عن ثقافة التضليل والشعارات وفصائل المرتزقة من الكتّاب والمثقفين


باسم المرعبي
2013 / 3 / 4 - 02:25     

يحبّ العبدُ طاغيةً
لأنّ مهابة اللا شيء في صنَمٍ تؤلّهُهُ
ويكرهُهُ
إذا سقطتْ مهابتهُ على شيءٍ
يراهُ العبدُ مرئياً وعادياً
فيهوى العبدُ طاغيةً سواهُ

"محمود درويش"

..........
ودي ايه؟ دي مصبغة
عَشان صبغ الجلود
لكن ورا الصباغة والألوان والدباغة
في جِلْد كان جَمَل
وجِلد كان حَمَلْ
وأَهو كُلّو بيتعملْ/ جزمة وحزام وشَنطَة
في جِلْد مالوهْش لون/ و جلْد بألف لون
لو تغسلو بصابون/ يطلع لونو أوَنْطَه

"سيّد حجاب"


اللغو سهل، أما الحقيقة ففي غاية الصعوبة

"جورج اليوت"

كلمة أولى

لم أشأ لردّي هذا على مَن يمكن تسميته بأحد "فدائيي صدام" في الثقافة العراقية، أن يتخذ صفة الرد الشخصي البحت ـ وإن كان ذلك حقاً مطلوباً ـ بقدر ما أردته بحثاً لكشف ودحض ادعاءات نموذج هو جزء من ظاهرة ارتزاقية، عراقية وعربية تتخذ من محنة العراق في عقوده الثلاثة الأخيرة وبشكل خاص فترة ما بعد سقوط نظام صدام في العام 2003، مصدراً للعيش وتثبيت الاسم ولكل ما يمت الى تحقيق مصالح صغيرة ذاتية ضيقة لكن تحت أقنعة ويافطات كبيرة لم تلبث أن أثبتت تهافتها وبهتانها، لأن أصحابها عمدوا الى الخلط والتدليس، فقد كانوا يراهنون على ذاكرة معطوبة أو معدومة للثقافة العربية ما سمح لهم، أو هكذا تصوّروا، بتمرير ألاعيبهم وتبديل مواقفهم وأقنعتهم وفق ما تتطلبه مصالحم وأهواؤهم. واذا كان الموقف الأخلاقي لا يعني لهم شيئاً فما كان يجب أن يفوتهم، في الأقل، اننا في عصر ثقافة مكتوبة لا شفاهية، فإن كان الشفاهي عرضة للتحوير أو التلاعب والنسيان فإنّ المكتوب ـ المُعلن غير قابل للتحريف أو الاندثار بحكم الصلادة التي يتمتع بها الحرف حين يأخذ مداه ليصبح وثيقة تهزء من ريح النسيان والتبدّل على مرّ الأزمنة.
وبذلك فإنّ حجج هؤلاء وادعاءاتهم داحضة حين يحاولون اخفاء حقيقة النوايا التي تسوقهم، لأن ثمة ما هو مكتوب بأصابعهم ذاتها هو الذي يُدينهم. كما أرتأيت لردّي هذا أن يكونَ محاججة تبتعد عن مُراكمة ما هو انشائي، مجاني لا يخدم الموضوع الأساس الذي أتناوله بل سعيت لأن تكون، هذه المناقشة، مدعمة بالوثيقة وتهتم بتقديم المعلومة والرأي والفكرة، أو هكذا حاولت.

بقي أن أقول انّ هذا النموذج وغيره من أشباهه من قطيع الاعتياش على المحنة العراقية والمتاجرة بالوطنية لم يُثبت يوماً ولاءه إلا للسلطة ومشروعها الدموي عبر انخراطه في هذا المشروع والتصفيق له، ولم يكن إلا صدى لشعارات وادعاءات قاتلة أكلت من عمر العراقيين ووطنهم على مدى أكثر من ثلاثين عاماً لم تترك الوطن إلا أشلاءً والمواطنين مجرّد نائحين.

حين لا تكون الكلمات أكثر من طلاء..

