مرافئ الحب السبعة


عدنان الظاهر
2012 / 12 / 13 - 11:56     

مع مرافئ الحب *
( مع كتاب الدكتور علي القاسمي الموسوم : مرافئ الحب السبعة )
للأستاذ القاسمي أسلوب متميّز في القص ولغته لغة حلوة مُخملية الملمس عذبة التأثير في نفوس قرّاء ما يكتب . كما أنَّ له ذاكرة قوية يستذكر بها أدق تفاصيل حياته مُذْ كان طفلاً في ناحية " الحمزة الشرقي " التابعة لمحافظة القادسية العراقية. سرد حياته طفلاً كأحلى ما يكون السرد ولكن ... توقفتُ طويلاً حين كتبَ أنْ كان في بيتهم الريفي [ حوض سباحة ] ! هل في البيوت العراقية القروية أحواض سباحة خاصة وقد بيّن أنَّ سقوف بيتهم كانت من جذوع النخيل ! ثم ... كان يخاطب والدته البدوية بلفظة " ماما " . كنا نخاطب أمّهاتنا في ذاك الزمان بكلمة " يُمّةْ " أي يا أمّي أو يا أَمَةْ أو يا أُمّة وهذا أفضل بالطبع فالأمُّ أمّةٌ بحق وحقيق . ثم درج على وصف " شيلة " والدته بأنها " شال " ! ما كان لأمّهاتنا شال بل فوطة أو شيلة أو عصابة الرأس ثم الجرغد . ماما والشال أبعدتاني عن أجواء القرية التي وُلد فيها دكتور علي وأمضى طفولته فيها ووصفها أدق وصف. لفت نظري تعلّقه بنخلة بيتهم التي كانت تتوسط هذا البيت ثم حبه للنهر ولبط هذا النهر حتى نكبه فقد إنضمّت بطته لسرب قادم وتركته على الضفّة حزيناً وربما باكياً . في هذه القصة رمز جميل ومؤثّر مفاده أنَّ كل شئ في هذه الدنيا لا بدَّ راجع لأصله وبيئته وكامل حريته . لمن الأفضلية ، للوفاء أو للحريّة والعودة للأصل ؟ للطبع أم للتطبّع ؟ نقرأ ما قال عن النهر والبط [[ رفاقي ! ألا يزالُ النهر يجري في أحضان قريتنا ؟ ألا تزالُ مياهه الثرّة تفيض كلَّ ربيع فتغسل عتبات دارنا ؟ وهل ما زال ( السليم أنْ يقولَ . أما زال البط .. لا يمكن الجمع بين هل وما .. هكذا تقول عربيتنا ) البط يسبح في مجراه كما كان ؟ وهل ما زالت ( كررالخطأ السابق ) الأغنام ترتع على شاطئيه تحت ظلال النخيل / الصفحة 219 ]] .
سأتعامل مع كتاب مراقئ الحب السبعة باعتباره كتابَ سيرة ذاتية أو كمجموعة قصص بطلها صاحبها " سليم " لا كرواية لأني غير مُقتنع بأنها رواية ذاك لأنها تفتقر إلى أسس وتقاليد الروايات . سليم نفسه حيّرني فمرة يتكلم بضمير الحاضر : أنا أو سليم .. ويتكلم مراتٍ بضمير الغائب : هو .. إنه ... قال ... سافر ... إلخ. إعتراضي الآخر حول تسمية الكتاب بمرافئ الحب السبعة ! وجدتها أربعة مرافئ لا سبعة هي كما يلي :
1 ـ مرفأ طفولته المبكّرة
2 ـ قصة الرومانس الأول التي إنتهت بمأساة .. قصة الحب الذي ربطه بوداد زميلته في كلية التربية / جامعة بغداد .هذه القصة كذلك تحيّرني لأنَّ أصدقاء وزملاء السيد علي عرفوه شاباً محافظاً حيياً خجولاً لم يره أحد مع إحدى زميلاته في الكلية لكنه رسم ذات مرّة صورة هي الخيال بعينه : جلسا معاً على إحدى المصاطب المواجهة لحديقة الكلية وهناك تعانقا ... هذا أمر نادر الوقوع في عراق خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي !
3 ـ قصته مع الأمريكية سوزان في جامعة تاكسس . القاسمي بارع في تصميم قصص الرومانس كأنه كازانوفا أو دون جوان اللورد الإنكليزي البيروني .
