التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية (3-3)


هاشم نعمة
2013 / 2 / 22 - 16:31     

تركيا

خرجت الحكومة التركية من انتفاضتي تونس ومصر بأقل الخسائر والأضرار بعدما كشفت عن موقفها منذ البداية في رفض بقاء الرئيسين التونسي والمصري في السلطة، لكنها لم تحسم موقفها من الانتفاضة الليبية إلا بعد مطالبتها القذافي بالرحيل. أما في الحالة السورية فإنها فؤجئت بالانتفاضة بعدما كان الرئيس بشار الأسد يطمئنها أن سوريا محصنة ووضعها في مأزق بسبب تصاعد الاحتجاجات مع تعنت الاستجابة للمطالب الشعبية.(1) وعلى عكس تعاملها مع الحالة التونسية والمصرية، وبما يقترب من الحالة الليبية قليلا، تعتقد أنقرة، بما لها من معطيات موضوعية وجيوسياسية، وبما لها من ثقل ومن علاقات مع سوريا،(2) أنها قد تكون قادرة على اقناع الأسد باستخدام النصيحة أو بالضغط كي يقود عملية تحول سياسية حتى لا تدخل سوريا والمنطقة، في حالة من الفوضى فتتكبد تركيا خسائر كبيرة لما لهذا السيناريو من انعكاسات سلبية عليها، ولذلك فإن موقفها من الأزمة السورية أتسم بالتدرج.(3) حيث بدأ من مرحلة النصح والإرشاد والتي كانت من أبرز سماتها المطالبة بتشكيل حكومة جديدة تضم الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية الفاعلة كافة، ووقف العنف ضد المدنيين والتراجع عن خيار الحسم الأمني والعسكري، كذلك العمل على تسريع الإصلاحات الدستورية والسياسية والاجتماعية والتعامل بجدية مع مطالب الأكراد.

أما المرحلة الثانية فقد كانت مرحلة إعادة تقييم الوضع، وأبرز سماتها سلسلة من التصريحات السياسية تحذر من الحل الأمني والتهديد بعواقب وإجراءات ضدها، انتهاء بمرحلة التحول والضغط، التي تجسد فشل أنقرة في إقناع دمشق بأخذ نصائحها وتوصياتها، واختيار أنقره دعم المعارضة بفصائلها وأطيافها كافة لعقد اجتماعات لها في تركيا. ولمزيد من الضغط على السلطة السورية أعلن في أسطنبول في 2 تشرين الأول| أكتوبر 2011، تأسيس المجلس الوطني السوري. ودعا رئيس الوزراء التركي أردوغان في نفس الشهر الأسد للتنحي عن السلطة، وفرضت تركيا عقوبات اقتصادية ومالية على سوريا. وأعلن أن تركيا ستواصل فرض العقوبات وتزيدها تدريجيا.(4)

يمكن تلخيص دوافع الموقف التركي بما يلي: الحفاظ على الصيغة التوافقية بين المبادئ وتحقيق المصالح والمحافظة على الرصيد الشعبي لحزب العدالة والتنمية الذي أيد بقوة الانتفاضة السورية. وعدم تجاوب الرئيس السوري مع النصائح التركية. ومخاوف انهيار السلطة وما يعقبه من فوضى وتداعيات ذلك على الصعيد الإقليمي من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية. وخشية تعزيز وجود حزب العمال الكردستاني وعملياته انطلاقا من سوريا. والخوف من تقسيم سوريا وانفصال الأكراد. وتدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا وما يشكله من تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية.(5) ثم أن موقف تركيا هذا يسير في تجاه موقف الدول الغربية ولا يتقاطع معه. وهي غير مستعدة للتضحية بمصالحها الاستراتيجية مع الدول الغربية التي هي أكثر أهمية وديمومة مقارنة بمصالحها مع نظام مستبد لابد أن يتغير. وهي تسعى جاهدة منذ سنوات للدخول في الإتحاد الأوروبي. وما زالت عضوا في حلف الناتو الذي دخلته عام 1952. وما زالت حريصة على البقاء فيه رغم صعود حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية للحكم الذي اعتمد سياسة يمكنه أن يختلف مع الغرب في أمور معينة دون المساس بالتحالف الاستراتيجي.

