حول الانتفاضة المصرية الثانية


رفيق عبد الكريم الخطابي
2013 / 2 / 21 - 17:37     

حول الانتفاضة المصرية الثانية
المتأمل لسطح البحر غالبا ما يتوقف عند حركة الأمواج المتتالية والمتراطمة بهدوء تارة، أو بصخب وعنف تارة أخرى، لكن نادرا ما نتساءل عما تخفيه تلك الأمواج على السطح من حركة لتيارات مائية غير مرئية وبؤر خطيرة تنتج عن تصادم تلك التيارات، لكن معرفتها تتطلب المخاطرة بالنزول إلى أعمق من مجرد التأمل في سطحه ( ناهيك عن جدبة الحياة وصراعاتها في أعماقه وهو موضوع آخر). أمرالتأمل في البحر مماثل للتأمل في مجرى النهر ، فالأمر يبدو متقاربا مع اللوحة السابقة . فهدوء السطح بل جموده المرئي يخفي جريانا وتيارات لا تتوقف في أعماقه، إلا بوصوله إلى مصبه الأخير ليساهم بدوره في جريان وحركة من نوع آخر . ولعل القارئ محق إن وجد في هدا المدخل محاولة لاستعادة مقولة أحد عمالقة الفكرالانساني صاحب مقولات التغير والصيرورة والوحدة والصراع بين الأضداد، أي مقولة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس :" لا يمكن للإنسان أن يسبح في النهر مرتين "، لكن هدا ليس مرادنا بالضبط.
في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كنت مسافرا من مدينة آسفي عبر الطريق الساحلي إلى مدينة الصويرة ، أتدكر أن الدموع انسابت من عيني، وأنا أنظر إلى حجم الجريمة التي ارتكبت في حق كل الشعب المغربي وضمنه كل سكان المنطقة، حيث كان يوجد على مشارف تلك المدينة شاطئ جميل جدا، ومرفأ صيد تقليدي يطعم منطقة بكاملها (الصيد البحري)، ليتحول داك الشاطئ بعد الزحف التثري للبرجوازية إلى مكب لنفايات مغرب فوسفور أسفي التابع للمجمع الش للفوسفاط،(وهنا نشير إلى أن الموقف ليس ضد الاستثمار والتوسع البرجوازي بل ضد شكل من التوسع يقتل الانسان ويدمر بيئته).
الدموع انسابت وأنا أنظر عبر نافدة الحافلة إلى الأمواج المتثاقلة والمليئة بالنفايات وقد تغير لونها -من لونها المعتاد إلى لون آخر بين البني والأصفر- فلا تسطيع الأمواج أن تصل للشاطئ إلا بصعوبة بالغة وأغلبها ينكسر قبل الوصول.
أستحضر هده الصورة اليوم بعد أكثر من عقدين من الزمن ، لمحاولة مقاربة ما تعرفه مجتمعاتنا بعد عامين على الانتفاضات الشعبية المجيدة في كل من تونس ومصر والبحرين وعمان والمغرب واليمن وسوريا والعراق والبحرين وإيران والسعودية ..وكل بلداننا الأخرى بدون استثناء وإن بصور مختلفة، مع تركيزنا فيما يتعلق بتلك الانتفاضات-المنارات على الوضع المصري تحديدا.
