مساهمة في مناقشة قضية امكانية التطوير الرأسمالي في مصر


يوسف يوسف المصري
2012 / 10 / 19 - 01:45     

اريد فقط ان اضيف رأيي الى النقاش الدائر حاليا حول امكانيات التطوير الرأسمالي لمصر في ظل الاوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة.
الرأسمالية المصرية لا تملك مشروعا للتحديث او المقومات والجرأة لتنفيذ هذا المشروع. هذا ما يقوله اليسار بصفة عامة. ولكن يجب فحص امرين. الاول هل يمكن يمكن (واعتذر عن التبسيط في التعبير) اعطاء البورجوازية المصرية "حقنة مقويات" تمكنها من امتلاك هذا المشروع والدفاع عنه بجرأة؟. والثاني هو "ما هو بالضبط مشروع التحديث الذي نتحدث عنه؟". ما هي مكوناته؟ هل هو مشروع "ناصري" ام اننا نرغب في تطبيق تجربة مشابهة لتجربة فييتنام التي تركض وراء الاستثمارات الاجنبية الآن كاشفة عن كل مفاتنها ام انه مشروع خاص اشتركي او ربما هو وطني ديمقراطي او اسلامي او تركي او اي اسماء اخرى لا معنى لها في حقيقة الامر دون ان نتحدث عن محتواها الحقيقي.
واذا اعدت صياغة السؤال الاول فان من الممكن وضعه على النحو التالي : ما الذي جعل جمال عبدالناصر يعثر على حقنة المقويات الافتراضية هذه والتي تفسر عادة بانها ترجع الى هذا التعبير الغامض والمحير المسمى "الظروف الموضوعية" وما الذي جعل حزب الوفد قبل عبدالناصر يعجز عن رؤية مكان هذه الحقنة؟.
مهما تنوعت صياغات الاجابة فسوف نجد اننا لابد من ان نمر من فحص شكل السلطة السياسية اي الدولة باعتبارها التعبير الطبقي عن تطور علاقات الانتاج وادواته في اللحظة وذلك عند دراسة المقومات "الموضوعية" الضاغطة في هذا الاتجاه التنموي او ذاك. ذلك ان دور الدولة ليس مرآة سلبية للمصالح الطبقية في المجتمع لا في نهاية التحليل ولا في بدايته.
لم يكن انتصار الضباط الاحرار محتوما على اي نحو قدري في عام 1952. وقد كان توقيت حدوثه "لحظة" خاصة في تاريخ خاص لبلد خاص. ليس ثمة قانون عام يمكن قراءته من اللحظة بكل ملابساتها. ووضع اللحظات التاريخية المختلفة في "قفة" واحدة اسمها الحتمية التاريخية التي تفرضها "الظروف الموضوعية" هو احد اكثر مخلفات الفهم المبتذل للماركسية سؤا وتخلفا لانها تنبع من منهج ديني في الاساس لديه ايمان لاهوتي بان هناك قوة سماوية ولكن اسمها التاريخ هذه المرة تحتم على الجميع خيارات قسرية محددة في كل لحظات تطورهم وتحكم عليها بهذا الحكم القاسي في نهاية المطاف : اما الجنة او النار.
لقد كان نجاح عبدالناصر خطوة مهمة في تحقيق نمو ملموس للرأسمالية المصرية. وقد حدث ذلك لاسباب بالغة التعقيد تبدأ من انشغال الشركات البريطانية وحكومة صاحبة الجلالة بالحرب العالمية الثانية وما حققته الشركات المصرية الوطنية من نمو. الا ان علينا ان نلاحظ على الرغم من ذلك ان تلك الشركات المصرية نفسها رفضت مشروع ناصر لتطوير السوق المحلية والاقليمية ورفضت تمويل مشروعاته ببناء البنية التحتية اي توليد الكهرباء وتكرير المياه ومد شبكاتها ومجانية التعليم ومجانية العلاج. اي ان "الظروف الموضوعية" اذا ترجمناها باستعداد البورجوازية المصرية الملموسة والمجسدة في اصحاب الشركات الرأسمالية والبنوك والاراضي لم تكن تسمح بتحول السلطة الى سلطة تتبنى خطة تنموية رأسمالية طموحه ولم تكن تتيح بالتالي اي "حقنات مقوية". البورجوازية المصرية كانت عاجزة آنذاك عن تقديم اي مشروع تنموي او تحديثي او حقن مقوية. انها باختصار لم تكن تريد شيئا من ذلك.
