سمات خاصة لليسار في بلدان -العالم الثالث-


داود تلحمي
2013 / 1 / 5 - 20:14     

من الضروري التمييز، في سياق التعاطي مع مصطلحي اليسار واليمين، بين المجتمعات الرأسمالية المتطورة وتلك القائمة في "العالم الثالث" أو "الجنوب"، الأقل تطوراً إقتصادياً. فمعظم بلدان هذا "العالم الثالث" خضعت في الماضي لسيطرة الإستعمار المباشر، ثم تعرضت بعد ذلك، وما زالت تتعرض، لمحاولات القوى أو المؤسسات الراسمالية الأكثر تطوراً فرض سيطرة من نوع مختلف عليها، غالباً من مدخل الإقتصاد، وهي صيغة سيطرة اصطلح على تسميتها منذ أواسط القرن المنصرم بالإستعمار الجديد.
لنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر طبعاً، من تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين، حين كانت غالبية كبيرة من بلدان هذا "العالم الثالث" قد نالت استقلالها السياسي، تجربة تشيلي في مطلع السبعينيات الماضية. ففي العام 1970، تقدم سلفادور اليندي (تُلفظ أييندِه بالإسبانية)، كمرشح للرئاسة في تشيلي باسم الحزب الإشتراكي، الذي كان يُعتبر آنذاك على يسار الأحزاب الإشتراكية، أو الإجتماعية الديمقراطية، المعروفة في أوروبا الغربية، وأقرب لما أسميناه في كتابات سابقة باليسار الجذري.
ومعروف ان أليندي شكّل، في حينه، تحالفاً حاكماً مع القوى اليسارية الأخرى في تشيلي، بما في ذلك الحزب الشيوعي وعدد آخر من أحزاب اليسار الجذري، مما وفّر له فرصة للنجاح في السباق الإنتخابي، ليصبح عام 1970 رئيساً لتشيلي، بعد انتخابات مشهود لها بالنزاهة. جرى ذلك في وقت كانت فيه الولايات المتحدة لا زالت تخوض حربها الدموية في فييتنام وتسعى، من جهة أخرى، لاستغلال التناقضات بين القوى الكبيرة الداعمة لحركة التحرر في هذا البلد، وتحديداً بين الإتحاد السوفييتي والصين الشعبية، بهدف إضعاف مجمل قوى الإشتراكية واليسار في العالم، ومنع النموذج الفييتنامي من التمدد الى بلدان ومناطق أخرى من العالم، وفق صيغة ما كان يُسمى بـ"أحجار الدومينو". كما كانت "الحرب الباردة" التي انطلقت في أواخر الأربعينيات الماضية ما تزال مستعرة، بالرغم من بعض اتفاقات ومجهودات الإنفراج والحد من التسلح بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي.
في هذا المناخ، اعتبر الرئيس الأميركي آنذاك، ريتشارد نيكسون، ومستشاره لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر، ذو النفوذ الواسع في الإدارة، إنتصار أليندي وإئتلاف اليسار في تشيلي، هذا البلد الواقع في "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة، كما كانت تُوصف منطقة أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، ثغرةً في جدار المواجهة العالمية الجارية مع الإتحاد السوفييتي وقوى الإشتراكية واليسار. وسارعت إدارة نيكسون، منذ بداية عهد سلفادور أليندي وحكمه اليساري، للعمل على تقويض هذه التجربة الجديدة في تشيلي، البلد الذي تميّز حتى ذلك التاريخ بنأيه عن الوقوع في شرك الحكومات العسكرية والديكتاتورية التي سادت لفترات طويلة معظم البلدان الأخرى في القارة اللاتينية.
