ما بعد الحرب على غزة... ما بعد التصويت في الأمم المتحدة


داود تلحمي
2012 / 12 / 12 - 19:18     

نظمت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في مدينة رام الله، قبل أيام، ندوة حول آفاق واستخلاصات ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة (14-21 تشرين الثاني/نوفمبر 2012) على قطاع غزة، وما بعد تصويت الأمم المتحدة على صيغة الدولة غير العضو في 29/11/2012، تحدث فيها د. رائف زريق، الأستاذ الجامعي في حيفا، ود. أحمد عزم، الأستاذ في جامعة بيرزيت، بالإضافة الى صاحب هذه المداخلة التي نورد هنا بعض أبرز ما جاء فيها:
لا شك أن الحدثين (حصيلة الحرب الأخيرة على غزة، والتصويت في الأمم المتحدة على قبول فلسطين كدولة مراقب غير عضو) يسجلان في خانة المكاسب الفلسطينية، دون إغفال الحجم الهائل والمؤلم للتضحيات البشرية والدمار الواسع في قطاع غزة.
فالحرب الإسرائيلية الجديدة على قطاع غزة اصطدمت بقدرات المقاومة هناك على الرد، وهي قدرات لم تكن متوقعة من الجانب المعتدي، والمقصود تحديداً كمية الصواريخ متوسطة المدى، التي وصل عدد منها الى منطقة تل أبيب ومشارف القدس ومنطقة بئر السبع في النقب، وهي صواريخ لم يتمكن نظام "القبة الحديدية" المتطور من إيقاف أكثر من ثلثيها. وبمعزل عن استمرار عدم التناسب الهائل في الخسائر البشرية والمادية بين الجانبين خلال هذه الحرب، كما خلال الحرب السابقة في شتاء 2008- 2009، إلا ان التأثير المعنوي على الجانب الإسرائيلي لهذا التطور لدى الطرف الفلسطيني المقاوم في غزة كان أكبر بكثير، ولعب بالتأكيد دورا في لجم مشروع العملية البرية واستعجال الحكومة الإسرائيلية للدعوة الى وقف إطلاق النار.
أما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد أظهر استمرارية التأييد العالمي الواسع للحقوق الوطنية الفلسطينية، بالرغم من كل ما قامت به إسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية من حروب وعمليات قتل وتدمير منهجية وتصفيات للقيادات والنشطاء واعتقال الآلاف من المواطنين، علاوة على تكثيف رهيب للإستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين عام 1967، وكلها في سياق محاولة مبرمجة لتبديد احتمال الإستقلال الفلسطيني ولبث اليأس والإحباط في صفوف الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وخارجها.
وما لفت الإنتباه إيجاباً على صعيد الجمعية العامة للأمم المتحدة تصويت غالبية دول الإتحاد الأوروبي (14 من أصل 27 دولة عضو) الى جانب الإعتراف بالدولة - وهو تطور ليس بعيداً عن قراءة الأوروبيين لنتائج الحرب الأخيرة على غزة - ، مقابل امتناع 12 دولة أخرى، بينها دول كانت تعتبر حكوماتها قريبة من إسرائيل، مثل ألمانيا وهولندا، وبقيت حتى الأيام الأخيرة تتردد بين التصويت ضد الطلب الفلسطيني والإمتناع. وحدها جمهورية تشيكيا من بين دول أوروبا صوتت ضد مشروع القرار، وهو موقف يحتاج الى تدقيق في أسبابه. خاصة وأن العديد من دول أوروبا الشرقية العضو في الإتحاد الأوروبي، والتي عملت إسرائيل على استمالتها وبناء علاقات مميزة معها منذ انهيار الإتحاد السوفييتي والدولة الحليفة المجاورة له، لم تعترض على الطلب الفلسطيني وإنما امتنعت عن التصويت. والى جانب دول الإتحاد الإوروبي الـ 27، صوتت عدة دول أوروبية غير عضو في الإتحاد لصالح القرار، من بينها النرويج وسويسرا وأيسلندا. وبذلك تكون الدول الإسكندنافية الخمس قد صوتت كلها لصالح القرار.
