التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية (2-3)


هاشم نعمة
2013 / 2 / 20 - 22:55     

روسيا

كانت روسيا ومازالت تفضل أن تكون علاقاتها مع الأنظمة العربية مستقرة. فاستقرارها يعزز الاستقرار في المناطق الجنوبية منها. لذلك لم تعلن روسيا تأييدا واضحا للانتفاضة في أي بلد عربي، فقد التزمت الصمت إزاء الأحداث لحين نضجها وإزاحة السلطة الحاكمة، كما في تونس ومصر. في حين نجد أنها وقفت موقف الحياد أو المتابع من الحالة البحرينية واليمنية. والمؤيد بوضوح للنظام في ليبيا وسوريا، مع اختلاف نمط ودرجة التأييد. ولكن مع الحرص في الوقت ذاته على بقاء قنوات اتصالها مفتوحة مع المعارضة الليبية والسورية. وفيما بعد إذا كان التوازن هو السمة الغالبة على موقف روسيا من الانتفاضة الليبية، فإن دعمها للنظام السوري أوضح ما يكون، حيث أبدت دعما دبلوماسيا وعسكريا له في مواجهته للاحتجاجات الشعبية.

وينظر للدعم الروسي للنظام السوري بأنه منسجم مع السياق العام لطبيعة علاقاتهما التحالفية منذ عام 1970، فسوريا تضمن لروسيا مصالحها ونفوذها في مواجهة التنافس الغربي على منطقة الشرق الأوسط. ومن بين دوافع روسيا من الانتفاضات بالأخص الحالة السورية يمكن ذكر: البحث عن دور ينطلق من حسابات المصالح القومية، ودروس الحالة الليبية حيث أن انهيار حكم القذافي أشر إلى انتهاء النفوذ الروسي في ليبيا، ولم يعد عليها بفائدة حيث تم كل شيء باسم حلف الناتو. وهو ما قد يضع ليبيا لمدة لا بأس بها ضمن نسق أمني واستراتيجي يسيطر عليه الغرب. والخوف من الإسلام السياسي وتأثيره على المسلمين في روسيا. ومن وصول قطار التغيير إلى إيران والقوقاز وآسيا الوسطى التي تعد منطقة إستراتيجية حيوية لروسيا في صراعها على النفوذ مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. لذلك يعد العالم العربي بمثابة خط الدفاع عن آسيا الوسطى والقوقاز.(1)

إن الموقف الروسي من الانتفاضات بالأخص الانتفاضة السورية قد اثر سلبا في علاقتها مع العالم العربي على المستوى الرسمي والشعبي. حيث أن استمرار الخسائر البشرية بهذا الحجم واستمرار النظام السوري بهذا القمع الممنهج ضد المطالبين بالتغيير ينظر له بأنه ناتج عن الدعم الروسي للنظام وتعطيل محاولات مجلس الأمن لتبني قرارات تساهم في اضعافه ومن ثم تغييره. و سيساهم هذا الموقف بعد نجاح الانتفاضات بتراجع نفوذ روسيا في المنطقة ومن ثم يكون دورها ضعيفا في التأثير في مجرى التحولات السياسية والاقتصادية التي تعقب هذا النجاح. وهذا يعكس في جانب منه توجهات السياسة الداخلية في روسيا حيث يتم التضييق على فسحة الديمقراطية لذلك لم تؤيد روسيا أي تيارات أو حركات تريد بناء نظام ديمقراطي في أي بلد. ويعكس أيضا ضعف حساباتها الاستراتيجية وقلة مرونة سياستها الخارجية مقارنة بسياسة الدول الغربية التي تتسم بالبراغماتية.

