ماكس هوركهايمر والنظرية النقدية*


خليل كلفت
2021 / 10 / 29 - 09:55     

ماكس هوركهايمر والنظرية النقدية*
بقلم الفيلسوفيْن الفرنسييْن:
لوك فيرى Luc Ferry
و
آلان رينو Alain Renaut
 
ترجمة: خليل كلفت
تتمثل إحدى مزايا نصوص ماكس هوركهايمر Max Horkheimer المجمَّعة هنا** فى أنها تشكِّل - إنْ جاز القول – پروتوكولات مشروع يمتدّ طوال قرابة أربعين عاما. ومن بصدد معركة النزعة العقلانية Zum Rationalismusstreit (1934) إلى النظرية النقدية أمس واليوم Kritische Theorie gestern und heute (1970) يمكن لخطّ سير هوركهايمر أن يشكِّل وثيقة ممتازة للغاية: إنه يمثّل فى واقع الأمر الطابع الفريد لتقديم شهادة مسيرة قطعها فى قلب الماركسية فكرٌ صلبٌ وصل – منذ المجادلات التى جرت فى ألمانيا خلال الأعوام 1920-1930 بين الأرثوذكسية والمراجعة (بل منذ نشوب أزمة فى الماركسية)، ثم خلال اضطراب الفترة الستالينية – إلى حدّ طرح الماركسية للمناقشة بصورة جذرية. إنها شهادة تضارع، إنْ شئنا المقارنة، تلك التى تقدِّمها مسيرة كورش Korsch أو مسيرة لوكاش Lukacs، ولكنها بخلافهما شهادة مخالفة للمألوف: الواقع أن كورش، رغم انتقاداته لأرثوذكسية بعينها، لا يطرح الماركسية ذاتها أبدا للسؤال فى الحقيقة؛ وقد وصل كورش حقا، فى 1950، إلى حدّ فحص مكانة نظرية ماركس Marx ذاتها واستخلاص ضرورة "قطيعة مع الماركسية"(1)؛ غير أن هذه القطيعة لا تعنى أبدًا التخلِّى عن وجهة نظر الثورة: فالمقصود هو إعادة بناء نظرية للممارسة لا غير، وبالتالى الاحتفاظ بهدف تحقيق تحويل اجتماعى للواقع، حتى إذا بدت، اليوم، الطريقة التى حقق بها ماركس هذه المهمة سمة من سمات الهيجيلية، وبالتالى سمة من سمات "اليعقوبية البرچوازية"(2). غير أن النظرية النقدية "اليوم"، عندما يسعى هوركهايمر إلى تعريفها فى 1970 ("النظرية النقدية أمس واليوم") –(3)، تذهب فى هذه القطيعة إلى ما هو أبعد كثيرا جدا من ذلك: لا يجرى فقط كشف حقيقة مفهوم الاشتراكية الذى قدَّمه ماركس فى النتائج الشمولية لهذا المفهوم، بل إنه لا تُطْرَح كذلك مسألة إعادة توجيه الممارسة الثورية انطلاقا من عمل نظرى جديد من شأنه أن يحرِّر الماركسية من شوائبها الخاصة: فهذه على العكس مهمة الثورة التى جرى التخلى عنها بصراحة.
ومن جهة أخرى فإن مثل هذا التخلى هو الذى يسمح لماركسية (ماركسيات) بعينها بأن تتجاهل فى الأغلب الأعم النظرية النقدية غير معترفة بأنها تنتمى إلى سلالة ماركس: وإذا ربطنا بالتخلى عن الممارسة الثورية إعادة إدخال بُعْدٍ دينىّ بعينه، لدى هوركهايمر، فإننا نظن، إذن، أن من حقنا الحديث عن مثالية، صارت مكشوفة أخيرا، فى النظرية النقدية، وإذا حكمنا على هذا النحو بالحرمان (الكنسىّ) القديم، فلن يجد المرء فى هذه المسيرة وفى نهايتها شيئا يعنى مشروعا ماديًّا بصورة أصيلة، ولا شيئا بمقدوره أن يعلِّمه شيئا من الحقيقة عن هذا المشروع ذاته(4).
ولعل من المسموح به منهجيا أن نرفض القيام بتفريغ إجمالىّ للغاية وأن نحاول إعادة بناء منطق المسيرة لكى نستخلص منه الدلالة عن قرب. وتتمثل المسألة الموجِّهة لهذا المدخل إذن فى أن نعرف من خلال أية منعطفات وصل هوركهايمر، المنطلِق - كما سوف نرى – من مشروع وضع نظرية ثورية، إلى رفض هدف الثورة ذاته. فالمقصود إذن هو استيعاب تطوُّرٍ، بل قطيعة. غير أنه، قبل الشروع فى توضيح محتوى هذه القطيعة ثم تفسير آلياتها، ينبغى للتحليل أن يتجابه أولًا مع مشكلة تتعلق بالمنهج: وفقا لأية مبادئ ينبغى تفسير تطوُّر نظرية من النظريات؟ من البديهى أن هذا السؤال يلائم تماما كل نظرية، غير أنه ماثل بصفة خاصة حالما يستدعى المرء مسيرة النظرية النقدية: الواقع أن هوركهايمر ذاته قد وضع مبادئ تفسيرية لكلّ بحثٍ نظرىّ ولتطوُّره، وهى مبادئ تفسيرية من الملائم أن نتساءل عن مدى سلامتها.
1
مشكلة تطوُّر نظرية
"بين الأسباب التى جعلتنى أرجئ إعادة طبع المقالات التى ظهرت فى مجلة البحث الاجتماعى Zeitschrift für Sozialforschung والتى نفدت منذ وقت طويل، لم يكن أقلّ هذه الأسباب شأنا اقتناعى بأنه لا ينبغى مطلقا لمؤلف من المؤلفين أن ينشر إلَّا أفكارا يمكنه أن يدافع عنها دون تحفُّظ. والأعمال الفلسفية التى سبق لى نشرها والتى تظهر هنا من جديد لا تحتاج فقط إلى إعادة صياغتها بكل صرامة؛ فالواقع أنه تغلِب عليها تصوُّرات اقتصادية لم يَعُدْ بوسعى قبولها فى الوقت الحاضر...."(5). بهذه السطور يفتتح م. هوركهايمر مقدمته للطبعة الجديدة (6) للمقالات التى ظهرت بين سنتىْ 1930 و 1940 والتى أسهمت بصورة جوهرية فى تأسيس النظرية النقدية. وواقع أن هوركهايمر يشدِّد فى 1968 على المسافة التى تفصله عما كان قادرا على كتابته منذ نحو أربعين سنة خلتْ، لا يبدو فى الحقيقة أن فيه ما يُدهش. وكيف لا يكون الأمر غير ذلك ما دامت النظرية النقدية، بقدر ما هى نظرية مادية، قد أكدتْ دائما أنها لم تكن تمارس "نقدها انطلاقا من الفكرة الخالصة الوحيدة" وأنها "لم تكوِّن رأيها وفقا لما هو فوق الزمن، بل وفقا لما هو داخل الزمن"(7)؟. والواقع أنه يبدو أن مثل هذا التأصيل التاريخى لمكان النقد ("النقد المحايِث" critique immanente) ينطوى على التطور الضرورى للنظرية فى مجرى التاريخ. وفى مقاله حول "مشكلة الحقيقة"، يؤكِّد هوركهايمر ذاته ضد وَهْم الإغلاق clôture الجدير ﺑ "الجدل المثالى"، أن "النظرية التى نعدُّها دقيقة يمكنها أن تختفى ذات يوم بسبب اختفاء المصالح العملية والعلمية التى لعبت دورا عند تكوين المفاهيم وكذلك لاختفاء الأشياء والوقائع التى كانت ترتبط بها. وهذه الحقيقة لا يمكن بالتالى إحياؤها حقا لأنه لا يوجد أىّ كائن فوق إنسانى يمكنه أن يصون داخل روحه الكلىّ العلم العلاقة الراهنة بين مضامين الفكر والأشياء، حالما يكون البشر الواقعيُّون قد تغيَّروا أو حالما تكون البشرية بأسرها قد هلكت"(8). ذلك هو، فى رأى هوركهايمر، ذات أساس نظرية للمعرفة، أساس إپيستيمولوچيا مادية بصورة حقيقية: إن الحقيقة لا يمكنها أن تظل فى مكانها إلى الأبد. وتطوُّر نظرية من النظريات، بعيدا عن أن يكون – إذن – اعتراضا ضدّها (كما يمكنه أن يكون فى سياق مثالىّ)، هو بالأحرى علامة على قدرتها على الإحاطة بالواقع، وعلى التكيُّف مع حركته الدائمة(9).
غير أنه يبدو لنا أن مسألة تطور النظرية النقدية أكثر تعقيدا وذلك لسببين على الأقل:
1: أولا وقبل كل شيء لأن الأطروحة المتعلقة بتطوُّر دائم لنظرية تعكس واقعا هو ذاته فى حركة دائمة يجب تعديلها بطريقة ما، فى نظر هوركهايمر ذاته، خشية الغرق فى النسبية واللاعقلانية اللتين لا يحتاج إلى أن يشدِّد على أنهما كانتا مثل المثالية، وربما حتى أكثر منها، عدوَّيْن للنظرية النقدية: "إن التحفُّظ المجرد الذى يمكن لمعرفتنا فى حالتها الراهنة أن تصير ذات يوم، وفقا له، موضوع نقد مبرَّر وأن تجد نفسها قابلة لأن يتم تصحيحها، .... هذا التحفظ لا يجد ترجمته لدى الماديِّين فى صورة سخاء إزاء الآراء المخالفة، ولا حتى فى صورة تردُّد متشكِّك..."(10). ويقودنا هذا النقد للنسبية إذن بصورة لا يمكن تفاديها إلى التسليم بوجود عنصر استقرار فى قلب تطور النظرية: "من الجائز تماما إذن أن تتكشَّف حقيقة رؤًى جزئية بعينها بوصفها رؤًى زائفة، وأن تصير تحديدات مؤقتة بعينها مرفوضة، وأن يتضح أن إدخال تحسينات بعينها أمر ضرورى؛ ويمكن لعوامل تاريخية أن تظهر ولأطروحات عديدة منتشرة ومرعيّة بعناية أن يتضح كونها مجرَّد أخطاء. ومع هذا فإن الصلة بالنظرية فى مجملها لا تصير مفقودة مطلقا فى هذا التطبيق. وواقع التشبُّث جيدا بالمضمون المذهبىّ الثابت وكذلك الغايات والمصالح التى شكَّلتْه وهيمنت عليه هو الشرط الضرورى للإصلاح الفعّال للعيوب. والثقة الوطيدة فى ذلك الذى كان معترفا به بوصفه حقيقيا هى لحظة من لحظات التقدم النظرى داخل نفس الإطار كما أنها المقدمة لمهام ومواقف جديدة...."(11). وعلى هذا النحو تطمح النظرية النقدية إلى أن تقف على مسافة متساوية من الاستقرار المثالى (الجدير بالعقلانية) ومن النسبية (12)، محتفظةً تماما، إذا كان لنا أن نجرؤ على القول، "بالجوانب الطيبة" لدى العدوَّيْن. وسوف نقوم بفحص شروط إمكانية مثل هذا المشروع ونبحث بصفة خاصة من أين يأتى للنظرية النقدية عنصر الاستقرار هذا الذى يعدِّل ميلها إلى النسبية. ولكننا نعلن على الفور أن هذه النقطة هى التى يبدو لنا أنه تكمن فيها واحدة من صعوباتها الرئيسية.
2: وبالتالى فإن مسألة تطوُّر نظرية من النظريات لا يمكن حسمها بطريقة سحرية عن طريق مجرّد اللجوء إلى "ماديتها" إنْ وُجد، كما رأينا، عنصر استقرار يتطلب تفسيرا أكثر رحابة. ولكن تعقيد المشكلة يتضاعف إذا التفتنا إلى كتابات هوركهايمر الأخيرة، حيث يتصدى بنفسه لمسألة النظرية النقدية. ومن الطبيعى حقا، فى رأى هوركهايمر، كما رأينا، أن مَنْ يطمح إلى نقد عصره يتطور فى نفس الوقت الذى يتطور فيه هذا الأخير، وذلك هو معنى التفسير المقدَّم فى مقدمة 1968 ﻟ "النظرية النقدية" Kritische Theorie، التفسير الذى يستعيد تاريخ الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لكنْ هل المقصود هو فقط تطور بالمعنى الذى يقصده هوركهايمر فى النصوص سالفة الذكر، أىْ تطوُّر من شأنه، على أساس قراءة حول مشكلة الحقيقة Zum Problem der Wahrheit أو بصدد معركة النزعة العقلانية، أن يحتفظ باستقرار بعينه على مستوى النظرية الكلية بوصفه "محتوًى مذهبيا ثابتا"؟ وبوسعنا أن نشكّ فى ذلك متى تحققنا من أنه فى النظرية النقدية أمس واليوم، وهو مقال مخصَّص بجلاء لتوضيح "كيف انتقلنا من النظرية الأصلية إلى النظرية النقدية الراهنة"، بوسعنا أن نشكّ فى ذلك متى تحققنا من أن هوركهايمر [فى ذلك المقال] يصل إلى حد أنه لم يَعُدْ يتحدث عن تعديل أو تطوُّر للنظرية النقدية، بل يتحدث عن قطيعة حقيقية أفسحت المجال، وفقا لتعابيره هو، أمام "نظرية نقدية جديدة". وبالتالى نجد أنفسنا مدفوعين إلى أن نتساءل ما إذا كان مثل هذا التغيُّر، بقدر ما يسجِّل قطيعة حقيقية على وجه الدقة، يمكن توضيحه فى إطار النظرية النقدية ذاتها ووفقا لمبادئها التفسيرية الخاصة. وبكلمات أخرى: هل تطورت النظرية النقدية بطريقة "مادية"، متبنِّيةً نواة عقلانية (النظرية الكلية) فى تغيير المحتوى، أما أنه على العكس من ذلك كان على النظرية، لأسباب داخلية، وربما متوقعة أيضا منذ نشأتها، أن تتحول من تلقاء نفسها تحوُّلا جذريا، وصولا إلى القطيعة مع توجُّهاتها الأصلية؟ يبدو لنا أن مثل هذا السؤال مبرَّر فى الواقع لسببيْن:
- أولا لأنه يبدو لنا أن كل محاولة لتحليل نظرية من النظريات بصورة نقدية ينبغى، فى المرة الأولى على الأقل، أن تنطلق من قراءة داخلية، متضمنة فيها ما دام الأمر يتعلق بنظرية قد تطورت بالفعل.