وكان وزير خارجية تركيا أحمد أغلو قد صاغ خطوط فكر الحكومة الاستراتيجي مستندا على موقع تركيا الاستراتيجي ودورها في السياسة الدولية، والذي يعتمد مقاربة جيوبوليتيكية ترى أن السياسية الخارجية للدولة هي محصلة لتفاعل ثلاثة أبعاد هي: التاريخ السياسي، الهوية الثقافية، الجغرافية السياسية والاستراتيجية للدولة والإقليم المجاور.

وكان هناك تردد في موقف تركيا من الرئيس الليبي، إذ كانت العلاقات معه طيبة، لأنه سمح باستثمارات تركية في ليبيا بلغت ثلاثين مليار دولار في سوق التشييد والبناء والعقارات. ولكن إزاء تدهور الأوضاع، بدأت أنقرة تدعو القذافي للتنحي عن الحكم. وفي شهر مايس| مايو، أغلقت تركيا سفارتها في طرابلس، واعترفت بالمجلس الانتقالي في ليبيا. وكان هذا الاعتراف الذي تأخر بعض الوقت ضرورة حيوية لساسة تركيا في الشرق الأوسط. وقد سارع وزير خارجية تركيا بحسم الموقف بزيارة بنغازي وتقديم الدعم المالي الفوري لتوفير السيولة النقدية لدفع رواتب وأجور العاملين.(6)

من هنا يتبن لنا أن السياسة التي تبنتها تركيا جعلت منها لاعبا إقليميا ودوليا رئيسيا لا يمكن تجاوزه في المنطقة بخلاف الدور الذي كان تلعبه قبل مجيء حزب العدالة والتنمية للحكم حيث كانت القرارات الاستراتيجية يتم البت بها من قبل العسكر الذي تم أضعاف دوره وباتت القرارات المهمة يبت فيها مجلس الوزراء.

إيران

اسهمت الانتفاضات في زيادة الاشتباك بين دول الخليج العربي وإيران، وانتقل بعد الانتفاضة السورية إلى توتر عربي-إيراني نتيجة دعم إيران للنظام السوري، بشكل افقدها جزءا كبيرا من شعبية تمتعت بها سابقا ضمن اتجاهات الرأي العام العربي. حيث انتقلت إيران من الهجوم الاستراتيجي إلى مرحلة الدفاع عن مواقعها، ليس ضد أمريكا وإسرائيل، بل ضد انتفاضة شعبية تهدد مواقعها ونفوذها.

تشعر إيران بأن التغيير في سوريا يستهدفها جيوستراتيجيا إذ يكسب اللاعبون الآخرون نقاط قوة، في حين تعجز هي –بسبب طبيعة نظامها- عن تجيير هذا التغيير لصالحها أو على الأقل الحد من الخسائر.

وتؤشر جميع المعطيات إلى أن الدور الإيراني سيتقوقع في المنطقة، وسيعتاش على حكومات قريبة منه مذهبيا، دون أن يعني استدامة هذا الدور، خاصة في ظل الاختلالات البنيوية التي تعيشها إيران داخليا، وتأثير انحسارها الخارجي على قوة النظام في مواجهة المعارضة الداخلية التي يفترض أنها سوف تتعزز نتيجة لتأثير الانتفاضات العربية وفشل السياسة الخارجية الإيرانية.(7)

إن محددات الموقت الإيراني من الانتفاضة السورية تمليها اعتبارات المصالح الاستراتيجية والأمن القومي والتنافس والصراع الإقليمي على النفوذ في المنطقة بالأخص مع السعودية واعتبارات الصراع مع الدول الغربية وبالأخص مع الولايات المتحدة(8) والمرجعية المذهبية ومقدار توظيفها لصالح الاعتبارات أعلاه وليست لها أي علاقة بما يسمى بالمبادئ الإسلامية في نصرة الشعوب المستضعفة والمظلومة؛ وأوضح دليل موقفها من النظام السوري الذي يضطهد شعبه في الوقت الذي أيدت فيه الانتفاضات في البلدان العربية الأخرى.