ويلفت الإنتباه بالمقابل تغيب دولة كبيرة مثل أوكرانيا، كبرى جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق بعد روسيا، عن حضور جلسة التصويت. وإذا كان الإمتناع أو التغيب أقل إشكالية من التصويت سلباً، إلا ان هذا الامتناع الواسع لعدد من دول اوروبا الشرقية التي كانت حكوماتها السابقة قد اعترفت بإعلان الإستقلال الفلسطيني في أواخر الثمانينيات الماضية، مثل بلغاريا وألبانيا وهنغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وبولندا، بالإضافة الى دول البلطيق الثلات (استونيا، لاتفيا، ليتوانيا) ومولدوفا، والدول الأربع الأخيرة كلها كانت جزء من الإتحاد السوفييتي السابق. وحدها بيلوروسيا، من بين جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق الأوروبية، صوتت الى جانب القرار، مع روسيا بالطبع. وكذلك صوتت الجمهوريات السوفييتية السابقة الخمس الواقعة في آسيا الوسطى، وهي دول ذات أغلبية مسلمة، الى جانب القرار، وكذلك أرمينيا وجورجيا، السوفييتيتين السابقتين أيضاً. أما مونغوليا الآسيوية، التي كانت دولة قائمة بذاتها ومرتبطة بعلاقة تحالفية مع الإتحاد السوفييتي في الماضي، فقد امتنعت أيضاً عن التصويت. والشيء نفسه ينطبق على كافة المكونات السابقة لجمهورية يوغسلافيا (سلوفينيا، كرواتيا، الجبل الأخضر، البوسنة والهرسك، مقدونيا)، التي امتنعت كلها عن التصويت، باستثناء صربيا التي صوتت الى جانب القرار.
ولفت الإنتباه أيضا امتناع أستراليا عن التصويت بعد أن كانت رئيسة الحكومة هناك تميل شخصياً الى التصويت ضد الطلب الفلسطيني، لكنها ووجهت بمعارضة واسعة من وزير خارجيتها وكبار شخصيات حزبها، حزب العمال، وتحت تهديداتهم لجأت الى تغيير الموقف نحو الإمتناع. هذا في حين صوتت نيوزيلاندا القريبة الى جانب القرار. كما صوتت إيجاباً كذلك غالبية كبرى من دول أميركا اللاتينية والكاريبي، ودول إفريقيا وآسيا الشرقية والجنوبية، بما في ذلك اليابان والهند.
وكاد تصويت الدول المسلمة أو ذات الأغلبية المسلمة يكون بالإجماع لصالح القرار، لولا امتناع ألبانيا المثير للإنتباه، وهي ليست دولة ذات أغلبية مسلمة فحسب، وإنما هي كانت حتى قبل عقدين من الزمن ترفع لواء الإشتراكية المستقلة عن الإتحاد السوفييتي والصين على حد سواء. هذا مع العلم بأن جمهورية البوسنة والهرسك هي دولة مختلطة تتشكل من ثلاث مجموعات إثنية- ثقافية كبيرة، المسلمون والكروات والصرب. أما كوسوفو، كما هو معروف، فليست عضواً في الأمم المتحدة.

انفراج داخلي قابل للتطوير

وعموما، فإن الحدثين أوجدا إنفراجاً داخليا فلسطينيا هو الأكثر إيجابية منذ العام 2007، حيث برز هناك تضامن شعبي وسياسي فلسطيني كاسح مع غزة في مواجهة العدوان، من جهة، وموقف شبه إجماعي متبن وداعم لمطلب الإعتراف في الأمم المتحدة، من جهة أخرى. وهذا المناخ الإيجابي المشجع يفتح المجال أمام تطويره باتجاه صيغة توافق متطورة تمهيداً لتوفير شروط إعادة توحيد صفوف الشعب الفلسطيني وقواه الفاعلة من أجل إنهاء الإحتلال والظلم التاريخي الواقع عليه.