وما زاد الأمور سوءً، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، أن النظام اليساري الجديد في تشيلي قام، منذ أشهره الأولى، بسلسلة من الإصلاحات الداخلية والإقتصادية الهامة، أكسبته ولاء قطاعات شعبية واسعة. فهو قام بتأميم القطاعات المنجمية، وخاصة قطاع النحاس، الذي كانت تشيلي تُعتبر البلد الأغنى فيه في العالم في تلك الحقبة. كما قام بتوزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء. وهي إجراءات جعلت الشركات الأميركية العاملة في تشيلي تشعر بأن مصالحها وامتيازاتها الكثيرة مهددة بشكل جدي بسياسة الحكومة اليسارية هناك. فاندفعت الإدارة الأميركية في توظيف جهد مؤسساتها المختلفة، بما في ذلك وخاصة جهاز مخابراتها المركزية، بالتنسيق والتعاون مع الشرائح اليمينية المحلية المتضررة من سياسات اليندي وإئتلافه الحاكم، للتحريض والتخريب على النظام اليساري ومحاولة التأثير على استقرار ونمو وضعه الإقتصادي، الى أن تمكنت من إشاعة جو من عدم الإستقرار في البلد، مهّد للإطاحة به بالقوة في أيلول/سبتمبر 1973 عبر تنظيم إنقلاب عسكري قام به قطاع من ضباط الجيش التشيلي بزعامة الجنرال أوغوستو بينوتشيت. وكل ذلك جرى بدعم مباشر من المخابرات المركزية الأميركية، وهو ما بات الآن معروفاً وموثقاً، من المصادر الأميركية نفسها. وتسبّب الإنقلاب في مقتل أليندي وكبار معاونيه والآلاف من القادة والنشطاء اليساريين، كما والتنكيل بقطاع واسع من الشعب طوال فترة حكم بينوتشيت ونظامه الديكتاتوري اليميني، الذي ظل قائماً حتى العام 1990، أي قرابة العقدين من الزمن.
وفيما كانت بعض قلاع الديكتاتورية العسكرية والأوتوقراطية تنهار واحدة بعد الأخرى في القارة الأميركية اللاتينية منذ مطلع الثمانينيات الماضية، جرى الإنتقال المخطط والمقنن من قبل النظام الديكتاتوري نفسه في تشيلي الى نظام تعددي وقسط من الإنفتاح الديمقراطي منذ مطلع التسعينيات. وفي هذا المناخ، تشكّل إئتلاف واسع بين قوى الوسط واليسار المعارضة لتراث بينوتشيت، تمكّن من إنجاح مرشحيه للرئاسة في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وكان الحزب الإشتراكي، حزب الرئيس المغدور سلفادور أليندي، قد عاد في تلك المرحلة الى النشاط العلني وتمكن من إنجاح رئيسين له خلال العقدين الأولين من الإنفتاح التعددي، هما ريكاردو لاغوس وميتشيل باتشيليت. هذا في حين كان العديد من دول أميركا اللاتينية يشهد، منذ أواخر القرن العشرين، نجاحات واسعة لتيارات اليسار المختلفة، بحيث وصل الى سدة الحكم فيها يساريون، كان بعضهم يساريون جذريون أخذوا يعملون على تحويل النظام الإقتصادي- الإجتماعي في البلد المعني باتجاه ديمقراطي شعبي يفتح الآفاق لإنتقال لاحق نحو الإشتراكية، وهو ما جرى بشكل أساسي في فنزويلا وبوليفيا وغيرهما. في حين اختارت تيارات يسارية أخرى في القارة اللاتينية سياسة أكثر حذرا اتخذت طابعا إصلاحياً، كما حصل في البرازيل، أكبر بلدان القارة، مع وصول لويس إيناسيو لولا داسيلفا الى سدة الرئاسة في العام 2002 وتجديد ولايته حتى العام 2010. وهي سياسة تواصلت بعد انتهاء ولايته الثانية بعد نجاح مرشحة حزبه، حزب الشغيلة، في الإنتخابات الرئاسية في العام 2010، وهي الرئيسة الحالية ديلما روسيف.

