السمّاح عبد الله يواجه الزمن في ديوانه - أحوال الحاكي -


السمّاح عبد الله
2012 / 10 / 20 - 10:54     

السمّاح عبد الله يواجه الزمن في ديوانه " أحوال الحاكي "

===============
د . محمد السيد إسماعيل
===============

ينتهج السماح عبد الله في ديوانيه الأخيرين أحوال الحاكي ومديح العالية نهجا حسنا حين يلتزم بما يسميه بدء القول وخاتمة القول وهما اقتباسان شعريان من الشعر القديم والحديث‏,‏ وقد يري البعض في ذلك تأطيرا لعالم الديوان وتوجيها لدلالاته المحتملة ومصادرة لثرائها وتعددها‏,‏ لكنني أري في هذين الاقتباسين علامتين لا تقلان أهمية ـ فيما توحيان به ـ عما يؤدي به عنوان الديوان ذاته أو عناوين قصائده الداخلية من دلالة‏.‏ وبدء القول في أحوال الحاكي بيت شعري لأبي فراس الحمداني يوضح علاقة الشاعر ـ أو الإنسان عموما بـالزمن الذي يبدو طرفا معاديا متماهيا مع الموت بحركته الدائبة التي تواجه ثبات الشاعر‏:

‏وقور وأحداث الزمان تنوشني
وللموت حولي جيئة وذهاب‏.‏

ومن الواضح أن الموت هو أكثر العناصر فاعلية وحضورا وهيمنة علي تركيب هذه البنية الشعرية علي عكس ما نتوقع من ارتباط الموت بـالسكون والهمود‏.‏ في مقابل ذلك الخبر الذي يتصدر البيت والذي لا تتسع دلالته لأكثر من الإشارة إلي ثبات الشاعر ووقوفه في وجه حركة الزمن المعادية‏ .

وتتجاوب خاتمة القول مع بدئه بصورة أكثر اطرادا‏!‏ فإذا كان الشاعر في الصورة السابقة علي درجة واضحة من الثبات في مواجهة حركة الموت فإن المهر في أبيات أمل دنقل والذي يتوازي مع الشاعر في البيت السابق قد سقط من الإعياء بعد أن انحلت سيور العربة وضاقت الدائرة السوداء ـ التي تشبه دائرة الموت ـ حول رقبته الأمر الذي يوحي بغلبة عناصر السلب وإحكام الدائرة السوداء التي لم تعد تشمل المهر أو الشاعر فحسب بل اتسعت لتشمل ضمير المتكلمين جميعهم‏.‏

ويبدو لي أن علاقة الإنسان بـالزمن هي التيمة المركزية المهيمنة داخل هذا الديوان‏,‏ ويأخذ الزمن وضعية القوة المعادية التي تنال من فاعلية الإنسان وتهدد خطاه علي الأرض‏:

‏السنوات المارة كقطار
‏، مرت كقطار‏
، ضربت في الذاكرة وفي الفودين وفي القلب
، كمطرقة

لا ينبغي أن نتوقف ـ فحسب ـ عند معني التسارع الذي توحي به الصورة السابقة بل الأكثر أهمية أن نتوقف عند دالة القطار ذاتها فعلي الرغم من شيوع استخدامها في الدلالة علي السرعة وربطها بـسنوات العمر فإنها تحمل ـ إلي جانب ذلك ـ معني الجبرية التي تحدد اتجاه الحركة وعدم إمكانيات الخروج عليها‏,‏ ولهذا فإن مرور القطار‏(‏ أو العمر‏)‏ ليس مجرد انقلاب سنوات بل هو أشبه بالحرب المعلنة التي تظهر آثارها في الفودين وفي القلب‏,‏ في الظاهر والباطن علي السواء وفي مقابل هذه الحركة الجبرية المنطلقة تتهالك فاعلية الإنسان حيث تنكسر الخطوات والطرقات معا ويتبادلان التأثير‏:‏

لقد أصبح المكان ذاته هدفا لفاعلية الزمن التدميرية‏,‏ لكن هذا لم يمنح القصيدة ـ شأنها شأن أي فعل إنساني ـ من تأكيد الوجود الإنساني وقدرته علي المواصلة‏,‏ فهذه الشخصية التي تطالعنا منذ بداية القصيدة والتي تبدو أقرب إلي الشخصية ذات البعد الأسطوري تستمر في تأكيد حضورها وقدرتها علي العطاء‏:‏

خبط في طرقات القرية حتي وصل إلينا‏
‏، أعطي كلا منا‏
‏، شجرة .