ما اعتقده أن هده الانتفاضات الشعبية ما هي إلا مظاهر لتيارات كامنة في مجتمعاتنا ، متواصلة لا تتوقف ، وإن كان من الصعوبة على المتأمل من فوق أن يلمسها، فإن محركها في أعماق مجتمعاتنا يبقى وجوده موضوعيا ( غريزة البقاء والحفاظ على النوع واصطدام تطور مجتمعاتنا بعقبات تعيق مساره للوصول إلى مصبه الطبيعي) بلغة أخرى تصطدم حركة شعوبنا بحركة أخرى لطبقات معادية لمصلحتنا ولا تخدم في نهاية التحليل سوى مصالح من يتحكم بموارد كل العالم ، تدير تلك الطبقات الرجعية وتسيطر ضمن أنظمة تبعية لاديمقراطية، استنفدت كل إمكانيات بقائها التاريخي، في عالم تديره اليوم حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات وتنشر القتل والدمارفي كل مكان، ولا ترى في الانسان، والشعوب تحديدا، سوى أدوات لمراكمة ثرواتها أو وقودا لحروبها اللصوصية. إن ما نشاهده على سطح المسرح السياسي في مجتمعاتنا وعبر الاعلام خصوصا ، ليس سوى أمواج سطحية، تحاول أغلبها، إخفاء أو تمويه الصورة الحقيقية الموجودة في أعماقها. على النقيض ممن يحاول التعبير الفعلي عن تلك الصورة العميقة لمجتمعاتنا، وعن تياراتها ، وهو الجزء المعبر الأصيل عن ثورات شعوبنا.
بهده المقاربة نحاول رسم الصورة الاجمالية لما يجري في مجتمعاتنا خلال العامين السابقين، مع العلم أن الثورة في بلداننا ليست وليدة هاتين السنتين لتنتهي بهما. فما يجري في ميدان التحرير، هو محاولات للتعبير سياسيا عما يعتمل داخل المجتمع المصري في أعماقه. وإن كانت تلك التعبيرات لا تسير وفق خط مستقيم ، فلأن الانتفاضة المجيدة باغثت حتى أكثر المتأملين دقة في الملاحظة والاستقراء. ولأن الانتفاضة كانت عفوية ما زالت حركة الشعب المصري تترنح من أجل فرز قيادتها التاريخية المؤهلة لإيصال تلك التيارات إلى مصبها الأخير، وهو إنجاز مطالبها وعلى رأسها إسقاط النظام التبعي الرجعي وبناء نظام وطني بديل يحقق العدالة والكرامة والعيش الكريم والحرية.
أغلب الأمواج التي نلاحظها على السطح ، أمواج مليئة بالنفايات البرجوازية ، تكمن غاياتها فقط في إنقاد نفسها من خطر التيارات الكامنة والجارفة لكل النفايات، اكانت في السلطة الحاكمة أو المعارضة ضمن نفس النظام، في الماضي أو الحاضر ، لدلك نرى هده القوى تترنح للوصول إلى الشط عبر أي قارب، ولو كان قاربا للثورة المضادة التي هي جزء منه...إن التحالف الدي نراه اليوم بين مختلف التنظيمات البرجوازية ومعها بعض تنظيمات البرجوازية الصغرى، هو تحالف انتهازي للدفاع عن مصالحها الداتية ضدا على مصلحة اوسع الجماهير الشعبية، إن البرجوازية بمختلف فئاتها أشد خوفا ورعبا من الثورة برغم من ادعائها المساهمة فيها، وكل ما نراه من بهلوانيات سياسية ليس لها من هدف سوى إيجاد موطئ قدم لها ضمن المعادلة الجديدة لتقسيم الادوار . فكما كان من الخطأ القاتل الرهان على جماعة الاخوان المجرمين وهي المشاركة في مؤسسات النظام قبل 2011 ،والحاملة لمشروع رجعي يحافظ على القئم وبأشكال أكثر تخلفا وقروسطوية، فإنه سيكون من الخطأ المميت الرهان على جبهة الانقاد وهي المؤثتة للمسرح السياسي الحالي من داخل مؤسساته، والتي لم تتجاوز في ممارستها معارضة الحكومة الحالية والمطالبة بحكومة تقنوقراطية، متجنبة الحديث عن برنامج نقيض لما يحمله الاخوان المجرمين وهو نفس البرنامج الدي ساد في عهد مبارك ومختلف الحكومات التي شكلت في عهده، بعبارة أخرى تقوم ممارسة جبهة الانقاد، وبعض أحزابها شارك في المؤسسات القديمة مثله مثل جماعة المتأسلمين، على الشعارات المدغدغة للعواطف اكثر منها على برنامج مناقض لبرنامج البرجوازية قبل الانتفاضة وبعدها. لدلك نخلص أنه من الوهم الرهان على مثل هده القوى في إسقاط النظام الدي ما زال مطلبا شعبيا وثوريا لدى الجماهير، وضحى في سبيله مجموعة من الشهداء، فحتى لو حكمت الجبهة منفردة. فلا تناقض بين الاخوان المجرمين وجبهة الانقاد عدا تقاسم الحصص في السلطة.