هل من دروس يستخلصها تقدميو تونس؟ ملاحظات أولية لتخطي الفائض الايديولوجي


جبران أديب
2013 / 1 / 25 - 13:53     

إن الدروس التي يجب استخلاصها كثيرة وعميقة فعلا ومن أهمها أنه من العسير أن نتخلص مباشرة وسريعا من الاستبداد وعقلية الحزب الواحد إلى الديمقراطية التشاركية التحاورية المبنية على الاختلاف والتعدد بالضرورة ؛ فشعبنا وإن اختلف نسبيا عن بقية الشعوب العربية في درجة تمدّنه فإنه هو الآخر عاش طويلا قبل بورقيبة ومعه وبعده على عبادة الزعيم والحاكم الواحد الأوحد ، ولم يألف قيم الحوار والتعددية والديمقراطية والتداول على الحكم، فتبدو كما لو أنها مازالت بعيدة عن متناول عقلية المواطن التونسي العادي لاسيما على صعيد الممارسة. لكن في الوقت ذاته نستطيع أن نتلمس في الواقع العيني أدلة واضحة على أن ما ترنو إليه النخبة الديمقراطية التونسية المعروفة في محيطها العربي باعتدالها وتمسكها بالتفتح والتسامح وقبول الاختلاف والحداثة ليس مقصورا على الطبقة الوسطى فقط بل يشمل حتى الطبقات الشعبية. غير أن همّ هذه الطبقات الشعبية محصور اليوم في الانتفاضة من أجل العمل ولقمة العيش بعد أن يئس أغلبهم من وعود "الحكام الجدد" من "حزب ربي" وحلفائه الذين انتخبوهم متوسمين فيهم صدق النوايا فألفوْهم قد قلبوا لهم ظهر المجنّ وركبوا السلطة وانصرفوا إلى المحاصصة ومد الجسور نحو الخارج والبحث عن توافقات إقليمية ودولية تاركين الداخل بدون برنامج، وذاك بسبب أفقهم الضيق وبدائلهم المحدودة بل العقيمة معرفيا

ومنهجيا والعاجزة بالضرورة عن مسايرة متطلبات الثورة ، نقول هذا بكثير من التساهل في التقييم والتماس للأعذار.

***

وبالنظر إلى حزب النهضة تحديدا الذي يمثل القاطرة والجذع للتحالف الحكومي ، فقد

صاغ فلسفتان أو بالأحرى آليتان للتعامل مع ما بعد الثورة: آلية "التدرج" وآلية " التدافع" . الأولى قد صيغت لتناسب الانتخابات التشريعية والرئاسية أما الثانية أي آلية "التدافع" -التي هي صيغة ملطفة ومواربة للجهاد من المنظور السلفي والتحريري- فقد صيغت خاصة لتسند الأولى واتضح لديهم أنها هي الأنسب للمرحلة التأسيسية الحالية؛ فهم يمارسون الآن فلسفة " التدافع" لاستنتاجهم أن تطبيق آلية " التدرج " بات غير ممكن...الخطر كان يكون اعظم لو فازت النهضة وتروكيتها في انتخابات تشريعية فعندئذ ستعتبر نتائج الانتخابات خير دليل على صلاحيتها التامة والنهائية للحكم وستكون لها فرصة خمس سنوات كاملة للتصرف في القوانين وتغييرها قطرة قطرة كما فعل بن علي عندما غير ما اراد وكيفما اراد بآلية الانتخابات الرئاسية والتشريعية... وبعدها ستعمل ما في وسعها على ضمان خمس سنوات أخرى تغير ما تشاء وتؤجل ما تشاء حسب وضعية البلاد ، وكل المؤشرات تقول إنها إذا خرجت منتصرة في المرحلة الحالية فلن يقف أحد في وجهها لعشرية على الأقل؛ إذ هناك اكتشاف للبترول ويبدو أن بروتوكول الاستغلال الأمريكي (قد يكون هناك أطراف أخرى كالكنديين والاتراك...) سيكون جاهزا في فترة وجيزة وهم حائرون هل يمرروه الآن أم يؤجلوه ... هم في عنق الزجاجة ايضا لاعتقادهم أن استغلال البترول هو الذي سيسهم في تثبيتهم في الحكم ؛ حيث سينقل التونسي نسبيا من حالة الفقر إلى حالة من الدخل المتوسط ( ناسين ان هذا التونسي الذي هب وتمرد لن يقبل أن تذهب أغلب ثرواته القديمة أو الجديدة مجددا للمستثمرين الأمريكان أشباه المستعمرين الجدد)... لذلك ترى النهضة تعمل كل ما في وسعها بل تستقتل "لاستتباب" الامن لها وتعتبر كل مطالبة مهما كانت شرعية مظهرا من مظاهر الاعتداء بل الاجرام ؛ مما يبرر استخدام حد الحرابة المستجلب من قرون الظلام والذي تم التهديد به في غير "ما يناسبه " حتى من المنظور الاسلامي نفسه، مع عدم صحّة القول بمناسبته أصلا وجملة وتفصيلا في شرعة حقوق الانسان ومنطق العصر الحديث ! ... إن النهضة تدرك أن النسخة المبيضة للدستور لم تكتب بعد، وأن الشعب يستطيع التمرد، ولذلك فهي مترددة جدا ماذا ستكتب في الفراغات الباقية، وكيف ستمرر إيديولوجيتها الإسلاميوية في شكل قوانين دستورية لن يزحزحها "قاضي فاس " لاحقا إلا بثورة أخرى...فهي ستعمل ما في وسعها من الدفع والتدافع والمناورة والتحالفات حتى تنقضي المرحلة الحالية لصالحها دون أن تلتزم دستوريا للشعب بأي شيء لا يتناسب مع إيديولوجيتها وفي المقابل نراها لا تتوانى عن تقديم كل التنازلات لربائب الاستعمار والمال في الداخل وهم بقايا التجمع الذين صاروا حلفاءها الطبعيين وحتى تثق فيها القوى الدولية والإقليمية بما يخدم مصالحها


