رواية - كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية- و أجيالنا المحترقة في نيران الحروب الاجرامية


حميد كشكولي
2012 / 10 / 14 - 10:51     


ما يجري في منطقتنا منذ عقود من حروب و معارك تركت عدة أجيال مشوهة تنتابها كوابيس الموت و الجحيم . و اليوم يمكننا أن نشاهد حربا عالمية ثالثة صغرى ساحتها سوريا ، وضحاياها من الشعب السوري المظلوم المتعطش إلى الحرية والأمان.
خلال اطلاعي على ما كتب عن الحروب و مآسيها في منطقتنا لم أر َ أفضل مما كتب الروائي الألماني ماريا ريمارك في روايته العظيمة " كل ّ شيء هاديء على الجبهة الغربية" ، فرغم تصويره للحرب العالمية الأولى وعلى الجبهة الألمانية الفرنسية ، ألا أنها تصوير لمعاناة الشباب الضائع العراقي والايراني و الشرق أوسطي في الحروب المستمرة المندلعة في منطقتنا منذ عقود ، لأسباب سياسية خارج مصالح الإنسان العادي .
الثيمة الغالبة في رواية " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" تتمحور حول الجرائم الفظيعة التي تستوجبها الحروب. . وقد كانت الروايات التي كتبت قبل " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" للكاتب الألماني أريك ماريا ريمارك تنزع إلى مقاربات حماسية ، والتأكيد على الأمجاد و الشرف للأمم التي تحارب باسمها الجيوش والحكومات ، و تكشف عن الواجبات الوطنية والبطولات في سوح الوغى، و تصور كذلك " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" الحرب مثلما جربها في الحقيقة الجنود في الجبهة، بدون أن تسجل بيانات الحكومتين الألمانية والفرنسية ، و شعارات المجد و مشاهد البطولات ، كما تقوم الرواية بشكل أساس باطلاع القارئ على صور الرعب غير الرومانسية ، والعبثية والمذابح البشرية.

وكانت الحرب العالمية الأولى تتمثل في هذه الصور الفظيعة أكثر من أية حرب اندلعت من قبل، بل إنها غيرت تغييرا حاسما كل الإدراك الإنساني عن الصراع المسلح ، و مستوياته الكارثية من مجازر و عنف ،و معاركها الفرعية التي استمرت لشهور ، و التقدم التقني الحديث الرهيب ( مثل اختراع الرشاشات الأوتوماتيكية،و الغازات السامة، و الخنادق والمتاريس) ، ما جعل القتل أسهل ، وغير شخصي( أي ّ لم يعد المقاتل يشخص كقاتل شخصي بل جيشه وحكومته هما القاتلان ، أي أن عصور المبارزة و البطولات الرومانسية لأبطال معينين قد انتهت) مما كان قبل التقدم التقني الذي وصلت إليه البلدان الغربية إبان الحرب العالمية الأولى. إن رواية ريمارك تُمسرح هذه الجوانب من الحرب العالمية الأولى ، وتصور الإرهاب المخدِّر للذاكرة ووحشية الحرب بالإضافة إلى التركيز المكثف على الأضرار النفسية و السيكولوجية التي يعاني منها الجنود سواء أثناء الحرب أو بعد انتهائها في نهاية الرواية، وان أغلب الشخصيات الرئيسية للرواية يُقتلون ، حيث تركز الرواية على تصوير التأثير المدمر للحرب والسياسة العدوانية للأنظمة الحاكمة على جيل الشباب من الرجال الذين يجبرون على القتال.


و لأن " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" كتبت عن جنود يقاتلون في الجبهة، فأهم موضوعة من موضوعاتها هي التركيز على التأثير المدمر للحرب على الجنود المقاتلين. هؤلاء الرجال معرضون دوما لمخاطر نفسية،في الوقت الذي يتعرضون إلى خطر التحول إلى أشلاء في أية لحظة. فهذا الخطر النفسي الداهم ينتاب بشكل متواصل الأعصاب، و يضطر الجنود على إثره لمواجهة الرعب البدائي و الغريزي دوما، بالإضافة إلى أن الجنود مضطرون إلى العيش في ظروف مزرية – في الوساخات و خنادق امتلأت بالماء الآسن و الجرذان و الجثث المتفسخة، و القمل. و تتكرر عندهم حالات انقطاع الأرزاق والغذاء، و الحرمان من النوم، و خلق الثياب وتمزقها، انعدام الرعاية الصحية. كما إنهم مجبرون أكثر فأكثر على التعايش حتى درجة الإدمان مع الموت الفجائي لأقرب أصدقائهم و رفاقهم.
و يصور ريمارك التأثير الشامل لهذه الظروف على الجندي وكأنه حمل مشلول هلعا و يأسا وإحباطا. وإن الطريقة الوحيدة أمام الجنود للبقاء هي الانفصال عن مشاعرهم، وكبح أحاسيسهم و القبول بهذه الظروف المزرية كنمط جديد للحياة وأمر واقع.

