المسار السياسى والمسار الثورى - علاقة جدلية


صلاح السروى
2013 / 1 / 27 - 09:28     


عندما قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير وتم اقصاء الرئيس السابق فى الحادى عشر من فبراير, ظن الكثيرون أن "المسار الثورى" قد وصل الى نهايته وحقق نتيجته المرجوة, ومن ثم يتعين علينا البدء فى المسار السياسى القانونى واعادة بناء المؤسسات الدستورية.
ومن الواضح أن المقصود بالمسار الثورى هو ذلك الفعل الشعبى الاستثنائى الذى يقلب الأوضاع السياسية خارج نطاق القواعد القانونية والدستورية المعمول بها فى البلاد. أما المسار السياسى فهوعلى النقيض, من حيث أنه يقوم على الممارسة السياسية تبعا للقوانين والمواضعات القائمة.
ومن البدهى أن المسار الثورى يبدأ عمله عندما يصل المسار السياسى الى طريق مسدود, ويصبح غير قادر بآلياته القائمة, على التعبير عن آمال وطموحات الغالبية العظمى من الجماهير, وعاجز عن تحقيق التغيير الذى تتطلبه تطورات الحراك الطبقى والسياسى فى المجتمع. لذلك يصبح اندلاع الثورة بحد ذاته دليلا على انعدام امكانية التغيير السياسى بالوسائل السلمية. ذلك لأن الثورة, باعتبارها فعلا شعبيا جمعيا, لا يمكنها أن تقوم الا بسبب أوضاع ضاغطة بعنف على كاهل هذه الجماهير, سواء أكانت أوضاعا اقتصادية أو سياسية أو متعلقة بالكرامة الوطنية. ومن ثم يتولد الاقتناع بأن لابديل عنها (أى الثورة)على الرغم من تكلفتها الباهظة, سواء فى الأرواح والدماء المهرقة أو فى الأموال والأبنية الاقتصادية المهدرة, أى من حيث كم التضحيات التى ينبغى أن يقدمها الثوار والوطن بأكمله.
ولقد قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير- كغيرها من الثورات - على هذا النحو بالتحديد. الا أن هذه الثورة لم تفض الى نفى الأوضاع السابقة عليها والتى قامت بسببها على نحو جذرى. وان أطاحت برأس النظام وبعض رموزه السياسية.
فلم تقم, على سبيل المثال, بتغيير البنية القانونية القامعة للحريات والمعوقة لتقدم المجتمع الى بنية قانونية أكثر تقدما. بل العكس هو ما حدث على وجه التحديد, فاذا بنا نجد دستورا يغفل حقوق الفقراء والمرأة والأقليات ويعادى الحريات, وكذلك تجسدات قانونية بالغة التخلف لنصوص هذا الدستور تجعل من الاستبداد والانفراد بالسلطة عنوان المرحلة بامتياز (أتحدث عن قانون الانتخابات ومباشرة الحقوق السياسية الذى تم اقاره مؤخرا فى مجلس الشورى). فضلا عن خيبات اقتصادية وادارية فادحة, فاقمت من المعاناة الاقتصادية لجماهير الفقراء من العمال والفلاحين والطبقة الوسطى. وزادت من نسبة البطالة ومعدل التضخم وغلاء الأسعار , وبالتالى قللت من عوامل الاستقرار , وهو ما ترتب عليه مزيد من الخسائر للقطاعات الحساسة للتقلبات السياسية كالاستثمار والسياحة, وهو مازاد بدوره من الأزمة الاقتصادية وفاقم من تداعياتها. وهكذا دارت أوضاع البلاد فى حلقة جهنمية من الاخفاق والتردى.
وقد كان من الممكن تلافى كل هذه الكوارث لو أن الحكم الجديد كان حريصا على تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية وخلق بنية دستورية وقانونية أكثر تلبية لطموحات الجماهير التى ثارت ودفعت من دمائها ثمن ثورتها.
وهنا نجد أنفسنا أمام حكم لايلبى (فى مجمل أدائه) الحد الأدنى من المطالب التى قامت الجماهير من أجلها بالثورة, ومن ثم تصبح الحاجة للتغيير أمرا بدهيا ومنطقيا. ويصبح السؤال التالى مطروحا بقوة: كيف يكون التغيير؟ بالوسائل السياسية أم الثورية؟ بمعنى آخر.. هل يمكن تحقيق ذلك عبر الوسائل الديمقراطية القانونية السلمية كالانتخابات والضغط الاعلامى مثلا؟ أم بالاحتشاد فى مظاهرات مليونية والاعتصام والعنف الثورى؟ بلا شك سيكون الطريق الأسهل هو الوسائل السلمية القانونية الديمقراطية. وهنا يأتى السؤال التالى: هل هذه الوسائل السلمية قادرة وحدها على تحقيق التغيير المنشود؟ الاجابة هى بالتأكيد .. لا. ذلك لأن الحكم الجديد لم يستطع تكريس أى نوع من الثقة فى نزاهة أية انتخابات يمكن ائتمانه على اجرائها. وتجربة الاستفتاء المزور على الدستور المعيب لاتزال ماثلة فى أذهان الجميع, بل ان اللجنة التأسيسية التى أنتجت هذا الدستور معيبة وتشكيلها ملىء بالعوار وعدم القانونية. ولتلافى حلها قامت سلطة الاخوان بالخطيئة الكبرى التى لن ينساها التاريخ, ألا وهى غل يد المحكمة الدستورية العليا بطريقة غاشمة وبالغة الفجاجة والجلافة, فقامت عناصرها بحصار المحكمة ومنع قضاتها من ممارسة عملهم. ولم يكن هذا العدوان على سلطة القضاء هو الوحيد من نوعه بل رافقه اقالة النائب العام بطريقة لاتمت للقانون ولا للأعراف القانونية بصلة, وتعيين نائب عام جديد بطريقة لاتمت أيضا للقانون بأى صلة. نحن اذن أمام خطايا فادحة وانتهاكات فاضحة للديمقراطية وسلطة القانون .
