سِجن الكائن.. سَجن العالَم


مصطفى القلعي
2012 / 11 / 3 - 10:30     

• السَّجن والسِّجن:
من البديهيّ أن نقول إنّ عمليّة السَّجن (enfermement) أقدم تاريخيّا من السِّجن (prison). فحدث السَّجن يكون بعزل فرد ما عن المجموعة بقرار من الحاكم أو السيّد أو الأب أو القائد أو مرجع الأمر. والعزل يكون بمنعه من الاتّصال بالآخرين وبمنعهم من الاتّصال به، أيضا. ويتمّ ذلك بوسائل مختلفة لاسيّما قبل أن تبدع المخيّلة البشريّة هندسة السِّجن. فالسِّجن هيكل أو بناء مصمّم من أجل ضمان حصر المساجين في إطار مغلق ومنعهم من مغادرته ومنع المقيمين خارجه من النفاذ داخله. هذا يعني أنّ السِّجنَ شكل من أشكال عمليّة السَّجن. وقد يكون السِّجن أرحم من أشكال أخرى ابتكرتها مخيّلات الساسة والشُرط والعساكر لسَجن من يريدون سَجنهم لاسيّما المعتقلات والمنافي والقلاع المهجورة والجزر القصيّة.
السِّجن فضاء هندسيّ ماديّ مرئيّ يشرف عليه المستولي على السلطة كالدولة أو من يمثّلها أو غيرها من الجهات. لكنّ عمليّة السَّجن أخطر لأنّها أوغل في الخفاء والرمزيّة. فقد تمارس السَّجن دولة أو أمّة أو حضارة أو مذهب أو فكر أو إيديولوجيا على غرار ما تفعله الليبراليّة بوجهها الرأسماليّ المرابي بالعالم اليومَ.
• السِّجن مع المدينة:
الحضارة والتحضّر والمدنيّة سؤال واحد لا يمكن أن يعالج بعيدا عن مسألة المدينة. فبانتقال الكائن الإنسان من حياة العزلة والفردانيّة إلى حياة الجماعة تغيّرت طبائعه. وعلينا أن نقفز سريعا على الأشكال الأولى للحيوات الجماعيّة البدويّة والقبليّة والعرقيّة والأموميّة وغيرها لننتقل إلى الشكل الأخير القائم الذي يعنينا وهو شكل المدينة. ففيها تشكّلت الأنظمة والقوانين والأعراف والقيم والأخلاق.
وبنشأة المدينة، وقبل نشأة القانون ابتكرت الكائنات البشريّة السِّجن مكانا لإفراد المغضوب عليهم أو المخالفين لشرعة ما أو عرف أو سلطة وإقصائهم. وفي شكل المدينة الحديث، يعدّ القانون مفهوما قضائيّا مشرّعا له من قبل المجالس الماسكة السلطةَ التشريعيّة ومضمونًا تنفيذُه من قبل السلطة التنفيذيّة على ترابها الوطنيّ. ومنذ الثورة الفرنسيّة، شكّل القانون تعبيرا على الإرادة العامّة. وفي النظام الديمقراطيّ، توضع القوانين من قبل الشعب صاحب السيادة. وهو شعب حرّ باعتبار أنّه يخضع لقوانين سنّها ممثّلوه. وهي قوانين تضمن له جودة الحياة والحريّة والسلامة.
فالسَّجن عقوبة تُسلّط على الكائن الذي يرتكب مخالفة أي ذاك الذي يأتي عملا يعاقب عليه القانون الذي سنّته المجالس النيابيّة المنتخبة الممثّلة لأغلبيّة المواطنين. وهو عقوبة تحرم مرتكبي المخالفات من حريّتهم. وتقصيهم عن المجتمع بوضعهم في السِّجن. تبعا لذلك، إنّ المهمّة الأولى لعمليّة السَّجن هي حماية المجتمع من الأشخاص الذين يمكنهم الإضرار به. ومن أهداف السِّجن أن يثني المواطنين عن ارتكاب المخالفات. ومن أهدافه، في نهاية المطاف، أن يربّي المحكوم عليهم حتى لا يكرّروا أفعالهم، ويتمكّنوا من الاندماج في المجتمع من جديد بعد قضاء عقوبتهم.
