هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة الأولى: مقدمات حول اليسار العالمي ماقبل البرسترويكا وجدار برلين


جبران أديب
2012 / 12 / 19 - 23:53     

توطئة:
هل "ولد" اليسار في تونس أم ليس بعد؟! سؤال غريب بعد مضي قرن ونيف على ظهور اليسار في العالم يافعا قويا فاعلا على مسرح الأحداث يؤطر الجماهير ويشعل الثورات، ولكن لتخمد دونه ورغما عنه؛ كما حصل في الاتحاد السوفياتي والصين والفيتنام وغيرها، أو يؤججها ليركبها الراكبون ويغتالها قناصة النظام العولمي كما في أفريقيا والمنطقة العربية ...
هل اليسار يحبو أم ينمو بعافية وعنفوان في أمريكا اللاتينية ؟!
وهل الأمل اليساري هو هذا الوليد الجديد الذي نشأ مجددا "على حين غرة " في قلب أوروبا الغربية وفي أمريكا، وفي رمز الاقتصاد الرأسمالي "وول ستريت"؟
هذه الحلقة والتي ستليها ستكونان مخصصتين لمناقشة تجارب اليسار في العالم وإشكالياتها الجذرية مع تلمس لعوائق الحاضر والآتي وتحدياتهما ، ثم استشراف للآفاق، وبالتالي فهي ستمهد لتأطير مسيرة اليسار التونسي ماقبل ثورة 17 ديسمبر جانفي– 14 يناير/ وما بعدها . فخطة المقال تتضمن المحاور الآتية التي ستكون ستكون عناوين لكل حلقة من حلقاته على التوالي :
• الحلقة الأولى: مقدمات حول اليسار العالميى ماقبل البرسترويكا وجدار برلين.
• الحلقة الثانية - ملامح اليسار العالمي ما بعد انهيار المعكسر الاشتراكي
• الحلقة الثالثة: النخبة اليسارية التونسية ماقبل الثورة .
• الحلقة الرابعة: ثورة 17 ديسمبر-14يناير/ جانفي وتعقيدات المرحلة.
• الحلقة الخامسة: تفاعلات انتخابات 23 أكتوبر 2011 ومطبات الآتي.
• الحلقة السادسة: في الخطاب اليساري التونسي الحالي.
• الحلقة السابعة- اليسار التونسي وصياغة البرنامج: المعيقات والآفاق.
*********************
الحلقة الأولى: مقدمات حول اليسار العالميى ماقبل البرسترويكا وجدار برلين:
1- التجربة السوفياتية وشبيهاتها:
ما من شك في أن للتجارب اليسارية أياد على الإنسانية خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي خلال القرن العشرين، وله بصمات عميقة الأثر في الدفاع المنهجي عن الحقوق الاجتماعية ومحاولة الانتقال بها نقلة نوعية من أجل المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية، هذا فضلا على أنه قوة صياغة فلسفة نظرية وعملية وهو مسار هادر بالأفكار لإعادة تشكيل الوعي الإنساني في شتى مناحي الحياة؛ غير أن مهمة هذا المقال هي البحث في مناطق الظل ومواطن الخلل البنيوي فيها. وهو بالتالي يروم النقد والتجاوز. وفيما يلي تأمل مكثف حول اليسار العالمي وعلى وجه التحديد الماركسي الذي استطاع منذ بدايات القرن العشرين حتى منتصفه وبعد ذلك بقليل أن ينجز ثورات عظيمة سرعان ما تآكلت لأسباب كثيرة أهمها إعادة إنتاج ثلاثة ظواهر قاصمة: الاستبداد بل الكليانية، والتفاوت الطبقي، والفساد. ويتميز هذا الثالوث بالسمات الآتية:
• الزعيم الأوحد: وقد تأكد هذا بشكل كلياني في عهد ستالين (والحقيقة أن هذه الشخصية يعسر جدا تقييمها والحكم عليها) ؛ حيث صار هذا الزعيم نموذجا لمن سيخلفه في الاتحاد السوفياتي أو خارجه: فهو يعنى بكل مظاهر الحياة في الدولة إدارة وسياسة واقتصادا؛ أي يضمن السيطرة المطلقة على كل مظاهر الحياة والمراقبة المستمرة لها عن طريق مراقبته الشخصية وبواسطة شريحة يختار أفرادها بعناية شخصية من تقنيي المعرفة ومثقفي الجهاز الحزبي وأجهزة الثقافة والفنون والبحث العلمي والأكاديمي والبيروقراطيين الحزبيين وفي المنظمات التابعة له والبوليس والمخابرات ...إلخ.