***

وبناء عليه، فإن أحزاب السلطة الآن مهتزون وفريقهم تكذبه الأيام وتفضحه الأحداث، إذ تحصل في صلبهم تناقضات وصراعات منها الظاهر ومنها الخفي، ويستقيل منهم بين الفينة والفينة أفراد وجماعات، فقد بدأ الفرز يحتد، والديمقراطية تكسب كل يوم أنصارا جددا ؛ فهم في السلطة لا لأنهم جديرون بها بل لأن منافسيهم لا يحسنون التنظم بإحكام ولا يمارسون النقد الذاتي البناء بشكل علمي واضح المعالم ولم يبلغوا الدرجة العالية الضرورية من نكران الذات والاعتراف بفضل الثورة والشهداء عليهم، ولم يصلوا بعد إلى النضج السياسي والصلابة في العمل اليومي الميداني وسط الناس والمرونة والاجتهاد الفكري لابتكار أشكال توعوية سليمة وغير نخبوية، والعمل الدؤوب الذي يتجاوز المناسباتية، والقدرة على التوحد وبناء الجبهة المدنية التقدمية والديمقراطية المناضلة التي تستطيع أن تلتحم مع الجماهير وتعزل أعداء الثورة وتنقذ المسار الثوري.


***

يمكن القول إذن إنه رغم وجود أحزاب ومجموعات ائتلافات وجبهات حداثية وديمقراطية وشعبية، فلا جهة تعبر عن طموحات الشعب إلى حد الآن تعبيرا واضحا رغم كثرة المتكلمين باسمه، غير أن التقدميين، مدفوعون بالأحداث الجسام وضغط القواعد، يسعون بعض السعي الجاد إلى التنسيق إلى حد ما، ويبذلون جهودا في خلق آليات جديدة للتشاور. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه مازالت أمام التقدميين والنخبة الحداثية فرصة حقيقية لنبذ الفرقة والتآلف والتوحد من أجل الالتحام بالشعب؛ ولذلك فهم مطالبون بمغادرة منطقة الانتظارية والتواكلية والأحلام والأوهام التي قبعوا فيها طويلا ولم تحرك سواكنها العميقة حتى الثورة العاصفة، ولا بد لهم من ممارسة النقد الذاتي بصفة علمية فعليا، وتجنب الفائض الايديولوجي والبحث عن بدائل أكثر مرونة وشعبية تلتف حولها أوسع فئات الشعب. وهذا الاتجاه المدني العريق، إذا استطاعت المعارضة التقدمية بجانحيها الليبرالي واليساري أن تكرسه وتوسعه فكريا وسياسيا في أرض الواقع، فستزيده الأيام تبلورا كلما ابتعدنا عن عصر الخوف والرعب الذي شكل جانبا من وجدان التونسي وترسب في لاوعيه، وكلما شعر التونسي بقيمة ثورته ذات البعد الإنساني العالمي وتمسك بكرامته وثمّن عاليا مواطنته وتشبّث بأبعادها الحضارية، ومارس حريته على الوجه المدني الديمقراطي المنشود.

تطبيق الشريعة في البلدان العربية هي أكبر حجة للكيان الصهيوني وخاصة ليهودية إسرائيل، وستكون المدخل لمطالبة كل الأقليات الدينية والعرقية بحكم ذاتي واسع الصلاحيات تمهيدا للتقسيم ... لكن ما قولك في استخدام أزلام التجمع وعودة بقايا الدساترة في تونس وما بتواطؤ بعض فلول الحزب الوطني في مصر... هل هي ورقة إضافية في يد أمريكا تهدد بها الإخوان الإسلاميين؛ لأنها لا تثق بهم كوثوقها في الحليف التركي؟
ناء الجبهة المدنية الواسعة
ما لم يصنع اليسار بكل أطيافه والقوميون وحتى الليبراليون التقدميون الحدث، ويأخذوا زمام المبادرة الفعلية ببناء الجبهة المدنية الواسعة فإنهم سيعيشون في قادم الأيام محنة حقيقية؛ بقايا التجمعيين قد يعيدون خلط الأوراق في اللحظات العصيبة والدساترة الذين لم يقدموا نقدهم الذاتي ولم يفعلوا شيئا لتجاوز الماضي قد يفرضون أجندتهم فيضطر اليساريون إلى التذيل الصامت أو الفعلي لهم في سبيل معارضة الخط الرجعي المتكون من كل الإسلاميين نهضة وسلفية وتحرير ومؤتمر ... ومن البلاهة أن نعود إلى المربع الأول ... ومن الخسران الذريع أن يبدو الأمر في تونس كأن شيئا لم يكن.