- ثم لأن مطالبة النظرية النقدية بأن تكون قادرة على أن تقوم بنفسها بالتفكير فى تطورها وبفهمه، هى أقل مطلب يمكننا توجيهه إلى نظرية تريد، كما سوف نرى، أن تكون، على النقيض من النظرية التقليدية، انعكاسا لذاتها بقدر ما هى انعكاس لموضوعها.
وفيما يلى، ووفقا لنفس التضادّ الذى أبرزه هوركهايمر فى مقال 1970، سنقوم ببحث المسار الذى جرى اجتيازه: ينبغى أولا أن نحلل ’النظرية النقدية أمس‘، ثم أن نبحث اتِّساق النظرية المادية فى المعرفة التى تطمح إلى وضعها "على مسافة متساوية من العقلانية واللاعقلانية"؛ وأخيرا سننتقل، من الثلاثينات، إلى ’النظرية النقدية اليوم‘، تلك التى تذكرها مقدمة 1968، ومقال 1970، وكتابات معاصرة شتى حول شوپنهاور schopenhauer والتشاؤم.
2
النظرية النقدية أمس
لا يمكن النجاح تماما فى التوصل إلى تشخيص للنظرية النقدية الأصلية بدون تحليل معمَّق للمناقشات الداخلية التى ميَّزت النظرية الماركسية فى ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر والتى كانت لا تزال تهزُّها فى سنوات 1920-1930. ويجب أن نتذكَّر فى هذا الصدد كيف كانت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية مدفوعة بصورة متزايدة إلى أن تنظر إلى "رأس المال" le Capital على أنه علم للاقتصاد، علم تمّ إنجازه، وسجّل نفسه فى سجلّ صرح المعرفة، كإنجاز، إلى جانب فروع علمية أخرى تمّ تأسيسها من قبل: ومفهومةً على هذا النحو، كما شرحها چ.-م. ڤانسان J.-M. Vincent(13) بإيجاز، "لم تَعُدْ النظرية الماركسية نقد العمل النظرى الخاص بالمجتمع البرچوازى"، وقنعت بالتعايش بصورة سلمية مع العلوم الأخرى دون أن تطرح علمية هذه العلوم للمناقشة وبالتالى أن تبحث شروطها الاجتماعية للإنتاج؛ ونجد أن العلم الماركسى فقد بذلك، فى نفس الوقت الذى فقد فيه وظيفته النقدية، صلته بالممارسة الثورية. وهذا الانفصام المزدوج (بين النظرية والنقد، وبين النظرية والممارسة) هو الذى كان لوكاش و كورش من أوائل مَنْ شجبوه وهما يحاولان، فى مواجهة ما جرى للأرثوذوكسية، القيام بإعادة تحقيق فكرة "العلم الثورى" وبالتالى بإعادة إقامة وحدة النظرية والممارسة. ومن الجلىّ تماما أن تتبُّع تاريخ هذه المناقشات وتوضيح كيف وجدت فيها النظرية النقدية مكان ميلادها لا يمكنهما أن يدخلا فى الإطار الدقيق لهذا المدخل(14): ومع ذلك فهذه الخلفية التاريخية الأساسية هى التى ينبغى أن يوضع فى إطارها ظهور المشروع الذى نشرع فى الحال فى وصف صورته الأصلية.
ويفترض وصف هذه الصورة الأصلية للنظرية النقدية – علاوة على الاستخدام الموفَّق للمقالات النظرية الأربع الكبرى وهى بصدد معركة النزعة العقلانية فى الفلسفة المعاصرة (1934)، حول مشكلة الحقيقة (1935)، النظرية التقليدية والنظرية النقدية (1937)، المادية والميتافيزيقا (1933) – الرجوع إلى أعمال تأملية بصورة أقلّ مباشرة، لكنْ يبرز فيها بجلاء المنظور العملى: بدايات فلسفة التاريخ البرچوازية (1930)، اختفاء العقل (الذى تغذَّى على أبحاث 1944)، وقد نُشر فى 1947، الأنانية والتحرُّر (1936)، الأسرة والسلطة (1936)، المادية والأخلاق (1933)، إلخ.. وبمساعدة هذه المجموعة من الوثائق، يمكن تعريف النظرية النقدية من خلال ثلاثة أهداف أو ثلاث مهامّ رئيسية: 1: حَمْل الوعى إلى كل نظرية بالمصلحة الاجتماعية التى تنفخ فيها الحياة وتحدِّدها؛ 2: التحرُّر عن طريق عقلنة الواقع؛ 3: تفكيك صورة العقل من أجل تمييز شتى صُوَرِه. فلنحدِّدْ قبل كل شيء محتوى هذه المهامّ الثلاث.
1: المهمة الأولى: حَمْل الوعى إلى كل نظرية بالمصلحة الاجتماعية التى تنفخ فيها الحياة وتحدِّدها.
المقصود هنا هو نقد النظرية التقليدية (فى شكليْها الرئيسييْن: كنسق عقلانى ميتافيزيقى وكذلك كعلم ذرائعى)، بهدف اكتشاف ما يوجِّه، تاريخها وتوجهاتها الجوهرية، من خارجها، بطريقة غير محكومة، ودون علمها: المصالح البشرية المحدَّدة تاريخيا (فى نفس الوقت الذى تضع فيه، بطريقة فيتيشية، فى موضع الصدارة، قِيَم التجرُّد، والحياد، والنزاهة، التى يبدو أنها تكفل لها أصالة "الحقيقة العلمية").
والواقع أن ما يميِّز النهج العلمى (بوصفه الوجه الأحدث للنظرية التقليدية) هو أنه عاجز عن إمعان التفكير فى ذاته، وعن أخذ تاريخه الخاص على عاتقه، وعن تحديد توجهاته من تلقاء نفسه: "يبدو له المنشأ الاجتماعى للمشكلات، والأوضاع التى يتمّ فيها الانتفاع بالعلم، والغايات التى يُطَبَّق لتحقيقها، .. تبدو له هذه الأشياء وكأنها موضوعة من خارجه"(15)؛ وبذلك يكون العلم وضعيًّا وفيتيشيًّا، فهو يعزل عمله عن العمل الإنسانى:"... العلم ذاته لا يدرك لماذا ينظِّم الوقائع فى اتجاه بعينه على وجه التحديد، ولا لماذا يمعن التفكير فى موضوعات بعينها وليس فى موضوعات أخرى. وما يفتقر إليه العلم هو إمعان التفكير فى ذاته، ومعرفة الدوافع الاجتماعية التى تدفعه فى اتجاه بعينه، على سبيل المثال فى اتجاه تكريس جهوده للقمر، وليس لرفاه البشر. وعلى العلم، لكى يكون علما صحيحا، أن يتصرف بطريقة نقدية إزاء نفسه وكذلك إزاء المجتمع الذى أنتجه"(16).
هذا النص الذى يعبِّر فيه هوركهايمر بنفسه عن جوهر النظرية النقدية فى الثلاثينات، يدعو إلى إبداء ملاحظتين:
- إنه يشترط مسبَّقا وقبل كل شيء مفهوما عن الحقيقة سنقوم بتمحيصه: إن الحقيقىّ لا يواجه الزائف فى تقابُل بسيط(17). فالعلم قد يكون دقيقا ويظل بصورة كلية ضحية الفيتيشية، وبالتالى زائفا (فيما يتعلق بتوجهاته). وتفترض الحقيقة، ليس الدقة فحسب، بل كذلك تفكيرا بعينه فى العلاقات التى تربط النظرية بالشروط الاجتماعية لإنتاجها.
- وهو يفترض بعد ذلك، للوصول إلى الحقيقة، أن يمتلك المرء "مفتاحا" لعملية إنتاج الشروح العلمية، أىْ، بصورة أساسية، المصالح التى تنفخ الحياة فى العلم. والواقع أن ما يقدِّم هذا المفتاح هنا هو النقد الماركسى للاقتصاد بقدر ما يتيح، فى إطار هذا السياق الاجتماعى المحدَّد، توضيح كيف تفرض غايات بعينها نفسها، محدِّدة بالتالى ذات اتجاه البحث العلمى(18).
وبذلك بالذات يبرز بجلاء الموقف النظرى للنظرية النقدية إزاء الأنساق العقلانية الكبرى (كصورة أصلية للنظرية التقليدية). ويمكن لهذا الموقف أن يتضح بوصفه نقدا لذات مفهوم الطابع النسقىّ systématicité. ولنحدِّدْ بدقة: يحدد هوركهايمر إرادة النسق على أنها مكوِّن من مكوِّنات النظرية التقليدية: "هدف النظرية بوجه عام هو إيجاد نسق عام للعلم الذى لا يظل يحصر نفسه فى مجال بعينه، بل يشمل كل الموضوعات الممكنة"(19)، ويمكن فهم تاريخ النظرية برمته على أنه، منذ ديكارت Decartes، تاريخ النسق، وتفترض الترجمة الأكثر حداثة للنسق تحويله إلى رياضيات(20).
غير أنه يبدو أن النظرية النقدية فى جوهرها، بقدر ما تُرْجِع كل نظرية إلى الخارج الذى ينفخ فيها الحياة دون وعى منها وتخصّ هذا الخارج بكونه "تاريخيا" نقد لكل مشروع لإضفاء الطابع النسقى، حيث إنها تهدم بذلك الزعميْن الجوهرييْن: فالنسق يدَّعى الاستقلال والإنجاز، يدَّعى الإغلاق(21)، حيث تُشدد النظرية النقدية على أن كل نظرية مشروطة من الخارج بمصلحة دنيوية ولا يمكنها بالتالى أن تدّعى الإطلاقية(22) (الإطلاقية ذاتها، بوصفها ادِّعاءً لاستقلال وإغلاق النسق "لا يمكن تجاوزهما"، ترجع إلى مصلحة محدَّدة تماما(23)).
والحقيقة أن النظرية النقدية بوصفها نقدا للنسق، وبوصفها "جدلا ماديا مفتوحا"(24)، تدخل بالتالى فى صراع مباشر مع المثالية، وبصفة خاصة مع المثالية الألمانية، بما هى كذلك من كانط Kant إلى هيجل Hegel، وذلك فى الواقع بسبب الإنجاز، بسبب إغلاق النسق الذى يسعى إليه كل العمل الفلسفى. والنهج الذى تبناه هوركهايمر يأخذ مكانه بالتالى فى قلب إستراتيچيات تجاوُز الأنساق العقلانية التى تقدِّم، بصورة تزيد أو تنقص، ضد الإغلاق المزعوم، خارجا غير مشمول فى النسق، والخارج الذى يجرى كشفه هنا ليس سوى المصلحة التى لا يمكن للنظرية التقليدية أن تؤكد، حتى منهجيا، أخذها فى الحسبان.
وبالتالى تقودنا المهمة الأولى التى حددها هوركهايمر للمشروع النقدى، فيما يبدو، إلى وضعٍ من القطيعة النظرية، من الناحية الإپيستيمولوچية مع قوام النظرية التقليدية، ومن الناحية الفلسفية مع فرضيات وهدف المثالية الألمانية. وهى تبدو بالتالى كمهمة افتتاحية فى مواجهة مَنْ يريد لنفسه الاستقلال والاكتفاء الذاتى بصورة نظرية. غير أنه بالدخول فى قطيعة نظرية كهذه تصير مجازفة نظرية هوركهايمر النقدية غير مخلصة فى الطريقة التى تفهم بها النظرية والتى تفهم بها ذاتها: كما رأينا، لم يَعُدْ من الممكن تحديد قيمة النظرية من جانب واحد بدقة شروحها، بل تُقاس حقيقتها كذلك بوعيها بلعبة المصالح المتصارعة فى المجتمع؛ وهذا الوعى الذى يأتى للانضمام إلى الدقة لتوليد الحقيقة لم يَعُدْ يكشف بدوره الدقة النظرية. إنه من طراز آخر. وبهذا المعنى، فإن تشخيص نظرية من النظريات (ولا شك فى أن هذا ينطبق على النظرية النقدية ذاتها)، يتمثل كذلك فى توضيح صلاتها بالوضع العملى ولا سيَّما بالمشكلات التى تشرع القوى الاجتماعية التقدمية فى حسمها فى هذه اللحظة(25). وليس من المدهش إذن أن تعرِّف النظرية النقدية نفسها بأنها لا تهدف "فقط إلى توسيع المعرفة بما هى كذلك، بل تهدف إلى تحرير الإنسان من صُوَر الاستبداد التى تنيخ عليه بكلكلها"(26). وينبغى بالتالى توضيح محتوى هذه المهمة العملية التى تأخذها النظرية النقدية على عاتقها والإحاطة بالصلة التى تربطها بهدفها النظرى.
2: المهمة الثانية: التحرر عن طريق عقلنة الواقع.
قبل أن نبحث محتوى هذه المهمة، لنحدِّدْ بدقة أولًا وضع هذه الضرورة العملية: فى المدى الذى تزعم فيه النظرية النقدية حلّ الإطلاقية المميِّزة للأنساق العقلانية الكبرى، من البديهى أنها تنتحل لنفسها بعناية، بالتالى، الضرورة المطلقة التى كانت تستنتجها المثالية من أنساقها مُضْفيةً عليها سمة الأزلية، بمثل ذلك الاستنتاج انطلاقا من المبادئ التى أُضْفِيَتْ سمة الأزلية عليها هى ذاتها، لغايات زمنية تاريخية محدَّدة(27). وبهذا المعنى، فإن المادية "غير معيارية"(28). وإذا كانت المسألة هى بالتالى مسألة مهمةٍ عمليةٍ للنظرية النقدية، فليس معنى ذلك أنها تستمدّ مبرِّرها من نظرية مستقرة محددة من خارجها، بل إنها، هى أيضا، مشروطة تاريخيا.
ويعنى هذا، من الناحية العملية، أن المهمة محدَّدة بجلاء: التحرُّر عن طريق العقلنة، وبالتالى تصير الثورة، بوصفها شرط إمكانية إحداث عقلنة لأسلوب الإنتاج، مرحلة من مراحل تحقيق هذه المهمة(29).
