الجمهورية والرأسمالية


عبدالله خليفة
2013 / 2 / 3 - 09:53     

كان استيلاء فئات البرجوازية الصغيرة على السلطة في فرنسا إبان الثورة الفرنسية تعبيراً عن عدمِ نضج مقدمات المجتمع الرأسمالي، وضعف نظام الإقطاع، وقد توجهت هذه الفئات نحو أقصى اليسار في تثبيت النظام الجمهوري عبر اكتساح مؤسسات المُلكيةِ الخاصة الإقطاعية الزراعية وأملاك الكنائس والأديرة، وخلق ثقافة لادينيةٍ كاسحة، وقد مهدتْ بذلك لتأسيس النظام الرأسمالي القومي الفرنسي بشكله الفج، وأدت التدخلات الأجنبية لصعود الجيش في مواجهة المتدخلين حيث هزمهم وصعّد النظامَ الإمبراطوري المضاد للجمهورية.
نظامٌ مَلكي فرنسي متعفن لأسرة آل بوربون يعقبه تطرف ثوري جمهوري، وعمالةٌ ملكية فرنسية لبريطانيا وحرب تدخلٍ تنتهي بأزمة طويلة لفرنسا بين الجمهورية والمَلكية.
بريطانيا التي أسستْ النظامَ الرأسمالي بشكل المَلكية الدستورية الراسخة اجتماعيا واجهت الثورةَ الفرنسية وصارعتها طويلاً وهزمتها، وكان البلدان يسيران في نفس النظامِ الاجتماعي وإن اختلف شكلُهُ السياسي ولكن الاختلاف تم بسبب النمو التاريخي المختلف للنظام الرأسمالي الأكثر تبلوراً في بريطانيا عنه في فرنسا.
عبرَ القرن التاسع عشر عن تذبذبِّ شكلِ السلطة الفرنسية بين مَلكية وإمبراطورية، وكان الشكلُ السياسي القلقُ يعبر عن عدم صعودِ الطبقتين المنتجتين البرجوازية والعمال في إدارة الحياة السياسية الاجتماعية الفرنسية، وهذا حدث بعد قرن من التطور الاقتصادي الرأسمالي وغزو المستعمرات وصعود مستوى العمال الاقتصادي، وظهور اليسار، فأخذ الشكل الجمهوري الديمقراطي القومي يترسخ، لكن غزو البلدان الأخرى تركَ أثرَه في محدودية الثقافة الإنسانية للجمهور وعلى طابع الجمهورية.
ومثال التجربة الفرنسية نستطيع أن نراه في العديد من التجارب، كتجربة روسيا التي كانت جمهورية قومية توجهت أكثر نحو اليسار، والشكل الجمهوري العمالي لم يكن سوى شكل خارجي، مع غياب وجود الطبقتين المنتجتين البرجوازية والعمال سياسياً وديمقراطياً المؤسستين للحداثة السياسية المعاصرة، ولهذا فإن الدولة الروسية الرأسمالية القومية سوف تظهر وهي تدهس بكل ثقلها الطبقتين اللتين ظهرتا بعد حين، بأشكال سياسية محدودة متقزمة كما يجري الأمر في روسيا اليوم.
هكذا يغدو الشكلُ السياسي سواءً كان جمهورياً أو مَلكياً مرتبطاً بالمضمون الاقتصادي لمستوى التطور الرأسمالي، الذي يغدو معتمداً على الانتاج، وحيث مصالح كلٍ من الطبقتين وأوضاعهما تحدد هذا النمو، فالفرنسيون احتاجوا إلى قرن من أجل انتشار شبكة واسعة من المصانع، تطلبت أجوراً شديدة الانخفاض في البدء، وحين تراكمت فوائض المستعمرات على الانتاج، وتصاعدت مطالبات العمال لتغيير ظروف عيشهم ومشاركتهم في الحياة السياسية ودعم هذا أو ذاك من أحزاب البرجوازية، ثم استقلالهم بأنفسهم سياسياً عبر الاشتراكية الديمقراطية، أخذ الشكل السياسي يستقر حسب التقاليد السياسية للبلد، وبالتالي أمكنه أن يضبط سير الانتاج القومي بشكلٍ توافقي بين القوى الاجتماعية الرئيسية. ولهذا فإن البلدان الشرقية تواجه مشكلاتٍ عسيرة وظروفاً اقتصادية صعبة وفوضى الصراعات الاجتماعية، وغياباً عن فهم التاريخ المعاصر، فهي لا تقرأُ الشكلَ السياسي وتكلفتَه الاقتصادية الاجتماعية، وكونه يرتكز على الطبقتين المنتجتين وشبكة المصانع المقامة التي تدعم النظام واستقراره وتجعل صراعاته السياسية ضمن اختلاف الوحدة.
حراك الجماهير العربية الجمهوري الذي اتسم بهيمنة تيارات البرجوازية الصغيرة بعد الأنظمة المَلكية كان بلا أساس اقتصادي اجتماعي راسخ، فهذه التيارات لم تترك الأنظمة المَلكية ترّسخ الرأسمالية المنتجة، وحين استولت على السلطات وأسستْ رأسماليات حكومية فاسدة، أضعفت كلاً من الطبقتين المنتجتين البرجوازية والعمال، ولهذا فإن الشكل السياسي الجمهوري كان فارغاً من الدلالة الشعبية.
العودة للجذور وتأسيس الجمهورية مجدداً لابد أن يعيد النظر في التجربة السابقة، وأن تنمو العمليات التنموية الحرة بمختلف أشكالها، ويتم ضبطها عبر المؤسسة البرلمانية التي يتتالى على توجيهها الحزبُ الفائز، وهي آلية لابد أن تترافق معها سماتُ الديمقراطية من علمانية ووطنية وعقلانية؛ من فصلٍ للمعتقدات الايديولوجية عن الاقتصاد، وتعبير الأحزاب عن المنتجين الأساسيين القادرين على دفع الضرائب وصنع فائض القيمة، وتحول الدورات الانتخابية لتوجيه الاقتصاد نحو الإنتاج والعلوم وتغيير أوضاع المنتجين خاصة العمال والنساء والفلاحين المتردية لأوضاع متطورة، وهذا يجعل الشكل الجمهوري السياسي ينتقل من القمة إلى القاعدة، من قرارات النخب المغامرة بالمصير الشعبي إلى الناس، ويجعل شأن النظام السياسي مرتبطاً بتصويت الجمهور، وهنا يمكن فقط جعل الجمهورية اسماً على مسمى.