• السلطة الأوتوقراطية: وهي السلطة المرتبطة رأسا بالزعيم واللجنة المركزية للحزب. وهي ليست سياسية فحسب بل كذلك سلطة اقتصادية مركزية مدعومة بالسلطة الإدارية البيروقراطية والسلطة التكنوقراطية في المصانع والمعامل والمنشآت. وعلى الرغم من وجود مجالس أقاليم أو جهات، فإن الصبغة الهرمية المصطنعة المفرطة في تفتيت المسؤوليات وإعلائها بعضها على بعض، قد أفرغت التنظيم الإداري من كل نفس ديمقراطي وصبغة تشاركية، ومن كل اتجاه حقيقي نحو التسيير الذاتي.
• "دكتاتورية البروليتاريا " : لم تكن إدارةً عُماليةً كما "أريد لها" أن تكون، وسلطة ضد الثورة المضادة كما جاء في التنظيرات، بل كانت -في الحقيقة - ترديدا لصدى الشريحة العليا في القصر الحاكم وبثا لكوادر وسطى ودنيا في كل المؤسسات لتعنى بإدارة الشأن العام- لاسيما الاقتصادي والاجتماعي - باسم الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وبتأطير يقوده الحزب. ولأهمية هذا الجانب أُفْرِدُ له الفقرات الآتية للتوضيح:
 لقد كان هدف ماركس ولينين من "دكتاتورية البروليتاريا" قيادةَ فترة الاشتراكية التي عرّفها لينين قائلا: "الاشتراكية إنما هي محو الطبقات" . ومحو الطبقات يعني مباشرة إلغاء علاقات الإنتاج بمختلف أشكالها دون إقامة علاقات إنتاج بديلة، ليقوم تبعاً لذلك مجتمع بلا طبقات. فهي –إذن- كما نعتها ماركس "فترة تحويل ثوري" من حال إلى أخرى. وحددها ماركس نفسه بأنها " فـترة عـبور سياسـي". فهي إذن بالمعنى الإيجابي " اللاّنـظام"، أو هي غـياب كل نظام للإنتاج، أو بالأحرى تغييبه من أجل بلوغ نمط الإنتاج الجماعي التشاركي حيث تنتفي الطبقات. فهل حققت " دكتاتورية البروليتاريا" أهدافها؟
 كان يعتقد أنّ سلطة "دكتاتورية البروليتاريا " هي مجرد إدارة أو تسيير ذاتي لفترة انتقالية ربما لا تتجاوز جيلا أو جيلين في صورة السلم الاجتماعي والدولي. وكان ينظر إليها على أنها الأساس الاجتماعي لحكم رشيد بقيادة البروليتاريا، تظهر جدواه وأهميته في تأطير الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وصغار المنتجين والحرفيين خلال عملية التحول الاشتراكي، ويكون دورها الثاني والأساسي حمايةَ الثورة من الثورة المضادة، مما يفضي إلى تكون الوحدة السياسية والاجتماعية والايديولوجية للشعب. والحزب الشيوعي – باعتباره طليعة الطبقة العاملة – هو القوة الأساسية القائدة والموجهة في نظام "دكتاتورية البروليتاريا". ويضم نظام دكتاتورية البروليتاريا أيضا منظمات جماهيرية عديدة، مثل: هيئات الشعب التمثيلية، ونقابات العمال، والتعاونيات، وروابط الشباب...إلخ، وهي تقوم بدور الرابط بين الدولة الاشتراكية والجماهير.
