ملاحظات أوليّة حول الأرثوذكسيّة في الفكر الديني: المالكية أنموذجاً.


جبران أديب
2013 / 1 / 24 - 15:51     

توطئة:
مما يجب معرفته عن المقصود بالأرتودوكسية - بالإضافة إلى التمسك بالأصول النقية لدى بعضهم، أو الاتصاف بسمات التزمّت أو الجمود، والقوالب الدينية الجاهزة، عند البعض الآخر - أنها تعني أيضا بل أساسا "محاصرة " المتعالي بالمحايث، والإلهي بالبشري؛ فالأرتودوكسية مهما احتاطت للإستراتيجي فإنها تظل مقيدة بـ"الآن والهنا". وهي إذ تتصل بالمتعالي على سبيل التماهي، فهي تقييده كذلك بالحاليّ والظرفيا زمانا ومكانا ،،، وهنا تتنزل لحظة التصوف بشتى فروعه ومشاربه لمنازعة الأرثودكسية سطوتها على الديني عامة والالهي تحديدا، لفك إسار المتعالي من المحايث؛ ولهذا لا يوجد في التصوف غالبا تشريع وتقنين ...
ومن حيث النشأة نروم افتراض أن الفكر الأرتودكسي هو الإنتاج المذهبي الأصولي والفقهي الذي يعود أساسا إلى نواة النص القرآني المديني سورا كان أم أحاديث، في حين يبدو منبع التصوف في هذه الفرضية هو النص القرآني المكي والحاديث القدسية.
***
أتناول في هذا الموجز - إذن- وفق الرؤية الواردة في التوطئة نشوء الأرتوذكسية في الفكر الديني الإسلامي، مركزا على المذهب المالكي لا في مجال العقيدة بل في المجالين التنظيمي و الفقهي التشريعي. فقد كان المذهب المالكي منذ نشأته محشورا بين شقي رحى ، والواقع أن شأنه في ذلك لا يختلف عن شأن جميع المذاهب المجتهدة في البحث عن رؤية وموقع واستراتيجية وأدوات عمل، وهو يرصد الواقع الحي المتحول أبدا، والعاملان اللذان كان المذهب المالكي مكبلا بينهما رغم الحيوية البالغة التي طبعت نشأته ورافقت الفترة الولى من تطوره يبدوان متناقضين:

أما العامل الأول فهو تطلعه لمتابعة حركية ذلك الواقع بما فيها من صراعات ورهانات وتوافقات، بهدف رسم استراتيجية انتشار وسيادة، وكأنه سيختار المدينة ومنطقة المغرب الإسلامي وبعض المناطق الأخرى كالسودان مثلا فضاء للسيادة ؛ ويمكن أن نعتمد في هذا الشأن ما نُسِب إلى الإمام مالك بن أنس نفسه (93هـ/712م- 179هـ/795م) من قول حين خاطب المهدي: " أمّا هذا الصقع (يعني بلاد المغرب العربي) فقد كَفَيْتُه، أما الشام ففيه الأوزاعي وأما أهل العراق فهم أهل العراق(عياض: المدارك 1/193 - 2/73) وجاء في أحسن التقاسيم: " أبو حنيفة لأهل المشرق ومالك لأهل المغرب " ). المقدسي: أحسن التقاسيم، ص 50)

وما يمكن أن يتنزل ضمن تلك الاستراتيجية من آليات رصد لتعرجات ذلك الواقع وتداخلات معطياته الداخلية مع العوامل المقحمة فيه من الخارج، ومتابعة عوامل الإحباط أو التسريع والإنضاج أو الإجهاض التي قد تعتريه أيضا، فيلاحظ مثلا أن المذهب المالكي قد فقد مواقعه في منطقة العراق، والأدهى من ذلك في منطقة المدينة والحجاز عامة من بين يديه؛ جاء في المدارك: " وبعد موت الأبهري وكبار أصحابه؛ لتلاحقهم وخروج القضاء عنهم إلى غيرهم من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، ضعف مذهب مالك بالعراق وقلّ طالبه لاتباع الناس أهل الرئاسة والظهور " (عياض: المدارك 6/188 – 189.). والظاهرة نفسها حدثت أيضا في الحجاز: "إنّه (المذهب المالكي) قد خمل في الحجاز " -التنبكتي: نَيْـل الابتهاج، ص 31)