الا ان لحظة 1952 كانت لحظة "خاصة" انتصرت فيها مجموعة "خاصة" ممن يملكون القدرة "الخاصة" على التغيير "العياني الملموس" الذي حدث بالفعل طبقا لتصورات "خاصة" نابعة من "خصوصية" اللحظة في مصر وفي العالم. لا يمكن تمييز تلك اللحظة على نحو اكثر وضوحا
وتكمن خصوصية الضباط الاحرار في حقيقة انفصالهم عن الملكية الكبيرة الخاصة ووقوفهم في نفس الوقت على ارض الملكية الخاصة ذاتها. لقد حكم ذللك تطورهم اللاحق واكسبهم الطابع الذي يسمى من قبل البعض طابعا بونابرتيا. من هنا فان "استقلال" السلطة السياسية عن الطبقة الحاكمة كان احد ابرز خصائص مجموعة 52 بالمرة. وسوف نجد ان تلك كانت هي المرة الاولى – وربما تكون الاخيرة حتى الآن – التي رأينا فيها هذا الانفصال في مصر الذي جاء في ظروف خاصة هي ظروف ضعف الامبراطورية البريطانية ورفض الاميركيين في ذلك الوقت لمبدأ تقسيم العالم بين الامبراطوريات الاستعمارية بصورتها التقليدية وصعود الكتلة الشرقية وتطلعات الفلاحين المصريين والموجة الوطنية العارمة التي اجتاحت الطبقة الوسطى ودفعتها الى المعترك السياسي ..الخ الخ.
وفي المجتمعات السابقة على الرأسمالية كان الاندماج بين السلطة والثروة هو ابرز سمات الشكل المتخلف لتقسيم العمل الاجتماعي. شيخ القبيلة يملك اكبر القطعان ولويس الثالث عشر هو اكبر ملاك الارض والعمدة هو عادة من اثرياء القرية وهكذا. لقد شاهدنا ظاهرة جديدة في مصر منحت مجموعة عبدالناصر بما كانت تحمله من تفاعلات ذهنية ونفسية حكمت عقول الناس في تلك الفترة الى البحث عن اسباب "الظلم" الذي يقع على الفلاحين والحرمان من المياه والكهرباء والتعليم وضعف الجيش المصري وخضوع اسلحته لقوى اجنبية واصطكاك ركبتي الملك امام المفوض السامي البريطاني واهانة الكرامة الوطنية في فلسطين.
ما اريد ان اقوله هنا هو ان "حقنة المقويات" التي تعثر عليها الطبقة البورجوازية في اي بلد تعتمد على ملابسات بالغة الخصوصية لا ينطبق عليها قانون حتمي عام الا من حيث مسارها المنهجي. وفي حالة مصر كانت حقنة المقويات هذه هي انفراد الضباط الاحرار بالسلطة – رغم انهم لم يكونوا يهدفون الى ذلك من الاصل – وقدرتهم على دحر محمد نجيب وسلاح الفرسان وتسرع الاخوان المسلمين بمعادتهم وضعف الحركة العمالية واستعدادها للوقوع في براثن الافكار "الوطنية العامة" اي اللاطبقية.
واذا سحبنا هذا الامر على لحظتنا الحالية فسوف نجد ان ما يستحق التأمل حقا هو : هل نواجه الآن هذه "المصادفات" – التي يمكن تسميتها بالخصائص المميزة للحظة حتى لا نصدم مشاعر "الحتميين التاريخيين" – وقد تجمعت في مصر الآن. ان مهمة اليسار الحقيقية هي دراسة تلك السمات الخاصة التي تقود الى نتائج خاصة وليست البدء من افتراضات نظرية مجردة مثل القول بان الرأسمالية المصرية متخلفة وان الحل هو مشاركتها بحصة افضل في تقسيم العمل الدولي او تحقيقها للاستقلال الاقتصادي الوطني الخ الخ.