غير أن بوسعنا أن نتساءل من أين يجرى استنتاج هذه الضرورة المتعلقة بالعقلنة التى يأخذها الفكر النقدى على عاتقه طامحا إلى "تنظيم مبنىّ على العقل"(30). والإجابة واردة فى بصدد معركة النزعة العقلانية: "الأغلبية الواسعة من البشر لهم مصلحة مشتركة فى التنظيم العقلانى للمجتمع"(31). لماذا؟ لأنه فى الوقت الحاضر تقوم اللعبة المتناقضة اللاعقلانية للمصالح المتضاربة بعرقلة السيطرة المادية على الطبيعة ولا تُفسح المجال أمام تنظيمها (أىْ تنظيم الإنتاج) بطريقة من شأنها إشباع حاجات أكبرِ عددٍ من البشر(32): حيث إن مصلحة العدالة (التقسيم العادل للمنتجات، التوزيع العادل للوصول إلى مُتَع الحياة) هى التى ستخدمها  العقلنة بالتالى. غير أن تحقيق مجتمع يتَّسق مع مقتضيات العقل يمثل بالإضافة إلى ذلك الوسيلة الوحيدة لتكوين جماعة من الناس الأحرار، لإنقاذ مشروع الحرية من طابع اليوتوپيا(33): ففى مجتمع عقلانى يختفى فى الواقع اضطهاد المستغَلِّين (بفتح الغين) من جانب أولئك الذين تعمل لمصلحتهم شروط الإنتاج، ويتحقق "التقرير الذاتى المطلق للمصير" حيث "تتطابق حقا أهداف الأفراد المستقلين مع أهداف الجماعة"، وقد تمَّ تجاوزها/ وصيانتها/ والسموُّ بها، فى الواقع، "فى كلِّية المجتمع"(34). وهكذا يجرى تعديل مفهوم الفرد: فهو لم يَعُدْ الأنا المنعزل الذى يقف فى مواجهة حياة اجتماعية غريبة عليه، بل يصير فى قلب تنظيم اقتصادى حلّ فيه "العمل التضامنى" محلّ "المنافسة السلبية"(35). وفيه يتوافق حقا الخاصّ مع الجماعىّ، وإنما بذلك تبدأ هنا سيادة الحرية. وإذا كانت المصالح المستمدة من العدالة ومن الحرية تتحقق بالتالى بميلاد تنظيم اجتماعى يرتكز على العقل، يمكننا أن نفهم أن "النظرية النقدية، التى تتمثل غايتها فى سعادة كل الأفراد"(36) (وفى هذا يتمثل كونها هى أيضا "ذات مصلحة"، وبالأخص فى الوقت الحاضر، فى تحرير الجماعات الاجتماعية المُبْعَدَة إلى أقصى حدّ عن هذه السعادة)، ... يمكننا أن نفهم أن النظرية النقدية لا يمكنها إلا أن تلتزم "بفكرة مادية عن مجتمع حرّ يقرِّر مصيره بنفسه" (37): وهى فكرة مادية عند مقابلتها بالطريقة التى اقتصرت المثالية وفقا لها على تعريف السعادة على أنها "تأمُّل العقل فى ذاته"، والتى سبق أن شدَّدتْ حقا على أن "إمكانيات الإنسان لا تقتصر على الذوبان فى النظام القائم وعلى تكديس النفوذ والربح"(38)، غير أنها لم تطالب الإنسان مطلقا بانتزاع وسائل التخلُّص بصورة فعّالة من علاقات النفوذ والربح.
وإنما على أساس تصوُّر عن العقلانية بوصفها تحريرية يمكن للنظرية النقدية أن تقتضى من تلقاء نفسها إسهاما فى الممارسة التى تقود "نحو حالة اجتماعية خالية من الاستغلال والاضطهاد على السواء، وتوجد فيها حقا ذاتٌ أرحب كثيرا من الفرد، أىْ الإنسانية الواعية بذاتها"(39)، وبكلمات أخرى: مجتمع يتَّسق مع مقتضيات العقل. لكنْ، متى اتضح ذلك، بأىّ شيء تُسْهم النظرية النقدية ذاتها، تلك التى جرى للتوّ تعريف مشروعها، فى إعداد هذا المجتمع؟ الإجابة يمكن أن تكون موجزة: مع إبراز المصالح الاجتماعية التى تنفخ الحياة فى العلم، وبوجه عام، فى النظرية، يصير المشروع النقدى "نظرية عن المجتمع"(40)، وهو – بوصفه كذلك – يحمل المزيد من الوعى(41) والشفافية إلى أعضاء مجتمع لا يزال غير عقلانى؛ وبذلك يجعل الذوات الاجتماعية واعية بالطابع التناقضى لهذا المجتمع، ويُسْهم بالتالى فى التحرُّك نحو هذه "الإنسانية الواعية بذاتها" التى لم يتمّ بلوغها حقا إلا فى "تنظيم اجتماعى يتَّسق مع العقل ومع مصالح الجماعة"(42). وهكذا نرى أن النظرية النقدية، فى حدّ ذاتها، وبقدر ما هى مُنْتِجَةٌ للوعى، تشكِّل مظهرا من مظاهر الممارسة التحرُّرية/ العقلانية: وإذا أضفنا أن الإنارة المسلَّطة على التناقضات الاجتماعية القائمة هى "عامل حفز وتغيير" داخل "الوضع التاريخىّ العينىّ"(43)، وأنها بالتالى توقظ بصورة غير مباشرة الممارسة التحويلية، فإن العلاقة بين المهمة النظرية والمهمة العملية للمشروع تصير واضحة شفافة.
وندرك بالتالى بأىّ معنى كان بوسع هوركهايمر، فى بصدد معركة النزعة العقلانية، أن يدافع عن العقل ضدّ الشكليْن الحديثيْن الأكثر لفتا للنظر من أشكال إنكار الحقيقة: النسبية واللاعقلانية. وليس بوسعنا أن نعرض هذه النقطة بإسهاب هنا. وإنما نشير فقط إلى أنه إذا كانت العقلانية التقنية للعالم البرچوازى قد استطاعت أن تُجلِّل بالعار العقل ذاته بجعله يبدو متناقضا (الأمر الذى يُفضى إلى النسبية) ومضطهِدا (بكسر الهاء) إزاء الفرد (مولِّدا بالتالى اللاعقلانية)(44)، فإن ذلك لا يؤثِّر مطلقا فى جوهر العقلانية ذاتها، "ليس العقل ذاته هو ما يجرى تجريمه"(45) والتضحية به، كما تريد اللاعقلانية، بزعم إنقاذ الفرد بذلك؛ والواقع أن "العقلانية التقنية المرفوعة إلى نسق" والتى تبلغ أوجها فى النازية(46) هى عقلانية لا عقلانية(47)، عقلنة زائفة، لا تدخل إلا فى خدمة اللاعقلانى الذى هو مصلحة المستغِلِّين (بكسر الغين) أو الجنون الذى هو الشهوة المدمِّرة للجلاد. وبعبارة أخرى: المجتمع الرأسمالى تنظيم عقلانى بصورة ساخرة، حيث العقلنة مزيَّفة، مادامت تُغذِّى لا عقلانية الربح(48). وهذه "العقلانية الساخرة"(49) اضطهادية تماما، وتنميطية بالتأكيد، لكنْ كيف يكون الأمر بخلاف ذلك مادام ما يُغذِّها هو اللاعقلانى ذاته، وهو ما نرى حقا، حتى فى النزعة اللاعقلانية (رغم المظاهر)، كيف أنه يقترن بتحلُّل الخصوصيات الفردية (50). وإذا جاز القول إنه على هذا النحو تجد المهمة النظرية أمام نفسها عقلانية وهمية، لِنَقُلْ أنساقا تطمح إلى الإنجاز وتنطوى فى داخلها بالتالى على شجب الإغلاقات النظرية الزائفة، فإن المهمة العملية سوف تُجابه على هذا النحو "العقلانية الساخرة" للعالم البرچوازى وتترك دون إنجاز المهمة المتعلقة، هناك أيضا، بالبرهنة على مثل هذه العقلانية، المرتكزة على مصلحة تقوم، بعيدا عن الاشتمال عليها، بخدمتها.
غير أن هناك صعوبة تستحق التوضيح: ألا يشكِّل الالتزام، الذى صاغه هوركهايمر بوضوح، بمشروع يتعلق بالعقلنة النظرية والعملية، مهما كان مبرَّرا، مشكلة فى قلب نظرية للمعرفة تريد لنفسها أن تكون مادية؟ ألا يظل الهدف النظرى للنظرية النقدية، من الناحية الجوهرية، أىْ بالذات بقدر ما هو هدف، نفس هدف المثالية الألمانية: التصالُح، بحكم مقتضى العقلنة، مع الواقعى؟ وباختصار: إذا كان ما أسميناه "المهمة الأولى" تشكِّل حقا لحظة "الافتتاحية" فيما يتعلق بالأنساق الميتافيزيقية التى كشفت هذه المهمة النقاب عن "خارجها"، ألا تشكِّل المهمة الثانية على العكس، بقدر ما تهدف إلى أن تمتصّ، إلى أن تشتمل عن طريق العقل على ما تمَّ تعريفه على أنه خارجٌ بالنسبة لها، ما يمكننا أن نسمِّيه بالتالى بلحظة "الإغلاق"؟ وإذا كانت المثالية تتحدَّد عن طريق "أسطورة وحدة الفكر والوجود"، وإذا كانت "فكرة سيطرة العقل على الوجود ليست فى النهاية سوى مقتضًى من مقتضيات المثالية"(51)، كما لاحظ ماركيوز فى 1937، فماذا تكون مادية(52) لا معنًى لكل عملها النظرى والعملى إلا ما يحمله هذا المقتضى (الذى يتمّ إدراكه هو ذاته على أنه غير قابل للتحقيق) المتمثل فى أن تصير هذه الأسطورة واقعا؟ إن الصعوبة، مهما كانت واضحة جلية، قد تكون غير قابلة للحل. ومع ذلك فقد سعى هوركهايمر إلى حلها مميِّزا أنماطا شتى من العقلنة و، بالتالى، من الالتزامات بمشروع للعقلانية. وهذه هى المهمة الثالثة، النظرية، التى نرى بوضوح كيف أنها تميل إلى الإسهام فى جعل المقتضى العملى مشروعا تماما.
3: المهمة الثالثة: تفكيك صيرورة العقل من أجل تمييز شتى صوره.
والمقصود بها بالتالى هو فهم كيف "يصير العقل لاعقلانيا ومخبولا"(53)، وإدراك كيف أمكن للعقل أن ينزلق نحو الغباء متحوِّلا إلى أداة للاضطهاد وبالتالى، التنبؤ بالميول نحو تمرُّدٍ ضدّ سيادة العقلانى المشكوك فى أن تكون أكثر من "سيادة الأكثر قوة أو الأكثر مكرا"(54). ويتجلى إبهام المشروع فى الحال: إنه يصل فى الواقع إلى أن يعزل عن طريق العقل العملية التى تولد عن طريقها صورة بعينها للعقل. والواقع أن جعل هذه العملية مفهومة، أىْ عقلنتها، استيعابها فى عالم الإدراك، - تماما بقدر ماهو جهد من أجل دمج المصلحة التى تنفخ الحياة فى كل تقدُّم للمعرفة – هو جعل العقل أكثر عقلانية وبالتالى الاقتراب به أيضا من الشفافية المطلقة التى يدَّعى الإغلاق المثالى بلوغها.
إن الصعوبة جلية. فلنكتفِ الآن بملاحظة أن هذه المهمة، مهما كانت مبهمة، ضرورية مع هذا لإضفاء اتساق على المهمتيْن الأولييْن، حيث إن المقصود هو تجاوز العقلانية المثالية دون السقوط بذلك من جديد فى النزعة اللاعقلانية، والحفاظ – بخلاف هذه الأخيرة – على القيمة التحريرية للعقل. وإنما فى اختفاء العقل L Éclipse de la Raison سيحاول هوركهايمر أن يصل بهذا المشروع إلى النجاح مميِّزا شكلين "مخبوليْن"، مشوَّهيْن، للعقل: العقل الذرائعى للعلم والتقنية من جهة، والعقل الموضوعى للنزعة العقلانية، من جهة أخرى. وبالتالى، فإذا كانت النظرية النقدية ملتزمة بمشروع للعقلنة، سيكون عليها أن تتحدَّد، على الأقل بصورة سلبية، عن طريق المقابلة مع هاتين الصورتين الواهيتيْن للعقل.
أ: والصورة الأولى المجرَّمة هى تلك التى يدعوها اختفاء العقل L Éclipse ﺑ "العقل الذرائعى"، أو "الذاتى"، أو "الشكلى"، أىْ العقل بوصفه فى خدمة المصلحة. ويجدّ هوركهايمر، بعزم راسخ، فى توضيح أنه (العقل الذرائعى): "يميل إلى تدمير ذات جوهر العقل الذى يلتزم المرء باسمه بالتقدم"(55). عندئذ يقوم نقد ذاتى حقيقى "للعقل" بإعلان النتائج المختزلة، المطابقة(56)، والمجرِّدة من الطابع الإنسانى(57)، لعقل مطبوع بالطابع الفيتيشى ولم يَعُدْ يحمل أىّ مضمون خاص، ولا أىّ غاية محددة، بل يكون فقط وسيلة لحساب كيف يتم الوصول بأكبر فاعلية ممكنة إلى تحقيق غايات بعينها مطروحة من الخارج، أىْ من جانب المصلحة اللاعقلانية. والعقل الذرائعى پراجماتى، وهو لا يهدف إلى شيء آخر سوى تحقيق النجاح، ولا تهمُّه إلا قليلا معرفة ما هو محتوى وما هو أصل المشروع الذى يكفل له النجاح على هذا النحو(58). وبعبارة أخرى: فالعقلانية غائبة عن تحديد الأهداف، وهى لا توجِّه إلّا علاقة الوسائل بالغايات – وهى إذن لامبالية أو محايدة إزاء الأهداف والغايات، ويمكنها تماما أن تضع نفسها فى خدمة ما هو غير إنسانى وأن تتنكر لجوهرها إذْ تصير سلاح الإذلال(59). ويصير هذا "الإذلال للعقل"(60) بهذا المعنى مرحلة حاسمة من مراحل هذا "الانتكاس لعصر التنوير"(61)، حيث يهدد السقوط من جديد فى "البربرية"(62)، فى ذات اللحظة التى يبدو فيها أن العقل على وشك بلوغ الكمال.