أما العامل الثاني فهو عجزه عن الإحاطة والاستشراف -بسبب ضعف أدواته والخلل البنيوي الذي يلازمها بما هي مستمدة أصلا من خطاب معد للآخرة ، وتسوده- بالضرورة- صبغة اليقينيات الغيبية، لا النسبية الواقعية، من هنا جاء رفض الفكر المسيحي- في أغلبه -في فترة نشوئه الأولى ثم بعد تجربة القرون الوسطى البائسة والفشل الحاد والبنيوي الذي رافقها ، رفضه -في أغلب مدارسه اليوم بما فيها ما تسمى بالمسيحية الأرثوذكسية- التدخل في الشأن التشريعي الدنيوي باعتباره شأنا لا عاما فحسب بل مجالا للخلاف والصراع والهيمنة، في حين لا يرون في الشأن الديني إلا علاقة فردية جدا بين الإنسان والإله، لهذا اعترف خير الدين باشا أن الغربيين وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم وحضارة بمعزل عن دينهم، اللهم إلا التوجيه الأخلاقي له، وبهذا أسس بشكل واضح وربما لأول مرة في الوعي العربي فكرة نشوء الحضارة بمعزل عن الدين، بل بالأحرى يكاد لا يتأسس عمرانٌ بشري حقيقي بكل ملابساته وصراعاته إلا بمعزل عن الدين الذي بات العالم كله تقريبا اليوم في الشرق كما في الغرب لا يراه صراعا بل تسليما ومسالمة، باستثناء بعض الشرق الأدنى و بعض أجزاء من أفريقيا والمنطقة العربية التي لم تشهد التنوير والتحديث. ونتبين من ذلك أن الفكر الديني الإسلامي عامة واقع تحت عجز كلي أو جزئي على مسايرة الواقع الحي في شموليته وتفاصيله، فيضطر حينئذ إلى تجميد ذلك الواقع في بؤرة أو بؤرٍ منعزلة


وبالإضافة إلى ذلك، ثمة عامل ثالث متعلق بانحياز ذلك الفكر لرؤية (قد تكون واعية أو غير واعية) تؤبد مسارا ما سياسيا و اجتماعيا فيضطر الفكر عندها إلى ليّ أعناق الظواهر والحقائق حتى تتقولب وفق مراده ومراميه، وقد يضطر أيضا إلى ابتكار أعداء له ومنافسين ابتكارا فيعمد إلى صنعهم بطرق متنوّعة، أوثقها بالدّين صلة اختبار سلامة العقائد واستقامتها من كلّ زيغ وخروج عن العقيدة الحقّ حسب وجهة نظر ذلك الفكر طبعا (لاحظ مثلا أن تسمية أهل السنة والجماعة نفسها للمذاهب الأربعة كم هي معبرة عن احتكار مبدأين من أقوم مبادئ المصداقية: الاتباع لطريق الرسول" السنة"، والاعتصام بالوحدة " الجماعة" فضلا على دلالة المضاف نفسه – لفظة " أهل" - على حرمة الانتماء الأسري الدينية، ومعنى الأهلية أي الجدارة، وكذلك قد سمى الإباضية وبعض الخوارج نحلتهم " أهل الاستقامة"، ومازالت التسمية قائمة إلى وقت الناس هذا) . وبصفة عامّة تتم صناعة العدوّ بقاعدة امتلاك للمعنى المقدّس والحقيقة المقدسة حتى وإن تم توارثها بطريقة مختلفة عن المؤسس نفسه، كما سنرى في إبطال بعض المذاهب عمل الرسول نفسه – في حين يدعون الاتباع-كما أثرت عند غيرهم، مادامت طريقة التّأويل هي الّتي ترسم الصورة المثلى للإيمان وفي الآن نفسه التخطّي المرسوم بعناية لحدود الانتماء. فالإيمان في هذا الفكر ليس مسألة فرديّة ولا هو ممكن بصور مختلفة وإنّما كان يبدأ بالانتماء. وبهذا الاعتبار يعرّف الفكر الديني الأرثودكسي الانتماء ويحدد درجات الاختلاف، فالخلاف، فالعداء؛ إذ كلما ازدادت الشقة بعدا تحول الخلاف بالتدريج إلى العداوة، فيغدو الآخر حتما كل من هو خارج الحدود الّتي تصنع هويّة ذلك الفكر


ثم إن المذهب الفقهي الإسلامي الواحد، كالمالكية موضوع حديثنا، لا يشكّل كيانا منسجما تمام الانسجام، وليس هذا دليل مفارق للأرثدوكسية بل دليل عليها كما سنرى. فالمالكية أساليب متنوعة داخل المنظومة نفسها تمليها حسابات معينة سواء تفاعل معها الفقيه تفاعل الواعي، وهو لعمري نادر ،أو تفاعل المنساق وهو في ظني الغالب: فهذا التنوع يكون بحسب المزاج الشخصي ومستوى التكوين الفكري والموقع الاجتماعي لكل فقيه ودرجة الولاء أو عدم الولاء للسلطة القائمة. فتتنوع النوازل والحالات، وتتعدد الرؤى، وتؤثّر الطموحات في توجيه الفتاوى والأحكام لا شك. وقد يظهر أيضاً فقيه في فترة تاريخية ما، فيحاول في إطار الاستجابة لمتطلبات معيّنة الدمج بين مكوّنات المذهب مع مذهب أو أكثر ... والمذهب الفقهي قد يمتزج مع جوانب من الكلام الاعتزالي فالفقيه المالكي قد يكون متكلما أشعريا أو ماتريديا.، ولولا أن المقالة مقصورة على البعد الفقهي لكان في هذا متسع للقول قد يعادل القول في الفقه أحيانا.

