روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثورية ومُنظرة ماركسية

فرانسوا فيركامن
2019 / 1 / 10 - 21:17     

ترجمة: جريدة المناضل-ة
تمثل روزا لوكسمبورغ إحدى أكثر منظري الماركسية تألقا. كما كانت من نادر النساء اللائي كسبت شرعية نضالية في الأممية الثانية، حيث كانت سلطة الذكور- أكثر مما هي حاليا- سائدة على نطاق واسع. وضعت روزا قدراتها التحليلية الاستثنائية بلا حذلقة في خدمة الحركة العمالية، حيث كافحت بكل قواها. إنها شخصية مستقلة، لم تتردد في مساجلة الجناح الإصلاحي للحزب وللنقابات (بألمانيا). كما كانت تخوض النقاش داخل اليسار الثوري ذاته، لا سيما مع لينين، معترضة على تصوره للحزب (1902-1904)، أو بصدد حق الشعوب في تقرير مصيرها والديمقراطية في الدولة السوفييتية (1918).
إن روزا لوكسمبورغ وجه مأساوي، لأنها اغتيلت بشراسة ( 15 يناير 1919) بتحريض من الاشتراكية الديمقراطية التي أرادت” استتباب النظام في برلين”. ولأنها، بوجه أخص، اغتيلت بينما كانت تضطلع منذ 1915 بدور قائدة الحزب في رابطة سبارتاكوس الجديدة التي لم تجمع، مثلها مثل روزا، القوى الكافية للتصدي للوضع الثوري.
ولدت روزا لوكسمبورغ في مارس 1871 بمدينة زاموش في قسم بولندا المحتل من قبل روسيا. كانت من جيل لينين (1870 ، وتروتسكي (1879). أمضت شبابها في وارسو. وانضمت في سن السادسة عشر إلى المجموعة الماركسية الثورية ” حزب البروليتاريا”. كشفتها الشرطة بسرعة فهاجرت إلى سويسرا. وهناك درست الرياضيات والعلوم، ثم القانون والاقتصاد السياسي. وقدمت أطروحة دكتوراه حول ” تطور بولندا الاقتصادي” (مارس 1897) [1].
وشاركت، السنة عينها،بمؤتمر الأممية الثانية بباريس، بصفة منتدبة بولونية. وكانت في السنة اللاحقة من مؤسسي الحزب الاشتراكي الديمقراطي لبولندا وليتوانيا. وكان هذا تلقائيا قريب جدا ، بل مرتبطا أحيانا بحزب لينين وتروتسكي وبليخانوف، الخ على نحو عضوي( حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي).
حدث انعطاف هام بحياتها في 1897-1898. فبفضل زواج شكلي، حصلت على الجنسية الألمانية، فأتاح لها الأمر المشاركة في حياة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية ” القوية”. وظلت وثيقة الارتباط بالنضال الطبقي الثوري في بولندا وروسيا: بقيت شكليا عضوا بالاشتراكية الديمقراطية لبولندا وليتوانيا حيث يضطلع صديقها ليو يوغيش بدور مركزي. يمثل عام 1905 انعطافا في تاريخ القرن والحركة العمالية. أسرعت روزا إلى وارسو للمشاركة في الثورة الروسية. وتدخلت أيضا في الحزب الروسي، لا سيما مؤتمر لندن (1907) حيث ُوضعت مسائل الإستراتيجية كلها على بساط البحث.