إذن، فلقد سنّت الكائنات البشريّة القوانين التي رأتها لازمة لتنظيم إقامتها في المدينة. ولا يمكن أن تكون للقانون نجاعة و لا فائدة إذا لم يحترمه الناس ولم يخافوه. ولذلك أوجد السِّجن فضاءً لمعاقبة مخالفي القانون ولإخافة غيرهم. هكذا رأى أهل المدينة. فجعلوه مجاورا فيها للمدرسة والمشفى والمسرح والقصر البلديّ والحكوميّ والجمهوريّ.
• حقّ السلطة الإلهيّ المقدّس:
السلطة حقّ إلهيّ مقدّس منحه الحاكم نفسَه ليبرّر به منح نفسه الحريّة الكاملة في نزع حريّة الآخرين وإيداعهم السّجن. هذا ما روّجت له البروباغندا السلطويّة التي مارسها الحاكم وعملاؤه وأعوانه وحلفاؤه. ففكرة مصدر السلطة الإلهيّ عرفت في كلّ الحضارات وعلى مرّ العصور على غرار الحضارة العربيّة الإسلاميّة على امتداد تاريخها إلى اليوم والحضارات الغربيّة إلى عصر الأنوار خلال القرن الثامن عشر الذي آذن بنهاية الإقطاع. فلو تصفّحنا موسوعة(1) دينيس ديدرو(2) الفيلسوف الأنواريّ، مثلا، الصادرة خلال النصف الثاني من قرن الأنوار الثامن عشر لوجدنا وعيا بتداعي نظريّة الحقّ الإلهيّ في السلطة وباهتراء حبل الخضوع البشريّ الأبديّ لمالكي السلطة أو المستولين عليها.
كتب ديدرو: «فالقوّة الحقيقيّة الشرعيّة لها حدود بالضرورة. هذا ما تخبرنا به النصوص. [نقرأ]: «طاعتكم وجب أن تكون رشيدة»، «كلّ قوّة تصدر عن الله هي قوّة معتدلة». هذه الأقوال لابدّ من فهمها وفق العقل المستقيم والمعنى الحرفيّ لا وفق تأويليْ الدناءة والتملّق اللذين يزعمان أنّ كلّ أنواع القوّة ذات مصدر إلهيّ. فهل يعني ذلك ألاّ وجود لقوّة ظالمة؟ ألا توجد سلَطٌ غير صادرة عن الله قد ترسّخت ضدّ تعاليمه وإرادته؟ هل للمغتصبين إله خاصّ بهم؟ هل تجب طاعة مضطهِدي الدين الحقيقيّ؟ ولتبكيت الوقاحة، نسأل: هل يمكن أن تعدّ قوّة المسيح الدجّال شرعيّة؟ ومع ذلك، فإنّها ستصبح قوّة كبيرة. وهل يعدّ [النبيّان] نوح وإلياس (Énoch et Élie) اللذان تصدّيا للقوّة الظالمة عاصيين مشاغبين نسيا أنّ كلَّ سلطةٍ هي متأتّية من عند الله، أم رجلين عاقلين رابطي الجأش تقيّين يعلمان أنّ السلطة، أيّ سلطة، تفقد شرعيّتها حين تتجاوز الحدود التي نصّ عليها العقل وتبتعد عن القواعد التي وضعها السيّد الأعلى للأمراء والرعايا. وأخيرا، [ظهر] رجال مثل القديس بطرس يرون أنّ أيّ قوّة لا تكون إلهيّة إلاّ بقدرما تكون عادلة ومعتدلة.»
بوجود فكرة الحقّ الإلهيّ في السلطة أنتج الكائن المستولي على السلطة اختراعَ السِّجن ليقفل على المعارضين والمخالفين والمناوئين والممانعين والرّافضين والمتمسّكين بالحقّ البشريّ في الرّفض بابا بلا مزلاج ولا مرتاج ولا يُفتح من الداخل إطلاقا. غير أنّه بزوال فكرة الحقّ الإلهيّ في السلطة، في الغرب طبعا، لم تزُل السجون. بل تبدّى فيها إبداع الكائن في تنمية ساديّته وتطوير نزوعه نحو الغلبة والقهر.
