الكعبة , الرمز والدلالة


وليد مهدي
2013 / 3 / 9 - 13:01     

(1)


لعل مشروع " التشريح " الثقافي العربي الاسلامي من اكثر المشاريع تعطًلا رغم الحاجة التاريخية الماسة اليه من قبل الباحثين والمثقفين العرب ..

هذا المشروع الذي سبق ودعى اليه الراحل محمد ارجون ، والذي لو شرعنا باولى خطواته نكون قد ارسينا اولى قواعد الفهم المعرفي الاكاديمي الصحيح لهويتنا الاسلامية بتجرد حقيقي وموضوعي عن اردية القداسة وتابوهات الكف من جهة ، و " موضة " العلمنة والتنوير واللبررة المشحونة بنقد لشخوص وذوات تاريخية اسلامية كانت هي الاخرى مجرد شخصيات لفتها عجلة الصيرورة والتحول الثقافي من جهة اخرى ، كالرسول محمد الذي يتعرض بشخصه لانتقادات مشحونة بعدائية لكل ما هو مسلم ..

هذين التوجهين المتناقضين في العقل العربي شكلا اهم الموانع والحواجب التي تحيط وتغلف العقل الجمعي العام عن التفكير السليم ، ولاجل اجتياز هذا كله ، كان لابد من ارساء اعمال علمية انثروبولوجية رصينة تناقش التراث من زاوية تجردية بعيدة عن الشخصنة ..

التعطيل لهذه البداية الضرورية في اي مشروع نهضوي حقيقي عربي إنما نجم عن المناخ التاريخي العام الذي تعيشه الامة والمتمثل بتيار ما يعرف بالصحوة او الاحياء الاسلامي ، والذي يمنع الوعي الثقافي العام من تقبل هذه العمليات التشريحية في محتوى التراث العربي الاسلامي في ظل ما تعانيه الهوية العربية من فصام حقيقي بين الماضي والحاضر ناهيك عن " الهجوم " التاريخي المنظم الذي تشنه الصهيوعالمية ضد هذا المحتوى ..

فانا لستُ من دعاة التقريع بالاسلام وتاريخ المسلمين الذي اعتز وافتخر بالانتماء إليه ، لكنني اجد من واجبي البدء بخطوات جدية حقيقية تعيد انتاج الثقافة الاسلامية بزوايا ومفهومات علمية انثروبولوجية معاصرة تكون بمثابة المرآة التي تعكس الوجه الحقيقي ، او الذي يقترب من حقيقة المعرفة ، عن هويتنا .. من نحن .. وما نكون ؟

موضوع اليوم هو جزء من مشروع كتاب قيد الاعداد عن الثقافة والدين والوعي ، وتم اختيار ايقونة " الكعبة " لانها ، وبناء على تجارب شخصية وعامة ، تمثل الرمز المركزي Central Symbol في الثقافة الاسلامية والذي من خلاله يمكن برايي الشخصي فك كافة شيفرات هذه الثقافة تباعاً ..!!

فالرموز الثقافية ، هي في الحقيقة كيانات مخفية كامنة في " المحتوى الثقافي " اللغوي والاسطوري المتداول شفاها وكتابة في اصطلاحية اللغة والطقوس وبنية الاسطورة ..إلخ

وهي تتفاعل وتمارس تاثيراً مستقلاً في الوعي كما ذهب في ذلك فلاسفة ما بعد الحداثة الفرنسيين امثال فوكو ودريدا ولاكان و لعل ما ذهب اليه كلود ليفي شتراوس كان هو الاقصى والادق حين بين بان الثيمات الثقافية والرموز المحتواة في اساطير الشعوب وحافظتها اللغوية تتقلب وتتوارث من شعب إلى آخر وتتغير حسب البيئة والزمان ..

و عبر دراسة موسعة وشاملة لجذور " ثقافتنا " المصرية السومرية السورية الكنعانية والتي نحلت في الثقافة البدوية العربية والعبرية وتغيرت حسب البيئة الاجتماعية الثقافية عبر التاريخ ، فاصبحت اليوم " عربية " سنجد بان لكل ثقافة رموز مركزية جوهرية تعتبر الركيزة الاساس والتي من خلالها يمكن فهم عموم الثقافة التي تتمحور عليها ، كمثال كعبة المسلمين في موضوع اليوم ..


