأطلسي (NATO) في ليبيا، واستحواذ بعض دول هذا الحلف على نفطها، وعلى موقعها الاستراتيجي. فلمّا أُضطرّ المُعارضون في سوريا إلى الدّفاع عن أنفسهم عبر استعمال الأسلحة الخفيفة، لجأ حافظ الأسد إلى قنبلتهم بِقنابل الهاون ، وبِرَاجمات الصّواريخ، وبالدّبابات، ثمّ بالمِرْوَحيات، ثم بطائرات المِيغ النفّاثة.
وحينما أصبح جنود بشار الأسد عاجزين على مُقاتلة الثوار بشكل مُباشر على الأرض، أخذ جيش بشار الأسد يُقَنْبل من بعيد المُدن، والقرى، والأحياء، بالطّائرات الحربية، وَبِ بَرَامِيل المتفجرات ، ثم بِقنابل الفُسْفُور الأبيض، ثم بِالقنابل العنقودية. وكان القصف العشوائي يُهدّم البيوت والعمارات على عائلات بأكملها. واستعمل جيش بشار الأسد الغازات السّامّة ضد مدينة حِمْص. ثم لجأ بشار الأسد إلى استعمال صورايخ اسْكُود التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر، وقصف بها مدينة حَلَب، ودمّر المدن والأحياء التي يتّهم سكانها بإيواء الثوار. بينما هته الجماهير هي بريئة من الثوار.
وكانت منظمات حقوق الإنسان تُحصي في كل يوم أزيد من 100 قتيل. وبعد مُرور قرابة عامين على هذه الحرب الأهلية، قدّر الخُبراء المُتتبّعون لأحداث سوريا عدد القتلى ب 70000 قتيل. ويُقدّر عدد المُهجّرين في الداخل وفي الخارج بقرابة 4 مليون شخص. فهل يستحق بقاء بشّار الأسد في السلطة كل هذه التّضحيات ؟
ونتذكّر أن الملك السّابق الحسن الثاني (الذي حكم المغرب خلال 38 سنة، بين سنتي 1961 و 1999)، كان هو أيضا، كُلّما تظاهرت الجماهير ثائرةً، لا يتردّد في إعطاء أوامره للجيش، لكي يستعمل إطلاق النار على المُحتجّين، أو المُنتفضين، أو الثّائرين. وَقَدْ وَقَع ذلك مثلا خلال مُظاهرات أو انتفاضات يناير 1959، و 23 مارس 1965، و 3 مارس 1973، و 20 يونيو 1980، وبداية يناير 1984، و 19 ديسمبر 1990. ولو أن الانتفاضات لم تكن تدوم في غالب الحالات سوى يومًا واحدا. وقد سبق للملك الحسن الثاني أن قال في إحدى خطبه أن المذهب المالكي في الإسلام يُبيح تقتيل الثّلث الفاسد من الشعب، لإنقاذ الثّلثين الباقيين. ومن هذه الزاوية، يتشابه الملك الحسن الثاني مع الرئيس بشّار الأسد.