لماذا لا ينبغي البدء من هذه النقاط؟ لاننا لا نبدأ من الظرف المشخص وانما نبحث مسبقا عن موقعه في بناء نظري مسبق اسسته ماركسية مبتذلة. فالماركسية هي نهج فحسب. لقد بحث ماركس قابلية تجاوز روسيا ل"قالب" انماط الانتاج المختلفة والمتعاقبة (والتي قال البعض انه اكد وقطع واقسم على تعاقبها) كما اشار الى ان الامبراطورية الرومانية كان يمكن ان تنتقل الى وضع اسس المجتمع الرأسمالي دون وجود اي حتمية تاريخية لعبورها بمرحلة الاقطاع وفحص بدقة تأثير فتوحاتها وتطور تركيز ملكية الارض باعتباره الظرف الخاص الذي حكم انتقالها التاريخي على نحو ما حدث ذلك فعلا.
ولكن فلنعد الى السؤال القائل "هل تملك الرأسمالية المصرية الآن مشروعا وطنيا للتحديث والتطوير والمقومات والجرأة اللازمة لتنفيذ هذا المشروع؟
لقد عرضت الآن رؤيتي للكيفية التي مكنت مجموعة الضباط الاحرار من تطوير مشروعها الوطني. ولكن هل تتوفر تلك المقومات في شكل السلطة السياسية الجديدة في مصر؟ وما هي علامة القياس اي ما هي مكونات برنامج التحديث والتطوير الذي يمكننا قياس اداء سلطة الاخوان المسلمين الحالية على ترمومتره؟.
الاخوان المسلمون منظمة سياسية في المقام الاول. هذا هو شكلها. ويحمل هذا الشكل المحتوى الطبقي الذي يسم اي اي منظمة سياسية في المجتمعات الطبقية اي كونها تمثل طبقة او عدد من الطبقات المتقاربة المصالح في فترة معينة. ومن الممكن ان يكون محمد مرسي فقيرا او غنيا. ولكنه في نهاية المطاف ينتمي الى منظمة سياسية حكمت عليها ظروف نشأتها ان تمزج بقوة بين نشاطها التجاري والاقتصادي من جهة ووجودها ذاته من الجهة الاخرى. وفي المقابل فان الضباط الاحرار لم يكونوا مرتبطين باي نشاط اقتصادي بالذات سوى دورهم في جهاز الدولة ومن ثم مرتباتهم. ومصطفى باشا النحاس كان فقيرا (حتى زواجه بزينب الوكيل) ولكنه لم ينفرد بحكم مصر من الاصل فضلا عن انه كان ينتمي عضويا الى حزب تتشكل كل قياداته من اصحاب الثروة.
واذا حاولنا فقط تصور برنامج مرسي للحكم فسوف نجد انه لابد يتضمن نقاطا يفرضها المنطق منها البقاء في السلطة باعتباره ممثلا لمنظمة سياسية كانت تسعى كأي منظمة سياسية منذ اليوم الاول لنشأتها الى السيطرة على الحكم. وهو كي يحقق ذلك مضطر ان يمزج بين ادخال قوى الناس بقدر محدود الى حلبة الصراع عن طريق تعبئة قواعد الاخوان وحشد من هم خارجهم تحت راية الدين والتصدي في الوقت ذاته لهؤلاء الناس اذا ما حاولوا الانتقال الى حلبة مصالحهم هم وهو ما يحدث في حالة التصدي للاضرابات العمالية والمهنية ثم السعي نحو ضمان "استقرار البلاد" باعتبار ان هذه هي الوظيفة الاولى التي حددتها ظروف الاخوان وظروف مصر وظروف الحركة الشعبية والكيفية التي آلت بها السلطة لتلك المنظمة ومتطلبات القوى الكبرى في العالم.