 بغضّ الطرف عن السلبية التي تظهر عليه اليوم تسمية " دكتاتورية البروليتاريا" مهما ألبست لبوس الانتصار للمسحوقين ( إنها أصلا - حتى في الجانب الإصطلاحي ذاته - مجانبة للصواب؛ من حيث الحُلم الذي غذته الاشتراكية في تحقيق إنسانية الإنسان لأول مرة في التاريخ، وتجسيم الحرية والعدالة والرفاه) فإنها تحولت فعلا إلى دكتاتورية طبقية وإلى كابوس رهيب؛ بسبب مراقبة أعلى هرم السلطة ومعاونيه لمن هم دونهم، وإحكام القبضة عليهم وإملاء الاختيارات الفردية الزعامتية في الحرب وفي السلم؛ إذ كانت الصراعات الستالينية التروتسكية وما تلاها من التناحر والتصفيات ضد من سموا الثورة المضادة وأعداء الثورة ... ثم الحرب العالمية الثانية، "تعلات" قوية لاستمرار هذه السلطة ولمزيد إحكام مركزيتها وتضييقها وحصرها في يد الزعيم، (ومثل ذلك من التبريرات سنجدها في بلدان أخرى كالصين وفيتنام وكوبا وألبانيا. وهي تحتاج إلى استقراء تفصيلي ليس هذا محله...). وبذلك غاب العمل التشاركي الجماعي وزالت المظاهر الجنينية للديمقراطية حتى وإن كانت مركزية، وظهرت البورجوازية شيئا فشيئا؛ إذ بدأت صغيرة وسرعان ما صارت وسطى، ثم في مرحلة لاحقة - خاصة في منتصف عهد كروتشوف ونهايته وعهود خلفائه - باتت بورجوازية عليا.
 إدارة التسيير هذه كان من المفترض أن تتكون من العمال أنفسهم، ولكنها صارت شريحة واسعة متشكلة - غالبا وعمليا - من خارج طبقة العمال؛ أي من "المثقفين الحزبيين" والتكنوقراط؛ وبذلك سيطرت على كل المنظمات الاجتماعية والاقتصادية والنقابات. وهكذا بات الكل منصهرا داخل الحزب، وأضحى الحزب مختصرا في اللجنة المركزية، وصارت اللجنة المركزية مختزلة في شخص المسؤول الأول؛ الزعيم السياسي الوطني والعالمي؛ الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي. إنه ترديد لصدى هرمية الكنيسة الأورتودوكسية وعلى رأسها زعيمها الروحي؛ البابا.
تلازمت - إذن - دكتاتورية البروليتاريا مع سيطرة مطلقة للحزب الواحد، حزب "الطبقة العاملة"؛ فحتى وإن ضم تحت جناحه كتلا أو مجموعات فقد كانت تلك الكتل تنشط في ضرب من الخفاء، و في إطار صراع تؤججه بعض الخلافات الفكرية والسياسية وحتى الفردية والأسرية والعشائرية والجهوية، بل حتى العرقية والقومية والدينية . ولم تفلح أغلب الأحزاب اليسارية في تجاوزها، وكلها كانت وبالا على تلك الأحزاب. وللحديث تفاصيل كثيرة يضيق عنها مجال هذه المقالة.