(2)

قد سبق وسالتُ هذا السؤال على صفحات الفيسبوك ، لماذا تستتر الكعبة دوناً عن باقي الاماكن المقدسة في العالم الاسلامي ؟؟

وفي الحقيقة ، وكما هي العادة ، تكون اجوبة المثقفين متباينة حسب طبيعة توجهاتهم الإسلاموية او الليبرالية ، ومحتوى ثقافتهم وإطلاعاتهم في خلفيات التاريخ والتراث ، لكن المشترك فيها جميعاً انها تفسيرات تشكل رؤى لا تغوص في الاعماق وان تناولت الموضوع من زوايا متعددة :

تاريخية و شعبية و تحليلات سيميائية ..

فالرمز الثقافي مركب ، وتراكيبه تمثل ركام تاريخي لسيمياء الثقافة على مر آلاف السنين وهذا ما يتجاهله الكثيرون ، والكعبة كرمز ثقافي بالغ التعقيد ومتشكل من عدة اجزاء كلها تشير لابعاد وركائز الثقافة الاسلامية المهجنة بين المدنية المتحضرة والبداوة المتاخرة ، والتي تختصر برمزية الغرفة المكعبة ( المدنية ) و " الخيمة " التي تكسوها كإشارة للسمة الظاهرية الغالبة على عموم الثقافة الاسلامية الدالة على البداوة ..

ولعل ماذهب اليه الاستاذ وليد يوسف عطو بتناظر هيكل " الرب " و خيمة قدس الاقداس لدى العبرانيين مع الكعبة كهيكل للرب ( بيت الله ) مستتر عند العرب دليل واضح بان رمزية الستر والمعبد هما نتاج تداخل بين ثقافتين :

المدنية والبداوة اللتين ميزتا العبرانيين والعرب على حد سواء ..

فالسترُ خيمة ، والكعبة بيت !

لكن هل هذه هي القصة الكاملة لحقيقة استتار الكعبة ؟؟


(3)


الشائع في تراث المسلمين ، وحسب تفسير الاحلام كمحتوى لا شعوري للوعي الجمعي لهذه الامة يختزل الرموز المتداولة في الحافظة الثقافية العربية ، وكما يقول بن سيرين بان الكعبة إمام المسلمين ...

رؤيتها ترمز للقائد الاعلى للامة , لانها القبلـــة ....

ومن خلال تجاربي الكثيرة والطويلة في تفسير الاحلام ، ولسنوات ، وجدت ان تفسير بن سيرين هذا ربما هو الاقرب لرمزيتها العصرية في اللاشعور الثقافي العام ، لكن فكرة " الامام " و " القائد " كما طرحها بن سيرين كانت هي الاقرب للخليفة او السلطان ، و تغير شكل الحكم والامامة بين زماننا وزمان بن سيرين جعلني لا افهم معنى تكرار " الكعبة " في إحلام الناس إلا بزوايا شخصية تخص الرائي او صاحب الحلم نفسه ..

فالاحلام فيها "رسائل " جمعية تخص الامة وفيها بوح ذاتي لا واعي من وعي الباطن للفرد ايضاً ..

على سبيل المثال ، اغلب الاشخاص تمثل رؤيتهم للكعبة امنية بالحج لبيت الله الحرام ، مثل هذه الاحلام وهي الطيف الاغلب ، تمثل انعكاسات لافكار الشخص الواعية في حالة اللاوعي ..

لكن ماذا عن الذين مثلت رؤيتهم للكعبة في المنام إشارة لقرارهم " الزواج " ؟؟

ماذا عن اؤلئك الذين راؤا في الكعبة و تصدعها او فيضانها في احلامهم مؤشراً على بداية التغير السياسي بعد الربيع العربي ؟؟

الاحلام التي حاولت تفسيرها وهي تختص بالموضوع كثيرة ، لكنني في مقال اليوم ساكتفي بثلاثة لكون رمزيتها مركزة وخالية من " التشويش " الرمزي الذي يرافق احلام اكثر الناس ، كما إنها مترابطة ومتداخلة كان من حلم بها شخص واحد وليسوا ثلاثة ..!


