الثورة الاشتراكية ونضـال تحرر النساء


الاممية الرابعة
2005 / 3 / 8 - 12:33     

الثورة الاشتراكية ونضال تحرر النساء
نص برنامجي صادق عليه المؤتمر العالمي الحادي عشر للأممية الرابعة – 1979

محتويات:
- طابع اضطهاد النساء والصعود الجديد لنضالاتهن.
- أصل اضطهاد النساء وطبيعته.
- أصول تجذر النساء الجديد.
- أجوبة البورجوازية ومختلف تيارات الحركة العمالية.
- تحرر النساء في البلدان المستعمرة والشبه المستعمرة.
- النساء في الدول العمالية والثورة المغدورة.
- الأممية الرابعة والنضال لأجل تحرر النساء.
- مناهج نضالنا:
- مهام الأممية الرابعة في الوقت الحاضر.
- مقرر حول اجتماعات النساء الداخلية.


مقدمة
تمثل المواقف الأساسية للماركسية حول اضطهاد النساء إحدى الركائز البرنامجية للأممية الرابعة. لكن القرار التالي، هو أول قرار تصادق عليه الأممية بصدد تحرر النساء [3]
والهدف هو تدقيق تحليلنا لاضطهاد النساء، وكذا المكانة التي نوليها للنضال ضد هذا الاضطهاد في قطاعات الثورة العالمية الثلاث: البلدان الرأسمالية المتقدمة والبلدان المستعمرة وشبه المستعمرة والدول العمالية.

طابع اضطهاد النساء والصعود الجديد لنضالاتهن

1/ برز منذ نهاية الستينات تمرد متزايد للنساء ضد ما يتعرضن له من اضطهاد بوصفهن جنسا. إذ بدأت ملايين النساء عبر العالم، لاسيما النساء الشابات –الطالبات والعاملات وربات البيوت- تناقش بعض الجوانب الجوهرية لاضطهادها العريق.
كان أول بلد برز فيه تجذر النساء هذا كظاهرة جماهيرية هو الولايات المتحدة الأمريكية. وتمثلت العلامات المبشرة في بروز آلاف المجموعات النسائية، وتعبئة عشرات ألوف النساء يوم 26 غشت 1970 وأثناء المظاهرات المخلدة للذكرى الخمسين لانتصار نضال النساء الأمريكيات من أجل حق الإقتراع.
لكن موجة نضالات النساء الجديدة بأمريكا الشمالية لم تبق ظاهرة فريدة و معزولة، كما دل عن ذلك بسرعة بزوغ حركات تحرر النساء في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
ظهرت حركة تحرر النساء الجديدة هذه على مسرح التاريخ في إطار حركة أكثر إتساعا، شملت الطبقة العاملة وكل الفئات والقطاعات المستغلة والمضطهدة من سكان العالم.
واكتست هذه الحركة أشكالا متعددة: إضرابات إقتصادية ونضالات ضد الإضطهاد القومي ومظاهرات طلابية ومطالب لحماية البيئة وحركة عالمية ضد الحرب الإمبريالية في فيتنام.
ورغم أن حركة النساء بدأت وسط الطالبات ونساء المهن الحرة، فإن مطالبها شرعت، في تركيب مع التناقضات المتنامية للنظام الرأسمالي، تحرك فئات أوسع بكثير. وبدأت تؤثر في وعي فئات هامة من الطبقة العاملة، رجالا ونساء، وفي طموحاتها وأفعالها.
سبق الصعود الجديد لنضالات النساء، في بلدان عديدة، كل تعديل ذي شأن في كفاحية الطبقة العاملة المنظمة. وكان هذا الصعود في بلدان أخرى كإسبانيا جزءا من تفجر النضالات الطبقة العاملة على كل الجبهات. لكن في كل الحالات عمليا، ولدت الحركة خارج المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة وباستقلال عنها، مما جعل هذه المنظمات تضطر للإستجابة لتلك الظاهرة الجديدة. هكذا أصبح نمو حركة النساء عاملا مهما في المعركة السياسية والأيديولوجية لإضعاف سلطة البورجوازية وعملائها داخل الطبقة العاملة.
إن النمو السريع لحركة تحرر النساء ودورها في تعميق الصراع الطبقي، سواء على المستوى الدولي أو في مختلف البلدان، يثبتان ضرورة اعتبار النضال لأجل تحرر النساء إحدى المكونات الأساسية لصعود الثورة العالمية الجديد.
2/ لا مثيل لتجذر النساء هذا، سواء من حيث عمق ما عبر عنه من رفض على المستويات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، أو من جهة مستتبعاته على النضال ضد الإضطهاد والإستغلال الرأسماليين.
تشارك النساء بأعداد متزايدة، في بلد تلو الآخر، في حملات جماهيرية ضد القوانين الرجعية حول الإجهاض، ومنع الحمل، وضد قوانين الزواج الجائرة، وضد بنيات الحضانة غير الملائمة، وضد كل تقييد قانوني للمساواة. وتندد بالتمييز على أساس الجنس، وتحارب الطريقة التي يتجلى بها في كل المجالات: بدءا بالسياسة والتشغيل والتربية، وصولا إلى الأوجه الخاصة للحياة اليومية، بما فيها عبء العمل المنزلي، وما تتعرض له من عنف وتخويف في البيت وفي الشارع.
تقدم النساء المطالب التي ترفض الأوجه الخاصة لإضطهادهن في النظام الرأسمالي في الوقت الراهن، والتي تهاجم قسمة العمل التقليدية، هذه القسمة الراسخة بين الرجال والنساء في المنزل وفي العمل على حد سواء.
وتطالب النساء باستمرار بإجراءات تفضيلية تفتح لهن أبوابا ظلت إلى ذلك الحين موصدة في كل المجالات، بغية القضاء على ميز اكتسى طابع المؤسسة منذ قرون. ويؤكدن على حقهن بالمشاركة، بكامل المساواة، في كل أشكال الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية: المساواة في التربية وفي فرص العمل والأجر المتساوي للعمل المتساوي.
لأجل أن تغدو هذه المساواة ممكنة، تبحث النساء عن وسائل إنهاء استعبادهن المنزلي. ويطالبن بإضفاء طابع اجتماعي على الأشغال المنزلية والكف عن اعتبارها "عملا خاصا بالنساء". وتسلم أرفعهن وعيا بأن مسؤولية رعاية الصغار والمسنين والمرضى يجب أن تقع على كاهل المجتمع وليس على الخلية العائلية.
كان النضال ضد تجريم الإجهاض ولأجل إتاحته للنساء كافة، في صلب بروز حركة تحرر النساء. واعتبرت ملايين النساء حق التصرف بالجسد واختيار الإنجاب وتوقيته وعدد الأطفال، شرطا أوليا مسبقا لتحررهن.
وتمس مثل هذه المطالب صلب الإضطهاد الخاص بالنساء نفسه الممارس عبر العائلة، وتزعزع أسس المجتمع الطبقي. وتبين إلى أي حد يمثل النضال لأجل تحرر النساء معركة تروم تحويل كل العلاقات الإجتماعية والإنسانية وكيف تضعها في مستوى آخر، أكثر سموا.
3/ أن تبدأ حركة تحرر النساء بإتخاد حجم ظاهرة عالمية، حتى قبل تفاقم التناقضات الإقتصادية للرأسمالية العالمية في أواسط سنوات 1970، فذاك ما يبين العمق الإجتماعي لهذا التمرد. إنه إحدى أوضح علامات عمق الأزمة الإجتماعية التي يشهدها النظام البورجوازي راهنا.
تبرز هذه النضالات درجة تقادم المؤسسات والعلاقات الرأسمالية التي تولد تناقضات متنامية في كل قطاعات المجتمع والتي تسرع أشكال جديدة للصراع الطبقي. ويدفع احتضار الرأسمالية فئات اجتماعية جديدة للصراع المباشر مع الحاجات الأساسية للبورجوازية وامتيازاتها، جالبا هكذا حلفاء جدد للطبقة العاملة ومعززا نضالها لأجل القضاء على النظام الرأسمالي. منذ الآن بدأ تطور نضال النساء ضد إضطهادهن ينزع للطبقات المسيطرة إحدى أكبر أسلحتها المستعملة مليا لشق صفوف المستغلين والمضطهدين وإضعافهم.
4/ كان إضطهاد النساء إحدى المميزات الرئيسية للمجتمع الطبقي عبر العصور. لكن التصدي لجذور هذا الإضطهاد ومحاربة آثاره تعذر طرحه عمليا على نطاق جماهيري قبل عصر الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية. لا يقبل نضال تحرر النساء فصله عن كفاح العمال لإسقاط الرأسمالية. إنه جزء لا ينتقص من الثورة الإشتراكية ومن المنظور الشيوعي لمجتمع بلا طبقات.
يمثل استبدال العائلة البطريركية [4] المرتكزة إلى الملكية الخاصة بطراز أرقى من العلاقات الإنسانية إحدى الأهداف الأولى للثورة الإشتراكية. وسوف تتسارع وثيرة هذه السيرورة وتتعمق كلما ولدت الأسس المادية والإيديولوجية للنظام الشيوعي الجديد. ويدفع نماء حركة تحرر النساء حاليا الصراع الطبقي إلى الأمام ويعززه ويحسن آفاق الإشتراكية.
5/ لن تتمكن النساء من تتويج تحررهن بالنجاح إلا عبر انتصار الثورة الإشتراكية العالمية. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بتنظيم جماهير النساء وتعبئتهن، بوصفهن طرفا في الصراع الطبقي. ها هنا تكمن الدينامية الثورية الموضوعية لنضالات تحرر النساء والداعي الأساسي لانخراط الأممية الرابعة في هذه النضالات ولإسهامها في مد النساء المناضلات لأجل تحررهن بقيادة ثورية.

أصل اضطهاد النساء وطبيعته

1/ خلافا لمزاعم كثيرة، ليس اضطهاد النساء محددا بيولوجيا. فأسسه ذات طبيعة إقتصادية واجتماعية. فطوال المجتمع ما قبل الطبقي والمجتمع الطبقي، لم تتبدل وظيفة الإنجاب عند النساء. لكن مكانتهن الإجتماعية لم تكن دوما مكانة تلك الخادمة المنزلية الخاضعة لتحكم الرجل وسيطرته.
2/ قبل تطور المجتمع الطبقي، خلال الفترة التاريخية التي يسميها الماركسيون عادة الشيوعية البدائية (مجتمع الكفاف)، كان تنظيم الإنتاج الإجتماعي جماعيا وتوزيع منتوجه منصفا. لهذا إنعدم آنذاك كل اضطهاد أو إستغلال مجموعة أو جنس من طرف آخر بسبب إنعدام الأسس المادية لهذا النوع من العلاقات الإجتماعية. وكان الجنسان يشاركان في الإنتاج الإجتماعي مساهمين في ضمان معاش الجميع وبقائهم. وكان الوضع الإجتماعي للنساء كما للرجال إنعكاسا لدور كلاهما اللازم في سيرورة الإنتاج.