بين "الديمقراطية الشكلية" وديمقراطية الإنصاف الإجتماعي والتحرر من التبعية

وبالطبع، هناك تجارب لقوى يسارية في بلدان ومناطق أخرى من العالم، تتخذ في كل بلد ومنطقة خصائص وسمات مختلفة بين تجربة وأخرى. لكن المشترَك المفترض بينها كلها، في بلدان تتعرض لهجمات الإستعمار الجديد، المستترة أحياناً تحت يافطات متنوعة مثل "الإصلاح الهيكلي" وملاءمة الإقتصاد للواقع العالمي الجديد أو حتى تحت يافطات الدعوات (المنافقة والخادعة) الى الديمقراطية وحقوق الإنسان، هذا المشترك المفترض بين قوى اليسار في هذه البلدان هو مناهضة الإمبريالية والنفوذ الإستعماري الجديد. وهو ما يشمل، بالطبع، مناهضة الدعوات والسياسات الليبرالية الجديدة التي انتشرت في العقود الثلاثة الأخيرة، خاصة عبر توصيات وتوجيهات وابتزازات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تدعو الى تطبيق هذه السياسات، غالباً على حساب مصالح الغالبية الفقيرة أو محدودة الدخل من سكان البلد المعني، وهم عادةً غالبية السكان في هذه البلدان. وهي سياسات وتوصيات قادت في بعض الحالات الى إنتفاضات شعبية واسعة، كتلك التي شهدتها مصر في العصر الساداتي يومي 17 و18 يناير/كانون الثاني 1977 وأرغمت في حينه النظام على التراجع (التكتيكي) انتظاراً لظروف أكثر ملاءمة لتمرير هذه الإجراءات. لكن التطبيق اللاحق لهذه السياسات، التي تخدم مصالح القوى الرأسمالية الكبرى في العالم وشرائح المستفيدين المحليين محدودة العدد في مصر، وغيرها من البلدان العربية، كان، بالتأكيد، عاملاً أساسياً في توفير شروط اندلاع الثورات العربية منذ أواخر العام 2010، بعد سلسلة طويلة ومتراكمة من الحراكات الإعتراضية الواسعة على هذه السياسات، خلال العقدين الأخيرين خاصةً.
وإذا أخذنا الوضع المصري ما بعد الثورة كنموذج، يبدو واضحاً أن الإصطفاف أخذ يتبلور في صفوف القوى والتيارات المختلفة التي ساهمت في عملية الإطاحة بالنظام السابق، بين أولئك الذين يحرصون بأن تستفيد الغالبية الساحقة من الشعب، وهي الغالبية الفقيرة والمغبونة من الشغيلة في المدن والأرياف ومن محدودي الدخل أو العاطلين عن العمل، من هذا التحول التاريخي في مسار البلد، وبين أولئك الذين لا تختلف خياراتهم الإقتصادية كثيراً عن خيارات النظام السابق ويريدون أن تتوقف حدود التغيير عند استبدال الواجهات السياسية.
ونحن هنا أمام تصنيف واضح بين التيارات التي يمكن وصفها باليسارية، بمعزل عن خلفياتها الأيديولوجية أو مرجعياتها الفكرية، التي تنتمي الى المجموعة الأولى، والتيارات اليمينية التي تسعى الى الإبقاء، بشكل أو بآخر، على النظام الإقتصادي الظالم والتابع الذي كان سائداً، وإن بيافطات وواجهات سياسية مختلفة. وهذا الخيار بين الطريقين، طريق اليسار ونصرة مصالح وحقوق الغالبية الساحقة من الشعب، من جهة، ومن الجهة الأخرى، طريق اليمين واستبدال النخبة الإقتصادية المسيطرة سابقاً بنخبة أخرى تشكل استمرارا وامتدادا لها، وأحياناً حتى تندمج النخبتان القديمة والجديدة معاً، هو، بالنسبة لمصر، كما بالنسبة لتونس وبلدان التحولات الأخرى الجارية في المنطقة، خيار مصيري وهام.