في نظر ريمارك أن لهذا الانفصال النهائي عن المشاعر له تأثيره التدميري على إنسانية الجنود، فمثلا باول، يتحول إلى كائن لا يمكنه تصور مستقبل البشر بدون حروب ، وهو غير قادر على استذكار كيف عاش في الماضي.و كذلك يفقد القدرة على التحدث إلى أهله ومعاشرتهم . ولم يعد الجنود يندبون أصدقاءهم ورفاقهم القتلى، و حين يحتضر " كيمرخ" على سرير الموت ، في بداية الرواية، يكون السؤال الملح بين أصدقائه من الذي سوف يرث حذاءه من رفاقه الجنود الأحياء ، و يصف ريمارك، الرابطة الحميمة للوفاء والصداقة التي تتلاشى نتيجة المعايشة المشتركة للحرب والقتال في الجبهة.
هذا الشعور هو العنصر الرومانسي الوحيد للرواية بل هو الشعور الوحيد يضفي الذي على الجنود شيئا من الصفات الإنسانية.

القومية و السلطات السياسية:

إن ما عجل في اندلاع الحرب العالمية الأولى هو النزعة القومية، و فكرة أن الدول القومية المتصارعة هي من المقومات الأساسية للوجود البشري، كذلك بدعة وجوب وفاء الفرد للأمة، و كذبة أن الهوية القومية للفرد هي العنصر الأولي للشخصية القومية.
لم تكن الأخلاق القومية شيئا جديدا في التاريخ، لكنها وصلت ذرى جديدة في كثافتها في القرن التاسع عشر، و ظلت كالجمر تحت الرماد حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
في وصفها لفظاعة الحرب، تقدم رواية " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" نقدا لاذعا لفكرة القومية، مبينة إياها كأيديولوجية فارغة، ومضللة و منافقة، و أداة بيد أصحاب السلطة للسيطرة على جماهير الأمة.

باول وأصدقاؤه تغرر بهم الأفكار القومية للانخراط في القوات المسلحة ، لكن التجربة سرعان ما تكشف لهم تفاهة القومية بعد معايشتهم الحرب و فظائعها و إحساسهم بأنها جردتهم من الروح الإنسانية و حولتهم إلى وحوش على شكل البشر.
تعليمات الأساتذة الوطنيين والقوميين من أمثال كانتورك و هيملستوس تتحول إلى أحقاد تافهة وأفكار مهجورة فارغة ولن تصمد أمام فتك الأسلحة الحديثة الصنع. ويوضح ريمارك أن الجنود في الجبهة لا يقاتلون في سبيل أمجاد الأمة ، بل غالبا يقتلون لكي لا يُقتلوا ويبقوا على الحياة. باول ورفاقه لا يعتبرون الجنود في الجبهة المواجهة لهم أعداء حقيقيين، بل يعتبرون الرجال الذين يملكون زمام الحكم والسلطة والمال من أبناء أمتهم وشعبهم ، أعداءهم الحقيقيين ، الذين يضحون بهم في جبهات الحرب ويجبرونهم علة مقاتلة ناس أبرياء في سبيل السلطة والجاه والمال.

" إنه لم يتجاوز التاسعة عشر من العمر، لكنه متطوع في جحيم حرب قتاصات الخنادق. يروي عن الوساخات ، والآلام و الندم. ورغم كل ذلك يحكي عن الصداقات، و التضحيات الحميمية، و الأمزجة .
لا يبتغي هذا الكتاب أن يكون شكوى ولا اعترافا، يقول ريمارك.
هذا الكتاب يريد فحسب أن يكون محاولة الحديث عن جيل تم تدميره في الحرب_ ولو نجى من القنابل."