3/ ارتبط أصل اضطهاد النساء بالإنتقال من المجتمع ما قبل الطبقي إلى المجتمع الطبقي. وتمثل السيرورة الدقيقة التي جرى بها الإنتقال المعقد موضوعا دائما للأبحاث والنقاشات حتى بين الموافقين على رؤية مادية للتاريخ. وكيفما كان الأمر، فإن الملامح الأساسية لبروز اضطهاد النساء واضحة.
تزامن تحول مكانة النساء هذا مع نمو إنتاجية العمل المرتكز على الزراعة وتدجين الماشية وتكوين مخزونات، كما تزامن مع ظهور تقسيمات جديدة في العمل والحرف والتجارة، ومع التملك الخاص لنتاج إجتماعي فائض متزايد ومع تطور إمكان إغتناء البعض باستغلال عمل الآخرين.
في ظل هذه الظروف الإقتصادية-الإجتماعية الخاصة، وعندما أصبح استغلال الإنسان مصدر أرباح قلة من ذوي الإمتياز، أصبحت النساء، بفعل دورهن البيولوجي في الإنجاب، ملكية مربحة. كانت النساء كالعبيد والماشية مصدر ثروات. فوحدهن قادرات على إنتاج كائنات بشرية جديدة يمكن استغلال عملها فيما بعد. لذا أصبح تملك النساء من طرف الرجال، وبالتالي امتلاكهم كل الحقوق على ذريتهن القادمة، إحدى المؤسسات الإقتصادية والإجتماعية للنظام الجديد المرتكز على الملكية الخاصة. وأنيط بالمرأة أكثر فأكثر دور إجتماعي بوصفها خادمة ومنجبة أطفال.
على نحو مواز لتراكم الثروات الخاص، تطورت العائلة البطريركية بما هي مؤسسة تنقل مسؤولية أعضاء المجتمع غير المنتجين –لاسيما الأطفال- من المجتمع برمته إلى شخص بعينه أو مجموعة أشخاص صغيرة.إنها أول مؤسسة إقتصادية-إجتماعية تضمن تأبيدا عبر الأجيال لإنقسام المجتمع إلى طبقات، إي الإنقسام بين الذين يملكون ثروات ويعيشون من عمل الآخرين والذين لا يملكون شيئا ويضطرون للعمل لفائدة الآخرين للبقاء على قيد الحياة. وكان تدمير تقاليد المساواة والحياة الجماعية للشيوعية البدائية أساسيا لولادة طبقة مستغلة كما سرع وثيرة التراكم الخاص للثروات.
هنا يكمن أصل العائلة البطريركية. والواقع أن كلمة العائلة نفسها، التي لا زالت مستعملة في اللغات ذات الأصل اللاتيني، إشتقت من الكلمة الاثينية "famulus" التي تعني العبد المنزلي ومن الكلمة اللاتينية "familia" التي تعني مجموعة عبيد في ملك رجل واحد.
كفت النساء عن القيام بأي دور مستقل في الإنتاج الإجتماعي. فدورهن الإنتاجي تحدده العائلة التي ينتمين إليها والرجل الذي يخضعن له. وحددت هذه التبعية الإقتصادية المكانة الإجتماعية الثانوية للنساء التي مثلت دوما ركيزة تماسك العائلة البطريركية واستقرارها. ولو أمكن للنساء بكل بساطة أخذ أطفالهن والإنصراف دون أن يستلزم ذلك أي إعاقة إقتصادية أو إجتماعية لما بقيت العائلة البطريركية قائمة طوال آلاف السنين
تزامن ظهور العائلة البطريركية وإخضاع النساء داخلها مع باقي مؤسسات المجتمع الطبقي الناشئ لأجل ترسيخ التقسيم الطبقي الجديد وتأبيد التراكم الخاص للثروات. وعززت الدولة بشرطتها وجيشها وقوانينها ومحاكمها هذا الطراز من العلاقات. وعلى هذه القاعدة ولدت إيديولوجية الطبقات المسيطرة، بما فيها الدين، وأدت دورا حيويا لتبرير الإذلال الذي تعرض له جنس النساء.
4/ العائلة هي المؤسسة الأساسية للمجتمع الطبقي التي تحدد الطابع النوعي لإضطهاد النساء بصفتهن جنسا وتحافظ عليه.
أتبثت مؤسسة العائلة عبر تاريخ المجتمع الطبقي قيمتها بما هي مؤسسة للسيطرة الطبقية. وتطور شكل العائلة وتكيف مع الحاجات المتغيرة للطبقات المسيطرة بقدر تطور أنماط الإنتاج وأشكال الملكية الخاصة في مختلف مراحل التطور الإجتماعي. إذ كانت مؤسسة العائلة في نمط الإنتاج العبودي الكلاسيكي مختلفة عن مؤسسة العائلة في نمط الإنتاج الإقطاعي (لم تكن حقا لدى العبيد عائلة). وكلتاهما مختلفة عما يسمى "العائلة النواتية" المدينية الحالية.
وعلاوة على أن مؤسسة العائلة تستجيب في نفس الوقت لمتطلبات إجتماعية و إقتصادية متباينة حسب الطبقات التي لها أدوار مختلفة في عملية الإنتاج وحقوق ملكية مختلفة، والتي تتناقض مصالحها تناقضا كليا، كانت "عائلة" القن و"عائلة" النبيل، على سبيل المثال، تشكيلات إقتصادية-إجتماعية متباينة للغاية. لكن كلاهما إنتمى لمؤسسة العائلة، أي مؤسسة المجتمع الطبقي التي قامت بدور لا غنى عنه في كل مراحل تطوره التاريخي.
العائلة هي المكان الوحيد في المجتمع الطبقي الذي يمكن أن يلجأ إليه أغلب الناس لمحاولة إشباع عدد من الحاجات الإنسانية الأساسية كالحب أو الحياة المشتركة. ومهما كان بؤس إشباع العائلة لحاجات الكثير منهم، فليس ثمة من بديل ما دامت الملكية الفردية موجودة. ويؤدي تفكك العائلة في ظل الرأسمالية إلى معاناة وبؤس كثيرين بالنظر بالضبط إلى إستحالة أي شكل أرقى للعلاقات الإنسانية في ظل هذا النظام.
لكن ليس منح المحبة والحياة المشتركة هو ما يحدد طبيعة مؤسسة العائلة. إنها مؤسسة إقتصادية وإجتماعية يمكن إنجاز وظائفها فيما يلي:
أ- العائلة هي الآلية الأساسية التي تتملص بها الطبقات المسيطرة من المسؤولية الإجتماعية المتمثلة في الإعالة الإقتصادية لمن تستغل قوة عملهم وهم أغلبية النوع البشري. وتحاول الطبقة المسيطرة، قدر الإمكان، جعل كل عائلة مسؤولة عن نفسها، مضيفة بذلك طابعا مؤسسيا على التوزيع اللا متكافئ للدخل والثروات.
ب- تمنح مؤسسة العائلة وسيلة نقل الثروات من جيل لآخر: إنها الآلية الإجتماعية الأساسية لتأبيد انقسام المجتمع إلى طبقات.
ج- المؤسسة العائلية هي، بالنسبة للطبقة المسيطرة، أرخص آلية لإعادة إنتاج قوة العمل وأكثرها قبولا من الناحية الأيديولوجية: إلقاء مسؤولية إعالة الشباب على عاتق العائلة، أي أقصى خفض لقسط الثروات الإجتماعية –التي أصبحت ملكية فردية- المخصص لإعادة إنتاج الطبقات الكادحة. بل أكثر، يؤدي نضال كل عائلة بشكل معزول لضمان بقاء ذويها، إلى منع الأكثر عرضة للإستغلال والإضطهاد من الإتحاد في فعل مشترك.
د- تعزز المؤسسة العائلية التقسيم الإجتماعي للعمل والذي تتحدد فيه النساء أساسا بدورهن كمنجبات، وتوكل إليهن مهام مرتبطة مباشرة بوظيفة الإنجاب هذه: الإعتناء بأفراد العائلة الآخرين. هكذا ترتكز مؤسسة العائلة إلى تقسيم إجتماعي للعمل وتعززه، وهو تقسيم يخضع النساء لنير العمل المنزلي والتبعية الإقتصادية.
هـ- المؤسسة العائلية مؤسسة قمعية ومحافظة تعيد داخلها إنتاج علاقات التراتب والسلطة الضرورية للحفاظ على المجتمع الطبقي برمته. إنها تحافظ على سلوكات التملك والتنافس والعدوانية الضرورية لتأبيد التقسيم الطبقي.
إنها تكيف سلوك الأطفال وطبعهم منذ سن مكبرة حتى المراهقة. وتروضهم وتخضعهم للإنضباط وتجندهم وتعلمهم الخضوع للسلطة القائمة. إنها تحطم التمردات و الإندفاعات المناهضة للامتثالية، وتقمع كل نشاط جنسي وتحرفه وتضبطه في سلوكات جنسية ذكرية أو أنثوية مقبولة إجتماعيا ومطابقة لأهدافها في مجال الإنجاب وكذا فيما يخص الدور الإقتصادي-الإجتماعي للرجال والنساء. إنها ترسخ في الأذهان كل القيم الإجتماعية وقواعد السلوك الواجب على الأشخاص إستيعابها لأجل العيش في إطار إكراه إقتصادي وتبعية فردية وقمع جنسي.
5/ تطورت مؤسسة العائلة في ظل الرأسمالية، وكذا طوال المراحل التاريخية الأخرى. لكنها تظل مؤسسة لا غنى عنها في المجتمع الطبقي وتقوم بكل الوظائف الإقتصادية و الإجتماعية الآنفة.
تضمن العائلة داخل البورجوازية انتقال الملكية الخاصة من جيل لآخر. ويتيح الزواج غالبا تحالفات مربحة أو إندماج رساميل هامة، على وجه الخصوص في الأطوار الأولى من تراكم الرأسمال.
وكذلك عند البورجوازية الصغيرة التقليدية، عند الفلاحين والحرفيين والتجار الصغار، تمثل العائلة وحدة إنتاج ترتكز على عمل أفرادها.
إن العائلة مؤسسة غريبة عن الطبقة العاملة، رغم أنها تؤمن لأفرادها حدا أدنى من الحماية المتبادلة، فهي مؤسسة مفروضة على البروليتاريا وتخدم المصالح الإقتصادية للبورجوازية، لا مصالح العمال. بيد أن العمال جرى تكييفهم منذ الطفولة على اعتبار العائلة (مثل العمل المأجور أو الملكية الخاصة أو الدولة) أكثر العلاقات الإنسانية طبيعية وديمومة.
أ?- مع مجيء الرأسمالية ونمو الطبقة العاملة كفت الوحدة العائلية لدى العمال عن كونها وحدة إنتاج بورجوازية صغيرة، إنها بقيت الوحدة الأساسية لضمان رعاية قوة العمل وإعادة إنتاجها.
