الضفدع


نضال الصالح
2013 / 1 / 1 - 20:45     

قبضت بكلتي يديها على فنجان القهوة وحاولت أن ترفعه إلى شفتيها ولكن القهوة إندلقت من الفنجان وإنسكبت على يديها وسالت على الطاولة ومنها على أرض المقهى. تناولت منديلا من الورق ومسحت يديها ثم مسحت الطاولة ونظرت إلى يديها وهما ترتجفان وقالت: أنظر إلي ، إنني في حالة مزرية وأنظر إلى يدي كيف ترتجفان حتى أنني لا أستطيع أن أمسك فنجان القهوة بدون أن أدلق القهوة على نفسي." أمسكت بيديها وطلبت منها أن تهدأ فالأمر ليس بهذه الخطورة ولكل مشكلة حل.
نظرت إلي مطولا ثم قالت : ألناس العاديون يشربون في الصباح القهوة أو الشاي أو الحليب أما والدي فحالما يفتح عينيه يمسك قارورة الكحول ويدلق نصفها في حلقه ، ثم يلبس ويذهب إلى الخمارة ويظل هناك إلى أن تغلق الخمارة في المساء. هو أول من يدخلها وهو آخر من يغادرها. كم من مرة إتصلوا بي ليخبروني أنه ملقى على الرصيف خارج الخمارة، غارق في قيئه وهو في شبه غيبوبة. وفي كل مرة أحمله إلى السيارة وآخذه للبيت وأقوم بغسله وتغيير ملابسه وأضعه في السرير ليقوم في الصباح ويعيد الكرة ويسرع إلى الخمارة من جديد .
قلت لها: ألم تحاولوا وضعه في بيت المدمنين؟ ضحكت وقالت : لقد وضعناه ولقد طردوه من هناك مرتين، في المرة الأخيرة أغرى الممرضة أن تشتري له الكحول وزاد الطين بلة أن إدارة المستشفى ضبطته وهو في حالة سكر مع الممرضة فطردتهما كليهما ووضعته على اللائحة السوداء.
ضحكت، حين تصورته يسكر مع الممرضة التي من المفروض أن تقوم بمراقبته ومنع وصول الكحول إليه. نظرت إلي وقالت : أنت تضحك، أما أنا فأبكي دما . إعتذرت لها وسألتها عن رأي زوجها، فأجابت أنه محتار مثلها ولا يدري كيف يساعدها.
خيم الصمت فوق رؤوسنا برهة من الزمن، طلبت لها فنجانا آخرا من القهوة وانتظرت منها أن تعود لتكملة الحديث . قالت بعد فترة من الصمت : أتدري ماذا حصل قبل شهرين. قلت لها : سمعت الخبر من زوجك ولكنه لم يخبرني بالتفاصيل . نظرت إلي وهزت رأسها ثم بدأت بالحديث:" قبل شهرين إتصل بي صاحب الخمارة ليخبرني أن والدي قد أغمي عليه ولقد طلبوا له الإسعاف وهو الآن في المستشفى. ركبت سيارتي وأسرعت إلى المستشفى ولقد قابلت مدير القسم وهو كما تعرف صديق مشترك لنا. أخبرني أن والدي في غيبوبة تامة وأن كل أعضاءه ميته أو شبه ميته وأنهم يتوقعوا أن يموت خلال الساعات المقبلة. لفد أكد لي أن والدي سيموت خلال ساعات وأنه لن يعش حتى الصباح وأنه علي أن أقوم بما يلزم من أجل عملية الدفن.
دخلت الغرفة التي كان والدي مستلقيا فيها وعندما نظرت إليه وجدته جثة هامدة بلا حراك أو نفس. جمعت ملابسه التي كان يفوح منها الكحول ووضعتها في كيس من البلاستيك، ووجدت على الطاولة طقم أسنانه فأخذته ووضعته في الكيس وألقيت بالكيس في سلة القمامة وخرجت.