إن الرهان كل الرهان على جماهير العمال والفلاحين وكل الشعب المصري وما العصيان المدني سوى البوابة لاستكمال المهام وتحقيق التراكم الدي قد يفضي إلى تسليح الانتفاضة بعد أن تفرز قيادتها الثورية وتنظيماتها الشعبية وبرنامجها الثوري. يحضرني تصريح لإحدى قيادات حزب الوفد بمدينة بورسعيد في اليوم الأول للعصيان المدني ، قالت فيه ما معناه:" نريد إسقاط النظام واستكمال مهام الثورة ، فليرحل عنا مرسي بعد أن قتل أبناءنا...وكفاية لحد كده.." ما صرحت به تلك الناشطة لم يتجرأ حزب الوفد على إعلانه بل هو مناقض لكل مواقف الوفد الدي ما زال مراهنا على الحوار مع الرئاسة وما زال يعترف "بشرعية" مرسي كرئيس منتخب. حركة الثوريين في مصر ومعها كل حركة الشعب ستجلب لصفوفها مع الوقت كل الطاقات المناضلة والمبدئية حتى من داخل الدكاكين الحزبية الانتهازية.
جبهة الانقاد أحد أبرز تلك الأمواج العفنة أو قيادتها على أقل تقدير.
طبعا التاريخ لا يسير وفق رغباتنا ولا وفق رغبات صناعه أي جماهير شعوبنا، ولكنه يسير وفق قوانين الصراع الطبقي. والانتفاضات قدرنا وقدر شعوبنا لكي تفرز قيادتها الفعلية، نعم استطاعت الانتفاضة المجيدة إسقاط بعض رؤوس أو رموز النظام القائم، وهو شيء مهم ولو كان متواضعا مقارنة مع التضحيات..فإستبدال مبارك بمرسي او بنعلي بالغنوشي ليس إنجازا وليس بدي أهمية مقارنة بالانجاز الأهم بنظرنا ، وهو أن الانتفاضات أثبت ان بإمكانية الجماهير كنس كل النفايات البرجوازية المتحكمة في رقابنا وفي أي لحظة أرادت دلك، أن شعوبنا وطلائعها الثورية ستدخل مرحلة التفكير الجدي في كيفية الوصول إلى البديل القادم عوض اجترار خيبات الماضي، وأنها باتت اقرب إلى الفكر العلمي الثوري وأكثر تعطشا له من ا ي وقت مضى شريطة أن يكتب بلسانها. لا أعتقد أن الدوات المناضلة والمبدئية والتي لم تترك الساحات وأعطت الدماء والعرق والجهد والدموع والألم وعاشت لحظات الفرح والقرح وعشناها معهم، سوف يعيبها أو يقلل من عزيمتها قلة العدد أو خيانة من راهنوا عليهم لبعض الوقت ، بل عليهم إدراك أنهم معبرين أصيلين عن تيارات أو مطامح ومصالح شعبهم وأنهم مشروع قيادة فعلية لحركة شعبهم وتطلعات الملايين، أنهم يشكلون بدرة التشكل الموضوعي لقيادة التيار المخيف والجارف الكامن والغير مرئي بصورة دائمة من جهة الرؤية السطحية ... على الطليعة الثورية في مصر وتونس والمغرب وفي كل مكان أن يعدوا العدة فكريا وبرنامجيا وتنظيميا لكي يكونوا مستعدين لا ستقبال الغضب الشعبي الجارف والدي لن يستقر دون الوصول إلى الشاطئ الآمن المتمثل من وجهة نظرنا في كنس الأنظمة التبعية في افق كنس حاضنها أي الكل الرأسمالي في مرحلة تعفنه. إن الاإخوان المجرمين وإن كانوا بحاجة لبعض الوقت لكي يستطيعوا تثبيث أقدامهم على الأرض ، فإن شعوبنا كدلك بحاجة لدات الوقت كي تنظم صفوفها وتستعد للمعارك الفاصلة في تاريخها، لدلك يتوجب على الثوري المبدئي إستغلال كل الوقت وكل الامكانات لكي ينجز مهامه ، وليس الرهان على قطبي الصراع الانتخابوي في مصر.