ويبيع كل فرد من العائلة قوة عمله في السوق بشكل فردي. وبدأ ينحل ذلك الرباط الإقتصادي الأساسي الذي حافظ من قبل على العائلة داخل الفئات المضطهدة والمستغلة- على سبيل المثال وجوب عمل الجميع للبقاء على قيد الحياة. وحصلت النساء، بفعل إقتيادهن إلى سوق العمل، على حد أدنى من الإستقلال الإقتصادي لأول مرة منذ ظهور المجتمع الطبقي. وهذا ما يجنح إلى نسف قبول خضوعهن في إطار المنزل. وعليه فإن مؤسسة العائلة نفسها هي التي أصبحت موضع إعادة نظر.
ب- ثمة في الواقع تناقض بين إدماج النساء المتزايد في سوق العمل وبقاء العائلة. فعندما تحوز النساء إستقلالا أكبر على المستوى الإقتصادي ومزيدا من المساواة، يبدأ تفكك المؤسسة العائلية. لكن العائلة هي ركيزة لا غنى عنها في المجتمع الطبقي. والحفاظ عليها شرط ضروري لبقاء الرأسمالية.
ج- يسبب عدد النساء المتنامي في سوق العمل تناقضات عميقة للطبقة المسيطرة، لاسيما خلال فترات التوسع المتسارع. إذ يتوجب على أرباب العمل تشغيل مزيد من النساء للإستفادة من فرط إستغلالهن. لكن تشغيل النساء هذا ينزع إمكانية تأبيد النظام الذي يلقي على النساء مسؤولية القسط الأعظم من العمل المنزلي المجاني القائم على رعاية الأطفال. وهكذا تضطر الدولة أن تنوب جزئيا عن العائلة بالإضطلاع ببعض وظائفها الإقتصادية-الإجتماعية كالتربية وحضانة الأطفال.
لكن هذه الخدمات الإجتماعية مكلفة أكثر من عمل النساء المنزلي المجاني. إنها تمتص جزءا من فائض القيمة الذي كان سيؤول إلى أصحاب الرساميل. إنها تنقص أرباحهم. بل أكثر من هذا تقوم الخدمات الإجتماعية من هذا النوع بتعزيز فكرة أن المجتمع هو الذي سيتحمل مسؤولية أفراده غير المنتجين وليس العائلة. إنها تخلق طموحات جديدة داخل الطبقة العاملة.
د- يؤدي عمل النساء المنزلي المجاني (الطبخ –التنظيف –الغسيل –رعاية الأطفال) دورا إقتصاديا خاصا في النظام الرأسمالي. وهذا العمل المنزلي عنصر ضروري لإعادة إنتاج قوة العمل التي تباع للرأسماليين (سواء تعلق الأمر بقوة عمل المرأة أو زوجها أو أبنائها أو أي فرد من العائلة).
لو كانت المرأة لا تقوم بعمل مجاني داخل العائلات البروليتارية، وبافتراض تساوي باقي العوامل، لارتفع المستوى العام للأجور. فعلى الأجور الفعلية أن تبلغ من الإرتفاع ما يتيح شراء المواد والخدمات التي تنتج حاليا داخل العائلة (طبعا مستوى العيش العام الضروري لإعادة إنتاج قوة العمل هو معطى محدد تاريخيا حسب كل بلد ومرحلة. ولا يمكن تقليصه بحدة إلا في حال هزيمة ساحقة للطبقة العاملة). وعليه سيودي كل خفض عام للعمل المنزلي الذي تقوم به النساء مجانا إلى إنخفاض كتلة الأرباح الإجمالية، مغيرا توازن الأرباح والأجور لصالح البروليتاريا.
مهما كان نفع عمل النساء المنزلي، فإنه لا ينتج منتجات تبادلية للسوق. لذا فهو لا ينتج قيمة ولا فائض قيمة، علاوة على أنه لا يندمج مباشرة في سيرورة الإستغلال الرأسمالي. فمن ناحية القيمة فإن العمل المنزلي المنجز مجانا داخل العائلة يؤثر في معدل فائض القيمة، إذ يرفع بطريقة غير مباشرة الكتلة الإجمالية لفائض القيمة الإجتماعي. وهذا صحيح سواء أنجزت النساء هذا العمل بمفردهن أو شارك فيه الرجال.
إن الطبقة الرأسمالية (وليس الرجال عموما ولا بالتأكيد الأجراء الذكور) هي التي تستفيد من عمل النساء المجاني داخل البيت. ولا يمكن القضاء على "استغلال" العائلة البروليتارية هذا، الذي يضغط بثقله على النساء في المقام الأول، إلا بإطاحة الرأسمالية وإضفاء الطابع الإجتماعي على المهام المنزلية في إطار سيرورة بناء المجتمع الإشتراكي.
هـ- دور العائلة الذي لا غنى عنه والمعضلة التي يخلقها للرأسماليين تزايد تشغيل النساء، يصبحان أكثر وضوحا خلال فترة الأزمة الإقتصادية. عندها يصبح للطبقة المسيطرة هدفان أساسيان:
عليها أن تطرد من سوق العمل عددا كبيرا من النساء لإعادة خلق احتياط من اليد العاملة وفرض تخفيض مستوى الأجور.
عليها أن تقلص تكاليف الخدمات الإجتماعية المتنامية التي تقدمها الدولة وتعيد إنزال العبء الإقتصادي ومسؤولية هذه الخدمات على عاتق كل عائلة عمالية بشكل فردي. يتوجب على الرأسماليين، بغية تحقيق هذين الهدفين معا، أن يشنوا هجوما إيديولوجيا ضد فكرة المساواة واستقلال النساء، وأن يعززوا مسؤولية العائلة الفردية تجاه أطفالها وشيوخها ومرضاها. ويجب عليهم تدعيم صورة العائلة كشكل "طبيعي" وحيد للعلاقات الإنسانية، وإقناع النساء اللائى بدأن يتمردن على منزلتهن الوضيعة بأن السعادة الحقيقية لا يمكن أن تأتيهن إلا من القيام بدورهن "الطبيعي" الأساسي، دور الزوجة والأم وخادمة البيت. وبامتعاض يبدأ الرأسماليون يكتشفون أنه رغم صراخهم حول الأزمة والتقشف الذي لا مفر منه، كلما اندمجت النساء في سوق العمل كلما صعب إرجاع عدد كاف منهن إلى المنزل
و:خلال المراحل الأولى للتصنيع الرأسمالي بلغ إستغلال النساء والأطفال، غير الخاضع لأي قانون وطليق العنان والفاحش، مستوى يزعزع جديا بنية العائلة داخل الطبقة العاملة ويهدد فائدتها بوصفها نظاما يتيح تنظيم قوة العمل والتحكم بها وإعادة إنتاجها. هذا الميل هو ما نبه إليه ماركس وانجلز في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر. وقد توقعا زوالا سريعا للعائلة داخل الطبقة العاملة. وكانا على صواب فيما خص أسس تحليلهما وفهمهما لدور العائلة داخل النظام الرأسمالي. لكنهما أساءا تقدير القدرة الكامنة لدى الرأسمالية على إبطاء وتيرة تطور تناقضاتها الداخلية. لقد أساءا تقدير إمكانات تدخل الطبقة المسيطرة لتنظيم تشغيل النساء والأطفال وتعزيز العائلة لأجل الحفاظ على النظام الرأسمالي نفسه. وبضغط قوي من الطبقة العاملة يروم تخفيف استغلال النساء والأطفال الفاحش، تدخلت الدولة حسب المصالح بعيدة المدى للطبقة المسيطرة، ولو ضد أهداف كل رأسمالي بمفرده (مصلحة تدفعه إلى امتصاص دم كل عامل طيلة 16 ساعة في اليوم وتركه يموت في حدود 30 سنة).
ز- إن الساسة الرأسماليين المسؤولون عن وضع سياسات موجهة للدفاع عن مصالح الطبقة المسيطرة واعون تمام الوعي بالطابع اللازم لدور العائلة الإقتصادي و الإجتماعي والسياسي، ولضرورة الحفاظ عليها بما هي بنية إجتماعية أساسية للرأسمالية. وليس "الدفاع عن العائلة" مجرد شعار ديماغوجي لليمين المتطرف. فالحفاظ على المؤسسة العائلية هو التوجه السياسي الأساسي لكل دولة رأسمالية، تمليه الضرورات الإجماعية و الإقتصادية للرأسمالية نفسها.
6/ تمنح العائلة أيضا في ظل الرأسمالية الآلية الضرورية لإستغلال النساء المكثف بوصفهن عاملات:
أ - إنها تزود الرأسمالية باحتياط من اليد العاملة مرن بشكل فريد، يمكن إدخاله إلى سوق العمل أو إرجاعه إلى المنزل مع عواقب إجتماعية أقل بكثير قياسا بمكونات الجيش الإحتياطي الأخرى.
نظرا لكون كل البنية الفوقية الأيديولوجية تعزز خرافة أن مكانة المرأة هي المنزل، فإن مستوى مرتفعا من بطالة النساء له نسبيا عواقب أقل على مستوى التعبئات الإجتماعية. إذ يقال إن النساء على كل حال لا يعملن إلا للحصول على تكملة لدخل موجود لدى العائلة. وإن كن عاطلات فإنهن مع ذلك ينشغلن بالمهام المنزلية وبالتالي ليس جليا أنهن "دون عمل". وغالبا لا يستطيع غضبهن وسخطهن أن يتحول إلى خطر إجتماعي حقيقي نظرا لعزلتهن و تذريرهن بما هن نساء منزل منفصلات عن بعضهن البعض، لهذا تؤدي دوما إجراءات التقشف التي تتخذها الطبقة المسيطرة خلال فترات الأزمة الإقتصادية إلى هجمات على حق النساء في العمل وتتجلى في الضغوط المتزايدة عليهن لقبول مناصب عمل جزئي وتعويضات خاصة بـ"ربات البيوت" وتقليص الخدمات الإجتماعية كالحضانات.
ب -إفتراض أن مكانة النساء "الطبيعية" هي المنزل يمد الرأسمالية بتفسيرات عقلانية مقبولة على نحو واسع لتأبيد:
1. تشغيل النساء في أعمال هزيلة الأجر وعديمة التأهيل. "لا حاجة لتكوينهن لأنهن يصبحن حوامل ويتزوجن وينصرفن" 2. التفاوت ومستوى أجور منخفض "لا يعملن على كل حال سوى لشراء زخارف وأشياء تافهة" 3. إنقسامات عميقة داخل الطبقة العاملة نفسها: "إنها تعمل مكان الرجل" 4. ضعف نسبة النساء العاملات المنتسبات إلى النقابات أو منظمات عمالية أخرى "لا يجب أن تهرع المرأة من اجتماع إلى آخر، فمكانها في المنزل لرعاية الأطفال" ج -بما أن كل نظام العمل المأجور مبني انطلاقا من أخفض الأجور، فإن فرط استغلال النساء هذا بوصفهن يد عاملة احتياطية يقوم بدور لا غنى عنه لأجل الإبقاء على المستوى المنخفض لأجور الرجال.