أما إذا كان هذا المناخ سيقود الى استعادة وحدة سياسية ممأسسة فعلا، فهذا ما ليس واضحاً حتى الآن، وإن كان كل مواطن فلسطيني يأمل بأن يتحقق هذا التوحيد لتدعيم الجهد الضروري لمواصلة ما تبقى من الطريق النضالي الطويل لتأمين جلاء قوات الإحتلال ومستوطنيه عن الأراضي المحتلة عام 1967 وتأمين سائر الحقوق الفلسطينية في هذه المرحلة.
ذلك ان وحدة ممأسسة تتطلب اتفاقاً سياسياً أبعد وأعمق من مجرد إعطاء الإنطباع بالتوافق كما جرى في اتفاق مكة في العام 2007، الذي لم يدم مفعوله طويلاً. فالمهمة المطروحة هي بناء مؤسسات موحدة فاعلة تعيد الثقة والوحدة للشعب الفلسطيني ليس فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة وإنما في كافة مناطق وبلدان التواجد الفلسطيني. ولكن وحدة كهذه تتطلب اتفاقا على رؤية استراتيجية، للمرحلة القريبة القادمة على الأقل، أي لكيفية استكمال الطريق نحو أنهاء الإحتلال المباشر للضفة الغربية والإحتلال غير المباشر لقطاع غزة. ومن الواضح ان هذا التوافق الإستراتيجي لم تنضج شروطه بعد، وإن كان من الحيوي والضروري أن يتم بذل أقصى الجهود للتوصل إليه إستناداً الى المناخ الإيجابي الحالي. ومن الواضح أن كل طرف من الطرفين الرئيسيين في الخلاف القائم، منذ العام 2007 على الأقل، ليس مستعداً حتى الآن ليلتحق باستراتيجية عمل الطرف الآخر. وبما ان الوحدة الفعلية تتطلب التوافق على مسار إستراتيجي واضح مقبول من طرفي أو أطراف الخلاف الداخلي، ومن الشعب الفلسطيني بمجمله، فإن مزيداً من الجهود مطلوب بذلها لتحقيقها. وحتى إن لم تتوفر شروط وحدة كاملة كهذه، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بالضرورة، فأية درجة أعلى من التوافق والتلاقي الحاصلين راهناً هي إنجاز، تساهم في الإنضاج اللاحق لشروط هذه الوحدة المأمولة.
يبقى القول ان ما يجري في المحيط العربي في مناخ الثورات الشعبية من تحرر زاحف من قيود التبعية والإتفاقات التي عقدت في الماضي من موقع الضعف، بعد التخلص من أنظمة الإستبداد والفساد، يصب في نهاية المطاف لصالح النضال الفلسطيني. وهو ما برز بشكل أولي خلال الحرب على غزة وإتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة مصرية، كما ظهر كذلك من خلال توافد العديد من الشخصيات والوفود الرسمية العربية، والتركية أيضاً، على قطاع غزة أثناء الحرب وبعدها. وهذا المنحى سيتعزز بالضرورة مع الزمن، بمعزل عن المراحل الإنتقالية والمخاضات المؤلمة التي تمر بها بلدان الثورات، وخاصة بالنسبة لنا مصر، الدولة الأكبر والأكثر تأثيراً على الوضع الفلسطيني ومجمل الوضع الإقليمي من بين دول الجوار.
وعلى خلفية قرارات حكومة نتنياهو الإنتقامية على صعيد حجز الأموال المستحقة للجانب الفلسطيني وتوسيع الحركة الإستيطانية لتغيير معالم الضفة الغربية والقدس الشرقية ولمواصلة تحطيم مشروع الإستقلال الفلسطيني، الى جانب تصعيد الإعتقالات واجتياحات مدن الضفة الغربية المحتلة، من الواضح ان استنهاض كل القوة الذاتية الفلسطينية في الوطن وفي أقطار اللجوء والشتات، واستجماع كل الدعم والتأييد الشعبي العربي والإقليمي، واستثمار كل التعاطف الدولي، ستساهم في المستقبل القريب في دفع مسيرة الشعب الفلسطيني التحررية الى الأمام وفي إحداث تغيير متواصل لموازين القوى الإجمالية لغير صالح الإحتلال، لوضع حد لهذا الحجم الهائل من الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستين عاماً. وبهذا المنظار، سيسجل أن شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012 كان محطة هامة على هذا الطريق.