وهل في المستقبل، يمكن أن تحدث في المغرب حرب أهلية، مثلما حدثت في سوريا، أو ليبيا ؟ الجواب، مع الأسف، هو نعم ! وقد تنبّأت الملكية في المغرب، في عهد الملك الحسن الثاني، ثم في عهد خلفه، بإمكانية إقدام الشعب على المُطالبة بتغيير النظام الملكي الذي يحكمه، فَسَطّرت في دستور 1996، وكذلك في دستور 2011، فصولاً تُحرّم ذلك بشكل مطلق. والفصل 7 من الدستور يقول : «لا يجوز أن يكون هدف [الأحزاب هو] المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي (...)». ويضيف الفصل 64 من الدستور: «لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان (...) ما عدا إذا كان الرأي المعبّر عنه يجادل في النظام الملكي (...)». وفي باب مراجعة الدستور، يضيف الفصل 175 : «لا يمكن أن تتناول المراجعة [أي مشروع مراجعة الدستور] الأحكام المتعلّقة بالدّين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة (...)». وكلّما كان مواطنو شعب مَحرومين من حقّ نقد، أو تغيير، النظام السياسي الذي يحكمهم، فإن هذا الشعب يصبح مَسلوبًا من سيادته على نفسه، ومن حقوق المواطنة، ومن الحرية، ومن الديمقراطية، ومن حقوق الإنسان. وهذا الرفض المُسبق، والمُطلق، لنقد، أو لتغيير، النظام السياسي القائم، يعني، ويُؤكّد، أنه إذا ما أقدم الشعب المغربي على مُحاولة تغيير النظام السياسي، فإنه سوف يجابه بكل الوسائل، بما فيها الجيش، وأسلحة الدّمار الشّامل (مثلما حدث في ليبيا في سنة 2011، وفي سوريا في خلال سنتي 2011 و 2012). وإذا كانت نيّة الحُكّام مخالفة لذلك، فَمَا عليهم إلاّ يكتبوا ذلك بوضوح في الدستور.
2.15 - هل خلق أحزاب مُوالية للدولة يقيها من الثورة ؟
يَتّضِح في ثورتي تونس ومصر، أن لجوء النظام الاستبدادي القائم إلى خلق أحزاب مُوالية له، تُباركه، وتُبايعه، وتُسانده، وتُأَثّث مشهد ساحته السياسية، خلال سنوات أو عُقود، لا ينجي هذا النظام من حدوث الثورة، في حالة إذا ما نضجت، بما فيه الكفاية، شروط اندلاع هذه الثورة.
2.16 - هل شكل الدولة هو الذي ينتج الديمقراطية ؟
يَتّضح من تجارب تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، والبحرين، والجزائر، وموريتانيا، أن شكل النظام السياسي (ملكية أو جمهورية) ليس هو الذي يحسم في وجود الديمقراطية أم لا. حيث يمكن أن توجد جمهورية برلمانية استبدادية (مثل حالة مصر، أو اليمن، أو سوريا، أو الجزائر)، كما يمكن أن توجد ملكية برلمانية ديمقراطية (مثل حالات إنجلترا، وهولندا، وأسبانيا، وبلجيكا، والدّانمارك، واليابان، والسّويد، والنّرويج، ونْيُو زِيلاندا، إلى آخره). فشكل النظام السياسي (ملكية أو جمهورية) إنما هو الوعاء. بينما يمكن أن يكون مضمونه، أو محتواه، إمّا الاستبداد، وإمّا الديمقراطية.
2.17 – ما علاقة شعوب شمال إفريقيا بالبلدان العربية ؟
على خلاف بعض التيارات الأمازيغية، والتي تدّعي أحيانًا أن «شعب الأمازيغ في شمال إفريقيا لا تربطه أية علاقة بالشعوب العربية في الشرق الأوسط»، بَيّنت الثورات في تونس، ومصر، واليمن، وسوريا، إلى آخره، أن كلّ الجماهير في شمال إفريقيا، سواءً كانت أمازيغية، أم عربية، أم غيرهما، تتجاوب بشكل خاص، وتتفاعل بشكل عميق، مع مجمل ما يحدث في مجمل البلدان المسلمة، أو الناطقة بالعربية، في عموم الشرق الأوسط. والعكس موجود أيضًا. وتفاعلُ هته الجماهير في شمال إفريقيا، مع مُجمل الشعوب العربية في المشرق، يفوق تفاعلها مع أية شعوب أخرى في العالم. واندلاع الثورة، بشكل شبه مُتزامن، في خمسة بلدان عربية (تونس، مصر، اليمن، ليبيا، سوريا)، هو دليل على وجود تعاطف إنساني، وترابط سياسي، وثقافي، بين مجمل هذه البلدان.