د-يمنح إخضاع النساء داخل مؤسسة العائلة الأسس الإقتصادية و الإجتماعية والأيديولوجية التي تتيح استغلالهن بإفراط. ليست العاملات مستغلات كقوة عمل مأجورة وحسب، بل كقسم منبوذ من اليد العاملة بسبب جنسهن.
7/ بما أن اضطهاد النساء مرتبط تاريخيا بانقسام المجتمع إلى طبقات، وبدور العائلة كوحدة أساسية للمجتمع الطبقي، فإنه لا يمكن القضاء على هذا الإضطهاد إلا بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إن الطابع الطبقي لعلاقات الإنتاج هذه –وليس القدرات الإنتاجية للبشرية- هو الذي يعيق حاليا نقل وظائف العائلة الإقتصادية و الإجتماعية في ظل الرأسمالية إلى المجتمع برمته
8/ إن التحليل المادي للأصول التاريخية والجذور الإقتصادية لإضطهاد النساء أساسي لتقديم برنامج ومنظورات قادرة على فرض تحرر النساء. ويؤدي رفض هذا التفسير العلمي، لا محالة، إلى إحدى الخطأين التاليين:
أ -خطأ ارتكبه العديد ممن يؤكدون اتباع المنهج الماركسي، يرفض، أو على الأقل يقلل أهمية وجود إضطهاد جنس النساء طوال تاريخ المجتمع الطبقي. إنهم يعتبرون اضطهاد النساء مجرد جانب صرف وبسيط من استغلال الطبقة العاملة. ومن وجهة النظر هذه لا يولون أهمية سوى للنضالات التي تخوضها النساء في أماكن العمل. إنهم يعتقدون أن الثورة الإشتراكية، خلال مسيرها ستحرر النساء، ولذا فهن في غنى عن التنظيم بصفتهن نساء يناضلن من أجل مطالبهن الخاصة. إن إنكار ضرورة تنظيم النساء لأجل النضال ضد إضطهادهن يعمق الإنقسامات داخل الطبقة العاملة مؤخرا بذلك نمو وعي طبقي لدى النساء اللائى بدأن يتمردن على مكانتهن المتدنية.
ب-خطأ مقابل إرتكبه من يعتقد بوجود سيطرة الرجال على النساء قبل ظهور المجتمع الطبقي، وبتجسدها في تقسيم العمل على أساس الجنس. هكذا وجب تفسير الإضطهاد البطريركي بعوامل أخرى غير تطور الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي. يعتبر النظام البطريركي نظام علاقات إضطهاد مواز للعلاقات الطبقية لكنه مستقل عنها.
على العموم تقوم التيارات التي طورت وجهة النظر هذه على نحو ممنهج بعزل مسألة دور النساء في الإنجاب وتركز تحليلها على هذه النقطة وحدها. إنها تجهل إلى حد كبير تفوق العمل التعاوني، جوهر المجتمع الإنساني، وتولي أهمية ضئيلة لمكانة النساء في سيرورة الإنتاج في كل مرحلة تاريخية. بل ذهب البعض إلى التنظير لوجود نمط بطريركي للإنجاب، خارج الزمن، مركزا على تحكم الرجال بوسائل الإنجاب (النساء). وتقدم في الغالب تفسيرات خاصة بالتحليل النفسي، تسقط في مثالية لا تاريخية، ترى جذور الإضطهاد في البيولوجيا أو النفسية متغاضية هكذا عن تصور ماركسي للعلاقات الإجتماعية.
يضم هذا التيار، المنظم أحيانا تحت اسم "النسوية الراديكالية"، المناهضات صراحة للماركسية ونساء أخريات يعتبرن أنهن يقترحن "إعادة تحديد نسوي للماركسية". لكن إعتبار إضطهاد النساء موازيا لتطور المجتمع الطبقي وليس متجذرا في بزوغه، يقود أكثرهن إتساقا إلى التأكيد على ضرورة حزب سياسي للنساء مرتكز على برنامج "نسوي" يدعي الإستقلال عن صراع الطبقات.
إنهن يعادين ويرفضن ضرورة تنظيم الرجال والنساء سوية على أساس برنامج ثوري للطبقة العاملة لوضع حد للإستغلال الطبقي وللإضطهاد الجنسي، ولا تدركن ضرورة التحالف في النضال مع باقي الفئات المضطهدة والمستغلة.
تنكر كلتا هاتين المقاربتين، أحاديتي الجانب، الدينامية الثورية للنضال من أجل تحرر النساء بما هي جزء من الصراع الطبقي. ولا يتسنى لأي منهما فهم أن انتصار نضال تحرر النساء يقتضي تخطي حدود علاقات الملكية الرأسمالية. كلاهما ترفض ما يمليه ذلك على الطبقة العاملة وعلى قيادتها الماركسية الثورية.

***************************************
الجزء الثاني

أصول تجذر النساء الجديد

1/ حركة تحرر النساء الحالية هي وريث نضالات النساء الأولى في نهاية القرن الماضي. جرى مع توطيد الصناعة الرأسمالية خلال القرن 19 إدماج أعداد متزايدة من النساء في سوق العمل. وأدى الفارق بين مكانة النساء الإجتماعية والقانونية الموروثة عن الإقطاع ومكانتهن الإقتصادية الجديدة كعاملات أجيرات يبعن قوة عملهن في السوق، إلى تناقضات صارخة. كما فتحت الرأسمالية لنساء الطبقة المسيطرة باب الإستقلال الإقتصادي. وترتبت عن هذه التناقضات أولى موجات نضال النساء لأجل المساواة الكاملة مع الرجال في الحقوق.
شاركت تيارات سياسية مختلفة في هذا النضال لأجل حقوق النساء. واعتقد العديد من زعيمات الدفاع عن حق النساء في الإقتراع أنهن سيحرزن هذا الحق بإظهارهن للطبقة المسيطرة دعمهن الصادق للنظام الرأسمالي. وربطت بعضهن النضال لأجل حق الإقتراع بدعم الحرب العالمية الإمبريالية الأولى، وعارضن في الغالب حق إقتراع غير المالكين رجالا ونساء ومهاجرين وسودا.
لكن قام أيضا في بلدان عديدة تيار قوي من نساء إشتراكيات إعتبرن الكفاح لأجل حقوق النساء جزءا من نضال الطبقة العاملة. وقمن بتعبئة رجال ونساء الطبقة العاملة على هذا الأساس. وناضلن لأجل حق الإقتراع وقمن بدور حاسم في هذا النضال بعدد من البلدان كالولايات المتحدة الأمريكية. وناضلن أيضا من أجل مطالب أخرى كالمساواة في الأجور وموانع الحمل. وشهدت حتى بعض البلدان شبه المستعمرة كالشيلي والأرجنتين والمكسيك بروز مجموعات نسوية في نفس الفترة.
وبفضل هذا النضال أحرزت النساء في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما، وعلى مستويات متعددة، عدة حقوق ديمقراطية هامة: الحق في التعليم العالي وحق ممارسة التجارة والمهن الحرة وحق الحصول على أجرتهن والتصرف فيها (والذي أعتبر من قبل حقا للزوج أو الأب )وحق التملك وحق الطلاق وحق المشاركة في منظمات سياسية. وفي بلدان عديدة بلغ هذا التمرد الأول ذروته في نضالات جماهيرية لأجل حق الاقتراع.
2/ كان اقتراع النساء الذي تم كسبه مباشرة بعد الإقتراع العام للرجال، وأحيانا بتزامن معه، مكسبا موضوعيا مهما للطبقة العاملة. وكان تعبيرا عن التحولات التي جرت في مكانة النساء الإجتماعية وبالمقابل أسهم في تطويرها. ولأول مرة في المجتمع الطبقي جرى إعتبار النساء مواطنات قادرات قانونيا على المشاركة في الشؤون العمومية، مع حق التعبير عن آرائهن بصدد المشاكل السياسية الكبرى، وليس فقط حول مسائل شخصية ومنزلية.
ورغم أن السبب الأساسي لمكانة النساء المتدنية كامن في جذور المجتمع الطبقي نفسها، وفي دور النساء الخاص في العائلة، وليس في كون القانون يحرمهن شكليا من المساواة، فإن إمتداد الحقوق الديموقراطية إلى النساء منحهن هوامش أوسع للتحرك، وساعد الأجيال اللاحقة على فهم أن مصدر إضطهاد النساء أعمق.
3/ يجب البحث عن أصل تجذر النساء الجديد في التحولات الإقتصادية و الإجتماعية لما بعد الحرب العالمية الثانية التي ولدت تناقضات عميقة في الإقتصاد الرأسمالي وفي مكانة النساء وفي العائلة البطريركية. وأثرت نفس العوامل، وبدرجات متباينة في كل البلدان المرتبطة بالسوق الرأسمالي العالمي. لكن ليس مفاجئا أن إنبعاث حركة النساء الحالية جرى أولا داخل البلدان الرأسمالية المتقدمة كالولايات المتحدة وكندا وبريطانيا حيث كانت تلك التحولات والتناقضات أشد عمقا.
أ?. خلق تطور الطب والتكنولوجيا في مجال منع الحمل والإجهاض الوسائل التي تتيح للنساء تحكما أكبر في وظائفهن الإنجابية. إن تحكم النساء في أجسادهن هو شرط مسبق لتحرر النساء.
بينما تصبح هذه الوسائل الطبية متيسرة، تقيم القوانين الرجعية المعززة بالعادات البورجوازية والتزمت وكل البنية الفوقية الأيديولوجية للمجتمع الطبقي، عائقا أمام تحكم النساء في إنجابهن. ويجري إختلاق حواجز مادية وقانونية ونفسية و"أخلاقية" لمحاولة منع النساء من إتخاد القرار: هل يردن الإنجاب ومتى؟ علاوة على أن البحث عن الأرباح الملازم للنظام الرأسمالي، وكذلك الإحتقار المنطوي على تمييز على أساس الجنس فيما يتعلق بحياة النساء يستتبع بالنسبة لللائي يستعملن وسائل منع الحمل مخاطر دائمة بصحتهن.
يهم هذا التناقض بين الممكن والقائم فعلا كل النساء. وقد كان مصدر النضالات الجماهيرية لأجل حق الإجهاض التي كانت في صلب الحركة النسائية على المستوى العالمي.
ب. أدى الإزدهار الإقتصادي السريع لما بعد الحرب إلى تزايد كبير جدا في نسبة النساء بسوق العمال. ففي الولايات المتحدة مثلا كانت 33.9% من مجموعة نساء فئة 18 إلى 64 سنة ينتمين إلى اليد العاملة سنة 1950. وفي سنة 1975 بلغت هذه النسبة 54%. وفي ما بين 1960 و1975 كان قرابة ثلثي مناصب الشغل المحدثة في حوزة النساء. ومثلت النساء العاملات 29.1% من السكان النشيطين سنة 1950، وفي سنة 1978 بلغت النسبة 43%.
ومن الوقائع الهامة أيضا، الإرتفاع الكثيف لنسبة العاملات الأمهات وكذلك نسبة العاملات المسؤولات عن عائلة.