ب: ويقف فى مواجهة العقل الذرائعى بالتالى العقل الذى يملك فى حدّ ذاته، فى التراث الفلسفى، من أفلاطون إلى الأنساق العقلانية الكبرى، محتوى: عند سقراط، على سبيل المثال، يعكس هذا العقل: "الطابع الحقيقى للأشياء"، وبعبارة أخرى: فالعقل هنا هو "العقل الموضوعى"، "جوهر ما يشكِّل بنية ملازمة للواقع والذى، من حيث هو كذلك، يتطلب طريقة خاصة فى السلوك فى كل حالة خاصة"(63)؛ وبالتالى فإنه ماثل فى كل "الأنساق الفلسفية للعقل الموضوعى"(64)، ولا سيما فى الأنساق الفلسفية للمثالية الألمانية(65): للعقلانية فى تلك الأنساق الفلسفية هوية ومحتوى خاصان، وهى تفرض غايات بعينها (انظرْ أعلاه، المثالية واستنتاج "ضرورة مطلقة") وتستبعد غايات أخرى. غير أنه بالتوازى مع هذا التراث، "أبدى العقل فى الأزمنة الحديثة ميلا إلى محتواه الموضوعى الخاص"(66) وإلى تعريض نفسه "لخطر الاستسلام أمام اللاعقلانى"(67)، أىْ إلى التحوُّل إلى أداة طيعة للذات المعنية بإبقاء أو توسيع سيطرته. وحركة الذوبان هذه، التى دشَّنها السوفسطائيون(68) قبل العصور الحديثة، اتسعت على وجه الخصوص فى القرن الثامن عشر: ومن المفارقات، فى الواقع، أن فلاسفة عصر التنوير، فى هجومهم على الدين، وجَّهوا أقسى الضربات إلى مفهوم العقل الموضوعى، الذى كان يحمله المفهوم الدينى مؤكِّدا أن للواقع فى حدّ ذاته معنًى وأن بمستطاع المرء أن يستنتج منه المقتضيات بنفسه(69)؛ منتقدا ذات فكرة وجود ميتافيزيقا، أىْ زعم معرفة الطبيعة الحقيقية للواقع بطريقة عقلانية، وقد أسهم عصر التنوير فى تصفية العقل الموضوعى، وهى تصفية احتفى بها هيوم Hume أيضا عندما شن النضال، بعد بيركلى Berkeley، ضد المفاهيم العامة وأنكر عليها كل قدرة على بلوغ الحقيقة(70). والآن وقد تم الهبوط بالميتافيزيقا دفعة واحدة إلى مستوى خرافة أو ميثولوچيا، ندرك كيف صار العقل أداة محايدة فيما يتعلق بكل محتوى، ما دام تحطيم الميتافيزيقا وتحطيم النسبية يحدثان فى نفس الوقت، على أىّ حال (يجرى ردّ بلوغ الحقيقة إلى الموقف العقائدى الذى يسعى المرء وفقا له وراء الموت): وبالتالى فقد استطاعت المصلحة الشخصية فى العصر الصناعى أن تحقق السيطرة(71) وأن تمنح العقل، الذى صار بذلك "شكليا" خالصا، محتواه.
وهاتان الصورتان من صُوَر العقل يجرى ردّهما، بما يتسق مع مبادئ تحليل النظرية النقدية، إلى المصلحة التى أوجدتهما (72)، أىْ إلى مصلحة القوى المسيطرة التى تعبِّر عن نفسها فيهما بصورة متعاقبة. والواقع أن العالم البرچوازى الوليد، الذى كان بحاجة قبل كل شيء إلى الحكم وترسيخ سلطته، كان معنيًّا بإنتاج تفسيرات للواقع مسجِّلا فى هذا الإنتاج علاقات مستقرة وثابتة، ويمكن التعبير عنها بمعيار العقل، بين شتى عناصر الواقع: وتتزامن أنساق العقل الموضوعى وكذلك ادِّعاؤها للمطلق – كما رأينا – مع هذه اللحظة للمصلحة البرچوازية؛ وبالمقابل، فحالما تمت إقامة السلطة البرچوازية بصورة وطيدة، ما دام المقصود بذلك بالأحرى هو التبديل بأكفأ طريقة ممكنة، والقلب، من أجل أفضل استغلال، لعلاقات البشر مع الطبيعة ولعلاقات البشر فيما بينهم، فقد تمثَّلت مصلحة البرچوازية من جهة فى تحطيم كل دعاوى العقل الموضوعى، التى جمَّدت الواقع بصفة نهائية، وبالتالى فى نقد النزعة العقلانية – التى تنبع منها كافة تيارات اللاعقلانية -، ومن جهة أخرى فى استعادة العقل الذى صار على هذا النحو مُهانا، وخاليا من كل محتوى، لجعله يقوم بالحساب التقنى لأكفأ علاقات ممكنة بين الوسائل والأهداف – حيث تكون الأهداف الوحيدة من الآن فصاعدا هى تلك الخاصة بأسرع نموّ للاستغلال والربح: وهكذا فإن اللاعقلانية، والنسبية، والعقلانية الذرائعية/الذاتية، غير قابلة للانفصام. وهكذا نتبيَّن أن العقل الموضوعى والعقل الذاتى وجهان للعقل اللاعقلانى، ويقومان كلاهما بتمويه سيادة مصلحة الأقلية. والحقيقة أن الصيرورة-الغباوة للعقل، وتورُّط اللاعقلانية التقنية مع الاضطهاد لا يقومان إلا بأن يحملا إلى مستوى أعلى من الوضوح استخداما للعقل من جانب استخدامه الآخر الذى يسبق بزمن طويل التقنين المعاصر لقواعد الاستنباط.
وهكذا يتم، وإنْ كان ذلك بصورة سلبية حقا، استخلاص الصورة "الحقيقية" للعقل الذى تزمع النظرية النقدية الالتزام به. وذلك بصورة سلبية فى الواقع، حيث إننا لا نعرف إلا أن العقلانية التى ترمى إليها النظرية النقدية سوف يتعيَّن عليها أن تراعى فى الواقع "الجوانب الجيدة" للشكلين السابقين للعقل، مع رفض "جوانبهما السيئة" تماما(73):
- فالعقل الذى تستند إليه النظرية النقدية زاعمةً تحريره وتحقيقه سوف يتعين عليه حقا، مثل العقل الخاص "بالنزعة العقلانية"، أن يكون موضوعيا وليس ذرائعيا: والواقع أن هذا العقل يملك محتوى خاصا به، حيث إن منح التنظيم الاجتماعى بنية عقلانية حقا يعنى، كما سبق أن رأينا، إضفاء الطابع الإنسانى، وتحقيق السعادة، وتحقيق العدالة والحرية. وبالتالى فإن العقل هنا لم يعد شكليًّا ومحايدا، فهو يدل على مضامين بعينها، ومهام بعينها، فى الوقت الذى يسمح فيه بشجب ممارسات بعينها باسمه، وبعبارة أخرى بالحكم عليها (الأمر الذى كان التحييد يحرم العقل منه)(74).وباختصار، فإن العقل الذى تستند إليه النظرية النقدية لا يمكنه أن يكون نسبيا.
- غير أن المقصود هو إنْ جاز القول "إعادة موضعة" للعقل، وبالتالى القيام بمعنًى ما باستعادة مشروع النزعة العقلانية، ويجدر "بجدل مادى مفتوح" أن يبلغ ذلك دون أن يسقط من جديد فى المثالية ودون أن يستخفّ بإسهام الفروع العلمية التى لا يمكن إهمال الحقيقة (بمعنى الدقة) التى تقدِّمها. وباختصار، إذا كان ينبغى إزاحة النسبية، فلا ينبغى أن يؤدى ذلك إلى السقوط من جديد فى العقائدية(75).
وهكذا يظهر العقل المادى وكأنه نوع من حدّ ثالث تركيبىّ يبدو أنه لا يتمّ تعريفه مطلقا إلا بصورة سلبية، بالتضادّ مع الحدَّيْن المتناقضيْن: يلزمه من جهة (مثل العقل الموضوعى) أن يكون "شاملا" وأن يحدد المهام من أجل الممارسة دون أن يسقط لهذا فى المثالية، ومن جهة أخرى، أن يأخذ فى اعتباره العلوم القائمة بذاتها دون أن يصير ذرائعيًّا (عرفت مادية ماركس آنذاك نموذجا لمثل هذه العقلانية)(76)، وتصير المشكلة كلها بالتالى مشكلة إضفاء محتوى وضعىّ أيضا على هذا الحد الثالث التركيبى لكىْ يُكْفَل له ألَّا يقتصر على الإمكانية و الاتساق.
 
3
اتساق النظرية النقدية
كان ر. بوبنر R. Bubner (77) قد شدَّد على بعض جوانب الصعوبات الماثلة فى نظرية المعرفة عند هوركهايمر. ونحن لن نستدعى هنا سوى الملامح العامة للنقد الذى يسوقه فى ثلاث لحظات: 1: من أجل تفادى العقائدية، يجب على النظرية النقدية أن تطبق النقد على نفسها؛ 2: ولهذه الغاية يجب بالتالى ردُّها هى أيضا إلى مصلحة بعينها؛ 3: ولكن التناول النقدى الذى يرد النظرية ذاتها إلى مصلحة بعينها، إما أن يُنشئ نظرية عليا يمَّحِى فيها التحديد من جانب النظرية الاجتماعية، أو أنْ يكون هو ذاته مشروطا اجتماعيا ويتعيَّن عليه بدوره أن يخضع للنقد: فى الحالة الأولى، لا نرى كيف يتم تفادى العقائدية على مستوى هذه النظرية العليا؛ وفى الحالة الثانية، ننخرط فى عملية نقد لانهائى ونسقط فى نسبية مطلقة، وباختصار: نلقى المعضلات غير القابلة للحل فى فلسفة الانعكاس، وننكفئ إلى جانب هيجل. وهكذا تجد النظرية النقدية نفسها مُدانة بالتذبذب بين هذه العقائدية الخاصة بالنظرية العليا وهذه النسبية الخاصة بفلسفة الانعكاس – التى هى ذاتها من جهة أخرى عقائدية، بقدر ما يدَّعِى هذا النقد اللانهائى الإمساك بالمجموع الكلى للمصالح والتناقضات التى تفعل فعلها فى الواقع.
هذا التحليل الذى يقدمه ر. بوبنر لا غبار عليه وهو يصور أكمل تصوير الصعوبات الكامنة فى صميم كل نقد مادى للنظرية. ويبدو لنا فقط أنه ربما كان سيصبح أكثر خصوبة أن يأخذ فى اعتباره أكثر ذلك التذبذب ذاته بين العقائدية والنسبية، لكى يوضح بمزيد من النقاء أيضا فيمَ كان أو ربما كان يتمثل، دون أن يدركه هوركهايمر حقا، الوضع الحتمى الذى لم يكن بالمستطاع إلا أن يجد نفسه فيه مشروعٌ مادى يطمح إلى العلمية.
لنتناولْ المسألة من جديد على مستوى مقال حول مشكلة الحقيقة، الذى يقدم أوسع تطوير لها (78): بقدر ما هى مادية، يجب على النظرية النقدية أن تؤكد الطابع المحدَّد لإبداعاتها ذاتها: كل حقيقة هى تاريخية، و "هذه الحقيقة لا يمكن بالتالى إحياؤها حقا، لأنه لا يوجد أىّ كائن فوق بشرىّ يمكنه أن يصون داخل روحه كلىّ العلم العلاقة الراهنة بين مضامين الفكر والأشياء، حالما يكون البشر الواقعيون قد تغيَّروا أو حالما تكون البشرية بأسرها قد هلكت"(79)؛ غير أن من الواجب فى الوقت نفسه تحاشى خطر النسبية الذى يدمِّر العلم ويؤدى إلى أخذ كل الآراء على أنها متعادلة (التسامح القمعى –(80)-). ويجب بالتالى صياغة مفهوم عن الحقيقة يُفلت من مأزق النسبية والعقائدية، حيث "الجدل الذى تم تحريره من الوهم المثالى يقهر تناقض العقائدية وتناقض النسبية"(81).
وتتمثل محاولة أولى لصياغة مفهوم كهذا، مع الرفض التام لتخليد أىّ موقف مهما يكن، فى تأييد أن تتلاءم المعارف بصورة مطلقة داخل الإطار الشامل الذى تنتمى إليه(82). ولا حاجة إلى تأكيد أن ذلك ينطوى على حل زائف لا يقوم إلا بإعادة ترتيب نسبية المجموع.
ولضمان "ألَّا يفقد الجدل المفتوح بذلك سمة الحقيقة"(83)، ينبغى إذن التقدم أكثر لتأكيد استقرار بعينه للحقيقة، وهو الأمر الذى قام به هوركهايمر بطريقة صريحة: يجب إخضاع الحقيقة لعملية تصحيح، وإذا "بيَّن تقدم المعرفة، حقا، زيف كثير من الأشياء التى كنا نأخذها مخطئين على أنها صحيحة"، سيكون من الإسراف زعم أنه لا شيء سيظل مستقرا إذن: "التصحيح اللاحق لا يعنى أن ما كان صحيحا من قبل، قد صار باطلا"(84)، غير أن واقع أن "الحقيقة مدفوعة إلى مدى أبعد" بالضرورة البشرية يؤدى إلى دمج الحقيقة السابقة فى حقيقة أكثر كمالا تجد فيها مكانها. وإذا أخذ المرء يتكلم بعد ذلك عن النسبية، فلا يجب أن يفعل ذلك كما تفعل المثالية "انطلاقا من مطلق مفترض مسبَّقا"، بل "بالاعتماد على تجربة آخذة فى التقدم" تسمح بتجاوز القديم مدمجة إياه(85).
ويحقق الموقف، هذه المرة، اتساقا بعينه. غير أن من حق المرء أن يتساءل عن: فيمَ تتمثل ماديته. وقد قدّمنا فى مكان آخر(86) الفرضية القائلة بأن هذا المفهوم عن التقدم لم يكن فى الواقع سوى الاستعادة غير المتعمَّدة للمفهوم الكانطى عن التقدم العلمى بوصفه تقدما لانهائيا نحو تحقيق مقتضى من مقتضيات الطابع النَّسَقى (وعلى وجه الدقة تلك الخاصة بالمثالية) والتى لا تتحقق أبدا. ويسمح مثل هذا المفهوم بالتالى بالإقرار بإمكانية تحوُّلٍ للمفاهيم العلمية مع الحفاظ تماما، وفقا لصيغة هوركهايمر، على "إيمان راسخ بالأفكار والأهداف الحاسمة"، أىْ بمشروع العقلنة، حتى إنْ عرف المرء (وهذا هو جوهر الزعم المادى) أن التوافق التام بين العقل والواقع أمر مستبعد. وفى الموقف الراسخ لمثل هذه المهمة، كيف لا نرى إدخال "مثل أعلى منظِّم" غير زمنى وعام كما هو عند كانط (مع تفادى العقائدية المثالية عن طريق تأكيد أن الوجود الواقعى لا يمكن اختزاله إلى مفهوم، واستبعاد النسبية عن طريق الحفاظ على مهمة خاصة بالعقلنة الشاملة)؟
وهذه الفرضية، التى من الجلى أنه لم يكن بوسع هوركهايمر ذاته الإقرار بها، حيث إنها ستعنى الإقرار، فى إطار نظريته الخاصة، بلحظة لا مادية(87)، يبدو لنا أن هذه الفرضية يبررها اعتباران:
1: فالنظرية النقدية، كما سبق أن رأينا، يجب عليها أن تطبق معاييرها الخاصة على نفسها: وبالتالى يجب أن تنظر إلى نفسها، ليس على أنها نظرية مُغلقة، بل على أنها نظرية مفتوحة على مصلحةٍ خارجها. غير أن هنا مأزقا: إذا كانت هذه المصلحة تاريخية واجتماعية على وجه الحصر (كما يبدو أن المادية تقتضى)، فإن النظرية النقدية لا يمكنها إذن أن تتفادى أن تجد نفسها مرة أخرى على نفس مستوى الأيديولوچيات الأخرى؛ غير أنه إذا كانت هذه المصلحة مطروحة بوصفها شاملة، فإن ذلك يساوى إدخال حد أدنى من المثالية مرة أخرى. غير أن هذا الحل الأخير بالذات (وزدْ على هذا أننا نشكّ فى أن تكون هناك حلول أخرى لهذا المأزق) .. هذا الحل هو ما اختاره هوركهايمر فى نهاية الأمر، رغم الإنكار المتكرر، حينما يكتب قائلا إن "الهدف الخاص بمجتمع منظَّم وفقا للعقل، والذى يبدو فى الوقت الحاضر أنه لم يَعُدْ يملك وجودا إلا فى الخيال، محفور حقا فى روح كل إنسان"(88)، وكذلك عندما يتحدث عن "مصلحة مشتركة فى التنظيم العقلانى للمجتمع"(89). فهل هذا فى الواقع شيء آخر سوى المفهوم الكانطى عن مصلحة العقل، بالموقف المزدوج الذى ينطوى عليه إزاء النسق المثالى (الذى يتم الحفاظ عليه بوصفه مثلا أعلى فيما يخص المنهج، لكنْ يتمّ رفضه بوصفه "معرفة")؟ هنا أيضا، من الجلى تماما أن هوركهايمر لم يكن بوسعه أن يقرّ، وبهذا يصير مجبرا على الوقوع فى تذبذبات أو حتى فى تناقضات صارخة(90).