2.18 – من أية قِيَم ننطلق، من الطائفية، أم من الإنسانية ؟
تُبيّن تجارب مجمل هذه الثورات (في تونس، ومصر، إلى آخره)، أن كلّ نضال سياسي يكون مُنطلقه هو المُواطنة، أو الإنسانية، وهدفه هو الديمقراطية، يمكن أن يستقطب عموم الشعب، وأن يحظى بتعاطف شعوب العالم، وأن يحقّق الانتصار، وأن يُعمّم الحقوق الإنسانية الأساسية. أمّا النضالات السياسية التي يكون منطلقها هو القبيلة، أو الجهة، أو العشيرة، أو الطائفية الدّينية، أو الطائفية العِرْقية، أو الطائفية الإِثْنِية (éthnie)، فإن مآلها، في آخر المطاف، هو الحرب الأهلية، و التطهير العرقي (ethnic cleansing)، والإبادة الجماعية، والأزمة المستفحلة، والإنحسار (bloquage)، والتّخلّف، والإنحطاط (مثلما يحدث بشكل مأساوي من وقت لآخر في لبنان، ويحدث خاصة بشكل مُدمّر في العراق)( ).
وبعدما غزت الإمبريالية الأمريكية العراق (في سنة 2003) (وذلك بمباركة كثير من الأنظمة العربية التّبعية، وبشكل معاكس لمعاهدات جامعة الدول العربية)، غرست أمريكا الطائفية بالقوّة في العراق. واستُبدل الوطن العراقي بالقبيلة، أو العشيرة، أو الصّحوة، أو التّبعية للشّيوخ، أو لعلماء الدين. وأصبحت نتيجة هذه الطائفية هي تقسيم العراق إلى ثلاثة دويلات : شيعية، وكردية، وسنّية. مع ما يُصاحب ذلك من ضعف، وانحطاط، لمجمل هذه الدويلات. وقد تنتشر عدوى الطائفية إلى سوريا، والأردن، وغيرهما. وهذا هو ما تغتبط له إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، وعموم الإمبريالية الغربية. والإستراتيجية السّرية لعموم الإمبريالية الغربية، هي منع الشعوب العربية أو المسلمة من التوحّد، ومن بلوغ مستوى نوعي في التكنولوجيات، أو من تحقيق تنمية اقتصادية هامّة.
وعلى خلاف ميل بعض القوى نحو الطّائفية، رأينا مثلاً في مصر، أو في سوريا، رأينا كيف يتوحّد في النضال السياسي الثوري، المسلم والمسيحي، القِبطي والشّيعي، العربي والكردي، اليزيدي والآشوري، الكَلْدِيّ والآرامِي، الماروني والأرميني، الدُّرزي والإسماعيلي، إلى آخره. بل القاعدة العامّة هي أن مجمل دول العالم تتكوّن من قوميات، وديانات، وتيارات، مختلفة.
وفي غالب الحالات، تتحوّل التيارات الطّائفية، أو العرقية، أو الإثنية، تتحوّل إلى حركات إنفصالية، ثم تخوض الكفاح المُسلّح، بهدف انتزاع استقلال وطني، وتظنّ أن الشّرط للاستمتاع بحقوق المواطنة الأساسية، هو صفاء الكُتلة الإثنية (éthnie)، وانشقاقها عن كلّ الإثنيات المُخالفة. بينما التجارب تُؤكّد أن هذا الشرط ليس، لا كافيّا، ولا ضروريًّا. بل تُؤكّد مجمل التجارب التاريخية العصرية، أن الحل العقلاني، هو المُساهمة في بناء الدولة المدنية، المبنية على أساس المُواطنة الواحدة والمُوحّدة، وعلى أساس الديمقراطية، وحقوق الإنسان للجميع. لذا نخاف على بعض التيارات الأمازيغية في شمال إفريقيا، أن تنحرف عن القيم الإنسانية، أو أن تسقط في متاهات الطائفية العِرقية، أو الإثنية .