4 ـ أخيراً قصته مع الفتاة المغربية الأرملة " أثيرة " طالبة جامعة الرباط ... واحدة من طالباته . هنا عثرتُ على الصديق علي القاسمي متأججاً بنيران حب حقيقي لم يقصّر في وصفه وما يترتب عليه وما ينجمُ عنه . أجاد في ملاحقة ذكرياته مع طالبته أثيرة التي جعلها تحمل منه ولم تشأ أنْ تُسقط ما حَملتْ سِفاحاً.
إذاً نحن أمام أربعة محطات أو مواقف أو مرافئ كما أسماها علي لا سبعة . إلاّ إذا قصدَ بالرقم 7 مجموعة البلدان التي درسّ في جامعاتها أو درّسَ فيها .
الأمر المحيّر الآخر أو الأمران المحيران هما ذكره لمرات عديدة أنه ترك العراق هرباً وخلاصاً من ملاحقة واضطهاد وربما الإغتيال كما حصل في بيروت لصديقه زكي حيث إغتالته مخابرات الحكومة العراقية في منطقة الحمراء من بيروت . نموذج لما كتب الدكتور القاسمي بهذا الصدد [[ هرب من بلده بعد أنْ استولى العسكرتارية على الحكم وملأوا السجون بالمفكّرين الأحرار ولاحقوا مَنْ هرب منهم خارج البلاد بالإغتيالات التي تنظمها سفاراتهم ، في الفنادق والمطارات والشوارع وفي كل مكان / الصفحة 241 ]] . نوذج آخر [[ لك الله يا أبتاه ...كيف لك أنْ تستسيغ ـ الصحيح تسيغ ـ دخول أحد أبنائك السجن أو تشرّده في المنافي لأنَّ السلطة " الثورية " تختلف معه في الرأي والميول السياسية / الصفحة 91 ]] . حسب علمي ومعرفتي بالصديق القاسمي ما كانت له ميول سياسية في العراق لا طالباً في الكلية ولا مُدرّساً معي في مدارس الحلة بعد ثورة تموز . لعله أحبَّ أنْ يقصَّ تأريخ بعض أصدقائه وينسبه لنفسه . بالطبع كان يقصد إنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 الفاشي الدموي الأكثر سواداً في تأريخ العراق المعاصر .
عرفت الأستاذ القاسمي طالباً في الكلية ثم زميلَ التدريس في مدارس مدينة الحلة زمان عبد الكريم قاسم . ما كان متورطاً بالسياسة ولم يمارسها أصلاً وكان محايداً وصديقاً لجميع زملائه ومعارفه من اليسار حتى أقصى اليمين . هو يعرف ما تعرّض له ومن تعرّض من زملائه في الهيئات التدريسية في مدارس الحلة من سجن وقتل وتعذيب واختفاء قسري في وبعد إنقلاب الثامن من شهر شباط عام 1963 . ما كان الصديق أحد هؤلاء . أمر آخر حيّرني كثيراً : شكواه المُرّة من الحزن والسواد وسوء الطالع والقلق وكوابيس الليل ! القاسمي رجل ناجح حقق الكثير من طموحات الرجال وكان محسوداً لذلك من قِبل الداني والقاصي . زار البلدان المختلفة طالباً أو مدرّساً أو سائحاً ومارس وظائفَ مرموقة يتمناها العديد من صحابه وأصدقائه فعلام الشكوى المرّة وسب الزمان واللطم على الذات ؟
نموذج ذو علاقة بهذا الشأن [[ فلحظة حزن واحدة تمسحُ ساعات طويلة من الفرح كأنها لم تكنْ قط ... وللفرح أغنية أخرى لم يتيسر لي سماعها ولم أتهجَ أبجديتها ... أما الحزنُ فهو مقيم في شمال الروح وفي جنوبها ومستقر في سيوداء القلب وصميمه / الصفحة 164 ]]. نموذج آخر [[ يقولون ، يا أمّي ، أربعة تهدم البدن : الهم والحزن والجوع والسهر . وقد تضافرت هذه الأربعة عليَّ كما يتضافر القَتَلة على وحيد أعزل / الصفحة 225 ]]. ذكّرتني الجملة الأولى بما قال أبو العلاء المِعرّي :
إنَّ حزناً في ساعة الموتِ أضعا
فُ سُرورٍ في ساعة الميلادِ
هل أضيف شأناً آخر لفت نظري بعد فراغي من قراءة كتابه ؟ لا بأس .. وليغضب صديقي مني فأن أكون مع الحقيقة خيرٌ لي بمليون مليون مرّة وأفضل من موقف الساكت عنها والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس وأكمه وأعمى . أعني أم أولاده .. لم يذكرها قطُّ في كتابه هذا وكان الأولى به أنْ يُضيفها إلى بقية مرافئ حياته وهي المرفأ الأنبل والأشرف والأجدر بالذكر . له منها ولدٌ وبنت .