لكن مركز ثقل نشاطها بات هو ألمانيا. وبفضل موهبتها اندمجت بسرعة بالمركز القيادي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، مع كارل ولا سيما لويز كاوتسكي، والرئيس بلا منازع اوغست بيبل، والمؤرخ فرانز مهرنغ والنسوانية كلارا زيتكين.. وتبوأت، برغم أنها لم تكن عضوا بالقيادة، مقدمة النقاشات الفكرية والسياسية والإستراتيجية أثناء المؤتمرات الوطنية والعالمية. وناضلت معلمةً ( بمدرسة الحزب)، وكاتبةً ( كراسات، مقالات، كتب)، ودعاويةً ومحرضةً: نددت في جملة تجمعات جماهيرية مؤثرة بالنزعة العسكرية المتنامية وبالاستعدادات للحرب، ودافعت عن ضرورة انعطاف جذري في الإستراتيجية العمالية: الإضراب العام بما هو وسيلة لتحويل بروسيا إلى جمهورية ديمقراطية، ستجنب الحرب العالمية وتهيئ الاستيلاء على السلطة. كان سجالها في 1898 ضد برنشتاين (تلميذ وسكرتير انجلز المتوفى في 1895) لافتا للنظر بعمقه الفكري وهمه النضالي ( جملة مقالات مجموعة تحت عنوان ” إصلاح اجتماعي أم ثورة ؟”). وتستنتج في مقالة نقدية أخاذة “الإضراب الجماهيري، والحزب والنقابة” (1906) الخلاصات التحليلية والإستراتيجية من ثورة 1905 الروسية ( المهزومة في ديسمبر 1906). كان هدفها الرئيس إقناع الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بتغيير الإستراتيجية. اصطدمت في ذلك بالفريق البرلماني للحزب و بالبيروقراطية النقابية الذين تصالحا عمليا مع الرأسمالية الألمانية والدولة البروسية. كانت المعركة بلا هوادة، وأفضت إلى كارثة 1914: صوت الحزب على اعتمادات الحرب. وذلك ما قامت به أيضا كل فروع الأممية الثانية، كل ببلده: سيطلق عمال النار على عمال، واشتراكيون على اشتراكيين!
وقفت روزا لوكسمبورغ بمقدمة النضال ضد الحرب. كان ذلك نتيجة منطقية لمعركتها ضد العسكرية. وأدت تلك المعركة إلى سجنها مرارا عديدة من قبل العسكرية البروسية بتهمة “التحريض على التمرد” و ” تحريض الجنود على العصيان” و ” إهانة الإمبراطور” (1904،1906،1915). وكتبت بالسجن إحدى أفضل التحاليل الماركسية حول الحروب:”أزمة الاشتراكية الديمقراطية” [ مستعملة اسم جانيوس المستعار]. ” يا بروليتاريي العالم اتحدوا زمن السلم، واقتلوا بعضكم بعضا أيام الحرب!”.
وفي وضع عزلة و تفاجئ بتطورات الوضع، قرر أخيرا روزا وليبكنخت وزيتكين ومهرنغ ان يتنظموا. وفي ديسمبر 1914 صوت ليبكنخت ضد اعتمادات الحرب الجديدة. وفي ابريل 1915 أصدروا جريدة ” الأممية” ( 5000 نسخة في برلين). كانت روزا روحها ومحركها الأساسي أدبيا. حللت أسباب الحرب العالمية ومسؤولياتها. يتمثل جواب روزا المركزي في الحاجة إلى منظمة أممية جديدة. تأسست هذه المنظمة بعد وفاتها(1919). لكنها شاركت مشاركة كاملة في الندوات التحضيرية بزيمرفالد (1915) وكينتال (1916).
كانت روزا بالسجن لما بلغها نبأ الثورة الروسية: سقوط القيصر في فبراير، وهزيمة الرأسمالية في نوفمبر. تابعت الأحداث وعلقت عليها بشغف في جملة مقالات. ولم يخل ذلك من مخاوف: هل سيصمد لينين وتروتسكي؟ هل ستلتحق الطبقة العاملة الغربية؟ وتمثل تخوفها الرئيسي في تأخر روسيا الثقافي ووزن الفلاحين. وبهذه الفكرة الماثلة بذهنها كتبت بالسجن “الثورة في روسيا” ( المنشور بعد وفاتها)، وكان نصا مفعما بدعم متحمس للبلاشفة وبنقد حاد لبعض أوجه سياستهم (بخصوص الفلاحين، والمسألة القومية، والجمعية التأسيسية).