وفي إسبانيا إرتفع عدد النساء العاملات حاليا ثلاث مرات بالمقارنة مع 1930. وفي إنجلترا ظلت نسبة النساء العاملات مستقرة في حوالي 25-27%. من 1881 إلى 1951. في سنة 1965 كان 34% من النساء من فئة 16 إلى 64 سنة يعملن كل الوقت و 17.9% جزئيا. وفي المجموع كان 54.3% يندرجن في فئة "النشيطات إقتصاديا" وكان تقريبا ثلثا النساء العاملات متزوجات.
وحدها البلدان التي حافظت على نسبة مهمة من السكان الفلاحين بعد الحرب العالمية هي التي شهدت إنخفاض نسبة النساء العاملات طوال تلك الفترة. ومرد هذا إلى أن عددا كبيرا من النساء هاجرن من القرى دون أن يجدن مكانا ضمن "السكان النشيطين". ففي إيطاليا مثلا أدى ترافق هذا العامل مع نمو كثيف للبطالة في المنشآت الصغرى في القطاعات "الخاصة بالنساء" إلى إنخفاض نسبة النساء العاملات.
وتلازم هذا التراجع، في مناطق أشد تأخرا كجنوب إيطاليا أو شمال البرتغال، مع إنبعاث العمل المنزلي على نطاق واسع. واضطرت النساء أن ينجزن في المنزل عملا بالقطعة على آلة الخياطة موفرين بذلك لأرباب العمل مصاريف صيانة مصنع وأداء النفقات الإجتماعية والإضرابات و"مشاكل" أخرى مرتبطة بوجود قوة عمل منظمة.
بينما تدفقت النساء على سوق العمل، لم تتغير درجة الميز اتجاههن على مستوى الأجور. والواقع أن الفرق في الأجور بين الرجال والنساء سائر إلى الإرتفاع في بلدان عديدة.
السبب الأول هو أن نمو التشغيل لم يشمل كل فئات التشغيل. وفي كل البلدان تقريبا تمثل النساء 70% إلى 90% من الأجراء في صناعة النسيج وصناعة الأحذية والثياب الجاهزة والتبغ والصناعات الخفيفة الأخرى حيث الأجور أشد انخفاضا.
كذلك تمثل النساء أكثر من 70% من أجراء قطاع الخدمات حيث تشغل أغلبيتهن المناصب الأقل مكافأة: كاتبات وموظفات مكاتب وممرضات ومعلمات ومراقبات، الخ.
إن الميز في قطاعات الشغل –المفاقم بفعل تفاوت مكافأة نفس العمل حسب الجنس- هو السب الأساسي الذي يجعل متوسط أجر النساء نادرا ما يتجاوز 75% من نظيره عند الرجال حتى في البلدان التي ناضلت فيها الحركة العمالية أكثر حول هذه القضية. وهذا يفسر أيضا حتى إمكان إرتفاع الفرق مع دخول النساء الكثيف إلى قطاعات الإقتصاد حيث الأجور أكثر إنخفاضا. تلك حالة الولايات المتحدة الأمريكية حيث مثل متوسط دخل النساء العاملات كامل الوقت طوال السنة 64% من نظيره لدى الرجال سنة 1955، لكنه نزل إلى 59% سنة 1977.
رغم مكانتهن المتنامية ضمن السكان النشيطين، لا زالت النساء مجبرات على القيام بأغلبية العمل المنزلي إن لم نقل كله، علاوة على عملهن كأجيرات. لذا يكففن عن العمل مؤقتا عندما يكون لديهن أطفال، لا سيما عندما يضطرن للقيام بساعات عمل إضافية عديدة ويواجهن صعوبة في إيجاد الشغل فيما بعد. وإذا واصلن العمل يكون لزاما عليهن البقاء في المنزل عند مرض أحد الأطفال.
أدى هذا الوضع إلى تزايد عمل النساء جزءا من الوقت فقط، إما لإستحالة إيجاد عمل كامل الوقت، وإما لإنعدام وسيلة أخرى للإضطلاع بالمهام المنزلية. لكن العمل بعض الوقت يتطابق دوما مع أخفض الأجور وأضعف سلامة مهنية وأدنى مزايا إجتماعية ويستتبع صعوبة أكثر لمزاولة العمل النقابي.
كان لإرتفاع نسبة النساء في اليد العاملة تأثيرا كبيرا على موقف زملائهن في العمل. ويصح هذا على وجه الخصوص حيث بدأت النساء تكافحن من أجل الحصول على عمل في القطاعات الصناعية الأساسية التي استبعدن منها حتى الآن.
لكن النساء العاملات لا زلن يصطدمن بالعديد من أشكال الميز و الإعتداءات على أساس الجنس يحرض عليها وينظمها ويحافظ عليها أرباب العمل. وغالبا يظل زملائهن في العمل على غير وعي بذلك ويظهرون في بعض الأحيان نفس السلوك الرجعي. وترفض البيروقراطية النقابية إستعمال سلطة النقابة رافعة لتخطي العقبات الخاصة التي تواجه النساء، كرفض عطل الأمومة المؤدى عنها وظروف العمل المحفوفة بمخاطر مضاعفة بالنسبة للنساء الحوامل أو إعتداءات المدراء الصغار ورؤساء العمال الذين يستغلون مناصبهم لإجبار النساء على إقامة علاقات جنسية بهم.
ج. ساهم ارتفاع متوسط المستوى الدراسي للنساء في تفاقم هذه التناقضات. فمع نمو إنتاجية العمل وارتفاع المستوى الثقافي العام للطبقة العاملة، تكاثرت النساء اللائي ينهين الدراسة الثانوية. وأصبحت النساء تلجن معاهد التعليم العالي على نطاق أوسع من ذي قبل.
لكن ظلت نسبة النساء اللائي يشغلن عملا يطابق مستواهن الدراسي ضئيلة جدا حسب ما تدل الإحصاآت. ففي كل قطاعات سوق العمل، من الصناعة حتى المهن الحرة، يتجاوز رجال بمستوى دراسي أقل النساء اللائى لديهن تأهيلات مهنية أكبر. لا بل طوال كل مراحل التعليم الإبتدائي والثانوي يواصل دفع الفتيات –بواسطة شعب الدراسة الإلزامية أو ضغوط مداورة- إلى ولوج مهن نعتبر مطابقة لدور النساء.
وتتابع النساء دراسة أكثر وترفع النضالات الإجتماعية طموحاتهن الفردية، مما يجعل عبء الأشغال المنزلية –الخانق والقاتل للعقل- وكذا إكراهات الحياة العائلية يصبحان أكثر فأكثر فوق طاقتهن. هكذا فإن إرتفاع مستوى النساء الدراسي المرفق بإحتداد الصراع الطبقي قد عمق التناقض بين قدرات النساء وطموحاتهن الأوسع من جهة ومكانتهن الإقتصادية والإجتماعية من جهة أخرى.
د. ما فتئت وظائف العائلة في المجتمع الرأسمالي المتقدم تتقلص، وتراجعت رويدا رويدا بوصفها وحدة إنتاج صغيرة –زراعية كانت أو منزلية (المعلبات والحياكة وصناعة اللباس والخبز الخ). ولا وجه شبه بين العائلة النووية المدينية الحالية والعائلية الفلاحية المنتجة في القرون الماضية. وفي نفس الوقت تسعى صناعات مواد الإستهلاك الرأسمالية والإشهار، بحثا عن الربح، إلى زيادة تذرير العمل المنزلي وتكراره لتبيع لكل عائلة آلتها الخاصة للغسيل أو تجفيف الملابس وآلة غسل الأواني ومكنسة كهربائية، الخ.
ترافق ارتفاع مستوى العيش مع انخفاض كبير لمتوسط عدد أطفال كل عائلة. وأصبحت الأغذية المهيأة صناعيا، وكذا خدمات أخرى، سهلة المنال أكثر فأكثر. إلا أنه رغم التقدم التكنولوجي، بينت الدراسات التي أجريت في دول رأسمالية عديدة أن على النساء اللائي لديهن أكثر من طفل وعمل كامل الوقت أن يعملن 80 إلى 100 ساعة في الأسبوع، وهو ما يفوق عملهن عام 1926 و1952 لما أجريت دراسات مماثلة. وتسهل الآلات بعض الأشغال المنزلية، لكن إنخفاض متوسط حجم العائلة قلل إمكان طلب مساعدة من الأقارب (الجد –الجدة- العمات –الأخوات).
بفعل كل هذه التغيرات تضاءل الطابع القاسر للأسس الموضوعية لسجن النساء في المنزل. لكن مصالح الطبقية المسيطرة تقتضي الحفاظ على مؤسسة العائلة. وما زالت الأيديولوجية البورجوازية والترويض الإجتماعي يعززان الخرافة الرجعية التي يلزم بموجبها أن تكون هوية المرأة وتحقيقها الكامل لذاتها نابعين من دورها كزوجة وكأم وكربة بيت. وأصبح التناقض بين الواقع والخرافة جليا باستمرار وفوق طاقة عدد متزايد من النساء.
وغالبا ما يجري الحديث بصدد هذا الواقع عن "أزمة العائلة"، وهي أزمة تتجلى في الإرتفاع الهائل لنسبة الطلاق ولعدد الأطفال الفارين وللعنف داخل المنزل.
4/ لم "يرض" توسيع الحقوق الديموقراطية والخدمات الإجتماعية النساء كما لم يدفعهن لقبول سلبي لمكانتهن الإجتماعية الوضيعة وتبعيتهن الإقتصادية. بالعكس حفز ذلك نضالات جديدة ومطالب أرقى.
وكان أول من أتاح التعبير المنظم عن "تظلمات" النساء على العموم هن النساء الشابات اللائى تلقين دراسة ثانوية و اللائى حزن حرية إختيار نسبية ومسهن أكثر تجذر الشباب في سنوات 1960.
قاد هذا فئة، تعتبر نفسها ماركسية، إلى إستنتاج أن حركة التحرر النسائية هي أساسا حركة إحتجاج للفئات الوسطى أو البورجوازية، وأن لا أهمية لها بالنسبة للثوريين ولجماهير نساء الطبقة العاملة. ما كان بوسعهم إرتكاب خطأ أكبر.
أفاد أول نمو لحركة تحرر النساء في تأكيد عمق إضطهاد النساء واتساعه. فحتى نساء لهن جملة امتيازات في مجال التربية أو في ميادين أخرى تحركن ويواصلن تحركهن. وليست الأكثر عرضة لدول عرضة للإضطهاد والإستغلال سباقات إلى إظهار إستيائهن.
5/ أدى نزوع الدول الرأسمالية الأكثر تقدما إلى الحد من النفقات الإجتماعية إلى نمو حركة تحرر النساء في السنوات الأخيرة، وأدى دوما إلى مشاركة كبيرة لنساء الطبقة العاملة. فبعد الحرب العالمية الثانية، في سياق مطالبة الطبقة العاملة بزيادة تحمل الدولة للخدمات الإجتماعية، إضطرت البورجوازية لا سيما بأوروبا، إلى توسيع تسهيلات إقتناء السكن والخدمات الصحية والتعويضات العائلية. وفيما بعد، وبالنظر إلى أن الإزدهار الإقتصادي لسنوات 1950-1960 رفع الحاجة إلى اليد العاملة النسائية، جرى تطوير نظام روضات الأطفال ودور الحضانة، الخ لدفع النساء إلى العمل.