ما قيمة الكلمات مهما حازت من بريق ـ وهو بريق زائف على أية حال ـ حين لا تكون سوى طلاء لدخيلة فاسدة. لكن ثمة الكثير ممّن يحاول التستّر على عطب وعطن نفسي دائم بضخّ المزيد والمزيد من الكلمات الى سوق رائجة بشتى أنواع الأكاذيب والإدعاءات. فليس هناك أسهل من الكلمات لدى مسترخصي الدم والمواقف. والأمر لا يعدو عن كونه صفنة يشوبها ذهول غبي ومن ثمّ اقتراف كتابة أقرب الى اللغو لا توفّر أحداً أو مبدءاً إلا وطعنت به. كتابة لا يتعفّف صاحبها عن الكذب الصريح والتلفيق واتخاذ القناع وجهاً حتى يتهرّأ الاثنان. كذب وادعاء مُعتادان لديه يراهن صاحبهما على تساهل إن لم يكن انعدام ذاكرة ثقافية وانسانية تضع الأشياء مواضعها، فالشلل الذي يضرب عن قصد أو غير قصد الذاكرة الثقافية العراقية والعربية هو الذي يُتيح لهؤلاء الكتبة الكذَبة أن يبدّلوا جلودهم وفق توقيتات حسّهم ونزوعهم الانتهازي، فمن كان يبارك ويديم نظاماً دكتاتورياً اجرامياً، بفعاليته وصراخه وتصفيقه وضلوعه في مخططات هذا النظام، حتى وإن تحت تسمية الثقافة، وربما ما يتجاوز ذلك. يتحول، بحسه الآنف، عند مشارف سقوط هذا النظام الى ضحية ضاجّة تَنصبّ شراهة عينها على مغانم قادمة. هذا سجلٌّ منقوع بالدم، فلا براءة لكلمات صفّقت للجريمة وكانت ترى في القتل، طالما هو لا يستهدفها مغنماً. كم من الكلمات كانت تتراقص تهتّكاً في حفلات الإعدام الجماعي للعراقيين في مختلف مشاريع سلطة صدام الدموية. كلمات تريد أن تنفض يديها، الآن، من ذلك الإرث الأسود لتمحو شبهاتها السابقة بجريمة جديدة. التصفيق للجريمة جريمة. الآن يتم التصفيق مجدّداً على شرف ذبح العراقيين مرة اخرى واخرى بمشاريع ومسمّيات جديدة. من قال ان سلطة صدام انتهت؟ ليس مهماً، هنا، الاسم فمشروع ذبح العراقيين قائم ومستمر من مختلف الجهات منذ أن دشّنه "بطل العرب" أواخر السبعينات "صعوداً" حتى سقوطه. لم يهنأ العراق سوى فترة هي هنيهات في عمر الزمن سبقت الانقضاض البعثي الثاني على السلطة في العام 1968. لكن الفترة التي أعقبتْ خطف صدام السلطةَ من البكر هي الأدهى والأمر في عمر العراق وربما المنطقة بأسرها، حتى تسليمه العراق الى الولايات المتحدة علناً. قبل ذلك كان العراق طوع أمريكا أيضاً وصدام هو رجلها منذ الخمسينات. ولم يعد سرّاً ان محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم العام 1959 التي ضلع فيها صدام من ضمن آخرين كانت عملية أمريكية ـ بريطانية، لكن كلّ ذلك مغطى بشعارات فاقعة مثل مساحيق "المحترفات" لا يريد أن يراها أو يقرّ بها أذنابه ومنهم الدعيّ فاروق يوسف الذي استلزمَ ردّنا هنا والذي انبرى لنا، بكلمات تنم عن دخيلة فائحة بالسم، رداً على مقال لنا في القدس العربي، صفحة ثقافة وأدب، هو: (سعدي يوسف و"الربيع العربي" في امتداح الشيء وذمه)، أتيتُ فيه على موقف سعدي المناهض للثورات العربية. اما عنوان موضوع المنافح عن سعدي، ملقاً ورياءً فقد كان، "عن سعدي يوسف والربيع العربي: كلمة منه تصنع وطنا جميلا يليق بالكرام". يُنصّب نفسه، خلاله، بكلمات وأفكار سقيمة عدواً أول لأمريكا في زمن اختلط فيه كلّ شيء وزُوّرَ كلّ شيء، في الوقت الذي يتجاهل أو يجهل، انّ انقلاب تموز 1968 هو انقلاب أمريكي حمل البعثيين الى السلطة لأسباب شتى لا تخفى لكنّ البترول كان أحدها أو أهمّها ـ راجع، على سبيل المثال، مقالنا: "ما بيننا وبين الفايكنغ" ـ الصباح العراقية، 28 كانون الأول (ديسمبر) 2009.
انّ بعثيي 68 هم بعثيو 63 أنفسهم، قتلة عبد الكريم قاسم الحاكم الوطني الذي مات وفي جيبه أقل من دينار وكان سكنه، حتى لحظة مقتله، داراً مستأجرة من دائرة الأموال المجمدة بـ 15 ديناراً. وليس بخافٍ ان هوية انقلابيي 8 شباط 1963 هي هوية أمريكية وبغض النظر عن شهادة علي صالح السعدي نائب رئيس الوزراء ووزير داخلية ذلك الانقلاب ـ على أهميتها ـ التي يقول فيها اننا جئنا بقطار أمريكي، التي أشارت اليها مصادر عديدة، من بينها كتاب الباحث علي كريم سعيد: عراق 8 شباط 1963/ من حوار المفاهيم الى حوار الدم ـ مراجعات في ذاكرة طالب شبيب وكتاب من الثورة الى الديكتاتورية/ العراق منذ 1958 لـ ماريون سلوغلت وبيتر سلوغلت، ترجمة مالك النبراسي. الذي يشير في الفصل الثالث من الكتاب بأنه سأل السعدي شخصياً في صيف العام 1976 عن قوله الآنف فأيّد ذلك. على العموم، ان من يقرأ، حتى دون خلفية ما، تاريخ تلك الحقبة بعين واعية يدرك ان منفذي الانقلاب لم يكونوا إلا محض أدوات وواجهة لجهات خارجية على رأسها الولايات المتحدة، فقد كانوا من الضعف والقلة وانعدام الكوادر لديهم حتى انهم أعربوا عن حيرتهم ازاء تدبير وادارة شؤون الدولة في حال نجاح الانقلاب، بالمناسبة بدوا واثقين جداً من نجاحهم، راجع ـ على سبيل المثال ـ أوكار الهزيمة/ تجربتي في حزب البعث العراقي، لهاني الفكيكي، أحد بعثيي وقادة تلك الفترة. لكن هذا النقص لدى كوادر البعث في العام 1963 بما يتصل بإدارة الدولة في مرافقها المدنية يقابله "اكتمال" واحترافية عالية في أعمال القتل والإرهاب، حيث (استمرّت الإعدامات والإعتقالات والتعذيب طيلة فترة بقاء البعث في السلطة وأن مسؤوليتهم عن تلك الجرائم ليست موضع شك أبداً. إذ ان كلّ عائلة في بغداد ـ تقريباً ـ قد تضرّرت وشمل سوء المعاملة الرجال والنساء على السواء وزادت أعمال البعثيين من شدّة الاشمئزاز والكراهية لهم ذلك الاشمئزاز الذي استمر الى الوقت الحاضر لدى معظم العراقيين). راجع، من الثورة الى الديكتاتورية/ العراق منذ 1958، مصدر سبق ذكره.
ويذكر المصدر ذاته الى انّ (حجم الإعدامات والاعتقالات التي حدثت في ربيع وصيف 1963 تشير الى انّ الحملة مرتبة ومخطّطة ومنسقة بشكل وثيق ومن المؤكّد ان أولئك الذي شنوا الحملات على دور المشتبه بهم كانوا يقومون بشن تلك الحملات استناداً الى قوائم تمّ تزويدهم بها مسبقاً). ليخلص المؤلفان الى انّ نتيجة مفادها، (انّ بعض قادة البعث على اتصال مع دوائر الاستخبارات الأمريكية). كما يثبت في موضع آخر، نقلاً عن حنا بطاطو، عن الملك حسين، قوله: (ماحدث في العراق في 8 شباط 1963 كان بتأييد من المخابرات المركزية الأمريكية وقد أيّد لنا موظف رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأمريكية بأنّ صدام حسين والبعثيين الآخرين قد أجروا اتصالات مع السلطات الأمريكية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات).