• ظروف الحياة في السجن:
ولقد قرّرت أنظمة المدينة وقوانينها أنّ بعض الأفراد قد تثبت عليهم الإدانة بأعمال إجراميّة يعاقب عليها القانون المدنيّ أو الجنائيّ. فيحكم بسجنهم. ولكنّ عقوبة السجن لا تعني، إطلاقا، ألاّ حقوق لهم. فحقوق المساجين يضمنها القانون نفسه الذي قضى بسَجنهم. وهي مسجّلة في نظام السجون الجزائيّ الداخليّ (pénitentiaires). وأوّل هذه الحقوق هو الحقّ في الزيارة. والغاية منه هي الحفاظ على الرابطة الواصلة بين السجين وبين أقاربه. وإضافة إلى هذا الحقّ الأساسيّ حصل المحكوم عليهم على حقّ العمل. وهو حقّ يضمن للسجين موردا ماديّا، ويكسبه تكوينا مهنيّا قد يسهّل عمليّة إعادة اندماجه في المجتمع عند خروجه من السجن. كما يمكن للسجين أن يتمتّع بتكوين مدرسيّ.
إنّ غاية السِّجن في الانتقام من المجرم وفي جعله يعاني كانت محلّ نقد شديد من قبل فلاسفة الأنوار خلال القرن الثامن عشر. فبالنسبة إليهم لا يجب أن يكون السّجن موجّها نحو المعاقبة. وإنّما عليه أن يضمن للمحكوم عليه حقّ إيجاد مكان في المجتمع، من جديد، بعد قضاء فترة حبسه والاندماج فيه بعد الإيفاء بدينه تجاهه.
وعلى امتداد فترة زمنيّة طويلة، لم تكن الفسحة تتيح للمحكوم عليهم سوى بعض التمارين الرياضيّة. والآن، صار للمساجين الحقّ في الأنشطة الرياضيّة والثقافيّة. فمثلا، صار من اللاّزم تجهيز كلّ سجن بمكتبة. لكنّ ممارسة هذه الأنشطة الاجتماعيّة الثقافيّة تختلف باختلاف السجون والمساجين. فكثير من السجون تعاني من الضيق أو من الاكتظاظ إلى حدّ يكون فيه من المستحيل ضمان هذه الحقوق.
• التعذيب في السّجن:
التعذيب عمل إراديّ يمارس على كائن بشريّ فيوقع فيه آلاما جسديّة أو معنويّة حادّة. وممارسة التعذيب الغاية منها الضغط على فرد للحصول على اعترافات. وقد يحدث بموافقة ورضى رسميّين. والتعذيب ممنوع بحكم الفصل 7 من النظام الأساسيّ للأمم المتّحدة لسنة 1966 المتّصل بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، والفصل 3 من الاتّفاقيّة الأوروبيّة لحماية حقوق الإنسان. وللنضال ضدّ هذه الممارسة تمّت صياغة اتّفاقيّتين عالميّتين خاصّتين: اتّفاقيّة ضدّ التعذيب متبنّاة من قبل الأمم المتّحدة في 3 ديسمبر 1984 والاتّفاقيّة الأوروبيّة لمنع التعذيب المتبنّاة في 26 نوفمبر 1987 من قبل مجلس الوزراء الأوروبيّ.
وقد صادقت فرنسا، مثلا، على الاتّفاقيّتين. واتّخذت إجراءات جزائيّة تردع التعذيب بشدّة (الفصل 222 -1 إلى الفصل 222 -6 من قانون الإجراءات الجزائيّة الجديد). فقد تمسّك القانون الفرنسيّ باستثناء أوسع من هذه الاتّفاقيّات لأنّه يقدّر بأنّ التعذيب يمكن أن يتمّ بشكل مختلف بتورّط شخصيّة رسميّة أو دونه (الفصل 222-3 من قانون الإجراءات الجزائيّة الجديد). فيوجد، إذن، تعريفان للتعذيب يشتركان في إيقاع إراديّ لمعاناة حادّة في شخص ما.