ويبقى رغم كل شيء أن المحاولة التى يقوم بها كاشفة بوجه خاص: فهذا المفهوم الخاص بمصلحة مشتركة يحاول بطريقة يائسة أن يوفِّق بين تأصيل كل نظرية فى مصلحة من المصالح (كما تقتضى المادية) وبين ضمان استقرار غير خاضع للنسبية (الطابع العلمى لقاء هذا الثمن). وتمثل فكرة مصلحة خاصة بالغالبية الواسعة – الحد الأقصى للمادية – أقرب ترجمة ممكنة لمصلحة شاملة يمكنها وحدها أن تلغى النسبية حقا، وإنْ كانت تسقط بالتالى فى المقولة الخاصة بمصلحة العقل.
2: وتأتى ملاحظة ثانية، فيما يبدو لنا، لتؤكد الفرضية: القائلة بأن التناقض بين العقائدية والنسبية عند هوركهايمر ينشأ من أنه، فى سعيه إلى الطابع العلمى(91)، يجد نفسه على وجه الدقة فى الحيِّز النظرى الذى يصفه كانط(92) على أنه تناقضىّ – من جهة، بالنسبة الشكية التى تتفق مع نقائض الأطروحات فى التناقضات، ومن جهة أخرى، بالعقائدية المنطقية التى تتفق مع الأطروحات -، لكنْ، خلافا ﻟ كانط، دون القدرة على حل التناقض (حيث إن حلا نقديا من شأنه أن يستعيد مفهوم الذاتية الترانسندنتالية). وتصير الإمكانية الوحيدة إذن، مع البقاء كليا داخل نطاق التناقض، هى تمويه الأكثر احتمالا، دون القدرة مع ذلك على الحيلولة دون استبقاء عنصر لاتاريخىّ يظل فى هذه الشروط بلا أساس(93).
ومن الطبيعى تماما أن هذه الصعوبات، ولا سيما هذا التناقض، تتلاقى على مستوى الفلسفة العملية للنظرية النقدية(94). وحيث إن التوازى جلىّ، فإننا نكتفى ببساطة بتوضيح جانبيه:
- إن المصلحة العملية الملائمة للعقل والتى تولِّد فعل الجماعات التقدمية المتوجهة بفضل الفكر المادى لا يمكنها هى ذاتها أن تكون سوى مصلحة تاريخية، وهى بالتالى متعلقة بجماعات اجتماعية محددة، خاصة وأن: "ما يقرر قيمة نظرية من النظريات هو صلتها بالمشكلات التى تشرع القوى الاجتماعية التقدمية، فى لحظة تاريخية محددة، فى حلها؛ وحتى فى هذه الحالة، فإن هذه القيمة ليست بصورة مباشرة قيمة تخص البشرية قاطبة، بل هى لا تخص قبل كل شيء سوى الجماعات التى تشغلها هذه المشكلات"(95). وما كان يمكنه بالتالى أن يبدو، للوهلة الأولى، أنه تبرير للأنانية (للمصلحة الخاصة) مرتبط بوضوح بمادية النظرية النقدية. والواقع أن هذه الأخيرة تأبى إنْ جاز القول بحكم التعريف أن تبنى المصلحة العملية على واقع فوق حسىّ مهما يكن نوعه، حتى لو كان واقع "القانون الأخلاقى": "إن المادية لا تعرف واقعا آخر، لا تعرف واقعا يصلح حقيقة لواقعنا سوى واقع يشكِّل سماءه. والسعادة والسلام اللذان لا يتمّ منحهما للبشر على الأرض ضائعان بالنسبة لهم، ليس فقط فى ظاهر الأمر، بل كذلك أيضا فى الواقع، وذلك إلى الأبد .... وحُبّ البشر الذى تفهمه المادية لا يتوجَّه إلى كائنات تنسحب بعد موتها إلى الأبدية(96) ...". وما يعبِّر عن نفسه هنا هو بالتالى المعادل الأخلاقى للمنحدر النسبوىّ للنظرية. ولا شك فى أن المادية تجرى مراعاتها هنا، غير أن الفعل يفقد كل ادِّعاء بأىّ مشروعية عامة من أىّ نوع. فكيف يمكننا إذن أن نفهم التأكيد الدائم على مصلحة للعقلانية يشترك فيها "كل البشر"؟ ألا ينبغى على عكس النسبية، استخلاص حد أدنى من الشمولية لتبرير الفعل؟
- ذلك على أىّ حال هو ما يقودنا إليه هوركهايمر بالضرورة، مؤكدا أن "واقع السعى إلى غايات على وجه الحصر مع الإضرار بدوافع أخرى يميِّز اليوم حقا حياة بائسة"(97)، ماضيا حتى إلى حد أنه يبرر بالتالى اللجوء إلى الإكراه لفرض العقل ضد الأنانية: "من الصحيح من وجهة نظر التاريخ العام أن واقع إكراه بعض الشرائح المتخلفة فى المدن والأرياف على أن تعتاد قهر مصالحها ربما كان علاجا يمكن، حتى فى شروط مختلفة، أن يكون حتميا. فأسلوبها الإنتاجى البالى يتفق معه موقف روحى يأخذ فى اعتباره أنه من المستحيل رفعها عقليا إلى مستوى الحالة الراهنة للمعرفة الأمر الذى يجعل من الضرورى بالتالى اللجوء إلى السلطة"(98).
وعلى هذا النحو يعترض المنحدرَ النسبوىّ للمشكلة الأخلاقية منحدرٌ عقائدىّ يقوم خلسة بإعادة إدخال العام (اللّاتاريخى) وسلطته على الخاص الملموس. وهذا صحيح إلى حد أن هوركهايمر، على نقيض النصوص المقتبسة من قبل، ينطلق منه الإقرار بوجود قِيَمٍ عليا حتى على الحياة الإنسانية: "نظرا لأن الميول التاريخية التى يتفق معها الفكر المادى، رغم كونها بلا شك محتمة أيضا بالتهديد الذى يخيِّم على سعادة وحياة الأفراد، لا تهدف لهذا على وجه الحصر إلى الإبقاء على الفرد الخاص، فإن الوجود لا يبدو له بوصفه الهدف الفريد والأسمى. ولا جدال فى أن التضحية بالحياة قد تكون واجبة فى الممارسة التاريخية وفى أن الانشغال بها على وجه الحصر يصير مخزيا تماما للبشر"(99). وإذا كان وضع القِيَم فوق وبعد الحياة هو، كما يقول نيتشه Nietzsche، الدليل الذى لا يُدحض على المثالية التى دشنها سقراط(100)، لا يمكننا أن نرى كيف نفهم إعادة إدخال أخلاق التضحية فى النظرية "المادية"، إذا لم يكن ذلك، هنا أيضا، لأنها تحتاج إلى حد أدنى من المثالية يسمح بالتخلص من المثالية.
وهكذا يتضح أن موقف النظرية النقدية فيما يتعلق بالمثالية، عبر الصعوبات التى تهدِّد اتِّساقها، معقَّد وحتى مبهم. وإنما انطلاقا من هذا الموقف قد يكون من الممكن أن نفسِّر تطور النظرية النقدية، التى كنا نصف أهميتها البالغة فى بدايتها.
4
النظرية النقدية اليوم
قبل كل شيء سنرى أين نحن من ناحية هذا التطور من أجل تقدير المسافة التى تم اجتيازها.
أولا: المسافة:
بعون النصوص الثلاثة الأخيرة ﻟ هوركهايمر، النظرية النقدية أمسِ واليوم ، و التشاؤم اليوم Pessimusmus heute، و فكر شوپنهاور فى علاقته بالمعرفة والدين schopenhauers Denken im Verhältnis zu Wissenschaft und Religion، يمكن لهذه المسافة أن تتضح ولا سيما على مستوييْن:
1: فيما يتعلق بمستقبل المجتمع:
أ: العقلنة يجرى فهمها الآن ليس بوصفها الإنتاج عمليا (مهمة)، بل بوصفها "مَيْلا ملازما لتطور البشرية"(101)، حتى إذا كان هذا الميل معطَّلا بصورة مؤقتة بكوارث كالحروب التى تُعْزَى إلى تضارب المصالح أو مساعى التوحيد الأشدّ وحشية (هتلر، ستالين).
ب: لم تَعُدْ هذه العقلنة الحتمية تبدو بوصفها تحريرية، بل بوصفها استعبادية: إن التقدم  "يكتفى بأشياء سلبية ومرعبة"(102)، بحيث إنه "كلما كانت هناك عدالة أكثر، كانت هناك حرية أقل"(103). والتنظيم العقلانى للمجتمع والذى يضمن أسلوبا عادلا للإنتاج والتوزيع، بعيدا عن أن يؤدى فى ذات الوقت إلى سيادة الحرية ضمن التقرير الذاتى للمصير، يؤدى إلى انبثاق "عالم مُدار بصورة كلية" يتحدد بتلاشى كل الاختلافات داخل الهوية، أىْ باختفاء سلطة الخاص: لم يَعُدْ للفرد أهمية(104). وحيث يقوم على أساس عقلنة يجرى المزيد من إنجازها دوما فإن "ما تصوره كارل ماركس بوصفه الاشتراكية هو فى الواقع عالم مُدار"(105)، يتميز "باختفاء الذات المستقلة"(106) داخل شمولية موحِّدة. ومن الجلىّ تماما أن مثل هذه الرؤية، المشوَّشة، عن المستقبل الحتمى(107) للإنسانية لا يمكن إلا أن تعنى تحويلا جذريا للمهام التى يأخذها المرء على عاتقه.
2: فيما يتعلق بالمهام:
أ: لم يَعُدْ الناس يناضلون لصالح الثورة(108): والمهمة العملية (التحويل الثورى للواقع) جرى التخلِّى عنها بالتالى. وبالتخلى عن الآمال البعيدة والمجرَّدة، يرتبط الناس "بأشياء أكثر عينية، داخل الأوضاع التى نعيش فيها نحن أنفسنا"(109).
ب: والمقصود فى الواقع هو، قبل كل شيء، الحفاظ، دون إيقاف التقدم (الأمر الذى يُعَدُّ مستحيلا)، على ما لا يزال إيجابيا: استقلال معيَّن للخاص، الاختلافات التى لم يتم القضاء عليها بعد، جوانب بعينها من الثقافة التى تعبِّر عنها(110). والواقع أنه على هذا النحو لا يزال بمستطاع المرء "أن يحافظ لأطول فترة ممكنة على الاستقلال والإشباع الداخلييْن للإنسان الفرد و، بذلك بالذات، على إمكانات تضامنه مع البشر الآخرين"(111): ينبغى التشديد هنا على التغيُّر الذى طرأ على فكرة التضامن، التى أعيد دمجها فى الليبرالية البرچوازية، فى حين كانت، فى رأى النظرية النقدية الأصلية، الأفق النهائى للثورة، وبالتالى للعقلنة.
ج: فى هذا النضال فى سبيل "الأفكار"(112) القائلة بأن الصيرورة – العقلانية للمجتمع تتعرض للخطر كل يوم بصورة متزايدة وستنتهى، مهما يكن من شيء، إلى الزوال، تتمثل المهمة النظرية الوحيدة، أساسا، فى الحفاظ على بُعْدٍ دينىّ للوعى(113): بفصل الدين عن العقائدية التى كانت تميِّزه حتى ذلك الحين وبإدخال الشك(114) فيه، من أجل إنقاذه، يجرى الحفاظ على العقلية اللاهوتية من أجل تغذية "حنين أولئك القادرين على حزن حقيقى"، على "حنين إلى الغير": مثل هذا الحنين الخاص "بالغير"، أىْ بمثل أعلى يعرف المرء عنه أنه لن يتحقق أبدا، ينتج فيما يتعلق بالواقع التفاوت الذى ينقذ الوعى النقدى. ولم يَعُدْ بمستطاع المرء، بالتأكيد، أن يميِّز الخير، غير أنه يمكن أن يحدد الشر وبالتالى، بقدر الإمكان، أن يعرف ما يوجبه: وهنا، دون شك، الحرية الوحيدة القادرة على البقاء، وهى حرية تصير داخلية تماما. تطوير مثل هذا الوعى بالشر، والعمل على إرجاء انتصاره قليلا، حول بعض النقاط العينية: فى ذلك تتلخص من الآن فصاعدا مهمة مشروع صار تشاؤمه، كما نرى، أمرا جذريا(115).
المسافة التى تم اجتيازها هائلة إذن، ولا يمكن للمرء أن ينكر التطور الذى يفصل، إنْ شئنا، بين هوركهايمر الأول و هوركهايمر الثانى: من الآن فصاعدا تصير العقلنة مأخوذة على أنها شمولية فى جوهرها، ومدمرة للأصالة الفردية، وعسفية – أىْ كل الأوصاف التى كانت مقتصرة من قبل على الصور اللاعقلانية للعقل. والمشروع العقلانى الخاص بالسيطرة على الطبيعة والاقتصاد يشتمل فى داخله على السيطرة على الأفراد: الإدارة العقلانية للأشياء لا يمكن فصلها عن الحكم السلطوى للأشخاص. وهذا التطور هو ما ينبغى الآن فهمه.