مما تقدّم نتبيّن أنه بين الواقع والطموح مسافةُ لا تباعد فقط بل تناقُضٍ تؤكّد أنّ الخطاب اليساري متأزم ومتوتر ومخترق في صميمه ببنية فكرية دينية وأسطورية هي في منتهى التمكن وفي حال من الخفاء، تشده بعيدا عن عقلية الحداثة التي يزعم الانتماء إليها، حتى أنه لم يستطع القطع معها القطيعة الإبستيمولوجية الضرورية؛ فقد أورد المفكّر الفرنسي ريجيس ديبريه في كتابه "نقد العقل السياسي" تمييزا بين الخطاب ونظامه مشيرا إلى أنّ علامة الخطاب الديني ليس المعجم الدّيني في حد ذاته وإنّما نظام الخطاب أي آليّة إنتاج الفكرة؛ فقد يكون الخطاب في مستوى المعجم خاليا من ألفظ دينيّة وازنة ولكنّ آليّة إنتاجه هي آلية دينيّة بامتياز. وقد يتكثّف فيه المعجم الدّيني دون أن يكون نظامه كذلك ... والأمر نفسه في الايتيقا والسلوك ونظام السلوك. يعود المفكّر الفرنسي إلى أصل لفظة "دين" في اللاّتينيّة، ويتبيّن أنّها كانت تعني الآلهة والاحتفالات. ولذا ذكر أنّه وجد هذا المعنى ينطبق أكثر ما ينطبق على الدولة اليسارية الماركسيّة؛ فقد تخصّصت في تقديس زعمائها واتّخاذ أصنام ضخمة لهم؛ فهم - من هذا الوجه - آلهة. وفي الاحتفالات التي شهدتها الساحة الحمراء في الاتّحاد السوفياتي، وفي غيرها من الساحات المماثلة في البلدان التي حكمت فيها الأحزاب الشيوعيّة في أروبّا الشرقيّة خاصّة، احتفالات خالية من الاحتفاء والفرح والبهجة والانطلاق؛ لأنها أشبه ما تكون بالطقوس الدينيّة الجماعيّة ... ولم يكن ماو تسي تونغ أيضا سوى كونفيشيوس صيني جديد ... ونحن نلحظ استمرار هذه الطقوس الوثنيّة في كوريا الشماليّة إلى اليوم.
هذه أهم العوامل التي أعادت إنتاج الرأسمالية الوثنية الطقوسية التي يطلق عليها بعض أهل الاقتصاد من اليسار نفسه تسمية رأسمالية الدولة الاحتكارية، وهي تسمية لا تعبر تعبيرا دقيقا عن حقيقتها التوتاليتارية، وسماتها الدغمائية، وبنيتها العميقة الدينية والخرافية، وخصائص القداسة التي تتلفع بها. وبالتالي انتفاء الحياة الديمقراطية والتعددية والشفافية والمؤسسات والقانون منها؛ حيث أصبح مشاريعُ البورجوازيين والرأسماليين الاحتكاريين الجدد يحكمون ويسيطرون على الإنتاج ويسوسون الإنتاجية باسم البروليتاريا والفلاحين الفقراء؛ مما أنتج مع مرور الوقت مصالح فئوية تحولت شيئا فشيئا إلى طبقة رأسمالية الدولة.
2- تفاعل اليسار الأوروبي مع التجارب اليسارية:
استطاعت أغلب تيارات اليسار الأوروبي، والغربي عموما، أن تدرس التجارب "الاشتراكية" التي حدثت في المعسكر الاشتراكي السوفياتي والصين وفيتنام وكوبا وألبانيا ...إلخ، عن كثب؛ لأنها لم تؤسس سلطة مرتبطة بتلك التجارب، ولم تتمكن من السيطرة على السلطة سواء بواسطة الديمقراطية وهي الوسيلة الأساس المعتمدة لدى اليساريين الغربيين ولا عن طريق الثورة عند أقصى اليسار الجذري؛ لنفور الجماهير من تلك التجارب التي حاربها الإعلام والمفكرون الليبراليون والأحزاب اليمينية حربا ممنهجة... ولرسوخ الرأسمالية، وقوة البرجوازية، وتجذر الديمقراطية، واتساع رقعة الشفافية وحكم القانون في الدولة والإدارة والمجتمع، ولاتساع المشاركة في الحكم والتوجيه عن طريق المنظمات المدنية، وكذا بفضل الرفاهة النسبية التي يتمتع بها الشغيلة.