وقد أثبتت تجارب أميركا اللاتينية خلال العقود الثلاثة الماضية ان الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية والديكتاتورية ليست بحد ذاتها خطوة كافية لتحقيق مصالح الغالبية المغبونة من الشعوب المعنية بتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لها، بل هناك حاجة لتعميق هذا التحول الديمقراطي "الشكلي"، أو السياسوي، إذا صح التعبير، ليصبح تحولاً ديمقراطياً بالمعنى الأعمق والأرحب للكلمة يؤسس لآليات تعمل من أجل أن توفر للمواطنين هذه الحياة الكريمة التي بدونها لا تعنيهم كثيراً "ديمقراطية النخبة"، على طريقة الديمقراطية الآثينية الشهيرة، ديمقراطية السادة والعبيد. ولذلك تحدث انتكاسات في بعض الحالات عندما يقوم زعماء ديماغوجيون برفع شعارات شعبوية مستغلين إحباط القطاعات الشعبية الواسعة من التجربة "الديمقراطية الشكلية" ليؤسسوا لأنظمة مستبدة من نوع جديد، توفر للمواطنين بعض ما لم توفره لهم تلك الديمقراطية المفرغة من مضمونها، والتي تصبح مصدر تنفير لهم.
ويمكن القول، باختصار، ان الديمقراطية الشكلية، التي تعتمد، بين ما تعتمد، نظام الإنتخابات الدورية، في حين لا تعالج المشاكل الحياتية الأساسية للمواطنين، لا تشكل مدخلاً للإستقرار في البلدان المتخلصة من الأنظمة الإستبدادية الفاسدة المطاح بها. فاستقرار الوضع الجديد يتطلب إقران الإجراءات السياسية دائماً بإجراءات إقتصادية واجتماعية توفر للتحول الديمقراطي قاعدة إجتماعية واسعة تضمن له الإستمرارية والنجاح. وهو ما يفترض، بالضرورة، تخلصاً من التبعية والإرتهان للقوى الرأسمالية الخارجية، بدولها ومؤسساتها وشركاتها العابرة للقارات، وكلها لا مصلحة لها في التطور الديمقراطي الحقيقي في بلدان "العالم الثالث"، في حين تستطيع أن تتعايش، لا بل أن تستغل وتستفيد من آليات عمل "الديمقراطية الشكلية" لمواصلة تنمية مكاسبها على حساب شعوب البلدان المعنية. وإنجاز هذه الديمقراطية المتقدمة، الديمقراطية التي تخدم الغالبية الساحقة من الشعب، وتنقذه من براثن التبعية والإرتهان الخارجي، هو، في النهاية، ما يشكّل خيار اليسار في بلدان "العالم الثالث".
ونحن هنا لا نتحدث عن تحول إشتراكي أو تحول جذري يتجاوز النظام الرأسمالي في هذه البلدان. فإذا كان صحيحاً ان الإجراءات الديمقراطية العميقة يمكن أن تشكل مدخلاً لتحوّل لاحق نحو الخيار الإشتراكي، وهو تحوّل، كما سبق وذكرنا في مقالات سابقة، يتطلب زمناً غير قصير، كما يفترض وجود جمهور واسع وغالبية كبيرة من الشعب مؤيدة وداعمة لهذا الخيار، فإن الخطوات المتبعة في المراحل الإنتقالية مهمة جداً في هذا السياق لكونها يمكن أن تساهم بقوة في تأمين هذه القاعدة الشعبية الواسعة للإنتقال اللاحق نحو الإشتراكية، أو في حال سوء التصرف، يمكن أن توفر شروط الإنتكاس في عملية التحول، كما حصل في الإتحاد السوفييتي والبلدان المجاورة له. والخيار الأول، خيار كسب الغالبية الشعبية لطريق التحول الإشتراكي هو، بالضبط، ما تسعى إليه في السنوات الأخيرة تجارب أميركا اللاتينية الجذرية التي تحدثنا عنها.

(هذه المادة هي صياغة مطورة لما جاء حول الموضوع في كتاب "اليسار والخيار الإشتراكي" الذي صدر للكاتب قبل سنوات قليلة).