***
وفيما يأتي محاولة رصد أولي لبعض النقاط المتعلقة بالنزعة الارتودكسية في المذهب المالكي في الجانب الفقهي ونشوء ما يسمى "عمل أهل المدينة"

"روت المالكية عن الرسول أن آخر عمله كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه، فقالوا: الصوم أفضل.
■وكان آخر عمله أن صلّى بالناس جالسا وهم أصحّاء وراءه، إما جلوس وإما وقوف، قالوا: صلاة من صلى كذلك باطلة. وفي الموطأ: إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، قالوا: طهور من طهر كذلك باطل حتى يدلِّكَ.
■وفيه: إذا صلى فرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع قالوا: ليس عليه العمل.
■وعنه: إذا أمَّ الناس ختم القرآن وقال آمين، قالوا: ليس عليه العمل.
■وأنه سجد في*(إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ)*، قالوا: ليس عليه العمل.
■وعنه أن أبا بكر ابتدأ الصلاة بالناس وأتمّها عليه السلام بالناس جالسا إلى جنبه، قالوا: ليس عليه العمل.
■وأنه جمع الظهر والعصر من غير سفر، قال مالك: أرى ذلك في مطر، وقالوا ليس عليه العمل لا في المطر ولا في غيره.
■وأنه نضح بوْل الصبي ولم يغسله، قالوا: ليس عليه العمل، وهذا لا يطهِّر الثوب.
■وعنه أنه يصلّي بالناس وهو يحمل أمامة بنت العاصي على عاتقه، قالوا: ليس عليه العمل، ثم احتجّوا بالحديث نفسه على إتمام الصلاة حاملا نجاسته.
■وعنه أنه يقرأ في صلاة العيدين*(اقْتَرَبَتْ السّاعَةُ)* قالوا: ليس عليه العمل.
■وعنه أنه يقبِّل في رمضان نهارا، قالوا: ليس عليه العمل
■ وأنه صلّى على سهيل بن بيضاء في المسجد،
■ وأنه صلى على النّجاشي غائبا مع أصحابه خلفه، وأنه صلّى على قبر، قالوا في جميعها: ليس عليها العمل ثم ّاحتجّوا بها على جواز الصّلاة على القبور.
■وأنه أعطى القاتل السلب وقضى بذلك، قالوا: ليس عليه العمل إلاّ برأي الإمام.
■وأنه أباح النكاح بخاتم من حديد، قالوا: لابد من ريع الدنيا.
■وأنه أنكح امرأة بسورة من القرآن فقالوا: ليس عليه العمل. وأنه قضى في الجنين، وأنه ودي عبد الله بن سهل وهو حضري مائة من الإبل.
■وأنه جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر، وأنه لا يقبل قول أحد في ادّعائه دم احد أو ماله. وأنه رجم يهوديَّيْن، وأنه أمر بتغريب غير المحصن، وأنه احتجم وهو محرم، وأنه تطيب قبل إحرامه وقبل أن يطوف بالبيت، قالوا في جميعها: ليس عليه العمل، وأنه قسم خيبر وأوجب الولاء لمن أعتق، وأبطل كلّ شرط ليس في كتاب الله.
■وأجازوا أنّ من شرط أهل الحرب أن ينزلوا في دار الإسلام بأسرى المسلمين ويطوفوا بهم ويبيعوهم، وهذا في "الموطأ" خاصة.
■قال ابن حزم الأندلسي: وهم أّتْرَكُ خلق الله لعمل النبي عليه السلام. روي عن أبي بكر في "الموطأ" أنه خالفه في ثمانية، وقال: ليس عليه العمل؛ لأنه مجتهد وأداه اجتهاده إلى ذلك. وخالفوا في "الموطأ" عمل عثمان وقضاءه في ثمان، وخالفوا غيره من الصحابة".


* المصدر: كتاب "الحوار الإباضي المالكي" ؛ تحقيق ودراسة: العربي بن ثاير- من رد الشماخي على رسالة الغدامسي، ص232