وبفعل عمق التناول الفلسفي ونضج التنظير اليساري وحيويته في المجتمعات الغربية ومن اتصل بها وتثاقف معها من مثقفي العالم الثالث والمعسكر الاشتراكي خاصة المتحررين من الدوغمائية، أدركت تلك التيارات - شيئا فشيئا ولكن بسرعة أكبر بكثير مما حدث في بقية أنحاء العالم - أن التجارب القائمة في المحيط السوفياتي وخارجه ليست يسارية بالحد الأدنى الكافي لاعتبارها ماركسية، وأن أسسها الفلسفية لا تقوم على مبدأ الديالكتيك وإنما هي إعادة صياغة غريبة للاستغلال الطبقي والاستعباد السياسي، فكان اليسار في الغرب- بحكم تطور المجتمعات الغربية فكريا - قادرا على اتخاذ موقف نقدي عميق ومنهجي منها، وتمييز أهمية تبني المبادئ الديمقراطية وإدماجها ضمن المنظومة الفلسفية والسياسية للأحزاب اليسارية، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الحكم إلا بتحالفات مع الاشتراكية الديمقراطية أحيانا؛ لأسباب جيو- اقتصادية وسياسية: ذلك أن الرأسمالية - في تحولها إلى قوة عولمة مهيمنة- استطاعت توفير الرفاهة النسبية والديمقراطية في المركز، لاسيما بعد الإطاحة بالنازية والفاشية والاستفادة من دروسهما؛ مما حيد اليسار الأوروبي وجعله منحسرا.
لعل الليبرالية بنظامها الديمقراطي وفكرها العلماني الكلي أو الجزئي، سيان، لا بنظام السوق فقط، قد تفوقت على غيرها من الأنظمة رغم كل الأزمات التي عصفت وتعصف بها، وستظل متفوقة في الأمد المنظور؛ لأن لها قدرة مدهشة على المصارعة والغلبة والاستيعاب . فالغرب مازال ناجحا و متفوقا (رغم كل التصدعات التي يعيشها) بفضل الديمقراطية التي أنتجت التعددية والمواطنة والقوانين وحقوق الإنسان والحيوان والبيئة، ولكن أيضا في الجهة المقابلة نلحظ أن الليبرالية قد أنتجت الفاشية والنازية أيضا كما جاء في أطروحة مركوز وكذلك أدرنو ، ومن قبلهما من خلال كتابات ماركس التي لامست الظاهرة بعض الملامسة، ثم لينين -خاصة مقولة " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" ؛ باعتبار أن الإمبريالية هي الصياغة الاقتصادية الكونية لليبرالية الغربية التي تتساوق مع النظم الديمقراطية.