(4)


السيد ( س ) رآى انه كان يمشي طول عمره في المنام ( اي ان رؤيته كانت تخبره انه في مسيرة اعوام ماشيا على رجليه منذ ولادته ) ووصل للكعبة أخيراً ، لكنه قرر الاستراحة والمبيت لليلة واحدة قبيل ان يتوجه لجدران الكعبة مباشرة ...

لم افهم صراحة معنى هذه الرؤيا ، فسرته وفق منهج بن سيرين كنبؤة عامة لتغير في الامة الاسلامية .. ولم يكن في حقيقة الامر ذلك التفسير مجدياً .

و بعد متابعة السيد (س) لاشهر ، لدراسة ما هي اشارة هذه الرؤيا لديه , اتضح انه اتخذ قراراً بالزواج رغم تقدم سنه و فيما بعد تقدم لخطبة فتاة ، لكنهما قررا ان تكون فترة الخطوبــة طويلة !

الانثى تقترن بالكعبة في هذه الرؤيا ، والكعبة اسم مؤنث اصلاً ، والانثى في البلاد الاسلامية مستترة مثلها !

لكن المفاجئة هي ان بعد مدة جائني السيد ( ص ) واخبرني بانه شاهد في المنام هبوط صخرة سماوية عظيمة وسقوطها بعنف فوق الكعبة التي استحالت الى اجزاء تناثرت في عموم الارض العربية من المحيط الى الخليج فتحطمت جراء ذلك كل الدول العربية عدا " العراق " ..!!

مثل هذه الرؤى كنت ادونها ، واحاول ربطها بالاحداث ، حيث تلتها بعدة اسابيع فقط حادثة البوعزيزي وتوالي سقوط الانظمة العربية والاضطرابات التي شهدت البلاد " العربية " من مراكش إلى البحرين خلال الاعوام 2010 و 2011 و 2012 ...

المفارقة هي ، رمزية الرؤيا الاخيرة هذه عادت بي لتفسير ابن سيرين ، الكعبة إمام المسلمين ، بل هي " إمام العرب " حيث مثلت في تلك الرؤيا الجامعة العربية التي انفرط عقدها بعد سقوط انظمة قوية فيها وبات قرارها مسيراً بمشيخات الخليج ، التي تمثل الامتداد الطبيعي للثقافة الصحراوية الماضوية ..

وباعتقادي ، رؤيا السيد ( ص ) عن الكعبة هي من اكثر الرؤى التي درستها في حياتي وانا على قناعة تامة بانها جمعية لا شخصية مصدرها اللاوعي الجمعي العربي ..

خصوصاً و إن تاريخ الكعبة نفسه يبتدأ بصخرة كونية ( نيزك ) هبطت من السماء لا تزال موجودة فيه تعرف باسم الحجر الاسود ، وبراي باحثين كثر ومنهم علماء في الاتحاد السوفييتي السابق فان هذا الحجر نيزك سماوي بالفعل ..

واخيراً ، قبل شهرين تقريباً ، وردني اتصال هاتفي ليلاً من صديق يطلب تحليلاً لرمزية رؤيا لصديق آخر له ( لنسميه السيد ج ) تقول بأن الكعبة كانت مهدمة وإن شباباً صغاراً في السن وليس الشيوخ الكبار هم الذين يبنونها بجوار " صنم " كبير وعظيم ..!!

علماً بان صديقي هذا لم يكن يعرف مسبقاً برؤيا السيد ( ص ) ولا تفسيرها ، ويبدو من هذه الرؤيا انها صافية ايضاً وتعبر عن رسالة من اللاوعي الجمعي تقول بان النظام السياسي العربي اليوم يؤسس من جديد بايدي احداث قليلي الخبرة بجوار وثن كبير ، وهو على الارجح هذا النزوع الطائفي الداعم للفكر السلفي ..