أضف الى كل ذلك هذ المناخ الذى رعته الجماعة الحاكمة باخلاص شديد, من اشاعة التكفير والتخوين والاتهام بالعمالة والارتزاق لخصومها السياسيين , واستنفار كل مخزون التسفل والانحطاط السلوكى والأخلاقى لدى مناصريها.. بدءا من الاعتداء اللفظى الذى وصل الى حد الخوض فى الأعراض , مثل ما قام به الشيخ عبدالله بدر وابو اسلام وأضرابهما من مشايخ وقنوات السباب باسم الدين, وصولا الى الاعتداء البدنى , مثلما حدث فى حق أبو العز الحريرى ومحمد أبو حامد وحمدى الفخرانى .. الخ. حتى وصل الى مستوى القتل أمام أسوار قصر الاتحادية لمن اختلف معهم وعبر عن اختلافه بالوسائل السلمية. فضلا عن مناخ التطرف الدينى الذى زادت درجة ثقته واستقوائه على الناس وأقدم على القيام بممارسات فاشستية عنيفة تجور على الحريات الفردية وحرية الاعلام وسلطة القانون وتعادى بجلاء حقوق المرأة والأقليات وحرية التفكير والتعبير وتكفر الفن والفنانين وتعود القهقرى بالمستوى الحضارى للبلاد الى مستوى عصور الظلام والتخلف.
ماذا بقى اذن من الأدوات الديمقراطية السلمية ليمارسها الشعب من أجل تحقيق التغيير المنشود؟
لم يبق الا التغيير الثورى الذى يعمل على اسقاط هذه السلطة الباغية رغما وعنوة وقسرا. مهما كانت التضحيات المتوقعة, سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى البلاد. فلقد وضعت هذه الجماعة المنتسبة زورا للاسلام غالبية الشعب المصرى بمختلف فئاته وظهره للحائط , ولم تترك له أى خيار آخر.
هل يمكن القول بذلك أن المسار السياسى قد انهار تماما ؟؟ لاشك ان الاجابة الممكنة على هذا السؤال تكمن فى ضرورة الوعى بأن الفعل الثورى هو أيضا فعل سياسى وان كان يتم بطرق غير قانونية. فالغاية من أى فعل ثورى هى تحقيق تغيير جذرى حقيقى فى النطاق السياسى والقانونى على أرض الواقع . من هنا تتأتى ضرورة الوعى الثاقب بالأهداف الرئيسة التى تصبو الى تحقيقها الجماهير الثائرة , وأن لا تختلط أو تستبدل هذه الأهداف بأهداف فرعية أو جزئية. كما يتعين تحقيق نوع من الوعى السياسى بطبيعة القوى التى تواجهها الثورة, وحدود قوتها, وما يمكن أن تلجأ اليه من وسائل المقاومة والدفاع. واذا لم يتحقق هذا الوعى الجماهيرى ولم تحتشد الجماهير بقوة وكثافة فربما يتعين على النخبة السياسية أن تدخل فى اطار اللعبة السياسية بقواعدها المتاحة حتى ولو كانت ظالمة , ريثما ينضج وعى الجماهير وتتطور قدرتها على الحركة الجماعية الشاملة. وتبعا لدرجات هذا النضج درجة بدرجة. فيمكن المزاوجة بين الفعلين السياسى والثورى فى نفس الآن, الى عير ذلك من خيارات تمليها قواعد القوة والضعف. وما أظنه هو أن الواقع السياسى المصرى قد تجاوز كل ذلك بمراحل, من ناحية تطور الوعى والأداء والفعل الجماعى للجماهير الشعبية المصرية. فدرجة الرفض للأوضاع البائسة القائمة وقوة الروح الثورية ودرجة الوعى بحقائق الصراع وأطرافه ومكوناته .. كلها تقول أن الثورة الكاملة الناجزة هى خيار ممكن ومتاح بقوة الآن.
ولكن علينا أن نضع فى اعتبارنا حقيقة أن القوى المضادة للموجة الثورية الراهنة والمتمثلة فى قوى الاسلام السياسى لن تفرط بسهولة فى ما يمكن أن يمثل بالنسبة لها فرصة لن تتكرر فى انفاذ مشروعها وتحقيق خطتها فى التسيد والسيطرة على رقاب واحد من أعرق شعوب العالم, وحكم بلد من أهم البلدان فى العالم. ولذلك فانها ستقاتل بضراوة وبكل ما تملك من وسائل, حتى لو استدعى الأمر الدخول فى دوامة عنف والخوض فى بحور الدماء. لكن العاصم الأوحد من كل ذلك هو قوة الارادة الشعبية والزخم الثورى وهو الوحيد الذى يمكنه أن يلعب الدور الحاسم فى هذا الصراع . فلا أحد يمكنه أن ينتصر على شعب باكمله. وضوء الشمس أقوى مى عتمة.