واذا كان ايا منا في موقع مرسي فانه سيبحث بطبيعة الحال الادوات التي تمكنه من تحقيق تلك الاهداف من منظوره الفكري وفي اطار الدرب الذي حمله للسلطة. ان اختيارات مرسي تحددها على وجه الحصر خصائص اللحظة وطبيعة السلطة. فمرسي يبحث عن اموال لتجاوز ازمة الديون الداخلية واسناد النظام المصرفي والعملة المصرية حتي يتسنى الوصول الى الاستقرار. اي استقرار؟ استقرار النظام السياسي الذي يقود والشارع (المجتمع) الذي يترأس. وهو يبحث عن منفذ من ضيق اللحظة ويسعى عبر تصورات متناثرة هنا وهناك لا يحكمها اي منطق ناظم الى مواجهة الفساد وتحديث نظام الضرائب وتطوير "المنظومة الامنية" وما الى ذلك مما نسمعه كل يوم.
ليس لدى الرئيس مرسي رؤية لتعبئة المدخرات المحلية وحشد القدرات الكلية للبلاد حول خطة تنمية. ليس لانه لا يريد ذلك ولكن لانه لا يستطيع حتى لو اراد. فالكلمة الناظمة هنا هي حشد قدرات البشر المنتجين حول خطة عملية لتطوير البلاد ومرسي مضطر لمواجهة هؤلاء البشر المنتجين ليس لانه انسان سئ ولكن لان من المستحيل جمع طاقة البشر المنتجين حول برنامج لا يمثل مصالحهم وانما يمثل مصالح خصومهم. الطريق المتاح الوحيد في تصور الرئيس هو باختصار البحث عن منفذ يأتي لمصر باستثمارات اجنبية وقروض. بقي فقط ان نحدد – دون شعارات جامدة – ان كان هذا امرا سيئا.
وهكذا ترجع المسألة الى مربط فرسها. ذلك هو ماذا يريد رأس المال المالي العملاق في العالم لمصر؟. ان مصر تمتلك بعض المقومات التي خلفها النظام الناصري للبناء. هناك متعلمون وهناك بنية تحتية متهالكة بعض الشئ ولكنها لا تشبه تلك التي يمكن ان نراها في السودان مثلا وهناك قدر من الثروات الطبيعية ومشروعات هندسة المياه الخ الخ. وهي قاعدة ضعيفة حقا كما تبرهن دراستها عن كثب لاسيما في مجال مساهمة كل قطاع في الناتج المحلي الاجمالي مقارنة بالحصة التي يحصل عليها من هذا الناتج.
وامام رأس المال المالي العالمي حزمتين من الاعتبارات. الاولى تتصل بالعائد على النحو المباشر والثانية تتصل بالعائد على نحو غير مباشر. والعائد المباشر واضح من حركة صناديق التحوط التي لا تنتقل الى بلد الا بعد ان تحسب العائد على كل دولار ستضعه هناك بصورة آنية وعلى المدى القصير. الا ان السلطة السياسية في البلاد الكبرى في هذا العالم ليست تابعا ذليلا يتآكل لرأس المال (كما يظهر من بعض كتابات الاوروبيين او من شيوع نظريات خرقاء من نوع نهاية الدولة - الامة وتآكل دور الدولة السياسي الخ). الدولة في نهاية المطاف - في تلك الدول الكبيرة - هي القيادة السياسية لصناديق التحوط والمؤسسات المالية الاستثمارية. وبحكم الانفصال النسبي للدولة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة فانها اكثر قدرة على رؤية الامور في سياق استراتيجي. وفي المقابل فانه بحكم الارتباط النسبي للدولة في تلك الدول بتلك المؤسسات المالية فانها تضع تلك الاستراتيجيات تحت خدمة المؤسسات المالية بالذات.