أهم الاستنتاجات

- لم يكن المحيط الإقليمي والدولي مهيئا لتبني موقف واضح من الانتفاضات التي فاجأته لذلك اتسم رد فعله في البداية بالارتباك والتردد والانتظار.
- وفي النهاية موقف الخارج وتدخله املتهما مصالح الدول وخشيتها من أن تخرج الانتفاضات عن مسارات يصعب التحكم بها. وقد جارى موقفها مسيرة تطور الانتفاضات وأثر في مجراها ونتائجها بدرجات متفاوتة.
- تعتمد درجة تأثير الخارج في تشكيل النظم السياسية التي تعقب نجاح الانتفاضات على طبيعة المرحلة الانتقالية وتفاعلاتها وتوازن القوى السياسية والاجتماعية ودرجة تماسك النسيج الاجتماعي الداخلي.
- من السابق لأوانه الحديث عن ظهور تكتلات إقليمية جديدة بين الدول التي نجحت فيها الانتفاضات قبل اكتمال تحولات المرحلة الانتقالية.
- لم تحدث انعطافات مهمة في السياسة الخارجية للدول التي نجحت فيها الانتفاضات وفي معظمها تسير على وتيرة السياسة السابقة نفسها.
- مهما كانت درجة تأثير سياسة الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مجرى ونتائج الانتفاضات فإنها لا يمكن أن تحتفظ بالنفوذ السابق نفسه في المنطقة بعد أن أصبح الرأي العام قوة مؤثرة في معادلة صنع القرار السياسي.

الهوامش

1- معمر فيصل سليم خولي، مصدر سابق، ص 161- 163.
2- العلاقة المميزة بين تركيا وسوريا من أبرز إنجازات حزب العدالة والتنمية الخارجية. حيث تحولت العلاقة بين الدولتين إلى علاقة إستراتيجية، وتم حل العديد من المشكلات العالقة بينهما. وتم عام 2009 إنشاء مجلس تعاون إستراتيجي يضم 16 وزيرا من البلدين. وبلغ عدد الاتفاقات التي وقعتها سوريا مع تركيا في الجلسة الأولى للمجلس الإستراتيجي قرابة 56 اتفاقية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاستثمار والمياه والمصارف، وغيرها. وتم تنفيذ كل هذه الاتفاقيات في الوقت المحدد لها تماما، وهو ما يلفت لمدى أهمية الالتزام بين الدولتين وجدية العلاقة بينهما. راجع معمر فيصل سليم خولي، مصدر سابق، ص 159-161.
3- علي حسين باكير، محددات الموقف التركي من الأزمة السورية الأبعاد الآنية والانعكاسات المستقبلية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2011، ص 7.
4- راجع معمر فيصل سليم خولي، مصدر سابق، ص 161- 163.
5- راجع خالد عبد العظيم، "العثمانية الجديدة..." السياسة الدولية، العدد 187، 2012، ص 23-26.
6- المصدر نفسه، ص 23-26.
7- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مصدر سابق، ص 20-31.
8- قال محسن رضائي أمين سر مصلحة تشخيص النظام في أيران إن "سوريا والعراق وإيران وأفغانستان يشكلون حزاما من الذهب في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة تسعى بجميع الوسائل إلى امتلاك القرار في دول هذا الحزام" أنظر جريدة الشرق الأوسط عدد 19-8-2012.