هل يدرك "صاحبنا" ان احتلال العراق يبدأ من تلك الحقبة واستئنافاً في تموز 1968 حتى التسليم المعروف من صدام وقادته الى الأيدي التي أتت به وهو وما كان مصمماً عليه بدلاً من أن تؤول الأمور الى العراقيين مباشرة، برفضه كل مبادرات خروجه من السلطة.

لمَ لمْ نسمع لـ "فدائي صدام" كلمة واحدة في الاحتلال الذي دام أكثر من ثلاثة عقود ونَفّذَ بتفانٍ زائد كل أجندات أمريكا وحلفائها من حروب خارجية كارثية النتائج الى حروب داخلية لتصفية القوى والأحزاب الوطنية الى المجازر المرتكبة بحق الأكراد في الشمال والعرب في الوسط والجنوب. أم أنّه لا يرى بأساً في الاحتلال الداخلي الذي كان يمثّله صدام وطغمته! راجع، نصوص الحرب ـ محاضر جلسات جيمس بيكر وطارق عزيز في جنيف على أعتاب حرب الكويت، وما قاله عزيز لبيكر عن مقاتلة العراقيين نيابة عن الشباب الأمريكي في حرب الخليج الأولى.

العراق من الأمل الى الحضيض

في العام 1978 وقبل أن تؤول الأمور "رسميا" الى صدام بعام واحد، تمّ الغاء تصنيف العراق كدولة نامية وأُدرج ضمن قائمة الدول نصف الصناعية. وما ان أنشب هذا المسخ مخالبه في قلب العراق حتى تراجع كلّ شيء بشكل درامي وصولاً الى الحضيض الراهن الذي نشهده. الآن يتراوح عدد الأميين في العراق بين 5 الى 6 ملايين معظمهم من النساء، في الوقت الذي كان العراق شبه خالٍ من الأمية عند استلام صدام السلطة، نتيجة لقانون التعليم الالزامي و"الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأمية" التي قادها الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر والتي انتحلها صدام فيما بعد وبسياسة مضادة. لكن ثمّة من يحُول المرض الذي في قلبه والغشاوة التي على عينيه دون رؤية كلّ ذلك فهو منشغل بمعاركه ودوره الذي انتدب له نفسه أو ربما كُلّف به وهو محاربة المثقفين العراقيين الخارجين على سلطة صدام بصبّ ضغائنه عليهم كما في أكثر من مكان ومناسبة، والآن يعود ليمارس نفس اللعبة القديمة بنفث أحقاده وسمومه في وجه المثقفين الذي عبّروا عن موقفهم ازاء ضرورة سقوط صدام، لكن القناع اختلف الآن بدعوى "الاحتلال" و"المقاومة"، وليته وضّح لنا أية مقاومة يعنيها؟ هل هي مقاومة عزة الدوري أم محمد يونس الأحمد أم مشعان الجبوري أم حارث الضاري؟ هذا الأخير الذي يقول ان أعمال القاعدة مقاومة مشروعة وهم منا و نحن منهم. هذا السجل الأسود الذي لا يريد ان ينتهي عند أغاني "المقاومة" المتصاعدة في ملاهي دمشق من بين هزّ الراقصات والأصوات الداعرة لمغنين فاشلين يؤدّون واجبهم في تمجيد "المقاومة". مقاومة الزرقاوي وحزّ الرقاب بالصفائخ المسنّنة. مقاومة "المفتي" المصري أبو ذيبة ـ تأملوا الأسم ـ الذي أفتى باغتصاب عروس "التاجي"، كما عُرفتْ في الإعلام بهذا الاسم، في قبو الجامع واستبقائها سبعة أيام لممارسة هذه الفظائع ومن ثم قطع ثديها بالمنجل وقتلها أمام عريسها. وقبل ذلك كانوا قد ارتكبوا الفظائع بحق المدعوين والمدعوات لحفل الزفاف بحيث لم يسلم حتى الأطفال بعمر السنتين من القتل بتكبيلهم والقائهم في النهر. عليه أن يخرس الى الأبد وأن لا ينبس بحرف مَن لم تهزه أو تحركه هذه الجرائم بحق العراقيين ـ لكن الأدانة هنا تشمل، أيضاً، حكومة المالكي التي استخدمت هذه الجريمة الشنيعة كورقة لمصلحتها ضدّ خصومها السياسيين وتعبئة الأنصار في ساحة التحرير لكسر المظاهرات المطالِبة بمحاسبة الحكومة بل وحتى رحيلها ـ.
أين اللسان الذي يلهج بالدفاع عن القتلة وتمجيدهم؟ ألا يستحق ضحايا هذه الجريمة وغيرها من الجرائم التي تساقط فيها عراقيون أبرياء وعلى مدى سنوات، شيئاً من دمع أو ترحُّم؟ أم انّ المعركة مع المثقفين العراقيين الأحرار الذين دفعوا ثمن مواقفهم المتضامنة مع شعبهم ضد الديكتاتورية سنوات مديدة من التشرّد والنفي، قد أعمته عن كلّ ذلك، في الوقت الذي كان يجب أن يقف كلّ عراقي، وبأي وسيلة يمتلكها، في وجه صدام ونظامه الذي أودى بالعراق وأوصله الى الراهن الذي يعيشه.