وفي نوفمبر 1918، مع الثورة الألمانية، أفرج عنها. وكان النهوض الألماني، مثل الثورة الروسية، مطبوعا بالدور الديمقراطي لمجالس الجنود والعمال. كان ثورة بلا قيادة. كان أهم أحزاب المعارضة الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقلUSPD . كانت قاعدة مكونة من عمال الصناعة، وكان مهيمنا بمجالس العمال. وكانت رابطة سبارتاكوس جزءا منه في فترة أولى، قبل ان تستقل عنه. وخلال مؤتمر تأسيسها(29 ديسمبر 1918- 1 يناير 1919) حاولت روزا لوكسمبورع و كارل ليبكنخت بعزم إعطاء توجه لهذا التجمع الهامشي وضعيف التماسك المكون من مناضلين متفانين.
استمر التشوش السياسي في الإضرار بالتفكير حول المهام السياسية الأولية للحظة ( دور النقابات، المشاركة بالانتخابات البرلمانية، نمط التنظيم). قدمت روزا تقريرا سياسيا، ” ماذا تريد رابطة سبارتاكوس؟”. لكن موجة الثورة الألمانية الأولى تراجعت. في تلك اللحظة قررت الحكومة الاشتراكية الديمقراطية اغتيال روزا وكارل ( ثم مئات المناضلين العماليين)، يوم 15 يناير 1919.
فكر روزا لوكسمبورغ ونضالها
أدى حجم إسهامات روزا الفكرية الماركسية و نشاطاتها إلى ذيوع صيتها لدى تيارات سياسية متعارضة جدا، فتأكيدها على الديمقراطية السياسية يعجب الاشتراكيين الديمقراطيين اليساريين، وحتى اليمينيين (عندما يلائمهم الأمر)، ويجذب دفاعها عن عفوية الجماهير مختلف التيارات الفوضوية و الفوضوية النقابية، و يتبنى بعض المفكرين والحركات المسيحية معاداتها للنزعة العسكرية، وتتعلق ” التيارات الساخنة ” للفلسفة الماركسية ( راجع ارنست بلوخ) بنزعتها الإنسانية وتحليلها للحضارة، ويعترف بها اللينينيون (التروتسكيون) مناضلةً ثورية و وجها بارزا للنزعة الأممية الاشتراكية. وحده ستالين وأتباعه كانت لهم مصاعب مع روزا: لا تندرج الديمقراطية والنضال العفوي والتنظيم الذاتي والنزعة الإنسانية والثورة في شعاراتهم! إنها لمفارقة أن روزا لوكسمبورغ لا تثير سجالا كثيرا ( ما عدا بألمانيا” الجديدة”). فالحداثيون اليمينيون الساعون إلى تدمير الماركسية من جذرها “نسوا” روزا. وهاجم كثيرا النسوانيون ماركس وانجلز ولينين، لا روزا. وفي اليسار الثوري يُـغلف انتقاد بعض أرائها بما خلفت “من جهة أخرى” من مكاسب. أهي “منسية” من البعض و “مرعية” من طرف آخرين؟ في الواقع، كل شيء يدعو إلى إعادة نقاش إعمال روزا لوكسمبورغ، بما هي أمر لا غنى عنه على سبيل تطوير ماركسية نقدية.
النقاش حول نزعة المراجعة (التحريفية)
في 1898، قام ادوارد برنشتاين، العضو البارز بالحزب الاشتراكي الألماني الذي كان سكرتير إنجلز، بنشر جملة مقالات زعزعت أفكارا كثيرة. دافع فيها صراحة عن إستراتيجية إصلاحية. ورفض اتهامه “بالتخلي عن الظفر بالسلطة السياسية من قبل البروليتاريا المنظمة سياسيا واقتصاديا” ( ص 34 « De Arbeiderspers », 1981). مؤدى أطروحته أن “المهمة الأولى للاشتراكية الديمقراطية هي النضال من اجل حقوق العمال السياسية، ويقظة العمال بالمدن والبلدات إزاء مصالحهم الطبقية، وتنظيم العمال الاقتصادي” ( ص 18). ويكرر برنشتاين صيغته الشهيرة:” الحركة (العمالية) كل شيء وهدف الاشتراكية النهائي لا شيء” . المطلوب إذن إصلاحات بطيئة لا الثورة.