ثانيا: تفسيرات لتطور النظرية النقدية:
1: يتفق التفسير الذى قدمه هوركهايمر ذاته، فى مقدمة 1968 وفى النظرية النقدية أمس واليوم، كما قلنا فى البداية، مع المبادئ المادية الأصلية للنظرية: وهو بالتالى خارجىّ ويُحيل إلى التغيرات التاريخية التى كان من شأنها أن تكشف بعض أخطاء ماركس:
- أخطاء اقتصادية، أوّلا: نظرية الإفقار المتزايد ونظرية الأزمات كذَّبهما اليوم تطور الرأسمالية: فالپروليتاريا، بعيدا عن أن ترى وعيها الطبقى يتزايد من جراء إفقار لم يحدث، مندمجة فى المجتمع البرچوازى فى الواقع، وصارت الثورة بالتالى مجرَّدة ووهمية(116). وهذه الوقائع، على كل حال، ليس من شأنها فقط أن تمثل قطيعة مع أهداف النظرية النقدية الأصلية: يتعين عليها على العكس من ذلك أن تؤدى إلى تكثيفٍ فى النشاط النظرى والنقدى، من أجل أفضل كشف للقناع عن الأيديولوچيات التى تدمر الوعى بالاستغلال، ولا تؤدى إلى طرح المهمة العملية ذاتها للمناقشة: والثورة، حتى إذا بدت أقلّ اقترابا، تبدو، دائما، ضرورية.
- والأمر الذى يمكنه، بالمقابل، أن يعدّل المنظورات إلى مدى أبعد، هو أن هوركهايمر يعيِّن خطأ ماركس فيما يتعلق بفكرة الاشتراكية: لم ير ماركس أن الاشتراكية بوصفها تنظيما عقلانيا للمجتمع تُساوى عالما مُدارا بصورة كلية. لا بأس. لكنْ لماذا حدث أن هوركهايمر، الذى لم يكن قد أدرك ذلك بعدُ فى الثلاثينات، يراه بعد ذلك بثلاثين عاما؟ الإجابة: المشهد الذى قدمته الفكرة المنحرفة للاشتراكية فى البلدان التى يسود فيها "الديامات" le Diamat [المادية الجدلية/الديالكتيكية من الطراز السوڤييتى](117). وبعبارة أخرى: تكون الستالينية هى التى نبَّهت  إلى أن الاضطهاد عن طريق العقل ليس من صُنْع العقلنة العقلانية الوحيدة الجديرة بالتكنوقراطية البرچوازية: كان من شأن نواحى الشبه بين الستالينية والنازية أن تكشف عن أن العقلانية الماركسية تشتمل فى صميمها على انحرافها، حاملةً معها قدْرًا من الاضطهاد يضارع ما تحمله هذه العقلانية-الكاذبة الذرائعية التى يتم بلوغ ذروتها فى النازية. ويصير مفتاح فهم القطيعة بالتالى هو البحث فى الأوضاع الجارية.
ولكن الاكتفاء بتفسير كهذا من شأنه أن يعود إلى إشراك تطور النظرية النقدية فى الحركة التى تخلَّى فى سياقها عدد من الماركسيين الغربيين، أمام الستالينية، دون مزيد من التحليل، عن مواقفهم، معتقدين أن من المستحيل التمييز بين الستالينية والماركسية. ولكن مجرد التخلِّى غير المتبصر سيكون أمرا غريبا تماما من جانب منظِّر مثل هوركهايمر. والواقع أنه، حتى تكون الأوضاع مقروءة كما كانت فى ذلك الحين، من الجائز أن عناصر أخرى قد قادت هوركهايمر إلى إجراء هذه القراءة وإلى استخلاص هذا الاستنتاج: التخلِّى الكلى عن المهام الثورية المكوِّنة للماركسية الأصلية للنظرية النقدية.  
2: وبالتالى يصير إجراء استكمالٍ للتفسير أمرا ضروريا: ويبدو لنا أنه يمكن العثور عليه فى الوعى الذى امتلكه هوركهايمر، فى غضون الأربعينات، بالصعوبات الداخلية الماثلة فى النظرية النقدية الأصلية، وبعبارة أخرى بالمشكلات التى يطرحها، على مستوى اتساقه، مشروع القيام بنقدٍ للأيديولوچيات. وبهذا الصدد تكون الأربعينات قد تميزت بالنسبة ﻟ هوركهايمر بتردُّد فيما يتعلق بمواصلة المشروع، وسنتفق على هذا بسهولة عندما نكتشف مدى الإبهام الذى يميِّز نصوص هذه الفترة.
والواقع أن المشكلة كلها تتمثل بالتالى، فى رأى هوركهايمر، فى معرفة ما إذا كان يجب على نقد العقل أن يظلّ نقد شكل بعينه للعقل باسم عقل أكثر وعيا بنفسه (ويمكن أن يبقى فيه المرء فى إطار المفهوم الماركسى عن نقد للأيديولوچيات ويكون بمستطاعه أن يحافظ على المهمة النظرية للثلاثينات وعلى مجازفتها العملية)، أو ما إذا كان من واجب المرء أن يخوض نقدا للعقل فى ذاته – الأمر الذى يعنى تخلِّيًا عن مطابقة العقل الذرائعى بوصفه عقلا برچوازيا، محدَّدا تاريخيا، ومرغما، بإدراج الشمولية فى نفس جوهر العقل، بإعادة النظر جذريا فى الأفق العملى (الثورة بوصفها إسهاما ضروريا فى عقلنة الواقع)(118). ويشهد جدل التنوير Dialektik der Aufklärung، المنشور فى 1947، بصفة خاصة على "تذبذب" النظرية النقدية بين هذين الوجهين للنقد: فمن جهة، يظلّ "العقل الذرائعى" هناك شكلا للعقل المحدَّد تاريخيا بوصفه "وارث المثالية"(119)؛ غير أنه من جهة أخرى، يجرى الحديث عن "واجب حتمى"(120)، مُدْرَج فى جوهر "عقل سائد" يمكن العثور على مصدره ليس فقط فى عصر التنوير، بل حتى فى القصائد الهومرية(121).
ومن الجلى أن هذا الإبهام يستتبع نتائج مهمة فيما يتعلق بالتفاؤل أو بالتشاؤم الذى ينبغى مواجهة مستقبل الإنسانية به. وإذا كان العقل الذى يجرى نقده ليس فى الواقع سوى شكل تاريخى للعقل، يظل للتفاؤل معنى ويمكن للمرء أن يأمل فى أن يقود النقد من العقل فى حالته الذرائعية (العقل العسفى لأنه شكلى) إلى العقل الموضوعى (الذى ينطوى فى ذاته على محتوى تحررى)(122): وبهذا المعنى يصير ممكنا أيضا أن يظل المرء مخلصا لماركسية أرثوذكسية بعينها، يمكن تعريفها بممارسة تطمح إلى تحقيق التحرر عن طريق العقلنة؛ وبالمقابل، إذا كان هذا هو العقل فى ذاته (الشكلى بقدر ما هو موضوعى) هو الذى يجب إخضاعه للنقد، عندئذ يصير كل أمل فى أىّ شكل للعقلانية بلا جدوى(123): وفى هذه الشروط لا مناص للتشاؤم من أن يكون جذريا، ولا يعود بمقدورنا أن نرى كيف يمكن لمنظور كهذا أن يندرج فى صميم الماركسية، حيث إنه إذا جرى نقد العقل على أساس أنه كان شموليا فى كل الأزمنة، فلن يكون هناك ما يمكن انتظاره من مشروع كائنا ما كان للعقلنة؛ وهذا هو السبب، من هذا الوجه للنظرية، فى أنه لم يَعُدْ بالمستطاع استخلاص أىّ ممارسة ثورية: ذلك أنه لا يكون بمستطاع الصلة بين العمل النظرى، الذى يقترب عندئذ من السلالة النيتشوية للعقل، بل حتى من التفكيك الهايدجرى للميتافيزيقا(124)، و الممارسة التحويلية للواقع، هذه الصلة التى أرادت المدرسة فى البداية إقامتها من جديد، إلا أن تنقطع بصورة نهائية(125).
ذلك هو الإبهام الماثل دوما فى نصوص الأربعينات. وقد رأينا، عند تحليل الكتابات الأخيرة، أن هوركهايمر قد اختار فى نهاية الأمر، تماما مثل أدورنو Adorno من ناحية أخرى، نقدا للعقل فى ذاته وبالتالى فهمًا للتاريخ بوصفه عملية ملازمة للعقلنة، وبالتالى تشاؤما جذريا إزاء العقل وتخلِّيا عن كل ممارسة تهدف إلى جعل الواقع عقلانيا. ويتمثل المنظور النظرى والعملى الوحيد، كما رأينا، فى طرح مشكلة الغيرية altérité وفى الحفاظ على علاقة مع هذا "الغير"، وعلى هذا "الخارجى" بالنسبة للعقل والنسق – الغيرية التى سيسعى هوركهايمر الأحدث إلى الاهتداء إلى طريق إليها، من ناحية عن طريق الديانة اليهودية، ومن ناحية أخرى بالحفاظ عن طريق الشكل السافر لليوتوپية(126) على ضرورة وأمل الحرية اللذين بمقدورهما بدورهما، حتى وهما مكشوفان نظريا بوصفهما غير قابلين للتحقيق (التشاؤم النظرى)، أن يقوما عمليا بالحفاظ، فى ظل السيادة المطلقة للهوية، على حنين "الغير" وبالتالى، على جعل حرية الفرد الواعى أمرا ممكنا (التفاؤل العملى)(127).
وفى الخيار النهائى الذى قاد هوركهايمر، انطلاقا من إبهام الأربعينات، صوب هذا التفكير المتعلق ﺑ "الغير"، ومن الجلى أن المسألة ليست بالنسبة لنا أن نميِّز "النهج الحسن أو الرديء". وبالمقابل فإن ما يبدو لنا أكثر أهمية هو ما يلى:
أ: فَهْم لماذا كانت هذه الإمكانية (نقد العقل فى ذاته) هى التى وقع عليها الاختيار: ومن وجهة النظر هذه يبدو لنا أن نهاية المسيرة كان ينطوى عليها المشروع الأصلى (المشروع المادى للنظرية الثورية) والصعوبات التى قاد إليها؛ ولم يكن بمستطاع مفكر مثل هوركهايمر، البالغ الحرص على الصرامة المنطقية للتفاسير النظرية، إلا أن يمتلك الوعى بتناقضات مشروعه الأصلىّ فيضحِّى بمحتوى المشروع أمام إعادات الترتيب الضرورية فى سبيل الوصول إلى نظرية متسقة: وهذه التضحية هى التى قادت إلى مواقف نهائية، اتسقت أخيرا، وفى هذا الصدد على الأقل، لا يمكن أخذ المسيرة إلا على أنها إيجابية؛
ب: إدراك أن هوركهايمر الأحدث، الذى أخذ على عاتقه المهمة المزدوجة المتمثلة فى إعداد نقد (تأصيلىّ généalogique أو تفكيكىّ déconstructrice) للعقلانية فى ذاتها والحفاظ على إمكانات فكرٍ يخصّ الغيرية، قد تميَّز بمأثرة التوضيح الجلى تماما للتوسط أمام مشكلات يصل إليها آخرون بطرق أخرى وسيقدر الجميع بسهولة كم هى ماثلة فى قلب التفكير المعاصر ويمكنها أن تكون نقطة انطلاق محاولات جديدة (وليست محاولة أدورنو سوى مثال عليها). ونحن لا نريد هنا أن نُبْدِى رأينا فيما يتعلق بخصوبة هذه المحاولات: ومن الجلى ببساطة أن المشكلات النهائية التى تركها لنا هوركهايمر لا يمكن تحاشيها وأن موقف الاستخفاف المتخذ، انطلاقا من آفاق فلسفية أخرى، إزاء مدرسة فرانكفورت، لا يمكنه أن يصدر إلا عن الجهل بوجهها الأخير وبالمشكلات التى استطاعت فى نهاية الأمر أن توضح ضرورتها، أو عن سوء النية.
وبكلمات أخرى : بدلا من أن نبحث ما إذا كانت مدرسة فرانكفورت قد ماتت أو تجاوزتها الماركسية الأكثر حداثة، وما إذا كان ينبغى رفضها على أنها مجرد مسخ للماركسية (مسخ لا يمكن، خارج الماركسية، تعلُّم شيء منه من الناحية الفلسفية)، نودّ أن يجرى الإقرار بأن من الخصوبة بمكان من الناحية الفلسفية القيام بإعادة فتح ملف المدرسة لكى نرى كيف تناول أدورنو، ثم (بعد موت هوركهايمر) هابرماس Habermas، المشكلات التى خلفها هوركهايمر. ويفترض ذلك أن ندرك: 1: أن الصعوبات الماثلة فى النظرية النقدية الأصلية وفى تطورها اللاحق لا تُعزى إلى شكل بسيط "زائغ" من الماركسية، بل ينبغى أخذها مأخذ الجد عن طريق كل محاولة تستند اليوم أيضا إلى المشروع الخاص ﺑ "علم ثورى"؛ 2: أن المسائل التى طرحها هوركهايمر الأحدث لا ينبغى تصنيفها ضمن المساجلات الداخلية للماركسية فحسب، بل هى ترفع الماركسية حقيقةً إلى مستوى مشكلاتها الفلسفية الحقيقية وبهذا المعنى تفتح منظورات تنطوى فى صميمها على أفق أوسع من الناحية الفلسفية من أفق الماركسيولوچيا العادية. وإنما على أساس هذا الإدراك المزدوج وحده، على أىّ حال، يمكن لمدرسة فرانكفورت، التى تفتح كل السبل إلى الإلغاز (مرفوضة من بعضهم على أنها انحراف أيديولوچى عن الماركسية، ومن جانب آخرين بسبب خياراتها الثورية السابقة) أو إلى استيعاب مبسَّط، أن تحتلّ المكانة المهمة التى تجدر بها فى مجال "الطرق والطرق المسدودة" التى سيسلكها الفكر طوال هذا القرن.
............................
* هذا مدخل إلى مجلد يشتمل على مجموعة مهمة من مقالات هوركهايمر بين عامىْ 1930 و 1970 بعنوان Max Horkheimer: Théorie Critique – essais, Payot, Paris, 1978 [ماكس هوركهايمر: النظرية النقدية - مقالات] مترجم من الألمانية إلى الفرنسية، وقد ترجمتُه فى 1985 إلا أنه لم يُنشر طوال هذه الفترة الطويلة (قرابة ثلاثين عاما) ولم يقرأه فى ذلك الحين سوى صديقى الأستاذ الدكتور حسنين كشك، وكنتُ قد أعطيتُه لناشر لبنانى غير أنه لم ينشره – المترجم.