ولأجل تذكير من نسي أو يتناسى جرائم صدام أورد هنا "شيئاً" من آثار ونتائج السياسة الكارثية له على الصعيد (الاقتصادي)، فقط. فقد بلغت خسائر العراق نتيجة الحرب مع ايران 452,6 (اربعمائة واثنان وخمسون وستة بالعشرة) مليار دولار ومما يجب ذكره هنا ان مجموع ايرادات النفط من سنة 1931 حتى سنة 1988 بلغت 179,3 (مائة وتسعة وسبعون وثلاثة بالعشرة) مليار دولار أي انه في ثماني سنوات تمّ هدر ما مقداره مرتين ونصف من الايرادات البترولية المتراكمة خلال 57 سنة. وقد بلغت ديون العراق بفعل هذه الحرب 86 مليار دولار موزّعة بين دول الخليج والدول الغربية والدول الاشتراكية. اما عن تكلفة الحرب بسبب غزو الكويت وما ترتّب على ذلك فيكفي ان نعرف انّ دخل الفرد العراقي بلغَ في العام 1993 أقل من دخل العامل الزراعي غير الماهر في الهند، والتي تُعتبر من أفقر بلدان العالم. ويذكر (الدكتور عباس النصراوي في كتابه: "الاقتصاد العراقي"، ترجمة محمد سعيد عبد العزيز) الذي اعتمدنا، في ايراد هذه المعلومات، على عرض له قدمّه الأستاذ عزيز الحاج قبل سنوات. (ان بناء موجودات البلد التي استغرقت ما بين أربعة الى خمسة عقود والتي كلّفت مبالغ ضخمة واستلزمت خبرات أجنبية واسعة، دُمّرتْ خلال 34 يوماً فقط في حملة القصف عام 1991، فالآثار المشتركة لهذه الحرب كذلك الحرب مع ايران، أدت ليس فقط الى تدمير الأصول العراقية، بل الافلاس المالي للبلاد، افقار الشعب، تخلف الاقتصاد، تعميق التبعية للغرب فضلاً عن الاعتماد المكثف على قطاع النفط). انتهى الاقتباس.
هذه الأرقام لم تشمل المليارات من الدولارات التي يتواصل تسديدها، منذ سنوات لدول وجهات وأفراد كتعويضات، امتازت بالضخامة وشابَها الكثير من التزوير واللصوصية. وربما من المفيد بهذا الصدد ايراد مقتطفات من احدى رسائل الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو، الاثنتين، الموجّهتين لصدام ينصحه فيها بالانسحاب من الكويت كي لا يعرّض العراق للدمار. يقول، (ان العراق يعرض نفسه لحرب غير متوازنة، من دون التمتع بالذرائع السياسية الصلبة ولا بدعم الرأي العام الدولي، باستثناء بعض التضامن الذي جرى التعبير عنه في عدد من الدول العربية) ويقول في مكان آخر،(لا يمكننا ان نسمح بأن يدمّر الجيش الاميركي ذو الاسلحة المتطورة جدا، ما بناه الشعب العراقي خلال سنوات طويلة، ولو كانت هناك أسباب مبررة ومنطقية، لكنت آخر من يطلب منك تفادي هذه التضحية..) انتهت الرسالة. المصدر، صحيفة الرأي العام الكويتية 17/5/2007، والرسالتان نُشرتا تحت عنوان: "اخرج من الكويت وإلا سيدمر الأميركيون بلادك". لكن أنّى لصدام الاستماع ومهمته هي تدمير العراق.
كما لا يجب أن يُنسينا التخريب الحالي للبلاد وتسلّط اناس فاسدين، غير كفوئين، منحازين لكل شيء الا الوطن، الخرابَ "التأسيسي" الذي قام به صدام ونظامه. فمهما كان حجم التشويش الذي يأتي به هذا أو غيره ممن يريد أن يوهمنا انه الوحيد الغيور على العراق بترديده نغمة "المقاومة" و"الاحتلال" كأنه هو مَن "اخترعهما"، لُغةً وواقعاً!!، فلن ينسينا حجم الكارثة التي اقترفها صدام بحق العراق. ولن تشفع له كلماته ولن تشغلنا عن التبصّر بأن ما يصدر عنه ليس أكثر من فائض كراهية سوداء تتملّكه متأتية من مَواطن خلل أكيد فالذي يمجّد الطغاة ويعيش عقدة الدونية والصغار لا يمكن له أبداً ان يحب شعبه أو وطنه بلْه الأحرار وهو ما يُفسّر هنا انشغاله بمهاجمتنا والنبش في أحقاده بدل الأتيان ولو بحرف واحد عن موضوع الثورات العربية الذي هو القضية الأساس في مقالنا الآنف الذكر.
النفوس الكبيرة فقط هي القادرة على الحب وعلى افتداء شعبها أما الصغيرة فهي المتهافتة على فتات الأشياء والتعاطي مع كلّ شيء بمبدأ الربح والخسارة والبيع والشراء، فلا تحسن، تبعاً لذلك، سوى الوضاعة والكراهية ما يقودها الى التدليس ولكن أنّى لها ان تقرّ بذلك؟ فكل ما يعيشه العراق من مآسٍ وتدهور يمتّ لصدام وحقبته. فهل مَن استدعى ردنا هنا سبق له أن تأمّل ذلك؟ هل أرّقته هذه الفجائع أم انه لا يجيد سوى استمراء لغة حاقدة لا تعرف غير تحميل المثقفين العراقيين الناقمين على صدام، مسؤولية كلّ شيء وكأنهم هم الذين اوصلوا البلاد الى هذا المستوى المروّع في كلّ شيء. لا أعرف كيف يقدر على ممارسة الخداع الى هذه الدرجة من الصلف بالتغاضي عن ماضٍ بهذا القرب وبكل هذه الجراح الفاغرة فهذا ليس من الشرف في شيء بل هي محاولة بائسة للنظر بعين رمداء الى الأمور من أجل ترويج خطاب مضلّل له غايات وأهداف معروفة.