ردت عليه روزا بجملة أصبحت أيضا شهيرة:” إن أولئك الذين يعلنون أنهم يحبذون وسيلة الإصلاح التشريعي بدلا من الاستيلاء على السلطة السياسية والثورة الاجتماعية، لا يختارون في الحقيقة طريقا أهدأ و أبطأ إلى الهدف ذاته بل يختارون هدفا مختلفا. فهم بدلا من أن يتخذوا موقف بناء مجتمع جديد، يتخذون موقف إجراء تعديلات سطحية على المجتمع القديم ” (“إصلاح اجتماعي أم ثورة ؟” ص 69 [*] ).
بعد مائة عام ، الحكم واضح: كانت روزا على حق. لكن ذلك لم يكن جليا في متم القرن التاسع عشر. أسس برنشتاين تحريفيته على عروض طويلة استمد حججها من التاريخ والاقتصاد والاحصاآت، وعلم الاجتماع والفلسفة ( هيغل وكانط !). كان كتابه ” مقدمات الاشتراكية ومهمة الاشتراكية الديمقراطية” مؤلفا جديا. لا سيما أنه أكد بوضوح على تطور فعلي لرأسمالية صناعية في عز نموها، وحركة عمالية لم تعد قادرة على تخيل كيفية حدوث ثورة اشتراكية في بلد غربي. يؤكد برنشتاين على أن ثلاثة عناصر في صالح أطروحته: لا يقود التطور الرأسمالي إلى احتضار الرأسمالية، لا تحتد التناقضات الطبقية بل تتضاءل، ويمكن للإصلاحات الاستناد على تعزز الحركة العمالية ( ناخبون وبرلمانيون، ونقابات). ويدافع برنشتاين صراحة على مراجعة “أخطاء وتناقضات عقيدة ماركس وانجلز”. ردت كراسة روزا منهجيا عل تلك الحجج. ويشكل ردها احد أهم نصوص الماركسية الكلاسيكية. اضطرت أن تناقش بعمق ماركسية الأممية الثانية، وهذا لسببين. أولهما ان الرأسمالية تغيرت كثيرا منذ عهد ماركس وبات الأمر يقتضي تحليلا جديدا. ومن جهة أخرى، تعرضت أدوات التحليل التي صاغها ماركس للتبسيط لأسباب تعليمية ودعاوية، فعادت إليها روزا عند ماركس ذاته.
بوسعنا ان نستخلص من ذلك السجال ثلاث خلاصات أساسية: 1- لا تناقض بين الإصلاحات والديمقراطية من جهة و الثورة من جهة أخرى.2- يوجد أساس السياسة والايدولوجيا في العلاقات الاجتماعية المادية. 3- تتحول هذه العلاقات بفعل تناقضاتها الخاصة. لذا فان النزاع الاجتماعي معطى موضوعي، مستقل عن الأهداف التي يضعها الاصلاحيون والثوريون.
الإضراب العام والثورة
يظل إذن استيلاء البروليتاريا على السلطة ضروريا حسب روزا وبرنشتاين. لكن بدا آنذاك أن الإصلاحيين يحظون بنجاح أكثر من الثوريين. وتعزز تأثير الأولين الإيديولوجي من جراء ذلك. وفعلا لم تحدث بأوربا أي مجابهة ثورية منذ كومونة باريس (1871). كان فريدريك انجلز تناول هذا المشكل عام 1895 في “مقدمته” لكتاب ماركس “صراع الطبقات بفرنسا”. كان يقول إجمالا: إننا لا نتخلى عن العصيان الثوري لكن الشروط الاجتماعية والعسكرية تبدلت، والطبقة العاملة تعززت وكذا منظماتها. وبالتالي يجب تفادي مواجهة سابقة للأوان مع الدولة. وبالعكس: إذا تواصل هذا التطور، ستصبح السلطة السياسية بمتناول اليد. كتب انجلز ” طبعا لا ننكر العصيان الثوري”، لكن قيادة الحزب الاشتراكي الألماني حذفت هذه الجملة.