ومع نهاية القصيدة تتحول هذه الشجرة إلي أشجار مزدهرة ويأحذ الفعل الماضي صيغة المضارعة الدالة علي الاستمرار‏,‏ ويتضح حرصه البالغ علي العطاء‏:

‏يخبط في طرقات القرية
، ويدق بيوت الأطفال‏
‏، وفي يده
‏، الأشجار المزدهرة .

هكذا بعد مرور كل هذه السنوات‏!!‏ تبدو هذه القصيدة وصلا بين الماضي والحاضر وهي ظاهرة كثيرة التكرار علي مستوي الديوان‏,‏ كأنها حيلة من حيل مواجهة هذه الحركة الدائبة التي تشبه حركة القطار ومن هنا شاع ما يسمي بظاهرة النوستاليجا أو الحنين الدائم إلي الماضي بأحداثه وأماكنه‏:

‏سكت الليل
، وانطفأ الشمعدان .
‏والوحيد ارتدي بزة الوجد منقوشة بالتذكر
، والشوق

إن ارتداء بزة الوجد من خلال تفعيل آلية التذكر والشوق ليس ـ فقط ـ من أجل فعالية حركة الزمن بل من أجل فعالية هذه الوحدة المحاصرة التي تستشعرها الذات وتحس ـ معها أو من خلالها ـ بذلك الشعور الممض بالاغتراب وأن هذا الزحام بتعبيرات أحمد عبد المعطي حجازي لا أحد‏.‏

إن الشاعر هنا لم يعد ينتظر ذلك الآخر كاحتياج شخصي ملح وبسيط ـ فحسب ـ بل أصبح ينتظر ذلك الآخر الذي يشاركه غضبه تحديدا لقد فقد تبادل الحديث العادي قدرته علي تحقيق التواصل الإنساني ولم يعد الشاعر ـ الشاعر عموما ـ قادرا علي أن يتغني مع سعدي يوسف بقوله‏:

‏صباح الخير أم جميل ابتسمي يا صباح الخير

ولم تعد صباح الخير هذه قادرة علي منح الحياة جمالها ودلالها كما كان يري محمود درويش‏:

‏قولي صباح الخير
قولي أي شيء لي‏
لتمنحني الحياة جمالها ودلالها

لقد أصبحت طاقة الغضب وحدها هي القادرة علي تحقيق ذلك التواصل بل وتحقيق الوجود الإنساني ذاته‏,‏ وفي هذا السياق يصبح التوجه إلي الأضرحة ليس رغبة في الموت بقدر ما هو غضب من الحياة‏:‏

جئت
، وفي كفي خطايا البارحة‏ .
‏ضارب في غضبي الأرض‏
‏، وقصدي الأضرحة .

ويتجاوب هذا الغضب الصريح مع رمزية النار وما توحي به من دلالات حيث تبدو أقرب ما تكون إلي الأنثي المشتهاة‏:

‏فالتففنا حولها
، محدقين في جمالها العريان
، وهي تعلو‏
‏، وكأنا قد أخذنا بغتة بطقطقاتها‏
، ومهرجان لونها العذري .

ولا تبدو الأنوثة ـ فحسب ـ من خلال صفات الجمال العريان أو اللون العذري بل من خلال حركة هذا السيد الأكبر وعلاقته بها‏:

‏قام السيد الأكبر فينا‏‏
، خالعا جلبابه القطني‏
، وارتمي في حضنها‏
، وهو يغني .

لقد أصبحت هذه النار أداة اكتشاف الذات أو أداة خصوبتها حيث يتخذ الجلد المشقق صورة الأرض الجافة‏:

‏وارتمينا‏
‏، فرحين بدغدغات النار في الجلد المشقق‏
، وتغنينا
، ولوحنا بأيدينا‏
، شممنا عطرنا للمرة الأولي
، تذوقنا رحيقه .

وهكذا يتدرج الشاعر في تأكيده لذلك الحضور الإنساني من طاقة الغضب إلي رمزية النار ثم إلي تأكيد فاعلية الفن نفسه في أشكاله المختلفة حيث يتم ـ في قصيدة ـ وجود وتأخر أكثر مما يجب إستحضار‏:‏ ناظم حكمت‏,‏ ورامبو‏,‏ وبريخت‏,‏ وكفافي‏,‏ وماركيز‏,‏ وكازنتازاكي‏,‏ بأسمائهم أو بشخصياتهم الروائية والمسرحية‏.‏ وهكذا تتأكد فاعلية الإنسان في الوقت الذي تتأكد فيه فاعلية الفن‏ .