تقوم البورجوازية حاليا، بوجه المشاكل الإقتصادية المتزايدة، باقتطاعات واضحة من النفقات الإجتماعية، وتحاول مقابل ذلك إلزام العائلة بتحمل عبئها، مع كل ما ينطوي عليه من عواقب على النساء. لكن مقاومة النساء لانتزاع المكاسب التي حصلن عليها حديثا في العمل، ومعارضة إلغاء الخدمات الإجتماعية، كإغلاق الحضانات، خلق للطبقات الحاكمة في بلدان عديدة مشاكل صعبة وطارئة. وعندما اكتسبت النساء وعيا نسويا متزايدا أصبحن أكثر كفاحية ورفضن أكثر من أي وقت مضى تحمل القسط الوافر من نتائج الأزمة الإقتصادية الراهنة.
6/ رغم أن لتجذر النساء ديناميته المستقلة، المحددة بالطبيعة النوعية لإضطهاد النساء والتحولات الموضوعية الموصوفة أعلاه، فإنه غير منعزل عن الصعود العام للصراع الطبقي. وليس بالطبع تابعا مباشرة لقوى إجتماعية أخرى، أو خاضعا لقيادتها، أو منقادا لمبادرتها. لكن في نفس الوقت كانت الحركة النسائية وظلت وثيقة الإرتباط بصعود النضالات الإجتماعية الأخرى التي أثرت مثلها في وعي مجموع الطبقة العاملة.
أ - منذ الإنطلاقة، كان الصعود الجديد لنضالات النساء موسوما بتجذر الشباب عالميا وبما رافقه من أزمة القيم البورجوازية والمؤسسات. إذ شرع الشباب –ذكورا وإناثا- يرفضون الدين والنزعة القومية وأعادوا النظر في كل أشكال السلطة التراتبية، في الأسرة والمدرسة والمصنع والجيش على حد سواء. ورفضوا حتمية حياة مكرسة كليا للعمل المستلب. وشرع الشباب المتجذر في التعبير عن رفضه للقمع الجنسي والأخلاق التقليدية التي تساوي بين الجنس والإنجاب. وأدى هذا بالنسبة للنساء إلى الاحتجاج على التربية التقليدية التي تريدهن سلبيات على المستوى الجنسي والعاطفي وخائفات وخجولات. وبكثافة، أصبح الشباب، بما فيه النساء، أكثر وعيا بفقره الجنسي وبحثا عن أشكال العلاقات العاطفية والشخصية الأكثر تحررا.
ب - كانت إحدى العوامل التي ساهمت في التجذر العالمي للشباب هو دور نضالات تحرر الأمم والقوميات المضطهدة، سواء في البلدان المستعمرة أو في الدول الرأسمالية المتقدمة. وعلاوة على ذلك كان لتلك النضالات أثر حاسم في تشكل الوعي المتعلق باضطهاد النساء عموما.
كان لنضالات السود في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا دور حاسم في الإدراك الشامل للترسيمات العنصرية ورفضها. وأثارت أوجه الشبه الجلية بين السلوكات العنصرية والميز على أساس الجنس، الذي يعرض المرأة بصفتها وضيعة وعاطفية وتابعة وكائنا أخرسا لكنه سعيد، أثارت إحساسا متزايدا ورفضا متزايدا دوما لمثل هذه الكاريكاتورات.
بينما تطورت الحركة النسائية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، بدأت نساء الأمم المضطهدة تقمن بدور متزايد الأهمية. وتتعرض هاته النساء لإضطهاد مزدوج وغالبا ثلاثي، بما هن أقليات مضطهدة وبما هن نساء ومرارا بما هن عاملات مستغلات للغاية: تضعهن مكانتهن الموضوعية في المجتمع في مواقع أداء دور مهم على المستوى الإستراتيجي داخل الطبقة العاملة، وكذا وسط حلفائها.
لكن ثمة دوما تأخر في وثيرة تشكل وعي نساء الأقليات المضطهدة بالنظر إلى ما ترزحن تحته من اضطهاد خاص بهن كنساء. ومرد هدا إلى عدة أسباب. فبالنسبة لعدد كبير منهن أخفى ثقل الإضطهاد القومي، في مرحلة أولى، اضطهادهن بما هن نساء. ورفضت حركات قومية كثيرة أن تحمل على عاتقها المطالب النسائية، حيث اعتبرتها عامل تقسيم لنضال التحرر القومي. أما الحركات النسائية، ففشلت في مهامها وعجزت عن الإستجابة لمطالب فئات النساء الأكثر عرضة للإضطهاد و الإستغلال أو عن فهم ما تواجهه هذه الفئات من مشاكل نوعية. علاوة على أن عبء العائلة مرهق على نحو خاص لنساء الأقليات المضطهدة، بقدر ما تبدوا العائلة ملاذا بوجه الضغوط العنصرية المدمرة وإنكار القيم الثقافية.
كيفما كان الأمر، ما أن يبدأ التجذر، أبانت التجربة أنه يكتسي طابعا تفجريا دافعا نساء الأقليات المضطهدة إلى صدارة نضالات اجتماعية وسياسية عديدة، بما فيها النضالات في أماكن العمل وفي النقابات وفي المدن الجامعية وفي الأحياء وأيضا إلى قيادة نضالات الحركة النسائية. وبسرعة تعي هذه النساء أن النضال ضد اضطهادهن بما هن نساء لا يضعف بل بالعكس يقوي النضال ضد الإضطهاد القومي.
ج. ساهمت أزمة الديانات التقليدية، لاسيما الكنيسة الكاثوليكية، في ولادة الحركة النسائية. ويمثل ضعف وزن الكنيسة (الذي رافقه تطور في التنجيم والتصوف) مظهرا جليا للأزمة الأيديولوجية للمجتمع البورجوازي. إن كل ديانة منظمة، وهي من مكونات البنيات الفوقية للمجتمع الطبقي، تعزز وتنشر فكرة أن النساء كائنات وضعية، هذا إذا لم تقدمهن كتجسيد للشر والحيوانية. وعلى الدوام أكدن المسيحية واليهودية، اللتان أثرتا في ثقافة البلدان الرأسمالية المتقدمة، على دونية النساء. ورفضت دوما حقهن في حياة جنسية مستقلة عن الإنجاب. وفي البلدان التي للكنيسة الكاثوليكية فيها تأثير قوي بوجه خاص، توجد النساء المتجذرات على رأس الكفاح ضد السلطة وضد التأثير الأيديولوجي للكنيسة، كما دلت مظاهرات عشرات آلاف النساء لأجل الإجهاض في إيطاليا أو المظاهرات ضد قوانين الزنا سنة 1976 في إسبانيا.
وفي إسرائيل أيضا زعزع النضال لأجل الحق في الإجهاض أسس استقرار حكومة بيغن سنة 1979.
لدى عدد كبير من الأمم المضطهدة، كالكيبك وايرلندا والأوزكادي (بلد الباسك) وعند الشيكانوس، امتزجت الأيديولوجية القمعية للكنيسة الكاثوليكية، على نحو شديد الإضطهاد، مع خرافة "الزوجة-الأم" كمركز للأسرة، قطب الاستقرار الاجتماعي والعاطفي والسياسي الوحيد والملجأ الوحيد ضد أضرار الاضطهاد القومي. وعبر هذا الخليط عن نفسه منذ سنوات في الكيبيك بفكرة "ثأر المهود" التي تطالب النساء بإنقاذ الأمة من الذوبان في الآخر بإنجاب أطفال كثيرين.
د. ظهرت الحركة النسوية السحاقية كوجه مرتبط بتجذر النساء، لكن مستقل عنه في نفس الوقت.
وتنظمت السحاقيات كتيار داخل الحركة من أجل حقوق المثليين جنسيا، قصد إبراز مطالبهن بما هن نساء مثليات جنسيا. وتجذرت العديد منهن بصفتهن نساء أولا، واكتشفن أن ما يعانينه من ميز بسبب توجههن الجنسي ليس إلا مظهرا للحواجز الإقتصادية و الإجتماعية التي يصطدمن بها عند البحث عن تقرير مجرى حياتهن. وهذا ما جعل سحاقيات عديدة على رأس حركة النساء منذ بدايتها. لقد إنتمين إلى كل التيارات السياسية لحركة تحرر النساء من التيارات السحاقية الإنفصالية وصولا إلى التيارات الماركسية الثورية، وساهمن لجعل الحركة بمجملها أكثر وعيا بالمظاهر النوعية لإضطهاد السحاقيات.
تأكيد السحاقيات على حق النساء في العيش باستقلال عن الرجال جعلهن دوما هدفا مفضلا لهجمات الرجعية: والواقع أن الهجوم ضد السحاقيات وحركتهن، بدءا بالتشهير الحقود حتى العنف الجسدي، موجه ضد الحركة النسائية برمتها. ويجب رفض محاولات تقسيم الحركة النسائية بإقصاء السحاقيات رفضا صريحا ودون مساومة ليتمكن النضال لأجل التحرر من التقدم.
و. كما قامت النساء المهاجرات في العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة بدور مميز. ليس فقط ضحية استغلال فاحش بصفتهن يدا عاملة أجيرة، بل ضحية قوانين تمييز خاصة. فيما هن نساء لا حق لهن دوما في الإلتحاق بأزواجهن ببلد ما، ما عدا إن إستطعن ضمان إيجاد عمل قبل الهجرة. وعندما يتمكن من الحصول على عمل يضطرن لمرافقة أزواجهن إلى مكان آخر. كما أن الإجراءات الحكومية، المتخذة مؤخرا بعدد من الدول الرأسمالية المتقدمة قصد خفض عدد العمال المهاجرين، فاقمت طابع هذه القوانين التمييزي.
كان للعاملات المهاجرات في بلد كسويسرا، حيث يشكل العمال المهاجرون قرابة 30% من قوة العمل الصناعية، وكذلك في بلدان أوروبية أخرى حيث تمثل النساء المهاجرات أغلبية قوة العمل في بعض القطاعات (كالمستشفيات)، دور حاسم في تشكل الوعي السياسي لدى الحركة النسائية. فقد ساهمن بدفع النضالات في القطاعات الصناعية التي تشغل أغلبية من نساء عاملات. لا بل أتحن إثارة نقاشات الحركة النسائية حول سياسة الطبقة المسيطرة على المستوى الإقتصادي و الإجتماعي. إن القوانين التمييزية تجاه الهجرة بوجه عام، وكره الأجانب والعنصرية، والتقسيمات الناتجة عن ذلك داخل الطبقة العاملة و الكيفية التي أضرت بها هذه التقسيمات على نحو خاص بالنساء المهاجرات وضرورة نضال الحركة النسائية والنقابية للدفاع عن مصالح الفئات الأكثر عرضة للإستغلال والمشاكل التي تواجه هاته النساء المعزولات في منازلهن كما من طرف وسط يعاديهن، هذه كلها مسائل على عاتق الحركة النسائية وتجرها لمناقشة بعض المشاكل الأساسية من منظور الصراع الطبقي.