ليس من مصلحة أنصار الدولة المدنية تمجيد الماضي البورقيبي وتبريره واستدعائه بقمحه وزؤانه؛ لأن جزءا كبيرا من الردة الحالية يقع في الجانب غير الرشيد بل المظلم من تلك الفترة ، فإذا لم يقبل الدساترة على مسار نقد ذاتي علني فليس أقل من أن ندع الحكم على المرحلة البورقيبية إذن في يد التاريخ حتى تنهض عدالة انتقالية مؤسسية ، ولنمض قدما في الدفاع عن الديموقراطية والحرية والكرامة والمواطنة والعدالة الاجتماعية واقتصادية .

قضيتنا في الجوهر حضارية و"النهضة " تقلبها سياسوية واليسار يقع دائما في الفخ وفي ألطف الأحوال في نصف الفخ "النهضة" تلعب للمرة الألف اللعبة الشعبوية في قسمة التونسيين الى قسمين (فسطاطين بالتعبير الإسلاموي) وتستغل العاطفة والمخيال الدينيين وتسحب للمرة الألف التقدميين إلى ملعبها وساحتها ورموزها ولغتها وفعل القول الأثير لديها ويكفي التذكير باللعب على مصطلح لفظة الشريعة ومحمولاتها في اللاوعي الجمعي وارتباطها بعبارة "شرع ربي " عند عامة الشعب التونسي لاسيما في الأرياف والبوادي ولدى الأوساط الشعبية عامة، غير أن "الندائيين" تمكنوا أخيرا من افتكاك هذا المجال منها بفطنة كبيرة، فماذا فعل اليسار؟ مازلنا ننتظر.

أشعر بصدقية عالية للمبدأ الأفلاطوني القائل بضرورة أن يترأس الفلاسفة السياسة، وفي حالة اليسار والتقدميين تحديدا، ومعهم فئات من التحررين أضيف طبعا المؤرخين ودارسي الفكر والآداب: يسارنا ثلاثة أصناف كبرى مازالت لم تجسر الفجوة فيما بينها رغم ظهور الجبهة الشعبية والمسار الاجتماعي: يسار سياسي ويسار نقابي ويسار فكري أكاديمي والشريحة الأخيرة في أسفل السلم وكل الدرجات تكاد تكون منفصلة عملية ومؤسسيا بعضها عن بعض.

أخيرا، يحتاج التقدميون العرب إلى التنسيق وربط الجسور فالعمل الإخواني والسلفي موحد على صعيد الوطن العربي واستراتيجياتهم واضحة المعالم، وإن طرح المساءلات الآتية قد توقع الإحراج وتنقل المعركة من ساحة اليسار والتقدميين عامة في الوطن العربي إلى ساحة الإسلاميين: لم يغير الإسلاميون التونسيون أطروحاتهم ولم يصدروا مقالات وبيانات تعدل من مواقفهم. والإخوان في مصر وليبيا لا يستنكفون من التصريح علنا بأنهم يتبنون "تطبيق الشريعة" بل يرمون مخالفيهم بالنبو عن "إجماع الأمة" . إذا أصر الإسلاميون في العالم العربي على سذاجة الدعوة إلى الدولة الدينية أو الشرعية أو الخليفية أو تحت أي مسمى ومضمون إسلاموي لكل هذه الدعاوى الواهمة الفارغة ستكون حتما وبالا على المنطقة؛ إذ ما الذي يمنع أمريكا والغرب من دعم المسيحيين واليهود ثم النزعات الانفصالية كما تظهر عند بعض الأكراد والآشوريين والكلدانيين والأمازيغ... عند المطالبة بدولة على أسس أديانهم وشرائعهم وأعراقهم؟... أم ترى الإسلاميين عاملين عليها ؟!

وأنصح هؤلاء بالعودة إلى التاريخ وقراءة إعلان عهد الأمان، على نقائصه، وخط همايون العثماني. أنصحهم كذلك بالعودة إلى التاريخ القريب وخاصة إلى أحداث 1860 في بلاد الشام والتي راح خلالها عديد العرب المسيحيين لأن خصومهم (من الدروز والمسلمين) رفضوا مساواتهم في القانون. ليقرؤوا كذلك حول دور عبد القادر الجزائري الذي حمى المسيحيين وقتها والذي، للعلم، كانت له علاقات وثيقة بالمحفل الماسوني دون أن يمس ذلك من هويته.