فاصنام العرب القديمة كانت تشير لقبائلهم ، والصنم الكبير هذا يرمز بلا شك لتحويل الجامعة العربية مرموزة بالكعبة في هذه الرؤيا الى جامعة تميل الى لون معين من الطيف العربي وهو الطيف السلفي السني وهذه مسالة جلية وواضحة فيما تعانيه البلاد الاسلامية اليوم بقيادة الاغرار الاحداث في السياسة امثال الحكام الجدد في العالم العربي وتركيا ..

(5)

المراة العربية النموذجية في الصحراء كانت مستترة ، رغم كل محاولات بعض المؤرخين اثبات ان النساء العربيات في " الجاهلية " كن متبرجات كما ذكر القرآن ، لكن الحقيقة ان العربيات في الحواضر مثل مكة والمدينة كن اقل استتاراً من تلكم اللواتي في الصحارى والقفار ، وكانت نساء الحواضر متاثرة بصورة طبيعية بثقافات المدن في الغرب الآسيوي وشمال افريقيا مثل بابل و فارس و دمشق وطيبة ، وكانت بعض طقوس التعري تقام حول الكعبة نفسها بسبب مثل هذه التاثيرات ، لكن استتار المرأة العربية البدوية هو امتداد طبيعي لاستتار البيت وطريقة بناء الخيمة نفسها كما سنشرح هذا بالتحليل لاحقاً ..

التستر كثقافة بعيداً عن الدين وفرضه للحجاب ، ومن ناحية انثروبولوجية صرفة لابد ان يكون بدوافع وحاجات مرحلية تاريخية ملحة حولته فيما بعد الى " ثقافة " وتراث لا يمكن الاستغناء عنه ...

وحجاب النساء في اماكن مختلفة من العالم القديم ، في آشور ، وفي الصحراء العربية لابد ان تكون له مسببات ودوافع بيئية او اجتماعية ..

فالتاريخ يخبرنا بان النساء كن اثناء وقوع الغزو على بلادهن يقصن شعورهن و يشوهن وجوهن ويسترن البدن حتى لا يقعن بمطامع الاعداء ، وتاريخ صحاري العرب والطوارق وما تتخله من حروب وغزوات كان من الطبيعي ان ينتج مثل هكذا ثقافة لحماية المرأة في ظل غياب " الدولة " والقانون ..

بالتالي ، قداسة الكعبة المستترة تتماهى مع قداسة " الشرف " العربي واعتباره للمرأة عورة يجب سترها لدرجة شيوع ثقافة وأد البنات بدفنهن وهن على قيد الحياة ، برمزية طقسية واضحة باعادتها الى التراب الذي خلق منه البشر حسب الثقافات القديمة ..

اذ لم يكونوا يخنقون الصغيرات او يذبحونهن ، كانوا يمارسون نوعاً من طقوسية عرفية بدفنها حية خوفاً من عارها اذا كبرت ..

بالتالي ، الكعبة رمز معقد ومركب يؤشر لطبيعة بناء " الاسرة " العربية الصغيرة ، والاسرة السياسية الكبرى ..

وتفكيك البنى الرمزية الجزئية التي يتالف منها هذا الرمز الجامع مثل الاستار والحجر الاسود والبناء المكعب وفلسفة الطواف والجري والصفا والمروة ورمي الجمرات أو رجم الشيطان والتضحية بنحر القربان والصعود بعرفة ، هذه كلها تؤلف اختزالاً لعموم الثقافة العربية الاسلامية التي تنتمي بجذورها لبيئة الصحراء وتحولاتها التاريخية التي شكلت مجتمعها المعاصر شبه البدوي وشبه الحضري بنفس الوقت ..

فالكعبة بيت يرمز للمدينة المكسوة بخيمة ترمز لقيم الصحراء على صعيد جمعي عام واوضح تجسيد واقعي لهذه الرمزية اليوم هي دول الخليج شبه المتحضرة وشبه المتاخرة في نفس الوقت ..!