** انظرْ الإشارة السابقة - المترجم. 
 
إشارات
1: K. Korsch, Marxisme et philosophie, Éd. De Minuit, p. 185.
2: Ibid., p. 184.
3: توجد فى هذه المجموعة* ترجمة لهذا المقال (Fischer, 1972, in Gesellschaft im Ümbergang).
4: انظرْ مثلا على رفضٍ كهذا فى صفحات كتاب L Histoire de la philosophie, Pléiade, t. III، التى خصصها A. Tosel (p. 984 sqq.) لمدرسة فرانكفورت: تحت عنوان "تقهقر فى موقف المادية الجدلية" (p. 995)، حيث يجرى تصوير المدرسة كأنها مجرد "فصل فى الأيديولوچيا الألمانية" لم يحمل أىّ شيء إلى تطور "العلم الماركسى".
5: Théorie traditionelle et théorie critique, Gallimard, 1974, p. 7.
6: أُعيد نشرها فى دار نشر Fischer, Francfort, 1968 بعنوان Kritische Theorie. ومن هذه المجموعة أخذنا أغلب النصوص التى التى نقدِّم ترجمتها هنا*.
7: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 87-88 (Appendice de 1937).
8: Zum Problem der wahrheit, in Kritische Theorie, 1, p. 246-247.
9: Ibid., p. 246 et 261.
10: Ibid, p. 246.
11: Zum Problem der wahrheit, p. 255. المقصود هنا مشكلة يلقاها المرء فى الإپيستيمولوچيا المعاصرة: انظرْ مثلا Bachelard, L activité rationaliste, p. 26 [باشلار: النشاط العقلانى]: "قد يُعجب المرء بعقائدية فلسفة عقلانية تكتب عبارة "إلى الأبد" عند الحاجة إلى حقيقة إسكولائية. غير أن هناك مفاهيم ضرورية للغاية فى ثقافة علمية لا يتصور المرء أن بمقدوره أن يُدفع إلى التخلى عنها. إنها تكفّ عن أن تكون طارئة، صُدَفية، اتفاقية" وبالتالى توجد فعلا حقائق "أبدية" (ibid., p. 25) كانت فى عداد التاريخ "المعتمد". حول هذه الصعوبة فى إپيستيمولوچيا باشلار، انظرْ L. Ferry et A. Renaut, Heidegger en question, in Archives de Philosophie، الذى سيظهر فى عام 1987.
12: انظرْ Zum Rationalismusstreit, p. 173.
13: Théorie Critique de l École de Francfort, Galilée, 1976, p. 32 sqq.
14: حول دراسة كورش وعلاقاته مع هوركهايمر، انظرْ بعض الإيضاحات فى M. Jay, L Imagination dialectique, Histoire de l École de Francfort, Payot, 1977, p. 30. وحول كورش و لوكاش p. 60, 73-74. وبصفة عامة يؤسفنا أن هذا الكتاب، الموثق جيدا، يكتفى بالتلميح فيما يتعلق بالعلاقات (ولا سيما النظرية) بين كورش و لوكاش و هوركهايمر. حول هذه النقطة، انظرْ G. F. Rusconi, La Teorea critica della società, Bologne, 1968 D. Kellner, The Frankfurt school revisited: a critique of M. Jay s Dialectical Imagination, New German Critique, Number IV, 1975 p. Slater, Origin and significance of Frankfurt school. A Marxist perspective, Londres, 1977.
15: Théorie traditionelle et théorie critique, p. trad. Gall. (modifiée), p. 80.
16: Kritische Theorie gestern und heute. وهذا المقال يوجز فى الواقع النظرية النقدية الأصلية بهدف تمييزها عن النظرية النقدية "اليوم".
17: سيصير هذا المفهوم إحدى التيمات الجوهرية لمقال Zum Problem der wahrheit. انظرْ أيضا Zum Rationalismusstreit, p. 146: "إن ما يحدد قيمة نظرية من النظريات هو صلتها بالمشكلات التى تشرع القوى الاجتماعية التقدمية، فى لحظة تاريخية محدَّدة، فى حلها".
18: cf. Zum Rationalismusstreit, p. 146 sqq., et Théorie traditionelle et théorie critique, p. 80-83.
19: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 16 cf. aussi p. 57, 91-92, 111 etc.
20: Ibid., p. 18.
21: حول هذا الادعاء المزدوج للنظرية فى طموحها إلى النسق، انظرْ Zum Problem der wahrheit, p. 270: المنطلق التقليدى يجرى نقضه بوصفه "يقود إلى المفهوم الزائف عن فكر مستقل، له نتائج ثابتة، أبدية، وقائمة بذاتها"؛ انظرْ أيضا، Théorie traditionelle et théorie critique, p. 76 (وضع النظرية "فوق البشرية")؛ p. 22 (طرح النسق "كأنه مطلق، وكأنه ارتكز على جوهر خاص بالمعرفة، أو بتعبير آخر من خارج التاريخ")؛ Zum Rationalismusstreit, p. 137 (العلم بوصفه نسق العلاقات الثابتة بين العناصر المجرَّدة)؛ Zum Problem der wahrheit, p. 265 (الرأى الذى بموجبه "يظل الجوهرى ثابتا")، p. 238 sqq (نقد هيجل)، إلخ.
22: Zum Problem der wahrheit, p. 240, 249؛ انظرْ أيضا Zum Rationalismusstreit, p. 130: "تتوقف المعرفة فى كل مرحلة من مراحلها على فرضيات تختلف تماما عن تلك التى هى منطقية خالصة"؛ Théorie traditionelle et théorie critique, p. 23, 41, 56 Zum Problem der wahrheit, p. 238. 
23: حول ردّ النسق إلى المثل الأعلى البرچوازى (الهيراركية، النظام، إلخ.)، انظرْ Zum Rationalismusstreit, p. 137.
24: Zum Problem der wahrheit, p. 268.
25: انظرْ Théorie traditionelle et théorie critique, p. 56:لا توجد نظرية عن المجتمع (....) لا تتضمن مصالح سياسية بحيث يمكن الحكم على قيمة حقيقتها بموقف تأملى يدَّعى الحياد وليس بجهد فى الفكر والعمل بالمقابل، جهد يندمج فى نشاط تاريخى عينىّ". انظرْ أيضا Zum Rationalismusstreit, p. 146, 147, 158, 161, etc.؛ Zum Problem der wahrheit, p. 246, 247.
26: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 82.
27: cf. Matérialisme et métaphisique, ibid., p. 105.
28: Ibid., p. 102. حول نقد المثالية الأخلاقية، انظرْ  Materialismus und Moral (K. T., I, p. 70 sqq).
29: cf. Kritische Theorie gestern und heute, p. 164.
30: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 49.
31: Zum Rationalismusstreit, p. 163.
32: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 45.
33: Ibid., p. 52, 86.
34: Zum Rationalismusstreit, p. 264.
35: Ibid.
36: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 85.
37: Ibid.
38: Ibid.
39: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 77.
40: Ibid., p. 37.
41: Ibid., p. 38-39.
42: Ibid., p. 44.
43: Ibid., p. 47.
44: Zum Rationalismusstreit, p. 173,174.
45: Ibid., p. 147.
46: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 13.
47: cf. Zum Rationalismusstreit, p. 135.
48: حول "العقلانية" المزيفة للرأسمالية، انظرْ Théorie traditionelle et théorie critique, p. 33, 77, 93-94, 257-258.
49: Ibid., p.199.
50: حول المعنى "القمعى" للنزعة العقلانية، انظرْ Zum Rationalismusstreit, p. 141, 143.
51: H. Marcuse, La Philosophie et la théorie critique, in Culture et société, éd. Minuit, 1970, p. 155.
52: نودّ التشديد على أن هذه الصعوبة قد لا تخصّ مادية هوركهايمر وحدها....
53: Éclipse de la Raison, p. 139.
54: Ibid., p. 120 cf. aussi p. 135: "إنكار العقل" بوصفه تخلِّيًا عن الواقع.
55: Éclipse de la Raison, p. p. 10.
56: Ibid., p. 54.
57: Ibid., p. 35.
58: حول الذرائعية (الپراجماتية)، Ibid., p. 50؛ وZum Problem der wahrheit, in K. T., p. 249 sqq..
59: حول "التحييد"، انظرْ Éclipse de la Raison, p. 63.
60: Ibid., p. 62.
61: Ibid., p. 39.
62: Ibid., p. 236.
63: Éclipse de la Raison, p. 20-21.
64: Ibid., p. 22.
65: انظرْ Théorie traditionelle et théorie critique, p. 33: هيجل و "العقل الموضوعى الملازم للتاريخ العام".
66: Éclipse de la Raison, p. 22.
67: Ibid., p. 23.
68: Ibid., p. 20.
69: حول الدين، انظرْ p. 25، حول عصر التنوير، p. 27.
70: Ibid., p. 28.
71: Ibid., p. 29.
72: Zum Rationalismusstreit, p. 137.
73: Kritische Theorie gestern und heute, p. 164. (محو اللاعقلانية يجرى تصوُّره على أنه اختفاء الشر).
74: Éclipse de la Raison, p. 63.
75: فى هذا الصدد، يُعَدُّ نقد هيجل المقدَّم فى "حول مشكلة الحقيقة" جليا بصفة خاصة. وهذا النقد (الذى لا نبحث هنا قيمته، وهذا مفهوم تماما) يردد بجانبه الأكبر النقد الذى وجَّهه إنجلس من قبل فى كتابه لودڤيج فويرباخ Ludwig Feuerbach: يتمثل هذا النقد فى توضيح (p. 237-238) كيف يسمح المنهج الجدلى الذى بلوره هيجل بالخروج من تناقض النسبية والعقائدية (وهو تناقض وضعه هوركهايمر فى مكانه p. 236). والواقع أن الجدال يتمثل حقا فى إضفاء الطابع النسبى (وفى إضفاء الطابع الزمنى) على كافة المفاهيم دون الوقوع بذلك فى الشكية (التى يتم تفاديها بفضل نظرية النفى المتعيِّن؛ انظرْ p.236:"فى مواجهة الشكية، أبرز هيجل قيمة مفهوم النفى المتعيِّن"). على أن هذا هو ما سمح به النقد المحايث، حيث العنصر الجزئى الذى يجرى نقده يُستعاد فى كلية النسق بوصفه داخل شيء ليس غريبا عليه. وهنا بالتالى، يبدو وكأن المرء يتخلص من التناقض حيث إن الجزئى ليس مُرادفا للنسبى، كما لا يعود النقد مُرادفا للعقائدية. ولا شك إطلاقا فى أن "الجانب الحسن" فى هيجل يكمن هنا. ويكتب هوركهايمر قائلا: "على أىّ حال، بقدر ما يرتبط هذا المنهج ذاته عند هيجل بنسق مثالى، فإنه لم يحرر فكره من التناقض القديم"(p. 238). وسوف تبيِّن الصفحات التالية كيف تندسّ العقائدية من جديد عند هيجل (p. 238-240) عن طريق تأكيد إغلاق النسق، ثم كيف (p. 241) ستقود العقائدية إلى عكسها، النسبية (حيث صار النسق مُغلقا، فإن كافة اللحظات تتساوى، ولا ضرورة إطلاقا "للتحيُّز" إلى إحداها أكثر من الأخرى). وسوف يتعيَّن على الجدل المادى بالتالى أن يصون "المنهج الهيجلى" مع التحاشى التام للوقوع من جديد فى المثالية، وبالتالى، فى تناقض العقائدية والنسبية. ومع هذا تفرض نفسهما ملاحظتان: أولا، وقبل كل شيء، يصير تعريف الجدل، هنا أيضا، سلبيا، أىْ أنه سيتبلور استجابة لمقتضيات تحرَّرت من النقد الوحيد – مسألة إمكانية حدّ تركيبى يتم الحصول عليه ماثلا فى السياق بأكمله. ثانيا، يبدو المشروع صعبا بصورة قبْلية، حيث إن إغلاق النسق الهيجلى هو الذى يسمح على وجه التحديد بنقد العناصر الجزئية على كونها حقا ملازمة (داخلية، أىْ لاعقائدية)، كما توضح مقدمة "علم الظواهر" la Phénoménologie بما فيه الكفاية.
76: انظرْ Théorie traditionelle et théorie critique, p. 120: "تقتضى المادية اتحاد الفلسفة والعلم". حول هذه الوظيفة الشاملة، التركيبيّة لمادية ماركس، انظرْ Zum Rationalismusstreit, p. 141, 146, et 138: ".... وفقا للمادية، فإن نظرية العمليات الحيّة للمجتمع هى البناء العقلى الأشمل، البناء الذى يخدمه كل البحث التحليلى، فى كافة المجالات". والعلم الذرائعى خاضع هنا بكل جلاء للنظرية "الكلية" دون إهماله لذلك. ويفهم المرء بالتالى معنى السمات المميزة للجدل المادى المفتوح الذى عرضه هوركهايمر فى Zum Problem der wahrheit على أثر نقده للجدل الهيجلى. والواقع أنه بالنسبة لمثل هذا الجدل، 1: المقصود به تماما هو الطموح إلى التطابق بين الفكر والموضوع، وبعبارة أخرى السيطرة العقلية على الواقع (انظرْ أيضا Théorie traditionelle et théorie critique, p. 48)؛ 2: هذا المشروع الخاص بالتطابق والسيطرة يقترن مع هذا بمعرفة أن الواقع الموضوعى لا يمكن اختزاله مطلقا إلى الفكر، وأن التطابق لا يمكن بلوغه مطلقا، وأنه سيظل بالتالى خارجيًّا دائما (Zum Problem der wahrheit, p. 243 Théorie traditionelle, p. 41)؛ 3: "التوتر بين المفهوم والموضوع" مطروح بوصفه لا يمكن تجاوزه، ويصير العلم متمثلا فى النزوع المتواصل، لكنْ اللانهائى، إلى السيطرة (Matérialisme et métaphisique, in Théorie traditionelle, p. 112-113) ؛ 4: الأحكام والمفاهيم العلمية تكفّ عن أن تكون قطعية وشاملة لتصير خاصة ومتغيرة (انظرْ Théorie traditionelle, p. 57-62). ويلاحظ أخيرا كم يدين هذا التعريف للجدل ﻟ: ل. فويرباخ إنجلس. 
77: R. Bubner, Qu est-ce que la Théorie critique?,in Archives de philosophie, 35, 1972, p. 381-421.
78: الواقع أن المشكلة مطروحة فى ذلك المقال بكل جلاء: "ألا يظل حقا أن الخيار إنما هو بين الاعتقاد بحقيقة نهائية مثل تلك التى تعلِّمها الأديان أو المدارس الفلسفية المثالية، ومن جهة أخرى، الفكرة القائلة بأن كل الفرضيات، وكل النظريات ليست إلا ذاتية دوما"(p. 236).