وبعد انهيار النموذج السوفياتي وتلويناته التي اتسمت برأسمالية الدولة البيروقراطية التكنوقراطية الاحتكارية، وفي ظل توتاليتارية النظام الصيني الماوي وتعقيداته والتباس التغيرات التي يشهدها هو الآخر بالرأسمالية البيروقراطية التكنوقراطية الاحتكارية، وفي ظل عزلة كوريا الشمالية في قبضة التوتاليتارية، وأزمات الفقر والمجاعة التي تمزق شعبها، وبالنظر إلى "فشل" كوبا على تقديم نموذج ديمقراطي أرقى رغم عذر المراقبة والحصار الذي تقوم بهما أمريكا، و أخذا بعين الاعتبار غموض مستقبل الديمقراطية في التحولات اليسارية في بلدان من أمريكا الجنوبية (أنظر أدناه؛ إذ سيتم الحديث عن أمريكا الاتينية في المحور اللاحق مباشرة)، فإنني أرجح - إلى حد الآن على الأقل - أن الليبرالية الديمقراطية في الغرب مازالت "أحسن" النظم سوءا ، لأنها تكيفت وعدلت مساراتها تعديلا عميقا بعد جيل اليسار الأوروبي الثاني ماركوز وأدرنو وجيل دولوز ...الخ وربما بأكثر تدقيقا بعد حركة ماي 1968، وإن لم يكن تعديلا جوهريا. وبفضل استجابتها للضغط الشعبي وتأقلمها مع الوعي العام النقابي والسياسي والفكري، فالليبرالية-الديمقراطية خاصة ذات المنحى التشاركي وذي الصبغة الاشتراكية في بلدان الشمال الاسكندينافية - فنلدا والنرويج والسويد - مازالت هي أفضل أنظمة الحكم على الصعيد العالمي بحكم قدرتها الفائقة على ملء فراغاتها وتبييض سواداتها، وعلى مصارعة مخالفيها وصرعهم ! ثم والأدعى إلى الدهشة استيعابهم في ضرب من التدجين المستلطف؛ هكذا فعلت مع أقوى التيارات المناهضة لها وأكثرها جذرية وعمقا في الطرح ماركسية كانت أم فوضوية على وجه الخصوص.
لهذا أظن أن الليبرالية في صيغة الديمقراطية التشاركية خاصة ذات المنحى الاشتراكي ستستفيد أيضا لا فيما يخص العلاقات الدولية فحسب بل حتى في مجال نظام الحكم الداخلي- بدرجة ذات بال - من التحولات التي تشهدها المنطقة العربية والعالم لاحقا، بما يضمن إشعاع الغرب وتألقه وربما استمرار سيطرته وقيادته للنظام العالمي؛ وهذا طبعا موضوع آخر على غاية من الأهمية لابد لنا أن نبدأ التفكير فيه.
3- يسار البلدان الطرفية (العالم الثالث):
أما بالنسبة لليسار في الدول الطرفية؛ فقد تم التنكيل به ومحاصرته وتفتيته، ولم يستطع أن يستفيد من الحركات الثورية التي أسستها الأحزاب الاشتراكية والشيوعية (خاصة بمساندة ما يدور في فلكها من أحزاب أخرى أو منظمات أو جمعيات) والانتفاضات التي حركها وقادها اليسار بل حتى الدويلات التي حاول بناءها في إفريقيا مثل بوركينا فاسو، وفي الوطن العربي مثل اليمن الجنوبي؛ فسيطرت بورجوازيات جامدة وكسولة وطبقات شبه إقطاعية متهالكة وكلاهما باتت مرتهنة إلى الخارج مرتبطة بالمركز بداية من فشل تجربة محمد علي في مصر، ومن ذلك الأوان فصاعدا حتى النصف الأول من القرن العشرين، كانت هذه الطبقة مهيمنة هيمنة واضحة على كل مظاهر الحياة العامة في مصر ، وكذلك كانت نظيراتها في بقية الأقطار العربية. ثمّ استمرت خجولة في فترة الخمسينات وكذلك في الستينات، ثم عادت للسطوة بعد السبعينات كما حصل في مصر والعراق وسوريا والجزائر، وتمكنت من السيادة على الانتفاضات والتحولات والانقلابات، فجيّرتها لصالحها... وأخيرا انكمشت أمام ما اصطلح عليه بالثورات الأخيرة ظلت تحاول الالتفاف عليها بشكل من الأشكال وها هي تسعى للتحالف عبر توبة سياسية إسلاموية مشبوهة مع النهضاويين والاخوان في "بلدان الربيع العربي".