برعت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية بخاصياتها التنظيمية. إنها مثال الأممية الثانية ورأس حربتها. ولم يكن للماركسيين الثوريين مثل روزا أمثلة ( بل مجرد فرضيات) لإضفاء طابع ملموس على مفاهيمهم وجعلها حية. هذا ما جعل “نموذج” 1848 و 1870 سائدا عند ثوريين تلك الحقبة: الانقلاب السياسي لأقلية صغيرة محكمة التنظيم تقوم مقام الجماهير (البلانكية). وما كان من جهة أخرى يقنع الطبقة العاملة ” الجديدة” آنذاك هو تصور الإضراب العام كما روجه الفوضويون النقابيون: لنعزز النقابات وعندما يكون العمال منظمين نوقف العمل في لحظة ما (“المساء العظيم”) وننتصر على أرباب العمل: على هذا النحو ستزول الرأسمالية.
زعزعت الثورة الروسية عام 1905 كلا النموذجين. كانت تلك الثورة، آنذاك، اكبر إضراب عام في التاريخ. وكان أثرها هائلا. في روسيا أولا، حيث كانت الثورة على جدول الأعمال. ثم في أوربا الغربية حيث كان الإضراب العام يعبر عن قوة طبقة عاملة جماهيرية في المقاولات الصناعية. وكانت ماركسية روزا لوكسمبورغ مهيأة كليا لدمج هذه المستجدات. توجد النتيجة في كتاب مذهل:” الإضراب الجماهيري، الحزب والنقابة” (1906). فكت روزا لوكسمبورغ الخيوط الإستراتيجية للعقد الرئيسية الأربع للحركة العمالية: السياسة والنقابة، العمل داخل البرلمان وخارجه، التنظيم والعفوية، التنظيم الجماهيري والوعي التدريجي و عمل أقلية منظمة تجذب الجماهير إلى النضال.
خلاصة روزا الأساسية أن الإضراب العام ليس ” ُمسَبـباً” من طرف طليعة جذرية، كما لا ُتحضره منظمة قوية من ألفه إلى يائه. انه يندلع تلقائيا، بتأثير تناقضات اجتماعية. كتبت روزا ذلك في شكل مفارقة جميلة: ” الإضراب العام لا يقود إلى الثورة، الثورة هي التي تقود إلى الإضراب العام”. وتقع مهمة الفعل في هذا التحول على الحزب الثوري. وقد أكد دورُ الإضراب العام في الثورة الروسية حدسَ روزا لوكسمبورغ في تحليلها للإضراب العام ببلجيكا قبل الحصول على حق التصويت.
تندرج كراسة روزا لوكسمبورغ في حملتها لإقناع الحزب الاشتراكي الألماني بالقيام بانعطاف جذري. وتواصل النقاش حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ليس بألمانيا وحدها بل بالأممية الثانية برمتها. وصاحب الصراع ضد النزعة العسكرية المتعاظمة والمغامرات الاستعمارية للدول الأوربية. اقترح اليسار الأوربي( روزا، لينين، تروتسكي، بانكوك، مارتوف… )، بمؤتمر شتوتغارت في 1907، الإضراب العام الدولي ضد الاستعدادات للحرب.
تسارعت إعادة تشكل الحركة العمالية. وابرز النقاش الألماني الرفض المنهجي لدى البيروقراطية النقابية والفريق البرلماني لكل مواجهة مع جهاز الدولة ” البروسي” ( اختفى الشعار الديمقراطي “الجمهوري”). و مالت الاشتراكية الديمقراطية العالمية يمينا بسرعة كبيرة. وظل الإرهاب الثوري ( الفوضوية) ونظرية “الأقليات الفاعلة” هامشيين. وغرقت الفوضوية النقابية، ذات الحضور القوي في الطبقة العاملة الصناعية الفتية، على الصعيدين التنظيمي والايدولوجيا على السواء. وتطورت الماركسية الثورية كتيار على حدة، بما هي الأكثر تبلورا على صعيد التحليل والبرنامج.
الحرب والأممية
كان اليسار الثوري، دون غيره، مهيأً للحرب العالمية و لإمكان حدوث ثورة. كان لديه، دون سواه، تحليل لكلا الأمرين. كان كاوتسكي “بابا ” الأممية يؤكد حتى آخر لحظة على أن الحرب باتت مستحيلة: في عصر “ما فوق الامبريالية” كان للتروستات الكبيرة كامل المصلحة في استغلال العالم بهدوء وسلام!