الكاتب حر فيما يكتب وكيف يكتب ولكنْ حين ينشر للملأ ما كتب أعطى القرّاءَ حق التساؤل وحقوق التفكير والبحث في السطور وفيما بينها وفيما وراءها .
قد يعيب البعض عليه أنه عقد صداقة تطورت إلى حب جارف مع إحدى طالباته بل ووطأها فحملت منه ! صحيح إنه في الرباط كان وحيداً له سَكنٌ لكن ليس له من يسكن إليها من نساء العالم . تهرّب من صديقته الأمريكية لأنها كانت فتاة يهودية وهنا أُكبرهُ أيّما إكبار . تركها وترك بلدها ليعمل في جامعات المغرب مدرّساً . في المغرب داهمه مرض الحنين للوطن ثم لسوزان التي أحبّته ودعته إلى دار أبويها فتناول معهم الطعام ثم أمضى الليلة معهم في بيتهم الفاره . فتعلّقه بطالبته الأرملة أثيرة كان له ما يبرره .
لم يذكر القاسمي إلاّ إسمين فقط في طول وعرض كتابه هما عديله رفيق الحريري ثم صديقنا الرائع المشترك دكتور عبد اللطيف إطيميش .. علماً أنه أهمل ذكر لقب عبد اللطيف " إطيميش " / الصفحات 226 ـ 228 . أما مكي وزكي فلا أظنهما إسمين حقيقيين .. أسماء حركية مستعارة .
إعتراضي الأكبر هو أنَّ الدكتور علي القاسمي قد إدّعى أنه درس الكيمياء في كلية التربية ثم درس خارج العراق وعاد مدرّساً للكيمياء في نفس الكلية ! ما كانت الكيمياء تخصص القاسمي أبداً فما الذي جعله يختارها ! ما الذي يضرّه لو قال إنه متخصص باللغة الإنكليزية وآدابها ثم درس في أمريكا الفهرسة وعلم المكتبات كما أخبرني في شقته في الرباط ؟ هذا الأمر يحيّرني حقاً . ترك اسمه الحقيقي " علي القاسمي " واستعار اسمَ " سليم الهاشمي " . أسليم أفضل من علي والهاشمي أفضل من القاسمي ؟
قصص وذكريات جميلة ومؤثّرة كتبها صاحبها بأساليب فنية وربط بين أجزاء وجزئيات قصصه ربطاً محكماً وكشف نفسه للناس إنساناً كثير الرقة ومحباً وعاشقاً من الطراز الأول وقد حقق في مسيرته النجاح تلو النجاح لكنه ظلَّ توّاقاً لما هو أكبر وأكثر وهذه هي طبيعة النفوس التي عبّر المتنبي عنها أروع وأبلغ تعبير :
وإذا كانت النفوسُ كِباراً
تَعِبتْ في مُرادها الأجسامُ
طموحات الإنسان مثل نيران الجحيم في الآخرة ومثل الثقب الكوني الأسود يبتلع ما حوله ويصرخ هل من مّزيد .. يجوع بشبعه ويظلُّ يجوع .
ملاحظة أخيرة : بالحساب البسيط يتضح لنا أنَّ الدكتور القاسمي كان قد دخل المدرسة الإبتدائية في ناحية علي الشرقي حين كان في الثالثة من عمره ! هذا أمر مستحيل فطفل الثالثة لا يعي ولا يفهم إلا القليل .. وفي بريطانيا لا تقبل المدارس طفلاً إلاّ إذا بلغ الخامسة من عمره وقد يحصل مثل هذا في مدارس العراق القروية والبعيدة عن مراكز المدن . أقول قد يحدث لأنه ليس قاعدة كما هو الشأن في بريطانيا . وُلد علي عام 1942 وأكمل دراسته في كلية التربية في بغداد عام 1960 ... وبالحساب البسيط يتضح أنه تخرّج في الثامنة عشرة من عمره وهذا يعني أنه دخل الإبتدائية في الثالثة ! سنوات دراسته هي 15 عاماً : ست سنوات في الإبتدائية وخمس في الثانوية وأربع في الكلية ويكون المجموع 15 سنةً ! صحح سنة ميلادك صديقنا دكتور علي القاسمي .
*
علي القاسمي / مرافئ الحب السبعة . الناشر : المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ـ المغرب . الطبعة الأولى 2012 .