هكذا سارت معظم حركات التحرر الوطني القُطْريّ في اتجاه العسكرة والبيروقراطية والاستبداد الفردي، وبالإضافة إلى ذلك زرعت بريطانيا الكيان الصهيوني بتواطئ من فرنسا وبمساندة أمريكا وعموم البلدان الغربية لاحقا. ومما زاد الأمر سوءا أن تدخل الهيمنة الغربية شيئا فشيئا بداية خاصة منذ أواخر الستينات بعد نكسة 1967، عبر النخب الفرنكفونية والأنجلوفونية التي احتلت المناصب السامية في الحكومات والمواقع الحساسة في الإدارات، وتمكنت البلدان الاستعمارية السابقة وانضافت إليها بلدان أخرى كأمريكا من إدارة دفة الاستقلالات المحدودة أصلا كما تشاء وإفراغها من محتواها وتوجيهها نحو ارتباط غير مباشر بها باعتبارها لا المركز الاقتصادي فحسب بل مركز القرار السياسي والثقافي في أغلب الأحيان؛ فصارت بذلك أغلب البلدان العربية دائرة في فلك أوروبا الغربية وبعضها في فلك الاتحاد السوفياتي وتكرست فيها صفة أشباه مستعمرات أو بلدان تابعة أو محيطية أو طرفية - على اختلاف التسميات وبحسب المقاربات والاتجاهات- لاسيما في الربع الأخير من القرن العشرين.
واتّفق –كما أسلفنا- أنْ كان السوفيات والصين قد تخلوا تدريجيا عن الفكر الثوري وأعرضوا عمليا عن المساندة الحقيقية لحركات التحرر الوطني والاجتماعي أو تحكموا فيها بهذه الدرجة أو تلك، مع صعود أو تصعيد التيارات الإسلامية سواء بغض الطرف عنها أو بالسماح لها بالنشاط الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي العام رغم تعارض الصفة الدينية مع الصفة السياسية والحزبية؛ وذلك لمواجهة ذلك المد الثوري. كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على تمزق اليسار الذي فقد بريق النموذج السوفياتي حتى قبل تحلّله بكثير، وكذلك النموذج الصيني. وسرعان ما بدت التجربة الشيوعية هيكلا مفرغا ومفزعا؛ فكانت النتيجة سقوطا خطيرا ومدوٍّيا ثم تفككا شاملا في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، ووقوعا في اليمينيّة والدكتاتوريّة المقنَّعة في الصّين وما جاورها.
وهكذا فقد اليسار العربي- والإفريقي أيضا - ما تبقّى من بوصلته الفكرية والإيديولوجية، وبات يتحسس مكامن الخلل دون أن يتمكن من تحديدها على وجه الدقة وبالعمق المطلوب نظرا لتحليلاته ورؤاه المرتبكة والهزيلة والدوغمائية أصلا، لذلك بقي يحوم حول وَصْم تلك التجارب بالتحريفية، ولم يتمكن إلى حدود نهاية القرن العشرين من بناء تصور جديد يقوم على قيادة ثورة ذات أفق ديمقراطي واشتراكي ، مع ضرورة إيجاد مخرج لتجاوز الخلل الهيكلي الذي رافق نظام الحكم التوتاليتاري الذي عانته التجارب اليسارية السابقة والتي انتهت إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. وكل هذا انعكس في تشتت اليسار إلى أحزاب صغيرة حماسية ولكن مفتتة وتائهة تقوم بين الحين والحين على انشقاقات بسبب اختلافات جزئية وسطحية، زادتها الزعامتية والفقر المعرفي من جهة، ومراقبة قاتلة واستبداد وقهر من أنظمة الحكم من جهة أخرى، وهنًا على وهن.