7/ أدت نهاية ازدهار ما بعد الحرب والمشاكل الإقتصادية و الإجتماعية والسياسية التي واجهتها الإمبريالية على المستوى العالمي، وهي مشاكل أظهرها الركود العالمي لسنة 1974-1975، إلى تكثيف الهجمات ضد حقوق النساء على كافة المستويات. ولم يؤد هذا إلى إنحدار النضالات النسائية ولم يبعدها إلى الهامش في حين ظهرت قوى إجتماعية أكثر قوة. ففي الوقت الذي اشتدت فيه نضالات الطبقة العاملة المنظمة طوال السنوات الأخيرة، لم يتراجع تشكل الوعي النسائي و النضالات النسائية، بل بالعكس وأصلا توسيعهما:
إنهما إنغرسا بشكل متزايد العمق في تطور الوعي الإجتماعي والكفاحية السياسية لرجال ونساء الطبقة العاملة. توطدت مقاومة النساء للهجوم الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي للطبقة المسيطرة بارتفاع الوعي النسوي. وكانت نضالاتهن قوة محركة للإحتجاج الإجتماعي و التجذر السياسي.

أجوبة البورجوازية ومختلف تيارات الحركة العمالية

1/ بسرعة ظهرت إنقسامات داخل الطبقة المسيطرة حول أفضل طرق الرد على الصعود الجديد لنضالات النساء بهدف الحد من أثرها وحرفها عن هدفها. فبعد المحاولات الأولى لكسر حركة النساء بإحاطتها بالسخرية والإحتقار، كان الموقف السائد داخل الطبقة المسيطرة هو الإعتراف الشكلي بواقع أن للنساء بعض دواعي الإستياء الصحيحة. 2) عندها شهدنا البورجوازية تحاول الظهور بأنها معنية –بإنشاء مصالح وزارية خاصة ولجان ومشاريع لجذب أنظار النساء مع العمل الدؤوب لإستقطاب حركة النساء إلى ترسيماتها السياسية القائمة على التعاون الطبقي. وفي أغلب البلدان اضطرت الطبقة المسيطرة للقيام ببعض التنازلات، التي تبدو قليلة الخطر على المستوى الإقتصادي كما الإيديولوجي، ثم حاولت التراجع فيما بعد.
كيفما كان التكتيك المتبع كان الهدف هو نفسه في كل حالة: احتواء التجذر الناشئ بفضل بعض الإصلاحات الطفيفة للنظام الرأسمالي.
لوحظ في البلدان أوروبية عديدة تحسن في حماية الأمومة: تمديد عطل الرضاعة وزيادة نسبة أجرة النساء المستفيدات من هذه العطلة وضمان عودة النساء إلى العمل بعد عطلة الأمومة غير المؤدى عنها، الخ. في بلدان أخرى جاهرت الحكومات بنقاشات حول ملاءمة إصدار قوانين حول المساواة في الأجور وأخرى حول إطلاق حرية الطلاق. وفي الولايات المتحدة الأمريكية تنازع الحزبان الرأسماليان شرف إدخال تعديل دستوري حول المساواة في الحقوق، بينما ينسفان في الواقع كل ما تم القيام به لتجميع ما يكفي من الأصوات لتصبح للتعديل قوة القانون.
أما فيما يخص الإجراءات الإجتماعية، التي قد يكون لها وقع إقتصادي آني وهام –كتوسيع الحضانات مثلا- فإن المكاسب منعدمة تقريبا.
أكثر الإنتصارات جدية فيما حققته الحركة النسائية عالميا خلال السنوات العشر منذ ميلادها، كانت هي التوسيع الهام للحقوق التي تتيح إمكانية الإجهاض قانونيا. ففي اكثر من عشرين بلدا أضفي طابع ليبرالي واضح على قوانين الإجهاض.
اتضح بسرعة وبجلاء، في جميع البلدان التي حصلت فيها النساء على خطوات نحو الإعتراف بحق الإجهاض، أن هذا الحق ليس أبدا مكسبا نهائيا في النظام الرأسمالي. أينما بدأت النساء النضال من أجل حق التحكم في وظائفهن الإنجابية تعبأ في الحال جناح المدافعين عن الرأسمالية الأشد رجعية لمنع الحصول على هذا الشرط الأولي المسبق لكل تحرر نسائي. فالحق في الإختيار يضرب في الصميم الأسس الأيديولوجية لإضطهاد النساء.
مهما يكن فإنه من الهام، من الناحية السياسية، أن نفهم بوضوح أن منظمات اليمين المتطرف مثل "دعوهم يعيشون" و"نعم للحياة" و"الحق في الحياة"و"جمعية حماية الطفل غير المولود" المتصلة بالتيارات الكارهة للأجانب والكهنوتية والعنصرية والفاشية، تستند على السياسة الحكومية الرسمية. وتكمن وظيفتها في الدفاع المتعصب عن الوضع القائم، بأدلة قصاراها لإستثارة الراسخ في الطبقة العاملة والبورجوازية الصغيرة من اشد المسبقات تأخرا، وتسدي خدمة جليلة للطبقة المسيطرة. لكن لولا التشجيعات المتسترة، والصريحة أحيانا، التي تمن بها القطاعات المسيطرة في البورجوازية على تلك التيارات لكن دور هذه أقل تأثيرا بكثير.
2/ طرح بزوغ حركة تحرر النساء مشاكل ضخمة على التيارات السياسية المعتبرة ممثلة لمصالح الطبقة العاملة.
فوجئ الستالينيون والإشتراكيون الديموقراطيون بالخصوص بنمو سريع لتجذر مهم لم يتجه صوبهم بحثا عن قيادة.
ومن بلد إلى آخر تباينت أجوبة هاذان التياران الإصلاحيان المنغرسان في الطبقة العاملة، وذلك حسب قوتهما العددية وقاعدتهما العمالية ومدى توغلهما في البيروقراطية النقابية أو قرب دخولهما إلى الحكومة. لكن في جميع الحالات كانت ردود فعل الستالينيين والإشتراكيين الديموقراطيين محددة بهدفين متناقضين أحيانا: احترام المؤسسات الأساسية للسيطرة الطبقية بما فيها العائلة، ورغبتهما في تثبيت سطوتهما على الطبقة العاملة أو تدعيمها بغية التمكن من احتواء نضالات الطبقة العاملة في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية.
وأجبر ميلاد الحركة النسائية الستالينيين وكذا الإشتراكييين الديموقراطيين على التكيف مع وضع سياسي في عز التحول. وشهدت سنة 1975 بالخصوص تكاثرا للمواقف، كان جزئيا ردا على مبادرات البورجوازية في سياق السنة العالمية للمرأة.
3/ بضغط جزء من قاعدتها، ردت الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية عموما على صعود الحركة النسائية، بسرعة أكبر مما فعلت الأحزاب الشيوعية. رغم ما أبدته الأحزاب الإشتراكية من مقاومات للإعتراف الرسمي بوجود حركة نسائية مستقلة، فإن مناضلات من الأحزاب الإشتراكية، ساهمن غالبا بصفتهن الشخصية بنشاط في التجمعات النسائية الناشئة.
وغالبا كانت المواقف الشكلية للأحزاب الإشتراكية، أكثر تقدمية من نظيرها لدى الأحزاب الستالينية، لاسيما بخصوص الإجهاض بصفته حقا للنساء. كلما تمكنت الأحزاب الإشتراكية من تحسين صورتها دون كلفة، بإعلان تأييد قوانين ليبرالية حول الإجهاض، فإنها لم تتردد. إختار كرايسكي في النمسا وبرانت في ألمانيا هذا التكتيك منذ البداية. وحاول حزب العمال الأسترالي، في مواجهة نمو الحركة النسائية في أستراليا، تحسين صورته بمنح إعانات لمشاريع عديدة للحركة كمراكز علاجات النساء والمآوي. ورغم ضآلة كلفته المالية أتاح ذلك للإشتراكيين الديموقراطيين صرف اهتمام النساء مؤقتا عن مدى ملاءمة سياستهم الإجمالية (بصدد الإجهاض والحضانات مثلا). وأتاح هذا لحزب العمال تقديم نفسه كحزب "مؤيد للنساء".
لكن الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية تراجعت بسرعة حينما واجهت العلامات الأولى لرد فعل بعض قطاعات البورجوازية. فبينما أعلن حزب العمال في بريطانيا شكليا تأييده لحق الإجهاض، ظل هذا الحزب صامتا إزاء الإقتراحات الرجعية في البرلمان الرامية إلى فرض تراجع يعيد القانون حول الإجهاض إلى ما كان عليه قبل 1967. وكانت الإقتراحات الجديدة، التي تقدم بها في البدء نائب من حزب العمال، ترمي كليا إلى تقليص المدة التي يسمح فيها للنساء بالإجهاض، والحد من حق النساء المهاجرات في الإجهاض وإقرار عقوبات قاسية لكل خرق للقانون. وفقط عام 1977، بعد حملة جماهيرية حفزتها حركة النساء المستقلة من خلال "الحملة الوطنية لأجل الإجهاض"، وبضغط من قاعدته، صادق حزب العمال على مقرر مدافع عن قانون 1967.
وأبان الإشتراكيون الديموقراطيون عن فائدة كبيرة لصالح أرباب العمل لما تعلق الأمر بفرض إجراءات تقشف لتقليص مستوى عيش الطبقة العاملة. ورغم التصريحات الطنانة حول إرادة تخفيف عبء النساء العاملات، لم تتردد الحكومات الإشتراكية-الديموقراطية في تقليص الإعانات الممنوحة للخدمات الإجتماعية وفق ما تطلبه البورجوازية. ومؤخرا في الدانمارك الغوا دفعة واحدة 5000 منصب عمل من موظفي الدولة في الحضانات.
4/ منذ سنوات 1930 بعد توطيد البيروقراطية الستالينية سلطتها بالإتحاد السوفياتي وتحويل أحزاب الأممية الثالثة إلى أدوات دفاع عن سياسة الكريملين المضادة للثورة، أصبح الدفاع عن العائلة كنمط مثالي للعلاقات ولإنسانية خط الأحزاب الستالينية عبر العالم. ولم يخدم هذا فقط مصالح الفئة البيروقراطية في الإتحاد السوفياتي وحسب، بل استجاب أيضا لضرورات الدفاع عن الوضع الرأسمالي القائم في كل مكان آخر. وأول مرة طور الحزب الشيوعي الفرنسي نظرياته الرجعية صراحة حول العائلة كانت لما جرى اعتماد قانون العائلة الجديد بالإتحاد السوفياتي سنة 1934 ولما منع الإجهاض سنة 1936.