تابعت حديثها قائلة : " ركبت سيارتي وذهبت إلى البيت . شعرت بتأنيب الضمير لعدم حزني على وفاة والدي وحتى لشعوري ببعض الراحة كوني سأتخلص من مشاكله. نمت تلك الليلة والأحلام نراودني وتقلق منامي فقمت في الصبح متعبة من قلة النوم . حضرت ما يلزم من الملابس من أجل الدفن ومنها حسب عاداتنا وتقاليدنا بدلة سوداء وقميص أبيض ورطة عنق سوداء وحذاء أسود تلبس للميت ويدفن فيها. ركبت سيارتي وتوجهت نحو المستشفى."
أحضرت الخادمة لها فنجانا جديدا من القهوة ، وضعته أمامها على الطاولة وتركتنا وغادرت. أخذت الفنجان ورفعته إلى شفتيها ويدها تهتز حتى كادت أن تدلق القهوة من جديد. إستطاعت أخذ رشفة صغيرة منه وأعادته إلى الطاولة بسرعة. إنتظرت بفارغ الصبر أن تكمل حديثها ، قالت : دخلت المستشفى فكان أن إلتقيت في معبر القسم بصديقنا المدير. نظرت إليه مستفسرة ولكنه تقدم مني وأخذ البدلة السوداء مني ووضعها على ذراعه ثم أمسك بيدي وقادني وأنا أسير معه بصمت، حتى جئنا إلى الغرفة التي يرقد فيها والدي . فتح الباب وإذا بي أتسمر مصعوقة على عتبة الغرفة. كان والدي جالسا على حافة السرير، شعره منفوش، عيونه جاحظة ، جلد وجنتيه ملتصق بفكية وشفتاه لعدم وجود الأسنان داخلة في فمه، كان مثل الضفدع يخرج أصواتا كأصوات الضفادع لم أفهم منها شيئا. سألت الطبيب متعجبة : ما الذي حدث؟ قال : لا ندري، إنه يخالف كل قواعد الطب المعروفة، لعله ذهب إلى السماء فأعاده أهلها لريحة الخمر التي تفوح من فمه ومن جسده .
نظرت إلي وابتسمت ثم تابعت قائلة :كان عليك أن تراني وأنا أبحث في سلة القمامة عن طقم أسنانه الذي ألقيته فيها بالأمس حتى وجدته فغسلته ووضعته في فمه وكان أول كلمة نطقها أنه يريد كأسا من الفودكا. عندها فهمت ما كان يقوله بلغة الضفادع، لقد كان يطلب فودكا، فلم يسأل عن الطعام أو عن أي شيء آخر وإنما سأل عن الكحول."
لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك ولقد ضحكت هي معي. لقد حدثني زوجها عن الحادثة ولكنه لم يحدثني عن التفاصيل ولا عن طقم الأسنان الذي ألقته في القمامة لتأكدها من موت والدها ومن ثم البحث عنه في سلة القمامة ووضعه في فمه من جديد. لقد ضحكت حتى كدت أن أختنق ومن ثم بدأت بالسعال حتى سالت الدموع من عيوني. كان منظر والدها بدون أسنان كالضفدع منطبعا في مخيلتي لا يريد أن يغادرها. شربت كأسا من الماء وأخذت نفسا عميقا حتى هدأت ثم سألتها ماذا تنوي أن تفعل. .
نظرت إلي وقالت: جئت أطلب منك خدمة. قلت لها أطلبي إن كان بيدي تلبيتها فلك ذلك. قالت : قررنا زوجي وأنا أن نسافر إلى الغردقة في مصر، ولقد حجزنا وسنسافر بعد أيام . كل ما أريده منك أنه إذا حدث شيء لوالدي أن لا تسمح لأحد بأن يخبرنا ، وإذا مات فليضعوه في الثلاجة لحين عودتنا. أنا في حاجة ماسة لهذه الإجازة ولا أريد يفسدها لنا ، أرجوك . وعدتها وافترقنا وبعد يومين سافرا إلى مصر وانقطعت أخبارهما عني لعدة أيام.
بعد مرور أسبوع أو أكثر على سفر صديقي وزوجته، إتصل بي صديقنا مدير القسم، ولم أستغرب من مهاتفته لي فلقد إعتدنا على أن نتهاتف بين الحين والآخر وأن نتحدث في شتى الأمور . لكنه فاجأني بقوله : لقد أحضروه اليوم من جديد. سألته مستفسرا عن من يتحدث، فأوضح قائلا : لقد أحضروا الضفدع بعد منتصف الليل وهو في غيبوبة تامة ولا يمكن أن ينج منها في هذه المرة . سألته ما سبب تأكده هذه المرة ولقد سبق وأن أكدوا موته في المرة السابقة ولم يمت . قال : يا صديقي، إنه في غيبوبة تامة وكل أعضاءه الحيوية واقفة ولا يمكن أن ينج منها هذه المرة، ولقد قام بفحصه مجموعة من الأطباء وكان قرار الجميع وبالإجماع أنه لن يعيش حتى صباح الغد . قلت له : إن كان ما تقوله صحيحا فماذا ستفعلون بجثته فأنت تعرف أن إبنته وزوجها في مصر ولن يعودا قبل أسبوع . أجاب: أعرف لقد أخبرتني إبنته قبل سفرها واتفقنا في حالة وفاته أن نضعه في الثلاجة لحين عودتها.
في الصاح الباكر وصلتني رسالة خطية على هاتفي من صديقي المدير يطلب مني الحضور إلى المستشفى . حاولت مهاتفته ولكنني لم أستطع أن أتصل به فركبت سيارتي وتوجهت نحو المستشفى. طرقت باب غرفة المدير ودخلت. كان صديقي جالسا ومعه بعض أطباء القسم . قام صديقي ومسك بيدي وقادني خارج الغرفة . حاولت أن أستفسر منه عن الأمر ولكنه بقي صامتا حتى وصلنا إلى قسم الطوارئ. فتح صديقي باب أحد الغرف وطلب مني الدخول فدخلت، ولكنني بقيت متسمرا على عتبة الغرفة . كان الضفدع جالسا على حافة السرير، بدون أسنان ينطق بعض الكلمات الغير مفهومة . قال صديقي : إنه يطلب فودكا.
خرجنا من الغرفة وكان يقف أمامها بعض أطباء القسم، قلت : أخبروني بالله عليكم ما الذي حدث، لقد أخبرتني أمس ... قاطعني صديقي قائلا : أنا أعرف ما أخبرتك إياه بالأمس . إننا جميعا عاجزون عن تفسير ما حدث، إنه يعارض كل قواعد الطب التي درسناها ، أنا لا أومن بالمعجزات ولكنها معجزة، لا يوجد عندي تفسير آخر .
تركت المستشفى وغادرت إلى البيت . عندما وصلت قريتنا سمعت صوت إذاعة القرية يعلن عن وفاة صديق لإبني لا يتجاوز الثلاثين من عمره ، ترك خلفه زوجة وطفلين ، أحدهما ثلاث سنين والآخر خمسة. فكرت في الضفدع الراقض في المستشفى والذي تصر السماء على رفض قبوله وتأخذ بدلا منه شابا في مقتل العمر ترك خلفه عائلة في أمس الحاجة له . تساءلت عن العبرة في ذلك، فلم أجد جوابا.

د. نضال الصالح