بناء عليه، اعتقد أنه من واجب اليسار العربي والعالم-ثالثي الاطلاع الدقيق والعميق والموسع على تفاصيل التجارب اليسارية وعليه خاصة نقد نخبويته حتى وإن كانت غير نخوبية ؛ فاليسار الجذري خاصة رغم انه ليس نخبويا كيسار الصالونات والمثقفين فإن خطابه ووسائله فيهما الكثير من سمات النخوبية. وهذا ما فعله يسار أمريكا اللاتينية:
يسار أمريكا اللاتينية طرفي أيضا ولكن لا يزاحمه تدين سياسي (الإسلاموية السياسية اليمينية) ولا اتجاهات وطنية موغلة في الشوفينية وتدعي اليسارية كما يحدث في البلاد العربية، وقد قال تشومسكي، المفكّر الأمريكيّ وعالم اللسانيّات الشهير، في محاضرته في القاهرة مؤخّرا إنّ أشدّ ما تخشاه أمريكا هو أن تنشأ ديمقراطيّة في العالم العربي. وقد اعترف أوباما أثناء في مناظرته الأخيرة أمام خصمه الجمهوريّ بأنّه اختار المراهنة على الإسلاميّين "المعتدلين" ليتولّوا القضاء على الإسلاميّين المتطرّفين بترويضهم أو باختراقهم والتآمر عليهم. كما أقرّ بأنّه دعم النهضة في تونس والإخوان في مصر لوجستيّا وماليّا.
وعلى العكس من ذلك تماما؛ فإن ما يسمى لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية هو تجربة دينية تقدمية تساند اليسار الماركسي ولا تناقضه. ولا ننس أن مجتمعات أمريكا اللاتينية تعد متقدمة نسبيا من الناحية الفكرية بالمقارنة مع المجتمعات العربية والأفريقية. ويرى المراقبون لما يحدث في أمريكا اللاتينية أن تغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة هو الأسلوب الجديد الذي تبناه كثير من اليساريين في أمريكا اللاتينية؛ فتحت هذا الشعار بدأ التغيير بأمريكا اللاتينية في الربع الأخير من القرن الماضي. ويلاحظون أنه بعد إعدام شي غيفارا بدأت مجموعة من الشعراء والأدباء والمفكرين تنادي بالعمل أولا وأساسا على تثقيف الشعوب وتوعيتها بالتوازي مع الكفاح المسلح ... وسيكون الهدف من الثورة "تخريب السلطة وليس الاستيلاء عليها" ... كما آمن القساوسة الأحرار والنساء المناضلات من أجل المساواة وكل الحركات اليسارية والنقابيون الأحرار والفلاحون الصغار ... إلخ، بهذه العقيدة وبدؤوا بتأسيس حركات اجتماعية .... والآن نرى النتيجة ، كل العالم ينظر لأمريكا اللاتينية ويراها قوة صاعدة سيقرأ لها ألف حساب ...وأظن أن الدولة الحديثة التي سيحدث بها تغييرات جذرية وستبني علاقة جديدة بين الفرد والسلطة ورأس المال ستبدأ بأمريكا اللاتينية. إن حركة الزباتيست بالمكسيك وما حققته في بضع سنوات فقط بكامل قارتهم، قد غيرت كل المفاهيم وقامت إصلاحات زراعية وحصل ملايين من العبيد على قطع أرض وضربوا الإمبريالية ضربة قوية في الخاصرة
إن أمريكا اللاتينية وأحزابها اليسارية تبدو قادرة على استيعاب معضلات التحول الديمقراطي والاتجاه نحو الاشتراكية في آن واحد، أو ما يسمي نمط التطور اللارأسمالي (رغم احتراس كثير من المراقبين وتحفظ الدارسين إزاء الانتخاب المتكرر لنفس الأحزاب ونفس الزعماء لأكثر من مرة) زد على ذلك صمود التجربة الكوبية رغم نواقصها الشديدة وأهمها انحسار الديمقراطية فيها بسبب عدم التداول على السلطة.
وهكذا يبدو اليسار الأمريكي اللاتيني هو النموذج الذي يمكن أن يلهم اليسار الطرفي الآخر في العالم العربي وأفريقيا وآسيا رغم كل العوائق التي يشهدها في ممارسة الديمقراطية التعددية التداولية التشاركية، وهو أيضا أمل اليساريين في البلدان الطرفية لا في الصمود في وجه الإمبريالية فقط، بل في مقاومتها أيضا.