كيفما كانت ديماغوجية الأحزاب الشيوعية فيما يتعلق بيوم عمل النساء المزدوج، فإن مطالبها الحالية تسير في إتجاه تنظيمه لإتاحة اضطلاع النساء على نحو أسهل بالمهام المنزلية المفروضة عليهن. فسواء تعلق الأمر بتحسين عطل الأمومة أو تقليص ساعات العمل أو تحسين ظروفه، غالبا ما يتم تبرير النضال بتخليص النساء ليتمكن من القيام بمهامهن المنزلية بدل تحريرهن من هذه المهام بإضفاء الطابع الإجتماعي عليها. الحل الآخر المقترح أحيانا هو طلب تقاسمها من طرف الرجال على نحو أكثر عدالة.
لكن ميلاد الحركة النسائية ومحاولات البورجوازية احتوائها والإجابات التي قدمتها تيارات أخرى من الحركة العمالية وكذا ضغوط قواعد الأحزاب الشيوعية نفسها، فرضت على هذه الأخيرة تغيير خطها وتصحيحه. فحتى أكثرها اقتفاء وتبعية بلا قيد ولا شرط للكريملين، كالحزب الشيوعي الأمريكي، اضطرت في الأخير إلى التخلي عن بعض مواقفها الأشد رجعية كمعارضة كل تعديل للدستور في اتجاه تساوي الحقوق.
وكلما تعمق التجذر، كلما اضطرت الأحزاب الشيوعية إلى المناورة وإبداء مرونة بالمشاركة في الحركة المستقلة للنساء واعتماد خطاب متزايد الراديكالية.
تركت الأحزاب الشيوعية مناضلاتها تنخرط في نقاشات عمومية وتندد بشدة بمسؤوليات الرأسمالية فيما يتعلق بمكانة النساء المخزية. أما فيما يخص البرنامج والممارسة فإن معارضة الأحزاب الشيوعية الفعلية لتحرر النساء هي صورة لرفضها لكل نضال على أساس طبقي لسد حاجات الطبقة العاملة عامة. إنها على استعداد لدفن أي مطلب وحرف أي نضال بغية الحفاظ على ما تجنح إليه من تحالفات طبقية. هكذا رغم التغير الشكلي لموقف الحزب الشيوعي الإيطالي، ورغم قراره بدعم إضفاء طابع ليبرالي على قوانين الإجهاض سنة 1976، تحالف النواب الشيوعيون مع الديموقراطية المسيحية مانعين إصلاح تلك القوانين لكونه عقبة بوجه تحقيق "المساومة التاريخية". علاوة على وجود صراع دائم بين مواقف الأحزاب الشيوعية على المستوى المحلي –حيث تدعم أحيانا النضالات من أجل إقامة حضانات ومراكز إجهاض ومنع الحمل- وسياستها على الصعيد الوطني المؤدية للإجراءات التقشفية التي تقتطع من ميزانيات القطاعات الإجتماعية.
أدت الهوة بين المواقف الشكلية للأحزاب الشيوعية و خياناتها في النضالات الطبقية إلى توترات عنيفة داخلها وكذا داخل النقابات التي تتحكم فيها. هذا لاسيما أن غياب الديموقراطية الداخلية يفاقم حرمانات النساء اللواتي شرعن في إدراك التناقضات بين التزامهن الشخصي في نضال تحرر النساء وخط حزبهن. فلا وسيلة لديهن للتأثير على مواقف منظمتهن. هكذا لما صادق الحزب الشيوعي على اتفاق مونكلوا، وهو اتفاق تعاون طبقي، شكلت نساء من الحزب الشيوعي في مدريد تجمعا معارضا للنضال لأجل الديموقراطية الداخلية.
وفي فرنسا لما بدأ تشكيل الأنوية المعارضة في الحزب الشيوعي سنة 1978، تجمعت مناضلات من هذا الحزب حول جريدة "Elles voient rouge". كن يردن الدفاع عن وجهة نظرهن والنضال ضد السياسة العصبوية للحزب الذي يرفض كل وحدة عمل مع باقي القوى السياسية، سواء حول الإجهاض أو أهداف نضال أخرى.
كما اضطر الستالينيون إلى القيام بتصحيحات على المستوى التنظيمي. بعد الحرب العالمية الثانية شكلت الأحزاب الشيوعية في بعض البلدان منظماتها النسائية الخاصة. وقد حاولت دوما بوجه التجذر الجديد للنساء أن تقدم للطبقة العاملة تلك المنظمات بصفتها حركة النساء الحقيقية الوحيدة. وقد رفضت الحركة المستقلة ادعاء تلك الأحزاب أنها الناطق باسم نساء الطبقة العاملة. فكان رد فعلها الأول هو تشديد موقفها العصبوي.
ففي إسبانيا مثلا صرحت الحركة الديموقراطية للنساء، التي يتحكم بها الحزب الشيوعي، أنها هي لوحدها حركة نساء. ونصب الحزب الشيوعي نفسه حزبا لتحرر النساء. ورغم قوة الحزب الشيوعي عجزت الحركة الديموقراطية للنساء عن التحكم بتجذر النساء الذي عبر عن نفسه بتكاثر مجموعات النساء على جميع مستويات الدولة الإسبانية. وإزاء عجزه عن فرض الحركة الديموقراطية للنساء كحركة وحيدة للنساء اضطر الحزب الشيوعي إلى الإعتراف بوجود مجموعات أخرى والعمل معها.
5/ ظهرت تناقضات شبيهة في الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية إثر انخراط بعض مناضلاتها في حركة النساء. لكن قدرة الستالينيين والإشتراكيين الديموقراطيين على التكيف مع المتطلبات الجديدة للنساء المتجذرات، زاد قدرتهم في التأثير على الحركة. وعندما تقرر هذه الأحزاب مساندة تعبئات جماهيرية، مثلما حصل مؤخرا في بلدان أوروبية عديدة بصدد مسألة الإجهاض، كانت مواقفها الإصلاحية أكثر تأثيرا على جماهير النساء. وسيكون خطأ بخس قدر تأثيرها السياسي.
6/ في الغالب إتخدت المنظمات الماوية و الوسطية مواقف عصبوية و اقتصادوية إزاء حركة تحرر النساء معتبرة هذه حركة بورجوازية صغيرة تناقض تصورهم للحركة العمالية.
ومع ذلك برز نوعان من الإجابات داخل هذه المنظمات. فالبعض رفض المشاركة في البنيات المستقلة وأنشطة حركة تحرر النساء. وقامت العديد من هذه التجمعات العصبوية بإنشاء مجموعاتها النسائية الخاصة الخاضعة لها ووضعتها في تعارض مع حركة النساء الحقيقية، بحجة أن هذه الطريقة هي الإستراتيجية الثورية الحقيقية الوحيدة.
واتجهت جماعات ماوية ووسطية أخرى صوب المشاركة في الحركة النساء. لكن يعوزها فهم واضح لعلاقة النضال الطبقي بنضال تحرر النساء. وترفض كل سياسة جبهة وحيدة وتبقى في ذيل حركة النساء. وكان ذلك عاملا هاما في الأزمة التي فجرت العديد من هذه المجموعات في نهاية سنوات 1970.
7/ شعرت الحركة النقابية من جهتها بتجذر النساء واضطرت البيروقراطية للإستجابة لضغوط النساء داخل الحركة العمالية المنظمة وخارجها.
في أفضل الحالات حاولت القيادات النقابية، كالستالينيين والإشتراكيين الديموقراطيين، حصر التزامها بمطالب النساء في المسائل الإقتصادية مثل المساواة في الأجور وعطل الأمومة. وتأخر انخراطها في نضالات كتلك المتعلقة بحق الإجهاض. لكن الطابع الجماهيري للنقابات وتنامي عدد النساء في صفوفها، حيث كان العديد منهن نشيطات باطراد في اللجان النسائية، جعل موقف البيروقراطيين هذا أكثر صعوبة. وبرز هذا بجلاء في أكتوبر 1979 لما دعت الكونفدرالية الوطنية للنقابات ببريطانيا، بضغط متزايد من قاعدتها، إلى مظاهرة وطنية للدفاع عن حق الإجهاض. وقد شارك فيها 50000 متظاهر رجالا ونساء.
وأكثر فأكثر تطرح حاليا داخل الحركة النقابية مسائل مثل الحضانات وجمعنة العمل المنزلي وشروط عمل العاملات وقتا جزئيا والمطالب التفضيلية للنساء. وفي بعض الحالات تربط النساء صراحة هذه المطالب بالضرورة الأعم القاضية بتحطيم التقسيم التقليدي للعمل بين الرجال والنساء. بفرض هذه المطالب ترفض النساء العاملات محاولات الإصلاحيين للحفاظ على الفصل بين المسائل الإقتصادية و النضالات السياسية وكبح أي نضال قد يمتد وينمو. إنهن يساعدن الطبقة العاملة على طرح المشاكل في صيغة جماعية وليس فردية ويشجعن قاعدة النقابات على التوجه صوب منظماتها الطبقية و الإستناد إليها لخوض النضال لسد كل الحاجات الإجتماعية.
عندما تحاول النساء كسب دعم المنظمات النقابية وقياداتها للدفاع عن مطالبهن تضطرن أيضا إلى إثارة مسألة الديموقراطية النقابية. ويتوجب عليهن النضال لنيل حق التعبير الحر وتنظيم لجانهن الخاصة و إجتماعاتهن غير المختلطة ولأجل تمثيلهن في القيادات، وعليهن النضال لتنظم النقابات حضانات خلال الإجتماعات تتيح لهن نشاطا فعليا في المنظمات العمالية.
أصدرت بعض النقابات منشورات خاصة وأعادت تنشيط لجان نساء محتضرة ونظمت اجتماعات للنساء النقابيات وأقامت دروس تكوين لفائدة المسؤولات النقابيات.
ونظمت القيادات النقابية في بعض البلدان لجان تنسيق نقابية للنساء على الصعيد الوطني والجهوي والمحلي. وفي أماكن أخرى جرى إحداث هكذا لجان بضغط من القاعدة. كما أدى تجذر النساء والأزمة الإقتصادية المتفاقمة إلى ارتفاع نسبة النساء المنظمات نقابيا في بعض البلدان الرأسمالية المتقدمة.
جرى في معظم الحالات تكوين لجان النساء في النقابات بموافقة البيروقراطيين النقابيين. إذ حاولوا بذلك احتواء تجذر النساء في النقابات وتوجيه طاقتهن إلى طريق لا يهدد الوضع القائم المريح على كافة المستويات –بدءا باحتكار الرجال لمناصب القيادة النقابية وصولا إلى التفاهم بين البيروقراطية و الباترونا لتجاهل الحاجات الخاصة بالنساء العاملات. لكن هذا تعبير عن الأثر الهام الذي باتت حركة تحرر النساء تمارسه على منظمات الحركة العمالية.و أصبحت اليوم اللجان النقابية النسائية في الغالب ثمرة حركة النساء بقدر ما هي جزء من الحركة العمالية. إنها في ملتقى هاتين الحركتين وبإمكانها إن كان توجيهها صائبا أن تبين الطريق لكلامها.

جريدة المناضل-ة
www.al-mounadhil-a.info