وما اقصده بذلك هو باختصار ان الحكومات الغربية قد ترى ان من الضروري مساعدة مرسي على تطوير مصر رأسماليا. كما انها يمكن ان تقرر ان من الضروري مساعدته فقط على البقاء وليس التطوير الرأسمالي بالمعني البرازيلي او الهندي او الماليزي. ولكن ما الذي سيجعلها تفعل هذا او ذاك؟
لا يمكن وضع اجابة عيارية قاطعة. فالامر يتعلق بحساسية وضع مصر الاقليمي من الوجهة الاستراتيجية ومن قدرة مرسي على بدء خطوات جادة لما يسميه صندوق النقد "الاصلاح الاقتصادي" اي انهاء ما يعتبره الصندوق "تشوهات السوق" مثل الدعم واعادة بناء النظام الضريبي ونظام القيد وتسجيل الملكيات وتشريعات الحفاظ على "حرية السوق" وتحرير سعر العملة والتصدي للفساد وانهاء التسلط البيروقراطي وكذا وكيت من امور نعرفها جميعا. ثم ان الصندوق وهو "غرفة العمليات" التي تتقاطع فيها خطوط الحكومات الغربية مع المؤسسات المالية ينظر ايضا الى قدرة مرسي على وضع مصر في موقع افضل من حيث القدرة على جذب الاستثمارات على مقياس ما يسمى بالانضباط الاجتماعي.
ان الاجابة على سؤال هل يستطيع مرسي تطوير مصر رأسماليا ومن اين سيحصل على "حقنة المقويات" اياها تصل دائما الى كائنات اخرى مثل الصندوق ومجموعة السبعة والاتحاد الاوروبي والمساعدات والقروض الخارجية والعربية الخ الخ.
وخلال ذلك يتداخل الدور الموضوعي لرأس المال العالمي مع دور الرئيس مرسي. فهل يمكن التفرقة بينهما حقا؟. ولكن على اي اساس؟. ان مرسي لن ينجح الا بدعم رأس المال هذا. وهو لن يفعل شيئا يتناقض مع ما يريد على اي نحو جوهري حتى ان اراد ذلك على المستوى الشخصي. ان حسن نية الرئيس او سؤ نيته ليست امورا ذات وزن في هذا السياق. فهو ليس فقط اسير السياق الذي افرزه ولكنه ايضا اسير من يملكون مساعدته على البقاء.
ليس ثمة بديل اذن الا بتفجير عناصر قوة مصر من داخل مصر. اي ليس ثمة بديل الا قلب الحكمة التاريخية الشائعة بان التاريخ يعيد نفسه ولكن على هيئة ملهاة رأسا على عقب. فقد فعل عبدالناصر ذلك اذ واجه الاستعمار العالمي في صوره المختلفة حين كان ذلك الاستعمار في مرحلة مبكرة نسبيا من مراحل تركيز رأس المال المالي وفي ظروف دولية اتسمت بالمواجهة بين الشرق والغرب وفي ظروف اقليمية اتسمت ايضا بصعود حركات التحرر الوطني على انقاض الاستعمار العسكري.
الا عبدالناصر فعل ذلك بصورة مآساوية اذ انه عطل عنصر القوة الاساسي في مصر اي شعبها. وليس امامنا الآن الا قلب هذا المعادلة واعادة التاريخ ولكن بصورة جادة لا تضحك ولا تبكي. ان قرار تطوير مصر رأسماليا في الظروف الحالية ليس بيد مصر ولكنه بيد هذه "الرأسماليا" بالذات. فرأس المال المالي العالمي بات الآن على قدر مرتفع من القدرة على الحساب ومن الشراسة ومن النظر بقدر ما تتيح له عيونه المتعددة ومن التركيز والتوحد ايضا. فقد انصت الرأسماليون لنصيحة كارل ماركس بان على عمال العالم ان يتحدوا ولكنهم طبقوها على انفسهم وقاتلوا حتى لا يطبقها عمال العالم على انفسهم.