كانت الحرب كارثة إنسانية مهولة، وتراجعا للحضارة الغربية نحو الهمجية، وفق ما سبق ان حللت روزا قبل 20 سنة. تمثل كراستها “أزمة الاشتراكية الديمقراطية” إحدى التحاليل الأساسية للامبريالية الحديثة وعواقبها. كان هذا النص يبشر بتجدد أفضل ما في الحركة العمالية الألمانية. انه نص برنامجي رائع أدى إلى نقاشات عديدة ( خلاصاته بوجه خاص)، وأتاح إمكان الوحدة مع باقي اليسار في مؤتمرات زيمرفالد (1915) وكيينتال (1916). كانت مقاربة روزا لوكسمبورغ متجهة كليا نحو مبدأ الأممية: ” النقطة 3 : مركز الثقل في تنظيم البروليتاريا كطبقة هو المنظمة الأممية.” النقطة 4 : “ان لضرورة تطبيق قرارات الأممية أسبقية على كل متطلبات التنظيم.”
الديمقراطية الجذرية
بكثير من القوة وعلى نحو يفوق غيرها، أبرزت روزا دور الديمقراطية الذي لا غنى عنه في عملية القرار السياسي. تضع الديمقراطية في صلة وثيقة بنشاط الجماهير العريضة، بما هي ضرورة لأجل التوعية وتحرر المستغلين والمضطهدين الذاتي. ويخترق هذا الانشغال كامل مؤلفاتها. وستتجسد المسألة مع الثورتين الروسية والألمانية.
كتبت بوجه خاص في كاتب ” الثورة بروسيا” (1918) :” تمارس ديكتاتورية الطبقة العاملة في أوسع أشكالها الجماهيرية على أساس المشاركة الفعالة غير المحدودة لكل جماهير الشعب، أي الديمقراطية بلا حدود” [ص 304 من المختارات بالعربية (*)]، و”الديمقراطية الاشتراكية تبدأ في الوقت ذاته الذي يحطم فيه الحكم الطبقي ويبدأ فيه بناء الاشتراكية. إنها ديكتاتورية البروليتاريا ذاتها” [ مختارات ص 305 ] .
انطلاقا من هذه الاعتبارات، انتقدت روزا بشدة حل الجمعية التأسيسية ( من قبل حكومة تحالف البلاشفة و الاشتراكيين الثوريين اليساريين) في يناير 1918 . كانت تلك الجمعية أنتخبت قبل الانتصار الثوري. لكن لم تكن روزا ضد ذلك الحل لاعتبارات مبدئية. تقول:” يجب الآن، وقد أصبحت الظروف أفضل، انتخاب جمعية جديدة”. كانت على حق تماما. يتعلق الأمر بمسألة تكتيكية، ومن ثمة قابلة للنقاش. يبدو هذا بجلاء عندما وجدت روزا ذاتها في وضع شبيه. ففي ألمانيا، نوفمبر 1918، استعملت البرجوازية جمعية تأسيسية ضد المؤتمر المنتخب ديمقراطيا من طرف مجالس العمال والجنود: “حل كافة البرلمانات” يقول برنامج سبارتاكوس. جدير بالملاحظة أن روزا تتخلى عن نزعتها الديمقراطية في الحالات التي قد تكبح الديمقراطيةُ الهدفَ الاشتراكي أو تعرقله.
حاربت روزا لوكسمبورغ بشراسة حق الأمم المضطهدة في تقرير مصيرها، باسم ثلاث حجج. أولها: الأمر تنازل للنزعة القومية. ثانيا: الأمر مستحيل على كل حال في ظل الرأسمالية. ثالثا: لا يمكن لغير الطبقة العاملة بأمة مضطهدة ان تطالب بحق تقرير المصير القومي! تنتمي روزا لتيار أوسع في الماركسية ( راجع بوخارين وبياتاكوف) كان يبخس على نحو خطير قدر هذه المسألة (أنظر حركات التحرر الوطني بالمستعمرات). كانت تخشى في حالة روسيا ان تكون الممارسة الملموسة لحق تقرير المصير أداة لتعزيز اليمين المعادي للاشتراكية.