2.19 – ما هو الشّعار المرحلي الملائم ؟
من وقت لآخر، وفي تفاعل مع ثورات تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، يُلحّ بعض مناضلين حركة 20 فبراير على حمل شعار «إسقاط النظام». فَمَتَى يصبح هذا الشّعار مقبولاً ؟ بعض المناضلين المُتحمّسين يريدون من حركة 20 فبراير أن تحمل فورًا شعار «إسقاط النظام». (بل ذهب البعض الآخر إلى حدّ طرح أن «الهدف الرّاهن هو الانتقال إلى الاشتراكية»، و«إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج»). كأن هؤلاء المناضلين يعتقدون أن حمل شعر إسقاط النظام هي مسألة إرادة فقط. أو كأنهم يظنّون أنه يكفي أن يتفق المتظاهرون على ترديد شعار إسقاط النظام ، لكي يصبح فورًا سقوط النظام القائم شيئًا ممكنا.
لكن هؤلاء المناضلين لا يدركون أن الشروط الموضوعية لحمل هذا الشّعار لم تنضج بعد بما فيه الكفاية. لأن الظروف المجتمعية الموضوعية، ومدى نضجها، هي التي تُحدّد الشعار المناسب للفترة، أو للمرحلة المعنية. ومَا دام عدد المتظاهرون في مدن كبيرة (مثل الدار البيضاء) يُحصى بمئات الأشخاص، وليس بمئات الآلاف، أو بالملايين، فسيكون من قبيل التّسرّع، أو التّهوّر، حمل شعار إسقاط النظام .
وكلّ تّسرّع في حمل شعارات سابقة لأوانها، يمكن أن يضعف حركة 20 فبراير . لأن العديد من المواطنين، قد يعتبرون مثلا أن حمل شعار إسقاط النظام ، في الوقت الحالي، هو سابق لأوانه، أو مُتهوّر، أو مُغامر، أو مُتطرّف. الشيء الذي قد يدفعهم إلى الشّكّ في النّضج السياسي لِ حركة 20 فبراير ، أو إلى مغادرتها، أو إلى الابتعاد عنها. لأن تهوّر، أو تطرّف، بعض المناضلين المشاركين في حركة 20 فبراير ، يساهم في إضعاف هذه الحركة.
وحينما ستصبح غالبية الشعب واعية، أو مُقتنعة، بضرورة إسقاط النظام ، أو مُتَجرّئة على حمله، فإن حمل هذا الشعار سيغدو تلقائيا، ومقبولاً من طرف مجمل الحركات النضالية. أمّا إذا كان عدد المتظاهرين يُحصى بأعداد صغيرة، فإن الشّعار العام، والكافي، يبقى هو : «الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، إسقاط الفساد، وإسقاط الاستبداد». وهذا الشعار العام يساعد على تعبئة أكبر عدد ممكن من المواطنين. ويهدف إلى حثّهم على الانخراط في النضال الجماهيري المُشترك. كما يهدف إلى رفع مستوى استعداد هته الجماهير إلى درجة عُليا من النضال الثوري. والمُهم هو أننا نرفض أي «سقف» كان، ولا نقبل أية «خطوط حمراء»، سواءً في فكرنا، أم في نضالنا من أجل الديمقراطية. بل نبقى مَرنين، ومُنفتحين على كلّ التطوّرات التي تصبح معقولة، أو مستعدّين لكل الاحتمالات التي تغدو ناضجة، في تاريخنا الحالي.