بعبارة اخرى باتت المهمة الآن تفجير الطاقة الشعبية في مصر ووصول تحالف يقوده العمال ويضم الفلاحين والبورجوازيين الصغار لبناء نظام انتقالي من نمط الانتاج الرأسمالي الى نظام اشتراكي. وهذه المرحلة انتقالية بطبيعتها اذ يمكن الصراخ كثيرا حول تأميم هذا وتأميم ذاك بما في ذلك الارض وتوزيعها على الفلاحين واعادة بناء القطاع العام الا ان كل ذلك سيتحدد طبقا للمهام التي تحددها اللحظة. اعادة بناء القطاع العام الآن مثلا ليس مجرد دعوة غير عملية وغير ممكنة ولكنها ايضا لا تصب الا في قناة اعادة بناء ملكية الدولة على نحوها القمعي المروع الراهن. انها دعوة لعودة التاريخ الى 1952.
فالمهم اولا هو الحديث عن حق اصدار قرار التصرف في فائض القيمة ومن يملك هذا الحق وليس عن شكل الحيازة او الملكية. وقد كتبت من قبل في ضرورة دراسة المآساة المروعة التي مرت بها روسيا في الفترة من 1917 وحتى 1921 والبسالة المذهلة التي ابداها الجيش الاحمر في الدفاع عن حكم العمال والفلاحين ثم البسالة النظرية والسياسية التي اتسم بها لينين في انتقاده لسياساته الاقتصادية هو ذاته وتقديمه لما سمي بالسياسة الاقتصادية الجديدة (نيب) لانقاذ البلاد. ليس ثمة احتياج لخوض التجربة ذاتها. هناك احتياج فقط للتعلم منها.
فماذا يعني ذلك بالنسبة لليسار الآن؟. يعني ضرورة الالتفات الى القضايا النظرية الملحة من قبيل ماذا يتعين على سلطة العمال والفلاحين ان تفعل مع الحيازات الفلاحية الصغيرة؟ ان الحيازة الصغيرة هي الخصم الاول لتطوير ادوات الانتاج وعلاقاته في المجتمعات الريفية. هل يمكن مثلا مصادرة الاراضي التي استولى عليها الاثرياء في العقود الماضية وهي مساحات كبيرة والامتناع عمدا عن توزيعها على الفلاحين كقطع صغيرة ولكن تشكيل تعاونيات جماعية لزراعتها باسلوب الانتاج الكبير بدلا من ذلك؟.
ثم هل يمكننا ان نذهب الى "بلاتوه" الفيوم والقطارة لزراعة مساحات واسعة من الارض على هيئة تعاونيات يمتلكها جماعة فلاحون مهاجرون كما يقترح الدكتور فاروق الباز؟. ومن اين سنولد احتياجات الطاقة في حالة وجود شبكة مرهقة من الاصل؟. الا ان ذلك كله سيبقي على الانتاج البضاعي اي على قانون السوق وعلى فائض القيمة وعلى اغتراب العمل وعلى قوانين الربح وكل تلك امور رأسمالية قحة، ولكنها ستدار وفق منطق نفيها وازالتها اي باضعاف آلياتها التي تركز الثروة وتتيح الاستغلال عبر اعادة توزيع فائض القيمة وليس ذبح الفلاحين الصغار والمتوسطين جماعة لاجبارهم على التخلي عن ملكياتهم كما فعل ستالين في مذابحه المشهورة التي قضى فيها ايضا على البلاشفة وعلى الحركة العمالية الديمقراطية. (لقد كان الحكم البلشفي هو الحكم الاكثر حرية سياسية للطبقات الشعبية في التاريخ في الفترة ما بين 1917 و 1924. ولكن الامور تبدلت بعد ذلك لاسباب ليس هذا مجال تناولها على اي حال).
ثم ماذا بوسعنا ان نفعل في حالة الحرفيين؟. هل يتعين اقامة مصانع ضخمة للاثاث في دمياط والاسكندرية من شأنها ان تقضي على الورش التي يعوق وجودها تطور ادوات الانتاج وعلاقاته ايضا؟. وكيف يمكننا ان نفعل ذلك دون ان نقلل من مستوى معيشة اصحاب الورش او عمالها بل على العكس مع رفع ذلك المستوى؟. وهل نقبل باقامة صناعات كثيفة العمالة – اي مناقضة لمنطق التطوير الرأسمالي ذاته او بالاحرى اكثر تخلفا حتى على المقياس الرأسمالي ذاته – لامتصاص كتل الفلاحين المهجرين قسرا ومن سقطوا من الطبقة الوسطى ويعيشون الآن فيما يسمى العشوائيات او حزام الفقر؟.