من مُهاجمة سعدي يوسف الى الدفاع عنه

هو يتطوّع الآن للدفاع عن سعدي يوسف. وهذا تأكيد لنفاقه وفضح لنواياه وذرائعه، لأنّ ذلك يُحيلنا الى مقالاته، أيام صدام، المتحاملة على المثقفين العراقيين في المنفى وغير المتوانية عن تخوينهم لأنهم اختاروا الوقوف ضدّ نظامه ، فهل نسي انّ سعدي كان أحدهم؟ وفي الوقت الذي كان يشن هجماته تلك كان كاتب هذه السطور يكتب وينشر في الصحافة العربية أو في صحف المعارضة العراقية مقالاته الحزينة والغاضبة بسبب حصار السلطة والغرب على العراقيين، الذين صاروا محطّ اشفاق، متهماً الطرفين بمعاقبة العراق، هذا الذي يؤآخذنا الدعيّ لأننا قلنا انّ معاداته، أي العراق، اثم، ليشرح لنا وكأننا تلامذة في مدرسة، أي وطن يعنيه ويعاديه سعدي، متخذاً من "ذريعة" "المقاومة" خرقةَ فتنة يتمسّح بها ويشهرها في الوقت الذي يريد. وطالما انّ الأمر يتطلب دحض افترائه وتجنّيه سأضيف التالي:
ان الميليشيا المسماة بجيش المهدي التابعة لتيار مقتدى الصدر الذي هو من أبرز الداعين الى "المقاومة" وطرد المحتل، في الوقت الذي يقرّ هونفسه باجرام جماعته ففي آخر وصف صدر منه لـ "بعض" أتباعه بأنهم، (مجرمون وقتلة وعصاة). وكلّ يوم يخرج علينا مقتدى بفتوى. هذه الميليشيا وكما هو معروف للعراقيين من بين أخطر وأفظع التشكيلات الاجرامية التي عاثت في البلاد شراً وفساداً ـ وشيء جيد انّ صاحبنا اكتشف مؤخراً انها كذلك، لكنه، يتهمنا في نفس الوقت ـ فضّ فوه ـ بالسكوت عنها وعن أمثالها. وأحيله هنا الى ما يُفنّد ويُبطل زعمه ـ فمن بين كتابات ومواقف عديدة أعلنتها بصدد هذا التشكيل أو التيار عموماً ـ كما في موقع "ايلاف" الالكتروني ولمرات عديدة وفي ذروة تلك الأحداث ـ مقال سبق وان تمّ نشره في صحيفة المستقبل اللبنانية بعنوان، العراق: ثمن الصمت، 1 تموز 2008 والذي أقتطف منه التالي: (لقد كان للصمت الطويل الذي "تحلت" به الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ ما بعد نيسان 2003 وحتى فترة وجيزة قبل ما عرف بعملية "صولة الفرسان" في البصرة ثمنه الفادح جداً دفعه المواطن العراقي ذاته أولاً وأخيراً على امتداد العراق وليس البصرة فقط لما للمدينة من أهمية اقتصادية باعتبارها بوابة العراق الجنوبية وميناءه. ان الخروج عن الصمت وتسمية الأشياء بأسمائها بتوجيهها الاتهامات إلى مختلف الميليشيات وعلى رأسها ميليشيا ما يعرف بالتيار الصدري كان خطوة الحكومة الأولى المطلوبة والمتأخرة كثيراً إما بسبب عجزها الحقيقي عن مواجهة مثل هذه العصابات المسلحة أو مراعاة لمصالحها التي أملتها أصلاً طبيعة التحالفات السياسية الشوهاء التي جمعتها).
على هذا فهو ينطلق من نواياه الخاصة به فقط في الأساءة والتعريض فلا أرضية في الواقع يستند لها في كلّ ما ساقه ضدّنا وضدّ قطاع عريض من المثقفين العراقيين المهمومين بوطنهم. نوايا وأفكار خطيرة تستمد قوامها من تربية حزبية فاشية لا ترى في الآخر المختلف إلا عدواً يجب التخلص منه. ولا عجب فإنّ مثل هذا الفهم يجد جذوره لدى استاذه "القائد المؤسّس" عفلق فهو يقول في واحد من كراريسه: "ان مقاومة الأفكار الهدامة لا تقتصر على مناقشتها ودحضها، بل تُملي تصفية المؤمنين بها والداعين اليها". لكن ما هي صفة هذه "الهدامة" ومن يحدّدها، فهذا عائد الى عفلق وأتباعه، والتخوين هو الأسهل لدى هذا الصنف، وهو يعني التكفير باللغة السلفية الذي هو في الأخير التصفية. فمن أباح له الفتوى واصدار صكوك التزكية والوطنية لهذا وذاك! فليس من حق أحد مهما حاز من مكانة اصدار شهادات "الوطنية" فكيف بالذين لا حجم ولا اعتبار لهم سواء في ثقافتهم المحلية أو العربية؟ لقد أطمأنّ "الأخ"، كما ما يبدو، الى ما كتبه من قصائد باردة بائسة ليس من قيمة تُذكر لها وهي أقرب الى الترجمة الرديئة!