3 - ما هي العوامل التي تَعُوق قيام الثورة ؟
من خلال التجارب، نعرف تقريبًا ما هي الشروط التي يَصعب فيها، أو يُستبعد خلالها، أن تحدث ثورة مُجتمعية. ومنها مثلا الظروف التالية :
3.1 - إذا كان الاقتصاد في حالة ازدهار مُتواصل، خلال سنوات أو عُقود متوالية. [لكن تجب الإشارة إلى محدودية هذه القاعدة العامّة. فمثلاً في تونس، ومصر، كانت الأوضاع الاقتصادية عادية، أو حسنة نسبيا (قبيل اندلاع الثورة)، ورغم ذلك انفجرت الثورة. وليبيا أيضا كانت تستفيد من ارتفاع أثمان البترول على الصعيد العالمي (الشيء الذي سمح لها بتوزيع الريع النفطي، وشراء السلم الاجتماعي)، ورغم ذلك انطلقت فيها الثورة].
3.2 - إذا كان الفكر السّائد في المجتمع جامدًا، أو محافظًا، أو غارقا في الاستلاب (aliénation)، وإذا كانت، في نفس الوقت، القوى السياسية التقدمية في حالة ضعف، أو تخلّف.
3.3 - إذا كان القمع، أو إرهاب الدولة، شديدًا، أو مطلقًا، وكانت في نفس الوقت الجماهير تبطن (intérioriser) الخضوع والخوف.
- إلى آخره.

4 – ما هي العوامل التي تُشجّع على الثورة ؟
الظروف التي يكون فيها قيام الثورة ممكنًا، منها مثلا ما يلي :
4.1 - حينما يتعرض الشعب طويلاً إلى الاضطهاد، والاستغلال، والتّفْقِير، والتّهْمِيش، والغشّ، والإهانة.
4.2 - حينما تغرق الدولة في الفساد، والاستبداد، والانحلال.
4.3 - حينما يتميّز الهرم الدِّيمُوغْرَافي (pyramide des âges) بنسبة عالية من الشباب (ما بين 15 و30 سنة)، الذين لا يجدون لا شغلاً، ولا تمدرسًا جيّدًا، ولا مستقبلاً، ولا تضامنًا مُجتمعيا.
4.4 - حينما تكون غالبية جماهير الشعب تَستوعب التاريخ الحديث لمجتمعها، وتُدرك وَاقعها الحاضر، وتكون في نفس الوقت تتوفّر على تصور للمستقبل الذي تطمح إليه، وتكون متحرّرة من هيمنة الفكر الدّيني (أطروحة القَدَر).
4.5 - حينما تصبح الدولة، أو يكون النظام القائم، غير قادر على الاستمرار في استعمال نفس المناهج الماضية في الحكم، وأن تكرار هذه المناهج يثير غضب، أو هياج، جماهير الشعب.
4.6 - حينما ينكشف العجز التّام للقوى السياسية المحافظة، ولا تقدر على تقديم حلول مقبولة للمشاكل العويصة للبلاد.
4.7 - حينما تفقد الأجهزة القمعية قدرتها على إرهاب الشعب، ويصبح الشعب قادرًا على الاحتجاج، بالرغم من وجود القمع.
4.8 - حينما تكون قوى الثورة تتقارب فيما بينها، وتتعاون، وتتكامل، وتُحسّن مؤهّلاتها، أو تنمّي قدراتها على مُعالجة التناقضات الداخلية للبلاد. وتكون في نفس الوقت هذه القوى الثورية تحظى بدعم معنوي من طرف غالبية الشعب. وحينما تكون كذلك قوى الثورة تتحلّى بقدر كاف من الأخلاق النبيلة الجديدة (مثل قيم النضال، والجرأة، والتضحية، ونكران الذات، والتضامن، والتواضع، والعِفّة، والإبداع الفكري والسياسي، إلى آخره). وأن تكون في نفس الوقت مُتحرّرة من الرّذائل القديمة (مثل الأنانية، والفَرْدَانية، والزعامية، والشّرَه، والانتهازية، والنّفاق، والانتفاعية، إلى آخره).
4.9 - حينما تتوفّر قوى الثورة على تصوّر مُفصّل، أو متكامل، للمجتمع البديل الذي تطمح له، وتكون مُؤهّلة لإتّخاذ المبادرات الثّاقبة، في اللحظات المُلائمة، وأن تتوفّر على قدر كاف من المُثابرة، والإصرار، لإنجاح الثورة.