وكيف سيتسنى لنا الحصول على تمويل خارجي لاتمام ذلك؟ وهل التمويل الخارجي هو امر حيوي من الاصل في هذه الحالات؟. وماذا يمكن ان نتعلم من التجربة الفييتنامية التي دارت في دائرة كبيرة ثم عادت الى استيراد رؤوس الاموال الاجنبية بكميات كبيرة (وفييتنام هي خصم تاريخي للصين على اي حال وقد غنينا جميعا لبسالة الفييتناميين في حربهم الا انهم الآن يفتحون الابواب على مصراعيها لقوى الامبريالية العالمية ورأس المال المالي).
الا يستحق كل ذلك التأمل من اليسار المصري الآن؟. ان المسألة لم تعد عجز البورجوازية المصرية عن تحديث المجتمع وتوسعة طاقته الانتاجية. كما انها ليست مساعدة رأس المال المالي العالمي كي يخرجنا من عشش الصفيح ويجعلنا نعيش كالآدميين كما قال احدهم. المسألة هي عجز اليسار المصري عن رؤية القضايا الملموسة بعيدا عن اللاهوت الماركسي المعادي للماركسية في حقيقته.
ولكن لماذا نرى بهذا الالحاح هذا الانحراف العام؟. ان كان لي ان اقول عبارة واحدة في تفسير هذه الظاهرة المؤلمة فانها ستكون ضعف حركة الطبقة العاملة المصرية حتى الآن. فاليسار ليس هؤلاء الذي ينحازون لرفاقهم في نفس التنظيم على حساب الحقيقة وليس هؤلاء الذين يعتمون على الاراء الخلافية او اولئك الذين يناقشون اختراعات نظرية او الذين يقضون ساعات طويلة في الحديث المسهب عن كل شئ الا عن خطط التواجد في صفوف الناس الحقيقيين بآلامهم الحقيقية اي في الاحياء الشعبية وفي المصانع والقرى.
ومن الوجهة النظرية فان اي راية كفاحية لدور اليسار يجب ان تبدأ من نقطة واحدة ومحددة وبالغة الوضوح الآن. تلك هي ما اذا كان اليسار نفسه سيتمكن من تحديث المجتمع وتوسعة طاقته الانتاجية اذا ما وصل الى السلطة؟ وكيف بوسعه ان يفعل ذلك؟. ماذا سنفعل مع الفلاحين او مع العشوائيين او مع صندوق النقد الدولي؟. ولماذا نرى في فييتنام ما نراه الآن؟. ولكن الواضح ان وقت اليسار لا يتسع لهذا الكلام الفارغ وانما يتسع فقط لمناقشة ماهو مبدأي وما هو غير مبدأي في قواعد السلفية السياسية التي تطبق على الروح باردة كالجيفة الميتة.
وقد قال قائل ان علينا ان نصل الى السلطة اولا ثم نجيب على هذه الاسئلة الصعبة. وحمق التعليق واضح اذ لا يمكن لنا ان نصل الى السلطة اصلا الا اذا قلنا لمن سيحملوننا اليها ما ننوي ان نفعله لو انتصر كفاحنا. اي منطق انقلابي يعتمد على الضحك على ذقون الناس لن يفيد. علينا ان نقول للناس ماذا ننوي ان نفعل. وحتى نقول للناس ماذا ننوي ان نفعل يجب علينا اولا ان نعرف ماذا سنفعل حقا. ان احدا لا يتحدث الا فيما ندر عن كيف يمكن ان ندير - ماليا - ما نتحدث عنه من "تطوير اشتراكي" او رأسمالي تحت حكم الطبقات الشعبية او اي شئ آخر. اننا لا نعرف ماذا يمكننا ان نقول لاصحاب الورش او حتى لعمال المصانع. هل يعني ذلك ان نبحث تلك الامور باستفاضة؟ نعم. هذا ما حدث عبر سنوات من مناقشة قضايا القطاع الحرفي والمسالة الزراعية في روسيا وتفاعل النشطاء اليساريين مع الاحزاب الفلاحية والبورجوازية الصغيرة والنقاشات التي دارت في صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي طيلة سنوات الاعداد للثورة لاسيما بعد ثورة 1905.