وسارت على استدلال مماثل فيما يخص الفلاحين: لم توافق روزا على مصادرة الملكيات الكبيرة ومنح الأرض للفلاحين. كانت حجتها أن ذلك سيشكل شريحة برجوازية صغيرة ستقف ضد التدابير الاشتراكية في الزراعة. أي بعبارة أخرى ترجيح الاختيار الاشتراكي على الاختيار الديمقراطي الحر لغالبية السكان الساحقة.
أخيرا تجدر ملاحظة الغياب الكلي عند روزا لإدراك اضطهاد النساء وتنظيمهن الخاص( الذي قادته صديقتها كلارا زيتكين). إنها تتغاضى هنا أيضا عن الصلة بين الديمقراطية و التحرر الذاتي والتنظيم الذاتي.
الحزب الثوري
ان التماسك والملاءمة الملحوظين في أعمال روزا لا ينعكسان في تصورها للحزب. لم تعارض بناء الحزب، لكنها تمسكت باقتناع أساسي: الحزب نتاج صراع الطبقات والطبقة العاملة ذاتها، وبالتالي قد يولد، في بعض الظروف، من نشاط البروليتاريا. وهذا النشاط لا غنى عنه، في تطوراته المستقلة، لقيادة الحزب في الوجهة الصحيحة.
” في الواقع ليست الاشتراكية الديمقراطية مرتبطة بتنظيم البروليتاريا، إنها حركة البروليتاريا ذاتها.” النتيجة :” لا يمكن لمركزية الاشتراكية الديمقراطية إلا أن تكون الإرادة الممركزة للإفراد والجماعات التي تمثل القطاعات الأكثر تقدما ووعيا طبقيا والتزاما من الطبقة العاملة. إنها إذا صح التعبير “المركزية الذاتية” للقطاعات المتقدمة من البروليتاريا” [ص 95. مختارات بالعربية ] هذا المقطع كتب في 1904. وستقودها تجربتها مع انحطاط الاشتراكية الديمقراطية الألمانية إلى تعزيز هذا الرأي وتوسيعه حتى الحديث عن ” الجماهير غير المنظمة التي تغذي الحزب بنضالها العفوي”. ترتب عن ذلك أن الدور المستقل ( نسبيا) للحزب فيما يخص المهام والشعارات، وتنظيم نشاطات المناضلين بالميدان، وانتقاء الأطر، من وجهة النظر الداخلية،… كل ذلك ظل بعيدا عن انشغالاتها. وكان لذلك عواقب عملية.
غالبا ما كان سجالها (مثل سجال تروتسكي) ضد لينين،في الحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، متألقا لكنه مجانب للمسألة. وفي الحزب الاشتراكي الألماني، لم يهيئها موقعها الخارجي خلال سجالها المديد مع القيادة اليمينية( ثم ضد “الوسط” مجسدا في كاوتسكي)، وانتباهها لدور البيروقراطية العمالية ، للنضال من اجل سياسة بديلة، وللتنظيم المنهجي لتيار منظم، وللعمل مع الكوادر المتوسطة، الخ. وقد قام بذلك آخرون غير ثوريين: غادروا الحزب الاشتراكي الألماني لتشكيل الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل ، كحزب جماهيري اشتراكي يساري. كانت العواقب وبالا على روزا وعلى الطبقة العاملة الألمانية والاشتراكية العالمية. لم تكن روزا وحيدة في عدم إدراك الأمر. وحده لينين كان قادرا على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــ
[*]: الإحالات إلى أقوال روزا كلها في كتاب “روزا لوكسمبورغ – كتابات مختارة ” الصادر في ايار 1971 عن دار الطليعة –بيروت. وقد نشرت جريدة المناضل-ة معظمها عل انترنت. [المعرب]
1- ظل التحليل الملموس لتطور الرأسمالية إحدى الانشغالات المركزية طيلة حياتها. انظر دروسها :” مدخل إلى الاقتصاد السياسي” (1907-1912) وكتابها ” تراكم الرأسمال” (1913). وشاركت كمناضلة منذ الوهلة الأولى (1894) في تحرير جريدة حزبها «Sprawa Robotnicza»..