وعلى الصعيد الفردي الشخصي ، هي ترمز للانثى وقدسيتها " المضطربة " الغريبة لدى الرجل العربي المعاصر ، قداسة تكاد ان تكون مرضية مشوبة بنوع من سادية " ثقافية " عامة وليست سيكولوجية فردية خاصة ، حيث يتماهى رمز قدسية الكعبة واستارها و " حجرها الاسود " الموضوع داخل " جحر " مع قدسية الانثى وشرف الرجل " جسدها " المجسد باستتاره الكامل والمحافظة على عفتها و " جحرها " الاسود !!


(6)


لطالما كنت اتحاشى التفسيرات الفرويدية للثقافة ، فالثقافة جمعية والسيكولوجيا فردية مع إني لم اكن انكر بان الفرد يتواصل سيكولوجيا وثقافيا مع المجموع ..

لكن التدقيق والبحث في تعنت وتعصب الرجل العربي تجاه موضوع الشرف وجسد المرأة التي تخصه ( زوجته او بنته او اخته ... ) وضعفه وسذاجته امام جسد لامرأة غيره ، جعلني اعيد النظر في هذه التحليلات والتفسيرات باحثاً عن صلة الوصل بين العمق النفسي الفردي الشخصي والقاع الباطني العميق الجمعي الكلاني ..

الرجل العربي ، ذو الشرف الرفيع ، قد يجري خلف اي فتاة او إمرأة دون كياسة او اعتداد بالذات مثل طفل او مريض سيكوباتي حتى لو كانت له مكانة اجتماعية رفيعة ، يعبر عن كبته الجنسي بهذه الطريقة و الذي يختزل في سيمياء صورة اكثر تركيزاً بحفلات البذخ بالمال على اجساد الراقصات والغواني ..

فالرقص الشرقي هو الآخر تعبير عن واقع الكبت الذي يعانيه الفرد ذكرا كان او انثى والذي يتسامى بهذه الصورة الفنية الرائعة والجميلة في ثقافتنا العصرية ..

يمكن متابعة تعليقات هؤلاء الرجال على صفحات الفيسبوك وتويتر للوقوف على مدى الخلل الكبير في البنية الثقافية العربية حتى ولو كان الرجل خالياً من اي مرض نفسي او كبت ، هناك عدم توازن بين القيم الثقافية التي يتبناها عن " الشرف " وبين الميول العاطفية الغريزية التي لديه تجاه الانثى ..

اقول ، هذا كله جعلني اعيد النظر في التفسيرات الفرويدية ، ودلالة الجحر الذهبي للحجر الاسود في الكعبة المستترة ، كانها إمرأة عملاقة منقبة !!

كأن الكعبة باسمها المؤنث ترميز للمرأة العربية كما رآها السيد ( س ) ، وكأنني بالحجر الاسود الموضوع في جحرٍ ذهبي " محصن " فيها ترميز لفرجها " المحصن " ، اقدسُ ما فيها !

هذا الرمز المركب يبدو وكانه يقع في مستويين اثنين من تكوين الحافظة الثقافية العربية :


الاول هو المستوى الشخصي

اذ تناظر الكعبة المرأة ، بقدسية جسدها وضرورة استتاره بصورة عامة ، ومكانة الفرج المركزية في هذه القداسة بصورة خاصة ..

المفارقة هي ان هذه الرمزية تحمي نفسها بالاساطير كي لا تنكشف ، وكثير من باحثي علم النفس الاعماقي والانثروبولوجيين المحدثين يرون بان هناك ما يشبه الوعي الجمعي المستقل الذي يعمل وكانه منظومة مستقلة تتخفى في بنيات اللغة المحكية والمكتوبة وكذلك في التراكيب الجزئية الاسطورية لتقوم بحماية الاسطورة وتطويرها وتكييفها مع المتغيرات التاريخية ، والحجر الاسود في الموروث الشعبي مغلف بالاساطير التي تحميه من المناقشات والتساؤلات التي يمكنها ان تنزع قدسيته التي كان لدى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب شك كبير فيها حين سمعه الناس وهو يقبل الحجر الاسود قائلاً :

لولا اني رايت حبيبي محمد يفعل ذلك ما كنت قبلتك !