مزايدة وتضليل وتناقض وخواء

ما يلفت النظر انه الوحيد الذي انبرى لمقالنا الآنف رغم اننا لم نذكره أو نشير اليه، الا اذا كان يعدّ نفسه واحداً من العبيد الذين عرّض بهم المقال فهذا من شأنه.
اضافة الى كل ما تقدّم فلا يمكن التغاضي عن امور عدّة اخرى وردت في مقاله نجد من الضرورة الإشارة اليها من مثل استهلاله المطوّل لموضوعه فقد كان هذيانياً وبالعامية نقول عنه "تلويص" وبطبيعة الحال لم يكن منتجاً. وإلا ما معنى كلّ هذا الـهراء الذي لا ينمّ إلا عن نفس ملتاثة: "سفاري وقباقيب ومحابس شذر ومولانا جاك الذيب وجيش شعبي وأدعية للزيارات وركضة طويريج ويمه نتلني الاوتي وحرامية تحت الدرج وكاولية في الحديقة الخلفية ولجنة اولمبية ومقابر جماعية وغبار نووي وقرى سرطانية وصبخة ويابسة بلا تمن وفلوجة ونجف وطليان في الناصرية. حتى الشعر وعبد الكريم قاسم وهمبرغر ابو يونان. حتى زهور حسين والرسم الحديث وجان دمو. حتى آل ازيرج والبزون والسواعد والبيضان". ـ انتهى مقطع الهراء ـ.
كما حفل بالتناقض وهو شيء طبيعي لمسار الكذب والادعاء الذي اختطه له كما بيّنا وسنبيّن ذلك، ثمّ ما هي القيمة المعرفية التي يتحصّلها القارىء من المقال بانشائيته الفاقعة التي اتصف بها.

وسأخلص الى النقاط التالية:
1• كمثال، من بين أمثلة كثيرة، على التناقض الصارخ الذي وقع فيه، وهو مؤشر مهم وكبير على عدم صدق دعاواه أو ايمانه بما يقول، نجد انه في الوقت الذي يسفّه فيه العراقيين ويختزل العراق كلّه بالمنطقة الخضراء، مقرراً في ذات الوقت: "لم يسلم شيء من الزيف". لكنه بالمقابل يشيد بما يسميه "المقاومة" وكأنّ مقاومته هذه هبطت من كوكب آخر ولم تطلع من الوحل الذي وضع فيه العراقيين جميعاً. فكيف نجت "مقاومته"من المستنقع الذي غمس كلّ شيء فيه وسلمت من الزيف الذي لم يسلم منه شيء حسب تعبيره؟

2• كيف يفسّر بلوغ أعداد ضحايا "مقاومته" أكثر من 100 ألف عراقي، مقابل أقل من خمسة آلاف قتيل أمريكي؟! (فقد أشارت منظمة "إحصاء القتلى العراقيين" ـ وهي منظمة بريطانية غير حكومية للبحوث تقوم بتدوين أعداد الضحايا العراقيين بمختلف الوسائل وتعرف اختصاراً بـ IBCـ إلى أن عدد الذين سقطوا من العراقيين ما بين آذار/ مارس 2003 وتموز/ يوليو 2010 تراوح ما بين 98 ألف و107 آلاف قتيل. وكانت دراسة أجرتها "منظمة الصحة العالمية" في عام 2008 قد أشارت إلى أن عدد العراقيين الذين قتلوا نتيجة لأحداث عنف شهدتها البلاد منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 إلى ذلك العام بلغ 151 ألف قتيل، واعتمدت الدراسة على مقابلات أُجريت مع نحو 9 آلاف أسرة عراقية أجرتها وزارة الصحة العراقية لحساب منظمة الصحة العالمية).
وفي دراسة للباحثة مادلين سياوري هيكز من كلية كنك في لندن "أكدت بما لا يقبل اللبس أن الضحية الأولى للعمليات الانتحارية هو المواطن العراقي المدني وان الأطفال هم الأكثر تعرضاً للموت من البالغين عند إصابتهم نتيجة لهذه التفجيرات"، تقرير مترجم عن الواشنطن بوست في صحيفة المدى العراقية، 5/9/2011. واليوم وأنا أراجع هذه النسخة من مقالي هذا، أي بعد حوالي أربعة أشهر من تقرير الواشنطن بوست المشار اليه قبل قليل، تداولت الميديا العالمية ومنها التلفزيون السويدي دراسة جديدة لمنظمة Iraq Body Count تذكر فيها انّ أعداد القتلى في العراق منذ الغزو الامريكي للبلاد في العام 2003 قد بلغ 162.000 وكان عدد الضحايا من المدنيين هو أربعة من خمسة. ـ انتهت الاشارة الى التقرير ـ.
لكن لابدّ من التأكيد على انّ من بين الضحايا هناك من سقط على أيدي القوات الامريكية وعلى المدى الزمني لتواجد هذه القوات، وبأبشع الطرق، لكن كم يبلغ عدد هؤلاء مقارنة بما حصدته، من أرواح العراقيين، الميليشيات التي تدّعي كلها محاربة قوات الاحتلال، وان كانت كلّ نفس بريئة تذهب غدراً وظلماً هي عدد هائل في حدّ ذاتها، مصداقاً لما جاء في القرآن الكريم: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً».

3• احتلال أمريكا للعراق لديه يبدأ فقط بلحظة أطاحة صدام ونظامه الفاشي. ـ وهذا هو بيت القصيد لديه ـ في حين انّ هذه هي لحظة احتلال مباشر تضاف الى "لحظات" احتلال بالوكالة كان أبطالها صدام وحزبه. راجع مقالنا الآنف في الصباح العراقية، "ما بيننا وبين الفايكنغ" الذي يتضمّن شهادة حامد الجبوري أوّل وزير اعلام لانقلاب تموز 1968 التي أشار فيها الى أحد اعداد مجلة نيوزويك الامريكية والصادر في شهر شباط من العام 1969 أي بعد بضعة أشهر، فقط، من الانقلاب والتي نشرت على الغلاف صورة صدام ـ ولم يكن معروفاً لا عراقياً ولا عربياً الا في دوائر الاستخبارات ـ مع عنوان مثير ولافت: رجل العراق القادم بعد عشر سنوات. وهو ما تحقق بالضبط في تموز 1979 كما هو معروف.