دول الخليج العربي

هناك نقاط تشابه واختلاف في موقف دول الخليج العربي من الانتفاضات رغم التطابق الكبير في بنية نظمها السياسية القائمة على الوراثة التقليدية. ورغم انضوائها تحت مضلة مجلس التعاون الخليجي إلا أن المراقب يرصد اختلاف في وجهات النظر وفي المواقف إزاء قضايا معينة طبقا للحسابات الداخلية والإقليمية والدولية لكل بلد ومنها مثلا الموقف من هذه الانتفاضات. لذا فإن المواقف وحجم التدخل تباين من دولة لأخرى. فنرى السعودية أكبر دول المجلس لم تؤيد أي انتفاضة باستثناء الانتفاضة السورية وهذا راجع في الأساس إلى حسابات جيوستراتيجية تهدف لإضعاف دور إيران المنافسة لها في المنطقة وعزلها حيث يعد النظام السوري أقوى حلفائها. ومن جهة أخرى سلطت الانتفاضات الضوء بشكل مباشر على ضعف البنية السياسية لهذه الدول وعكست الحاجة ألى إجراء اصلاحات سياسية ودستورية ديمقراطية. وربما ساهم هذا في بناء موقفها تجاه ما يحدث لامتصاص جزء من ردة فعل الشارع الخليجي والظهور بالمساند للمطالب الشعبية في البلدان العربية.

ورغم ادعاء دول الخليج العربي في البداية أنها غير معنية برياح التغيير، وأن لديها حصانة خاصة ضد حركة الاصلاح الديمقراطي، إلا أن الحقيقة عكس ذلك تماما. فرياح التغيير طرقت أبوابها، وتعاملت مع ما حدث عام 2011 بجدية تامة خاصة بعد أن رأت ما يحدث في البحرين.(2) لذلك بعد اندلاع الانتفاضة في تونس ثم مصر وليبيا وامتدادها إلى اليمن، أدركت جميع دول الخليج أنها ليست بعيدة عن "الربيع العربي". ولأول وهلة اتخذت موقفا متحفظا متمثلا في اعتبار المشكلة داخلية، مع الاعراب عن الأمل في حل الأزمة سلميا، وحث الولايات المتحدة-وفق بعض التقارير- على عدم التخلي عن الرئيس مبارك. ووصل الأمر إلى اقتراح تعويض مصر عن المعونة الأمريكية إذا لزم الأمر.(3)

وكانت انتفاضتا تونس ومصر ملهمتين لقطاعات شعبية واسعة في الخليج خاصة فئة الشباب وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وجرت محاولات عديدة في العالم الافتراضي، وعلى ارض الواقع لنقل هذه التجارب والدعوات لمسيرات شعبية ورفع مطالب اصلاحية، اصدمت جميعا بالحالة الخليجية، حيث قوى البقاء والاستمرار أقوى بكثير من قوى الاصلاح والتغيير، وحيث وظفت الحكومات مواردها وإمكانياتها الضخمة، بما في ذلك خلق 130 الف وظيفة جديدة معنية بالأمن وحدها من أجل منع انتقال عدوى التغيير إلى المنطقة(4) واتخاذ قرارات سريعة لدعم القدرة الشرائية للمواطنين تمثلت بزيادة
الرواتب والمنح والامتيازات.

وحرصت دول الخليج العربي، الغنية بالنفط، على دعم التيارات الإسلامية في المنطقة. وهذا الدعم يساهم في اضعاف دور القوى والأحزاب الديمقراطية ومن ثم يقلل من إمكانية وصولها إلى السلطة. فأنظمة الخليج تجد من السهل عليها أن تتعامل ولو بحذر مع حكومات تقودها أحزاب دينية معتدلة مثل الأخوان المسلمين والتي يمكن تعديل مواقفها للقبول بشرعية الأنظمة الحاكمة بدل التعامل مع حكومات تقودها أحزاب وطنية ديمقراطية تهدف إلى تنفيذ اصلاحات سياسية ودستورية جذرية باتجاه بناء دولة مدنية ديمقرطية تضعف من شرعية الأنظمة الوراثية. لذا رأينا أول زيارة يقوم بها الرئيس المصري محمد مرسي إلى الخارج كانت إلى السعودية والإدلاء بتصريحات ذات توجه طائفي تهدف إلى تعزز شرعية النظام السعودي.