ويسارنا الآن ربما يكون قد دخل في طور تناول هذه الامور. الان اننا نرى كثيرا مشهدا مثل ذلك الذي سخر منه ماركس في ورقته الشهيرة عن فيورباخ من ان الهيجليين الشبان يصنعون نمورا من ورق ليحاربونها فيما بينهم قائلين بين فينة واخرى ان نقاشاتهم "ستؤثر على مستقبل الامة الالمانية" ولكنه اوشك ان يكرر ما قاله محمد سيف – رغم انني واثق انهما لم يلتقيا – من انه "ولا حفة تيابك تحتفي بيهم".
ليس من سبيل الا مناقشة برنامجنا ورؤيتنا لمصر ومن طرح البديل على ناس تشعر بظمأ حقيقي للبديل وتدير رؤوسها فلا تجد الا الفلول او السلف او ابوسماعيل. وليس من سبيل لتقديم هذا البديل الا اذا كنا نعرفه نحن اي اذا كنا نرى ما يمكن ان نقدم للفلاحين وللعمال وللعشوائيين والا اذا كنا نقول لهم ما نراه. ولكن واقعنا المر يشهد بدلا من ذلك بانه حتى في لحظات الوحدة فان الحديث يدور حول الانفصال وان هذا الحديث لا يحتوي اي شئ – اي شئ بالمرة – عن البديل الذي ينبغي ان يقدمه اليسار. كما ان واقعنا يشهد بالتخلي التام عما اعتبره المفكرون الثوريون العظام المبدأ الاول للوصول الى الحقيقة اي استعداد المرء للاقرار باخطائه المنهجية والاعتراف بصحة موقف آخر اي ان الاخلاص هو للحقيقة وحدها وليس لمن هو "زميل" ومن هو من "المجموعة" وترديد عبارات حمقاء من نوع الفوراق المبدأية والتوحد حول مش عارف ايه. ولكن ماذا سنفعل مع حرفيينا؟. كيف سنحل مشكلة الحيازات الصغيرة؟ كيف يمكن توفير رأس المال لبدء مشروع بديل لانهاض مصر؟ كيف سنتعامل مع المؤسسات المالية الدولية؟ ما هي حقيقة التركيب الداخلي لهذا الخصم العملاق الذي نواجهه؟ كل ذلك تحول الى قضايا ثانوية حتى يتسنى "انقاذ الامة الالمانية".
لن يمكن نقد برنامج "النهضة" الذي يقدمه الرئيس محمد مرسي الا من ارض برنامج ثوري بديل يعرف اين يخطو. لا يمكن ان ننتقده "في الهوا" وبعبارات انتقائية. ان مثل هذا النقد الذي لا ينطلق من رؤية بديلة يبدو في نظر الناس بما في ذلك قواعد الاخوان انفسهم واغلبهم من انبل شبان مصر مجرد "كيد سياسي" و"كراهية" او "معادة للدين" او "علمانية كريهة" وخصومة لمرسي ونفاد للصبر وتعبير عن العجز والحقد الى آخر القائمة. كما لا يمكن القول بان الرئيس مرسي ليس لديه برنامجا للنهضة كي ننتقده. انه في كل ما يفعل يطبق رؤية ما. فهل لدينا حقا رؤية بديلة غير الحديث عن اعادة المصانع المخصصة وتوزيع الارض وما اذا كانت خصائص التحول الذي لا نعرف اصلا مدى بعدنا او قربنا عنه هي خصائص اشتراكية ام انها تحول الى الاشتراكية وما الى ذلك من قضايا لا تنطلق من بحث تجارب ملموسة مثل تجربة فييتنام او ماليزيا او الهند او مصر او اي "واقع" حقيقي آخر؟.