4• تعزيزاً للشهادة الآنفة وشهادات أخرى في هذا المجال يذكر العقيد عبد الغني الراوي رداً على سؤال غسان شربل في جريدة الحياة عن تفاصيل محاولته الانقلابية عام 1970 والمعروفة بمؤامرة عبد الغني الراوي، التالي، وقد قدّم له ملاحظاته هذه مدوّنة:
إن الأسباب التي دعتني إلى الذهاب إلى إيران والتعاون مع حكومتها هي:
ـ وصلَ البعثيون إلى السلطة ببغداد في 17/7/ 1968 بعملية انقلاب نفذها آمر لواء الحرس الجمهوري المقدم الركن إبراهيم عبدالرحمن الداود وزميله معاون مدير الاستخبارات العسكرية المقدم الركن عبدالرزاق النايف (وكلاهما من عملاء "سي آي اي"). واعترف الأول منهما في مجلس "بأن الأميركان هم الذين جلبونا (جابونا) إلى الحكم وهم الذين أخرجونا منه. فقد نفذا الانقلاب اطاعة لأوامر "سي آي اي" لفرض متطلبات أمن اسرائيل واستمراريتها. لأن حزب "البعث" هو من يؤمّن هذه المتطلبات. ذلك لأن الدول الغربية (والشرقية أيضاً ـ روسيا) كانت تريد أن يقوم في العراق حكم تتوافر في قادته المواصفات التالية:
أولاًـ أن يكونوا أعداء مع نظام البعث السوري.
ثانياً ـ أن يكونوا أعداء مع النظام المصري (الناصري).
ثالثاً ـ أن يكونوا أعداء مع الدول العربية المجاورة (الأردن، السعودية، الكويت).
رابعاً ـ أن يكونوا أعداء مع الدول الإسلامية المجاورة (إيران، تركيا).
خامساً ـ أن يكونوا أعداء مع الشعب العراقي من غير العرب (الأكراد، الأتراك، القوميات الأخرى). ـ انتهى المجتزء من شهادة الراوي ـ.

5• أثبتت الوقائع انّ ما يُسمّى بالمقاومة هي ذات شقين، شقّ من فلول النظام السابق المتضررين بطبيعة الحال من سقوط النظام والشق الآخر تتوزعه ايران وسوريا متخذين العراق ساحة لمحاربة أمريكا وحلفائها عبر عملائهما من العراقيين، وهذا ليس بالأمر الخافي على أحد، انطلاقاً من المصلحة الخالصة لنظامي البلدين في الدفاع عن وجودهما اضافة الى حرصهما على تحقيق أكبر قدر من النفوذ لهما. منوّهاً في نفس الوقت انّ دحض مقولة المقاومة شيء يستدعي التحفّظ لكن هذا هو الواقع فظروف العراق والحروب المدمّرة التي خاضها العراقيون على مدى عقود ملحقاً بها فترة الحصار الرهيبة كلّ ذلك لم يخلق أو يُنضج الظروف المؤاتية لمقاتلة القوات الأمريكية أو غيرها بمقاومة شعبية حقة بقيادات وطنية حقيقية مخلصة تضع مصلحة المواطن والوطن فوق كلّ اعتبار، ثمّ وهذا هو الأهم لقد أوصلَ صدام العراقيين بظلمه وعدوانيته بل وغرائبية حكمه الى جعلهم يطلبون الخلاص منه بأي ثمن ومن أي جهة أتى.

6• تأكيداً واثباتاً لكل ما قلناه سابقاً ومنذ سنوات أو في هذا المقال وتدعيماً لرأينا بما يُسمى المقاومة العراقية، ونظرتنا لها، خصوصاً في النقطة السالفة أعلاه، ها هي الحقائق بدأت تتكشف وتُناقش، بل يُشهّر بها في العلن. فقبل أيام أعلنت الميليشيا المسمّاة بــ "عصائب أهل الحق" ـ المنشقة عن التيار الصدري والمدعومة من ايران انها قد نفّذت أكثر من خمسة آلاف عملية. لكن ضد مَن؟ هذا ما يجيب عليه مقتدى الصدر، إذ اتهمها بقتل سياسيين وعناصر في الجيش والشرطة بحجة العمالة، مقراً ـ للمرة الأولى ـ بأن ايران مسؤولة عن هذه الجماعة، كما وصفهم أكثر من مرّة بأنهم عصابات من القتلة لا دين لهم.

7• لا يخفى ان صاحبنا يستهدف المثقفين العراقين المعارضين لصدام ونظامه فهذا دأبه منذ أيام ذلك النظام وكأنهم هم من أوصلَ البلاد الى هذا الدرك، متغاضياً عن الأسباب الحقيقية التي جرّت الويلات على العراق وهو النظام البائد وما كان يحفّ به من ثقافة تبريرية لكل جرائمه وآثامه وهو ليس بعيد عن كلّ ذلك.

8• يريد ان يقوّلنا مالم نقل ويريد ان يسند لنا موقفاً هو ليس لنا أو منا. فهو يخلط متعمداً ويلغي الفرق بين أن تكون مؤيداً للاحتلال وبين أن ترى ضرورة سقوط نظام الجريمة الذي كان يمثله صدام وأن ترفض وتكون ضدّ من يمتطي ويتخذ من تسمية "المقاومة" غطاءً لقتل الناس ولاسترداد سلطة مفقودة لا أكثر. وبخصوص النقطة الأخيرة هذه، يورد الدكتور جواد هاشم في كتابه: "مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام/ ذكريات في السياسة العراقية 1967ـ 2000 عن صدام قوله، وكان بصدد الحديث عن الاحتفاظ بـ 5% من عائدات النفط العراقي في حساب مستقل في الخارج، (لكي تكون لقيادة الحزب، على حد تعبيره، مبالغ كافية من المال لاستخدامها في العودة الى الحكم في حال وقوع انقلاب أو غزو خارجي للبلاد، ويتوجه اليهم صدام، قائلاً، هو ووزير المالية في وقته ومحافظ البنك المركزي: حزب البعث جاء الى العراق ليحكم 300 سنة).
وهكذا يُسخّر النفط، دائماً، كأداة لقتل العراقيين وحرق وطنهم بدل تنميتهم ووسيلة لشراء فصائل من الكتبة المرتزقة، في الداخل والخارج، لأجل التغطية على الجريمة. هذا من جهة ومن جهة ثانية اتخذ الايرانيون والسوريون من العراق خط دفاع متقدّم عن نظاميهما باستهداف القوات الأمريكية وغيرها وباثارة الفوضى واشاعة القتل بذريعة المقاومة، اضافة الى جهات اخرى يهمها زعزعة العراق واضعافه، فأين، من كلّ ذلك، شرف المقاومة الجزائرية وشخصياتها والمقاومة التونسية ورجالاتها الذين يحظون بمحبة واحترام المجتمع الدولي وقبل ذلك شعوبهم مثل "فرحات حشّاد" بصيحته الشهيرة التي أضحت شعاراً: أحبّك يا شعب! أين نبل وبسالة ثورة العشرين العراقية بشخصياتها المعروفة.