5 - ما هي مهام اليسار المُستعجلة ؟
نوجز المهام المُستعجلة المقترحة على قوى اليسار بالمغرب في ما يلي :
5.1 - إلتزام أحزاب اليسار الأربعة بالمغرب (وهي : حزب الاشتراكي الموحّد، حزب الطليعة، حزب النهج، وحزب المؤتمر الاتحادي) ب قاعدة النضال المشترك . ومعنى هذه القاعدة هو أن : كل حزب من بين أحزاب اليسار يفكر في القيام بنشاط نضالي، أو نقابي، أو سياسي، أو ثقافي، يلزمه، قبل أن يشرع فيه، أن ينسّق مع أحزاب اليسار الأخرى، لكي يصبح هذا النشاط المُبرمج مشتركًا، أو مُوحّدًا، فيما بين كل أحزاب اليسار الأربعة، أو فيما بين أكبر عدد ممكن منها.
5.2 - توحيد أحزاب اليسار الأربعة بالمغرب (على شكل حزب واحد، أو جبهة يسارية، أو تحالف ثوري، أو غيرها). ويمكن أن ينخرط في هذا الحزب الموحّد الأفراد, والتيارات، والجماعات المناضلة الثورية المؤهّلة للعضوية فيه.
5.3 - العمل على تطوير مفهوم الحزب، وتجاوز المنطق الحزبي الضيّق القديم.
5.4 - العمل على أن يكون المسئولون الرّئيسيون في الحزب الموحّد المنشود مُحترفون، وليس هُوّاة، بمعنى أن يكونوا متفرّغين للعمل السياسي والنضالي، وذلك خلال مدة تحمّلهم لتلك المسئوليات.
5.5 - العمل على أن تكون المدّة الزمنية (mandat) لتكليف كل مسئول داخل الحزب المُوحّد المُقبل تنحصر في سنتين فقط. حيث لا يُسمح بِتحمّل مسئولية رئيسية ثانية إلاّ بعد مُضيّ سنتين على تولّي المسئولية الأولى.
5.6 - رفض العمل بأسلوب التّيارات، لأنه ينحرف بسهولة كبيرة نحو تكوين جماعات مُتميّزة بأشخاصها وليس بأفكارها، ولأنه يقوي الحلقية (sectarisme)، ويُؤَجّج العصبية الضّيقة( ).
5.7 – فتح مدرسة لتكوين أطر الحزب، تكون مُشتركة فيما بين مجمل أحزاب اليسار الأربعة.
5.8 - انخراط كل أحزاب اليسار الأربعة في عمل مشترك ودؤوب، يهدف إلى وضع مشروع دستور ديموقراطي مشترك. وغاية هذا العمل مُتعدّدة، ومن أهمّها : تقارب أطر قوى اليسار، تقريب وجهات النظر السياسية المتواجدة داخل مختلف أحزاب اليسار، ووضع تصور مشترك ملموس للنظام السياسي البديل الذي تتمنى أحزاب اليسار إقامته في المغرب. ثم التّعريف بهذا المشروع الدستوري، وحثّ الجماهير على تبنيه والمطالبة به. ويمكن فيما بعد جمع التوقيعات المساندة لهذا المشروع.
5.9 - الانخراط المشترك في تطوير الفكر السياسي التقدمي، وإبداع فكر سياسي جديدي، يكون أكثر ملائمة لواقع المغرب، ولظروفه، ولطموحات شعبه.
5.10 - حث أحزاب اليسار ومناضليها على الانخراط بكثافة في كل «نضال جماهيري سِلمي مُشترك»، مثل حركة 20 فبراير ، والعمل على تأطيرها، وتطويرها، والرّفع من مستوى أدائها وفعاليتها.

(حُرّرت هذه الوثيقة في يوم الخميس 14 فبراير 2013).