ولقد جهدت اتّفاقيّتا 1984 و 1987 كلتاهما في ضمان احترام منع التعذيب بأن أنشأت كلّ منهما لجنة مراقبة. فلقد وضعت اتّفاقيّة 1987 في الجزء الثاني منها نظام مراقبة عالميّا دائرا حول لجنة مناهضة التعذيب. وهي تتلقّى تقارير دوريّة من الدول الأعضاء لتعلّق عليها. ويمكنها أن تسيّر زيارات ميدانيّة للدول الأعضاء بموافقتها.
أمّا اللجنة الأوروبيّة فتتمتّع بسلطة زيارة أيّ مكان اعتقال في الدول الأعضاء في اتّفاقيّة 1987. ويمكن لهذه اللجنة الاستماع إلى المساجين دون شهود ثمّ توجيه توصياتها إلى الدول قصد تحسين حماية المساجين ضدّ التعذيب. كما تمتلك اللجنة الأوروبيّة خاصيّة التدخّل السامي في مسألة التعذيب بفضل دورها الوقائيّ. هذه الآليّة الوقائيّة صارت أكثر فاعليّة من اتّفاقيّة 1987. فهي تدخّل حتى في حالات الحرب. وزياراتها يمكن أن تنفّذ في كلّ الظروف.
• الرأسماليّة وسَجن العالم:
الرأسماليّة نظام اقتصاديّ ترعرع في إطار نموذج الديمقراطيّة الليبراليّة. وخلال معظم القرن العشرين واجه جملة من الأزمات. وواجه ظهور نماذج اقتصاديّة موازية لسيطرته. فلقد طرحت الحرب العالميّة الأولى والثورة الشيوعيّة الماركسيّة في روسيا والقوميّة الاجتماعيّة في ألمانيا والحرب العالميّة الثانية وتأسّس النظام الاقتصاديّ الشيوعيّ في الصين وفي أوروبّا الشرقيّة الكثيرَ من الأسئلة حول الرأسماليّة باعتبارها نظاما مسيطرا على الصعيد العالميّ.
ويرى منظّرو الرأسماليّة أنّ ما شهدته تسعينيّات القرن الماضي من انفتاح على اقتصاد السوق من قبل البلدان التي كانت تنتمي إلى الكتلة السوفيتيّة ومن دول نامية أخرى دليل على سيادة النظام الرأسماليّ العالمَ. غير أنّ هذه السيادة الرأسماليّة ليست سوى سَجن للعالم في بوتقة النموذج الواحد بعولمته. إنّ الرأسماليّة، الأمريكيّة منها على وجه الدقّة، تلاحق التنوّع والاختلاف من الماء إلى الماء إلى الصحراء الرمليّة والجليديّة إلى المتاهات الغابيّة والجبليّة، تغري بالنموذج وتعد بالدولار وتلوّح باﻟ B 52. والأطروحة هي: أيّها العالم كن لي مسخًا لأُثرِيَ على حسابك. والأفضل لك أن تفعل!! فليتمجّد النموذج الرأسماليّ. وليقنا الله نار اﻟ B 52. وليحي السِّجن الكبير.. سِجن العالم.
-----------------------------------------------
[email protected]
1. الموسوعة (l’Encyclopédie): مؤسّسة أنشأها وأدارها ديدرو صحبة جون لورون دالمبار (d’Alembert Le Rond Jean) (1717 – 1783)، وقد صدرت أعدادها بين سنتي (1751 – 1772).
2. دينيس ديدرو (Diderot, Denis) (1713 - 1784): فيلسوف وكاتب فرنسيّ، يعدّ أحد أهمّ ممثّلي فكر الأنوار. وهو مؤلّف متعدّد المواهب. وبفضل جرأته الدائمة، امتدّت كتاباته لتلامس كلّ الأجناس. وتطوّرت في مجالات مختلفة: العلم والفلسفة والاستيطيقا. وقد جلبت له إدارته لموسوعته تقديرا كبيرا. وهو يعدّ، اليوم، أحد كبار مجدّدي قرن الأنوار. لقد تجسّدت في فكره ماديّته الملحدة وإرادته نقضَ المسلّمات وإيمانه بالعقل.