9• التجربة العراقية بعد سقوط صدام ـ وهو كان لابدّ من أن يسقط ـ بدأت مشجّعة في بدايتها، كان العراقيون يتباهون بأنهم يسيّرون أمورهم بأنفسهم ابتداءً من تنظيم السير الى ادارة المؤسسات لمتابعة مصالح المواطنين، رغم عدم وجود حكومة وكانت الأمور منضبطة كثيراً وكان التفاؤل هو السائد عدا ما يشعر به أذناب وعبيد النظام السابق طبعاً، الى أن بدأ الإعداد لجهنم عراقية جديدة باشراف مخابرات الدول الإقليمية المحيطة والبعيدة حتى كبعض دول الخليج.

10• ردّاً على منطق الصيرفة الذي يتحث به ويلمح له أقول.. لو اردنا التربح والتكسّب لاستغللنا ـ رغم عدم اقرارنا لذلك ـ مسألة تضررنا من النظام السابق فقد فُصلت من الكلية وأنا في المرحلة المنتهية من دراستي في أكاديمية الفنون الجميلة العام 1986 لرفضي الانخراط في معسكرات التدريب العسكري الصيفية للطلبة وطوردت بسبب ذلك (أحد مطارديي كان رجل أمن أكثر مما هو طالب معنا في الكلية وهو الآن ينعم بلقب دكتور ويتبؤّأ مركزاً اداريا كبيراً وحساساً في حكومة المالكي). لهذا تفصيل خاص ضمن مقال آخر. هؤلاء هم من يجيدون اللعبة، ذوو الزيتوني الذين يعرفهم هو جيداً، إن لم يكن منهم. اما نحن لا نجيد اللعبة ولانريد أن نجيدها. هل يعرف "أخونا" اني لا املك شبراً واحداً ـ ولا أريد ـ لا في العراق ولا في أي مكان رغم الدعوات التي تصدر من الداخل لنا بالاستفادة من التخصيصات والمستحقات المشرّعة للمهجّرين والمتضرّرين. وأقول دائماً ثمة من هُم أولى منّا في الداخل. أولئك الذين بلا سقف وبلا جدار. وأقول بعد عشرين عاماً من النفي، ـ ولأنّ المنفى ليس سياحة أو تجارة، بل هو حقاً "مهنة شاقة" ـ لا أتحدث عن أموال أحوزها بل عن ديون، وانا راضٍ بكلّ ذلك ولا أطمع، والحمد لله، بأي شيء سوى الكفاف. هذه ليست شكوى فكم أكره ذلك، ولكنها الضرورة التي تدفعنا الى تقديم مثل هذا الكشف.

11• يتخذ مِن سعدي يوسف مثالاً ومعياراً للوطنية ومع احترامنا لسعدي الشاعر والرجل، لكن ليس بالضرورة ان الصواب هو حليفه الدائم في ما اتخذه ويتخذه من مواقف "فليس الحقّ يُعرف بالرجال انما الرجال يُعرفونَ بالحق"، كما قيل.

12• يقول ان سعدي لا يريد ان يخذل فطرة "المقاومة". فَليثبت لنا أي ملمح شعري أو ثقافي في هذه "المقاومة". وليكن أكثر انصياعاً للمنطق لا الدجل ويخبرنا مَن في مقاومته هذه يقيم وزناً للشعر أو الشاعر ناهيك بمعرفته بسعدي يوسف. وأزيده، انّ مقاومته الأصولية والسلفية في معظمها ـ وهي ليست أكثر من اهاب كاذب لباطن شيطاني ـ هي أول من يُكفّر ويُسخّف الشعرَ والشعراء وربما أولهم سعدي يوسف.

وبعد كلّ ما سقناه له نرى أنّ عليه أن يتواضع ويتعقّل في اصدار أحكامه لا أن يخلط ويعمّم ويشتطّ ويزايد فمثله لا يصلح لاصدار صكوك الوطنية والترفّع والنزاهة. وليدع مناوءَة المثقفين العراقيين الذين هم أرفع من أن يكونوا في حظيرته ذاتها ولينشغل، اذا شاء، بتدبيج مقالات المديح لـ "الشبّيحة" بوصفها المقاومة السورية القادمة بما انّ نظام بشار سيسقط، كما تُشير الى ذلك معطيات الروح السورية الجديدة.

وأخيراُ أعتذر من عموم القراء عن اللغة القاسية التي قد يجدها في ثنايا هذا المقال، فما ألجأنا اليها إلا الاضطرار فمثل هذا لا ينفع معه سوى مثل هذه اللغة خصوصاً وانه هو الذي ابتدأنا بالتهجم والإساءة والافتراء، دون سبب يدعوه لذلك، إلا لنزعة ملَق من جانب وعدوانية متأصلة من جانب آخر، على ما يبدو.