إن كل الممارسة السياسية لجماعة الاخوان المجرمين وحلفائها تقوم على تبرير رجعيتها


من مزايا الانتفاضة المصرية والتونسية ان الامبريالية وقفت إلى جانب الحاكم عوض المنتفضين وركزت جهودها على إيجاد بدائل لرموز النظام ..من إخوان وقادة الانقاد وكلهم مخالب بيد الامبريالية، وإن كانت الانتفاضة الأولى كنست بعض الرموز القديمة ومعها القيادة البيروقراطية العسكرية ، ولو أن المتأسلمين يسعون إلى إفراغ تلك الانجازات من أ ي مضمون ثوري ، عبر محاولات إعادتهم من النوافد بعدما أخرجهم الشعب من الأبواب( تكريم القيادة العسكرية، العلاقات والأسفار بين رجال الأعمال من جماعة الاخوان وحزب مبارك السابق والافراج عن بعضهم...إلخ)، فإن الانتفاضة الثانية الحالية ستسقط القناع عن المتأسلمين العملاء بعدما لطخت أيديهم من جديد بدماء المناضلين الشرفاء وعاثت ميليشيات الاخوان قتلا وتنكيلا بهم...
في خضم الانتفاضة الثانية التي ستكنس الإخوان المجرمين والمراهنين عليهم والعابدين المقدسين للملكية الخاصة وللاستغلال. ونحن ننتظر ولادة عصر الحرية الحقيقي في مصر وتونس وكل بلداننا، وبانتظار استكمال مهام ثوراتنا الوطنية الديمقراطية الشعبية التي ناضل من أجلها شهداء عظماء ، نستحضر كلمات أحد ثوار ومنظري القرن الماضي،مخاطبا عمال وفلاحي روسيا وكأنها تخاطب ثوار ميادين التحرير بالأمس القريب ،كتب القائد لينين سنة 1903 :"أن الشعب العامل في المدينة ينزل الآن إلى الشوارع وإلى الساحات لكي يطالب بالحرية علنا، على رؤوس الاشهاد، وقد سجل على راياته وأعلن: “فلتسقط الاوتوقراطية!”. وليس ببعيد ذلك اليوم الذي سيهب فيه الشعب العامل في المدينة، لا ليتظاهر في الشوارع هاتفا وحسب، بل ليخوض المعركة الكبيرة، الحاسمة، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي سيهتف فيه العمال كرجل واحد: “إما أن نموت في غمرة النضال وإما ان نظفر بالحرية!”؛ وليس بعيد ذلك اليوم الذي سيهب فيه الألوف من المكافحين الجدد، وهم أشد حزما وعزما، مكان المئات الذين استشهدوا في غمرة النضال. وحينذاك سيهب الفلاحون بدورهم في عموم روسيا إلى مساعدة عمال المدن، إلى الكفاح حتى النهاية في سبيل حرية الفلاحين والعمال.
ولن تكون هناك قطعان قيصرية تستطيع الصمود حينذاك. وسينتصر الشعب العامل، وتسير الطبقة العاملة في طريق واسعة رحبة نحو تحرير جميع الشغيلة من كل اضطهاد؛ وستسفيد الطبقة العاملة من الحرية لكي تخوض النضال من أجل الاشتراكية!»