أكثر الدول الخليجية التي تفاعلت بقوة مع الانتفاضات هي قطر وقد جاء قرارها بالمشاركة في التدخل الدولي من خلال الناتو في ليبيا بمثابة تحول في سياستها التي كثيرا ما اعتمدت دبلوماسية الوساطة ومحاولة الظهور بمظهر الوسيط المحايد. وقدمت قطر للمنتفضين دعما ماليا ومعنويا كبيرا، وتغطية قناة الجزيرة التي سلطت الضوء على الممارسات الوحشية لنظام القذافي. وكانت قطر من أولى الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي الليبي، واستضافت أول مؤتمر دولي لإعادة إعمار ليبيا بعد مقتل القذافي.

ونتيجة الدور الذي لعبته قطر وقناة الجزيرة في دعم الانتفاضات، تتعرضان لاتهامات علنية بالتدخل في شؤون هذه الدول. ويمكن الإشارة إلى محدد مهم للسياسة الخارجية القطرية يتمثل في رغبة قطر في تحقيق المكانة الإقليمية والدولية، من خلال الخروج من دائرة الهيمنة السعودية على دول الخليج العربي. وقد انتهجت قطر واحدة من أكثر السياسات الخارجية ابتكارا في المنطقة من خلال الجمع بين متناقضات والمحافظة على شبكة تحالفات واسعة في الوقت نفسه.(5)

وبعد نجاح الانتفاضات أعلنت السعودية وقطر والإمارات العربية عن اتجاهها لتقديم ودائع في البنوك المركزية، ودعم المشروعات الصغيرة، وذلك للمساعدة على مواجهة البطالة التي ارتفعت معدلاتها بنسب كبيرة، تجاوزت 20% في المتوسط، نتيجة ما صاحب الانتفاضات من آثار سلبية على مصادر الدخل القومي، مما تسبب في تراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى أرقام سالبة بلغت 4,3% في مصر حتى حزيران|يونيو 2011، فضلا عن تراجع الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي المصري بنحو 11 مليار دولار منذ بداية الانتفاضة قي 25 كانون الثاني|يناير 2011.(6)

وبالنسبة لانتفاضة اليمن ونتيجة الجوار الجغرافي المباشر لها مع دول الخليج العربي وخشية من أن انهيار النظام ستعقبه حالة من الفوضى، ستكون لها تداعيات مباشرة أمنية وسياسية وإنسانية على هذه الدول أقلها تدفق اللاجئين بأعداد كبيرة إليها. ورغبة منها في المساهمة في إعادة تشكيل البنية السياسية لـتأمين جوارها الاستراتيجي لذلك حرصت دول الخليج أن يكون التحول في اليمن سلميا وتدريجيا مع خروج رأس النظام من السلطة دون أي متابعات قانونية؛ لذلك طرحت مبادرتها التي لاقت القبول من اغلب أطراف المعارضة ومن النظام في حين رفضتها قطاعات واسعة من المنتفضين لأنها أبقت كامل النظام السابق عدا رأسه. ومع أن هذا لم يكن مطلب المنتفضين لكن لا يمكن التقليل منه لأن اضطرار الرئيس علي صالح للتنحي جاء انصياعا لقوة ضغط الانتفاضة.

الهوامش

1- للمزيد راجع معمر فيصل سليم خولي، "تأثير الانتفاضة الشعبية في سورية على العلاقات التركية الروسية"، شؤون عربية، العدد 150، 2012، ص 168-176.
2- للمزيد راجع عبد الخالق عبد الله، انعكاسات الربيع العربي على دول مجلس التعاون الخليجي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012، ص 7.
3- عزمي خليفة، "التأرجح: موقف دول الخليج من ثورة 25 يناير في مصر"، السياسة الدولية، العدد 187، 2012، ص 50-51.
4- عبد الخالق عبد الله، مصدر سابق، ص 7.
5- مروة فكري، "ما بعد القوة الناعمة: السياسة القطرية تجاه الثورات العربية"، السياسة الدولية، العدد 187، 2012، ص 162-163.
6- حمدي عبد العظيم، المال والسياسة: التمويل الخارجي للتفاعلات الانتقالية داخل الدول العربية"، السياسة الدولية، العدد 186، 2011، ص 76.