أيها الكَرّام ... أعطنا نشرب


رشيد قويدر
2012 / 12 / 16 - 14:49     


"إلى الصديق الخوارزمي أ. د. عازار الشايب،
بعد عام على الرحيل، لم أحتمل فداحة المفاجأة"

أعرفك تماماً يا عازار، أعرفك ... من التاريخ السحيق، منذ التاريخ الآرامي، تاريخاً لا يقبل الغموض ... كما أعرفك منذ قرابة قرن، فقد كنا معاً في ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية، أعرف ألواحك: "الإيمان والمحبة يولدان معاً"، حب في زمن الكراهة، هكذا عظمة الحياة في معجزاتها ...
يا لقدرتك؛ وأنت تعرفني تماماً، معترفاً أنني لن أفهمك في أرخبيلك بفلسفة الرياضيات، في خوارزمياتك المترية الخطيّة، من المستحيل أن تدخل رأسي، أنا العبد الفقير للرب، الذي لم يفهم من نيوتن إلا تفاحته، ذاتها تفاحة حواء، والجاذبية جسد أنثوي في بلاغة الإغراء ومنابت الفتنة، أو نتساقط كمداً في جهنم أو على الأرض وفق قانون الجاذبية، نتساقط في الصحف المكررة، بكواتم الآيات المبتورة ... تأويل "ما ملكت أيمانهم"، فلا أحد يمتلك الحقيقة إلا الحقيقة، فلا تجديف ...
مرَّ النسيان على جسد الخليقة، ها أنا أهرول نحو النار في هذا الظلام ... كطفلٍ تائه في الطريق إلى منزله...
يا لكبريائك "السقيلبي" العنيد، حين فهمت معناها بالآرامية: المحبة، الذكاء، الثبات، فهمت هذا في معلولا، تضامناً خاصاً في حركة المضمون، حركة العقل الجمعي، قدرات خاصة محركة لتوحيد الأخلاق العملية ... والمثالية الروحية، زخم الجماليات المبهجة، فلشروق الفجر معادلاتك ... في مبعث الأحاسيس وتوهجها، للتجسد بالخلق، لفضاء الطبيعة وألوانها، لموشور الحياة، لليناعة والغنج، للرجولة ولرحم التخلق، لانبثاق اللون، للحياة الموارة بالحياة، للبهاء والتجلي الحيوي بالطاقة ...
ها نحن معاً بعد عام على الرحيل، لم نفترق، لكننا مع انفجار شرٍّ بين حين وحين، يخرجنا من التأمل نحو هول الواقع، كما تقول: "هكذا، لكننا سنعيش حياتنا" ...
أبانا الذي في عازار المحب طوال حياته، كم هو قاسٍ هذا الرحيل، كلما مررتُ من باب توما أتلفت كثيراً علّني أراك، وأعود لألمح طيفك بين رفوف الكتب، أنت مثلما سوريانا هوية الجمال والحكمة، لا أجد ما يعبر عنها إلا استعارة من المتنبي المعاصر "الجواهري" ...
"دمشق" ما اشتبكت عليك الأعصرُ إلا ذَوَت وربيع عمرك أخضرُ"
رغم الشظايا الغادرة فوق الجسد، هي مدارات الحياة العصيّة ... إلى الأبد، هي جمال الورود، شُغافات العذارى والياسمين وطيور الغسق، فيضُ الوجد وجموح العرب ... العرب، من دونها لا أحد، هي سيوف كوكب تلمع فوق رؤوس أفاعي الصحارى، وجيد حبل من مسد ...
أنا الشاهد اللاحيادي، أقف منتظراً حافلة، أقف كمتشرد، أفكاري نهباً للضجر، للحرّ، للبرد، أنا سين من الناس لكنني ما زلت سالماً، أنا غين وعين وياء، ليس مهماً اسمي وهويتي، وقد تشيأت إلى كائن رقمي، أحلامي محض افتراض، البورصات تضج بالأرقام المتقلبة، روائح ضارية لنشرات البنوك والبترودولار، الروائح الآسنة التي أشمّها افتراض، لكن الحياة الطليقة تتسكع بعيداً عني، قلت لي: "تدرع بالصبر والحكمة"، لكني المهدد بالذكريات، بالمفخخات، ونداء الرّبِّ يصدح خمس مرات في اليوم، لدروب موشاة بالأماني الرخيمة ...
ها آنذا ... أشمُّ نداك بكأسي، مأهولاً بحزني، مبللاً بالطقوس، بالتعاليم التي في الألواح، وأُحلّقُ بعيداً لحظة فوران الحلم وهياج الرأس ... وحتى آخر زفرةٍ للروح ... فكم فكرة تمور اليوم برأسك ...
يا عازار ... سلامٌ عليك إذا رحلتَ ... وقد اكتملت، لك البرايا إذا نزلت، لي الخطايا ... إذا ما نسيتْ.
سلامٌ عليك سنابل من فرح أخضر، مياسم تائقة لسيقان نحلة، لنسمة هواء، لألق وجه الورود ...
ها أنت تمطر ... فأعطنا نشرب أيها الكرّام ... لنحلق بعيداً ...