إلى .. كارمن


عماد البابلي
2012 / 12 / 26 - 13:45     

ماهي الاهانة ان لم تكن نوعا من التطهير بل انها اشد انواع الادراك ايلاما وسحقا ..
رواية الإنسان الصرصار / دستوفسكي

كيف أشرح لكِ يا كارمن مرارة هذا الزمن الخائن ، الزمن الملتف حول أعناقنا كشجرة لبلاب ملعونة ، منذ رحلت عن الدنيا وشعور بالعتمة وأنا ليس لي مكان في العالم ، كارمن ؟ في وسط هذه العتمة ميل حاد للتطهر من روائحهم المرتجة في تلافيف الدماغ ، أنبياء وباعة متجولون وشعراء يزنون مع طمث اللغة وقادة وسفلة مصابون بالزهري استطالت أضافرهم في عصر الخلل العربي ، هل تدركين مرارة الوحدة ضمن قافلة الكلاب الذين عبدوا ربهم على شكل كلب كبير ، ليتك أخذتني معك لذاك العالم الهلامي العائم والهائم خارج الزمن المكور ، خارج عن المساحات المتسخة من مخلفات الموتى والخطايا ، يقتلني التمثيل ويقتلني تكرار المشهد ، نفس الأحداث ، نفس الحزن ، ونفس الممثلون ، ماذا أفعل سوى البسمة لكل وجه يراني ، أخبرتني ذات مساء عن أهم قواعد اللعبة ( تنحتنى بالسكين فأنزف ابتسامات وضحكات قوية عالية ) ، معك حق في هذه النقطة ، مستوى خارق أن تضحك والفأس في راسك ، فأس من جاهل لا شيء معه سوى نص لا يموت ، لكن تعلمنا أنا وأنتي كيف يولد نشيد الفرح والتملك ، رغم سرعة القطار التي تبتلع الزوايا والمسافات والبشر ، ما معنى هذا الجسد بغياب الاتصال ، نحن منقطعون عن كل شيء ، منذ حادثة التفاحة المأكولة في ثلاجة الرب ، لم يكن الفأر أو القط ولكن كان الطفل المشاكس ، الطفل من يوم طُرد من البيت الكبير والشوارع تحطم أحلامه ، طرده السيد الأعظم سيد العدم المشلول الرحمة تاجر السلاح والحواري ، الشوارع حبلى بالقتل والخطف والعهر ومافيات السياسة ، كيف يعيش الإنسان يا كارمن بهذا البلد ، كيف يهرب والقفص يكبر ويكبر ، وطن نصف سكانه من المجانين والنصف الأخر ينتظر هذه الوظيفة في دورة رئاسة قادمة ، في مدينة الظن الداخلي الواقعة تحت أقبية اللاشعور كنا نعيش كما تفعل الفراشات ، الفراشات وحدها تجيد التأمر على الرب وعلى قوانينه القاسية في صياغة عالم أثني تافه ، عالم الأقوياء والأذكياء وعالم تحته عالم من الضعفاء والحالمون بالشبابيك السحرية ، الفراشات يا كارمن تدرك بأن كل القصص لها نهاية ، اليوم الأخير لم يكن استراحة بل التفكير بالبداية الجديدة ، حلزون لا ينتهي من القصص المملة ثم يأتي الصمت كنوع من الدهشة ، لهذا الفراشات لا تخاف النار ، تجد سعادتها ونشوتها وهي تراقص الأضواء واللهب ، ما قيمة الأجنحة المحترقة مقابل الاستيقاظ مجددا ، نشوة الولادة وضحكة طفل يمسك يد أمه ليخبرها بأنه عاشقها الوحيد بعد أن غاب الأب في الزحام ، بهذه المعادلة الصغيرة والبسيطة أدركت الفراشات بأن ملكوته القاسي ليس كاملا ، وهناك ثغرة علمتها قوانين الروح التي تشتعل كمنارة للتيه ، وهل هناك أروع من دفء أحضانهم أخر ما نتدثر به قبل الموت ، يطالبونني بنسيانك !! وذاكرتك فوق مستوى الجسد ، مثل ذاكرة هذا الوطن ، كم تشبهين هذا الوطن ، بحزنه وبأغصانه وعصافيره المهاجرة واسفلته ، الوطن الذي سرقه الجبناء والأوغاد وضاعت دمعات أبنائه الحقيقيين في طيات المنفى ، حفنة العهرة تنظر ألينا بغرابة وكأننا خارجون عن الوطن ، فائضون عن حاجة الوطن ، كيف أستجيب لدعواتهم يا كارمن وتعلمين بأن التخلي عن أسمك يعني الكفر بالفيروز ، كيف أكفر بالفيروز ونبضك يشبهني مثل جروح الزئبق والحلم الممتد من الوريد للوريد ، الحياة بعد رحيلك فوضى ومكانك مازال كما هو ، دافئا محتفظا بعطره ، الحياة بعدك أرادوها مشروع ترفيهيا لهم عبر طريق مفخخ بالتعدي على حقوق الآخرين ، جغرافيا مقيتة تلك التي تقيم كولسيوم روما بشكل أبدي ، ساحة صراع لا ينتصر فيه الأقوى كما قال دارون لكن من يملك أرصدة أكثر ، لهذا انتصرت تلك البارات حيث الانحراف الفردي نحو جداول الخمر والأحاسيس المنفية والصدوع الداخلية لكهوف العقل الموبؤة عن مشهد دائم بأن الأب لا يموت كما قال فرويد ، لأنه الرازق والشديد الحساب ، الأم متهمة بالعطب الدائم ، رحلتي يا كارمن ولم تحققي لي أمنية أن تكوني أمي الأبدية ، موتك جعل الشحوب يعلن ملكوته الأخير وبأنه أخر الأنبياء ، ما قيمة الإنسان بدون ضوء داخلي ، ما قيمتنا دون العين الثالثة ، تلك الأسطورة الجميلة التي كان إسلافنا في أعالي الشجر يعيشون بها ومعها في سيل من الرؤى والأحلام ، وبدأت كل المشاكل حين هبطت تلك القرود ، بدأت شهوة الدم والإقصاء من ذاك التاريخ الكاربوني الغائر في القدم ، كارمن الجميلة الطاهرة الصادقة ، هل نحن رجل وامرأة أم امرأتين .. أتركك الآن ولي عودة أخرى مع الفيروز وأجنحة الفراشة .

كتبها تافه نصف بشري لسيدة من نسج خياله