فهو الحجر الاسعد في الموروث الشعبي الذي نزل ابيضاً مع آدم لكنه اسود بفعل ذنوب العباد !!

فقصة اسوداد الحجر بفعل ذنوب الناس تمثل اللبنة الصغيرة Mytheme في تكوين اسطورة كبيرة Myth حسب نحت ليفي شتراوس للمصطلح كمصغر فون phone و فونيم phoneme كبنية اولية للمقطع الصوتي ..

فالمنظومة اللاواعية للعقل الجمعي العربي ، وعبر اكثر من الفي سنة ، لم تقم بحماية الاسطورة من التساؤلات البديهية فقط ، بل ارست وجه قداسة استتار المرأة و " تحصين " فرجها بشكل اكبر في تكوينها لشكل الكعبة و " تحصين " حجرها الاسود ..

فالكعبة وطقوس الحج ، ورغم كونها انعكاساً رمزياً يمثل بلغة سيميائية عموم الثقافة العربية ، إلا انها بنفس الوقت تمثل حالة من " تغذية عكسية Feed Back " تؤكد وتعيد ترسيخ هذه الثقافة ولذلك كان " لله على الناس حجُ البيت " ..

فالحج سواء ببمارسته ، او بمتابعته على قنوات التلفاز حتى ، يمثل تفعيلاً وتغذية لاشعورية للمتلقي عبر اثارة رمزية القداسة المركزية فيها والتي تسترسل بعموم ممارسات الحجيج لترسيخ الثقافة الاسلامية بصورة اكبر التي يعبرعنها الحجيج بما يشعروه من اجواء روحانية جمعية في الحج ، كون تلك الاجواء تعيد التواصل اللاشعوري والكامل مع " اللاوعي الجمعي الكلي " للأمة الذي يترك ذلك الانشراح والاطمئنان في نفس الفرد ..

ولعل النبي محمد لم يخطئ بترجمة رسالة اللاوعي الجمعي العربي حين ذكر بان زماناً سياتي على هذه الامة تكون النساء فيها " قبلة " ..

وهذا يؤكد بان الانثى والقبلة ( الكعبة ) متلازمة في دلالة الرمز ومعناه في اللاوعي الجمعي منذ عصور قديمة .


المستوى الثاني : المستوى العام


هو المستوى الذي تناظر فيه الكعبة النظام السياسي العربي برمته المكسو بالقيم والاخلاق البدوية التي لم تعد منتصبة على عمود خيمة مركزي وإنما على اركان المدنية المعاصرة ..

لكن ، هذا التبدل والتغير التاريخي المعروف بتيار الصحوة الاسلامية لم يتناغم بشكل صحيح مع المدنية الاسلامية ايام الامويين والعباسيين ، بل هو ارتداد الى حقبة الانتكاس والانكسار والتفكك في الحضارة العربية ايام المغول والتتر والاتراك العثمانيين ، حيث برزت فكرة العودة للسلف " الصالح " بشقيها السني المتشدد المعروف بالفكر السلفي وامتدادته الوهابية الاخوانية المعاصرة والامامي الشيعي المغالي المتطرف هو الاخر بطريقة تختلف عن تطرف الاول وما يمثله من امتداد عصري في ولاية الفقيه الايرانية ..

بالتالي ، الصحوة الاسلامية هي مجرد " هبة " دفاع عن ماض ثقافي منهار متآكل لا تستطيع ارساء دعائم نهضة علمية حقيقية فعلية قائمة على مدنية عصرية .. بدليل ان هذه الحكومات ذات الرداء الاسلاموي لا تستطيع الامساك بزمام سلطة تقود البلدان لاستقرار و تقدم بسبب تناقضاتها الكثيرة مع الواقع ..

لهذا السبب ، تكون رمزية الكعبة و دلالتها متصدعة متحطمة في اللاوعي الجمعي العربي حتى ولو اعيد بناء هذه الرمزية وترميمها من جديد ، الثقافة الاسلامية وعموم التراث كله اليوم في خطر كبير بوصول هؤلاء للسلطة حيث باتوا يمثلون كما لو انهم " الصخرة " السماوية التي ستدمر التراث في نفوس الناس ..