79: Zum Problem der Wahrheit, p. 247.
80: Ibid., p. 241.
81: Ibid., p. 247.
82: Ibid., p. 248.
83: Ibid., p. 246.
84: Ibid., p. 247.
85: Ibid., p. 261.
86: انظرْ L. Ferry et A. Renaut, Heidegger en question الذى سيظهر فى Archives de Philosophie .
87: الواقع أن هوركهايمر قد عقد بنفسه (انظرْ Matérialisme et métaphysique, in Théorie traditionelle, p. 113 sqq.) المقارنة مع "المفهوم الكانطى عن المهمة اللانهائية"، وسرعان ما رفضه تماما لثلاثة أسباب: 1: أولا، تتميز النظرية الجدلية عن المفهوم الكانطى عن التقدم فى أن المقصود به، عند كانط "تقدُّم خطىّ بصورة خالصة وعقلى بصورة خالصة"، فأين بالتالى ما ينبغى تصوُّر أنه "جدلى"؟، متضمنا لحظات نفى، وبوصفه ناتجا عن تفاعل سرمدى للذات والموضوع؛ 2: ثم إن المهمة الكانطية "لا شك فى أنها لا تتغلب مطلقا على الابتعاد اللانهائى للهدف، بل تفترض فى حد ذاتها، فى الواقع، واقعية هذا الهدف بوصفه كلية"؛ 3: وعند كانط أخيرا، ليس التناهى سوى تناهٍ أنثروپولوچى، طارئ، حيث إنه "وفقا ﻟ كانط، لا ترتكز الضرورة التى تُملى على الإنسان أن يدرك بصورة زمنية، أىْ بصورة متعاقبة، على الواقع فى ذاته، إنها إنْ جاز القول عجزٌ يخص الذات المحدودة". ونحن نقرّ بأن هذا النقد – ومن السهل تماما دحضه – أكثر سطحية من أن تُعْزَى إليه دلالة أخرى سوى دلالة إستراتيچية خالصة على الأقل بافتراض (وهذا ما يبدو لنا صعبا على أىّ حال) أن هوركهايمر يجهل كلية معنى التناهى وفكرة العالم عند كانط.
88: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 89 (التشديد من عندنا).
89: Zum Rationalismusstreit, p. 163.
90: قارنْ على سبيل المثال مع Zum Problem der Wahrheit, in K. T. p. 249 (تكون للنظرية قيمتها بالنسبة للمجموعات الاجتماعية بقدر ما تكون محتَّمة تاريخيا) ومع Zum Rationalismusstreit, in K. T., p. 147 (تكون لنظرية من النظريات قيمتها فقط لدى الجماعات الاجتماعية المعنية وليس لدى البشرية جمعاء)؛ قارن أيضا مع النص المقتبس أعلاه، p. 11 note 4 (ملاحظة رقم 8) هذه الفقرة من Zum Problem der Wahrheit, in K. T., p. 256: "إن معرفة المناضلين (لأنها تعكس بنية العصر وإمكانية مستقبل أفضل) لا يُمكن تدميرها حتى إذا هلكت البشرية بأسرها تحت القنابل والغازات السامة".
91: يبدو لنا أن هذه الصعوبة من ثوابت نظريات المعرفة التى ترغب فى أن تكون مادية. فهى فى الواقع ينبغى أن تفى بمطلب مزدوج ومتناقض: ينبغى قبل كل شيء الإقرار، ضد رؤية "مثالية" للنظرية، أن هذه النظرية ينبغى ألا تكون "خالصة"، بل زمنية، مقصودة سياسيا، إلخ.؛ غير أنه ينبغى بعد ذلك، تحت طائلة اختزال النظرية الصحيحة إلى أيديولوچيا مثل الأيديولوچيات الأخرى، العثور على معيار يسمها بسمة الحقيقة ويميزها عن الرأى البسيط – الأمر الذى يفترض حقا ما يسميه پ. پوردييه P. Pourdieu، على سبيل المثال، فى مقال مخصص جزئيا لهذه المسألة، بطريقة ذات دلالة "علما أصيلا للعلم" (انظرْ Le champ scientiphique, in Acte de la recherché en science sociale, juin 1976, p. 91). ويقود هذا بصورة طبيعية تماما إلى "الاقتناع، المنحدر هو ذاته من التاريخ، بأنه فى التاريخ ينبغى البحث عن علة التقدم المتناقض لعقل تاريخى من جهة إلى أخرى غير أنه لا يختزل إلى التاريخ" (ibid., p. 88). وبالتالى يتمثل الحل بصفة عامة (وهذا هو الحال عند هوركهايمر أيضا) فى أن يتم تحت نفس مصطلح العلم مزج مفهومين مختلفين كليا: مفهوم "تاريخ العلوم" و "مفهوم الطابع العلمى"، الأمر الذى يسمح بالإعلان دون أسف، ومع افتعال دحض المثالية، أن العلم تاريخى (وهذا يتضمن: فيما يتعلق بتاريخه، هذا الذى، وهذا ما نقرّ به، لايمكن أن يوضع موضع الشك)، ولكنه فى نفس الوقت "لا يختزل إلى التاريخ" وبوصفه كذلك، متميز عن الأيديولوچيا (لكنْ هنا، يُفترض على وجه التحديد مفهوم للطابع العلمى يظل ضمنيا). ومن الجلى أن هذا الحل ليس حلا حيث إنه، بالإضافة إلى التشوُّش الذى يشيعه، يترك المسألة الوحيدة الحقيقية كما هى: مسألة المعيار المادى للطابع العلمى. وها هى أمام أعيننا نفس الصعوبة التى حاول أن يزيلها، على سبيل المثال، ل. ألتوسير L. Althusser فى Éléments d autocritique، الذى، مع رفضه تماما فكرة نظرية العلم، يؤكد رغم كل شيء (على أساس أىّ معايير إنْ لم يكن ذلك على أساس نظرية ضمنية عن العلم؟) أن "ماركس وضع حدا للأخطاء المفاهيمية التى وصفها بأنها أخطاء لأنه يقدم مفاهيم علمية (....) وذلك فقط بشرط كشف حقيقة أن العالِم يمكنه عندئذ، وعندئذ فقط، من الموقع الذى تم بلوغه، أن يلتفت إلى ما قبل تاريخ علمه وأن يصفه بكامله أو جزئيا بأنه خطأ، بأنه ’سلسلة أخطاء‘ (باشلار Bachelard)"   (Éléments d autocritique, Hachette, p. 26 et 46) (حول هذه الصعوبة من صعوبات الإپيستيمولوچيا المادية، انظرْ L. Ferry et A. Renaut، مقال مذكور أعلاه). وإنما بهذا المعنى تبدو لنا صعوبات النظرية النقدية نموذجية ولعلها ليست قاصرة على تفسيرٍ (يمكن أن يقال عن طيب خاطر إنه "مثالى") ﻟ ماركس.
92: هذا ما يمكن فهمه الآن أيضا من نفس مشروع النظرية النقدية: "توحيد الفلسفة والعلم" (انظرْ Théorie traditionelle et théorie critique, p. 120).
93: نريد بذلك أن نقول إن النظرية "المادية" لم توفَّق إلى الاستغناء عن "حد أدنى من المثالية" لتفادى النسبية. كما أن هوركهايمر يواصل تعريف الحقيقة على أنها تطابُق (Zum Problem der Wahrheit, p. 258)، مؤكدا أن "الأشكال المتحركة للفكر تتكشف مثلما تتكشف تلك الخاصة بالواقع" (ibid., p. 268) أو كذلك أن "حركة الواقع ذاتها هى التى تنعكس فى هذا التبدل للمفاهيم" (ibid.). وسنجد كذلك أن فرضية تبادل التأثير "تصلح بصفة عامة لكافة العمليات الحية" أو أن دلالة نظرية من النظريات تقاس "وفقا لتطابقها مع حركة مصالح مجموع المجتمع" (Zum Rationalismusstreit, p. 158)، وكذلك صياغات تُعَدّ حقا، وهى تستعيد انسجاما بين الفكر والواقع، بقايا من المثالية فى قلب "الجدل المادى المفتوح". ومن الطبيعى بالتالى أن تستعيد النظرية، باسمها هذا: الجدل، وظيفتها المنهجية والشاملة (لا يكون هذا إلا فى هدفها ذاته)، وأنْ تتحدد بوصفها "مجموع المناهج والقوانين التى يتبعها الفكر لكىْ ينقل الواقع بأِكبر قدر ممكن من الدقة والتى تتطابق قدر الإمكان مع المبادئ الشكلية للمجرى الواقعى للأحداث" (Zum Problem der Wahrheit, p. 261)، وأن تتمثل، من أجل "فهم الموضوع بطريقة صحيحة"، فى ربطه ﺑ "النسق الشامل للمعرفة" (Ibid., p. 262). ومن الجلى تماما أن هذه الصعوبة لا تخصّ مادية هوركهايمر وحدها. ويكفى للاقتناع بذلك أن نقرأ، عند إنجلس، تعريف الجدل (تعريف ماركس!) على أنه "علم القوانين العامة للحركة، الخاصة بالعالم الخارجى وبالفكر الإنسانى على السواء – نوعان من القوانين متطابقان أساسا، لكنهما مختلفان فى تعبيرهما، بمعنى أن الدماغ الإنسانى يمكن أن يطبقها بصورة واعية، فى حين أنها فى الطبيعة، وإلى يومنا هذا فى الجانب الأكبر من التاريخ الإنسانى، لا تشقّ طريقها إلا بطريقة غير واعية...." (L. Feuerbach, Éd. Sociales, p. 60، والتشديد من عندنا). وهنا أيضا، يصعب أن نرى كيف يجرى تأكيد هوية الفكر والوجود فى نصٍّ "مادى" بكل معنى الكلمة. 
94: انظرْ Materialismus und Moral.
95: Zum Rationalismusstreit, p. 147.
96: Ibid.,p. 169.
97: Ibid.,p. 157.
98: Ibid.,p. 156.
99: Ibid.,p. 168.
100: Crépuscule des idoles, Le cas Socrate, § 2.
101: Kritische Theorie gestern und heute, in Gesellschaft im Ümbergang, p. 165 انظرْ أيضا Pessimusmus heute, ibid., p. 143 (العقلنة بوصفها "المنطق الداخلى للتاريخ").
102: Ibid., p. 169.
103: Ibid., p. 165، انظرْ أيضا Pessimusmus heute, ibid., p. 142، مملكة الحرية فى الماركسية تُحال بالتالى إلى "اليوتوپيا" (p. 143).
104: Ibid., p. 165 et 171.
105: Ibid., p. 171.
106: Ibid., p. 171.
107: Ibid., p. 171: "إذا لم تقع كارثة تدمر كل حياة، سيقود التقدم إلى مجتمع مُدار بصورة كلية".
108: Ibid., p. 166.
109: Ibid., p. 170.
110: Ibid., p. 166 cf. aussi p. 175: دفاع المحافظ (انظرْ أيضا مقدمة عام 1968، Théorie traditionelle et théorie critique, p. 11).
111: Ibid., p. 171.
112: Ibid., p. 175.
113: Ibid., p. 11sqq.
114: Ibid., p. 167.
115: حول معنى وتطور مفهوم التشاؤم عند هوركهايمر، انظرْ L. Ferry et A. Renaut,  Sur l évolution de la Théorie Critique de Horkheimer, la Théorie Critique et l idéalisme allemande، الذى سيظهر ضمن مجموعة المقالات التى خصصتها كلية الفلسفة  le Collège de Philosophie للنظرية النقدية. Collection Dialectiques (-dir-igée par Danielle Kaisergrüber), éd. Complexe, distribution P. U. F., Bruxelles, 1978.
.  
116: Théorie traditionelle et théorie critique, p. 8.
117: Ibid., p. 9.
118: لاحظ مارتن چاى M. Jay, op. cit., p. 293، بوضوح ظهور هذه الوجهة الجديدة للنقد: "تعرَّض مفهوم عصر التنوير لتغيُّر جوهرى فى الأربعينات. وبدلا من أن يدلّ على الواقع الثقافى المنسجم مع صعود البرچوازية، جرى توسيعه بحيث صار يدلّ على مجموع الفكر الغربى ...".
119: Adorno et Horkheimer, Dialectique de la Raison, Gall., p. 134.
120: Ibid., p. 50, 233.
121: من أجل تحليل أكمل لنواحى الإبهام فى كتاب Dialectique de la Raison، انظرْ L. Ferry et A. Renaut, op. cit. .
122: بهذا المعنى لا يستخدم هوركهايمر القديم (انظرْ L. Ferry et A. Renaut, op. cit.) التشاؤم إلا كوظيفة نقدية، تعبِّر عن احتجاج الفرد، باسم معاناته الراهنة، ضدّ الاضطهاد الواقع عليه من جانب العقلانية البرچوازية؛ والمقصود بالتالى تشاؤم منهجى، مُشْرَب فيما يتعلق بالمستقبل بتفاؤل جلىّ.
123: انظرْ clipse de la Raison, p. 143É: موت المثل الأعلى الإغريقى للكلية الجمالية (شهدclipse É وهو عمل يتميز أيضا بالإبهام الملازم لهذه الأربعينات، ظهور فكرة "مرض فى العقل"، موجود منذ بدء الحضارة).
124: انظرْ على سبيل المثال الفقرة الواردة فى Autoritärer Staat (Gesellschaft im übergang, p. 23) حيث يتم إدراج ماركس فى سلالة هيجل (ماركس "ظل مخلصا" للتصور الهيجلى عن "دهاء العقل" وللقدرية التاريخية): الحديث عن هيجلية ماركس وعن وجود "ميتافيزيقا" عنده، هذا يشبه اللغة التى يتحدث بها هايدجر عن ماركس فى Lettre sur l humanisme (رسالة حول النزعة الإنسانية "الهيومانية").
125: حول هذه القطيعة بين النظرية والممارسة، انظرْ M. Jay, op. cit., p. 314، يصف مارتن چاى بصورة صحيحة تماما، p. 290، تردُّد هوركهايمر، فى الأربعينات، بصدد التشاؤم والتفاؤل.
126: cf. M. Jay, op. cit., p. 313.  
127: هذا هو معنى الصيغة التى يُوجز بها هوركهايمر فى 1970 فى Kritische Theorie gestern und heute موقف النظرية النقدية الحديثة: "تشاؤم نظرى، تفاؤل عملى". وينبغى أن نلاحظ أيضا أن هوركهايمر يعود، من هذا الموقف النهائى من الحرية فى الوعى بالغيرية، إلى تعريف للحرية على أنها "حرية داخلية"، فى حين أنه، فى Théorie traditionelle et théorie critique (p. 65)، كان يؤكد ضد فيشته Fichte الطابع "الخادع" لمفهوم "الحرية الداخلية".