من رواية " كل شيء هاديء على الجبهة الغربية"
.... .. ..
ولد أريك ماريا ريمارك في اوستنابروك ، ألمانيا، عام 1898 لعائلة من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى. أجبر عام 1916 على الخدمة العسكرية في الجيش الألماني للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، و أصيب فيها بجروح بالغة. وبعد عشر سنوات من انتهاء الحرب، طبع كتابه بالألمانية والتي ترجمت إلى العربية تحت عنوان " كل ّ شيء هادئ على الجبهة الغربية"، وهي تدور حول معايشة الجنود الألمان العاديين للحرب.
وبينما تتحدث روايات أخرى عن الحروب من منطلقات حماسية و العزة القومية و إذكاء نار الفرقة و زرع بذور الشقاق و العنصرية بين أبناء الشعوب ، مثلما كتب كتّاب قادسيتي عكرمة و صدام لتصوير الصور من المعارك،إذ من البديهيات أن على ماكينة الدعايات الحربية للأنظمة لتعبئة الناس للقتل أن تزرع الكراهية والأحقاد لكي يقدر الجندي على قتل الجندي في الطرف المقابل.
وقد حطم ريمارك الأساليب التقليدية لكتابة روايات الحرب ، و أصبحت روايته عالمية و صورت عام 1930 كفلم ناجح تحت نفس عنوان الرواية.
بعد وصول هتلر إلى السلطة عام 1930 في ألمانيا، هاجم النظام النازي رواية" كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" متهما إياها باللا وطنية. وخشية الانتقام لم يبد ِ ريمارك أية مقاومة على اعتداءات النظام النازي ، وقام بطبع كتاب آخر عام 1931 باسم " طريق العودة" يصف معاناة المدنيين الألمان من آثار الحرب بعد انتهائها. وعلى إثر نشر الكتاب المذكور الذي اعتبره النظام النازي تحديا له و مثيرا للمعارضة ضده ، هرب ريمارك إلى سويسرا مع زوجته جوتا زامبونا عام 1932. أصدر النظام النازي عام 1932 قرارا بمنع روايتي ريمارك و قام بحرق نسخهما حيثما وقعت عليها عيون النظام وجلاوزته. رحل عام 1939 إلى الولايات المتحدة مثل معظم المثقفين الألمان الهاربين من النازية، وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1947. و أثناء الحرب العالمية الثانية قتل النظام النازي شقيقته لصلاتها مع شقيقها.
وقد ألهمه عشقه للممثلة مارلين ديتريخ و هيامه بها إلى كتابة روايته " قوس النصر" . وتزوج عام 1958 نجمة سينمائية أخرى وهي باوليت جوددارد ، فانتقلا إلى بورتو رانكو بسويسرا حيث مات ريمارك في 25 سبتمبر عام 1970.
تعالج أغلب روايات ريمارك القضايا السياسية والاجتماعية في أوروبا في فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية. تحولت العديد من هذه الروايات إلى أفلام. و ستبقى رواية" كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" رائعته وعمله الأعظم لشعبيتها و كثرة الدراسات النقدية عنها. وستبقى هذه الرواية و العمل السينائي المبني عليها من الأعمال الخالدة المناهضة للحرب و الغطرسة القومية والشوفينية القومية.

أكثر الانتقادات لذعة والموجهة إلى الوطنية والقومية هي مصوبة في الوقت ذاته إلى أفكار شخصية "كاتورك" ومواقفه السياسية ، ذلك المعلّم الذي يحاول ما بوسعه أن يقنع بخطاباته الحماسية باول وزملاءه للانخراط في سلك الجندية في مستهل الحرب. يستخدم كاتورك البلاغة المثالية والوطنية والشاعرية لتبليغ أفكار الوفاء الوطني والأمجاد القومية. في رسالته للشباب، مثلا، يدعوهم بالشباب الحديد، و" ينطوون على القوة والشجاعة والمرونة وغيرها من الصفات التي فشلت في تصوير أهوال الحرب التي تجعل الرجال يائسين ومحبطين يتشبثون بالقش للبقاء على قيد الحياة. وكلما تذكر باول و رفاقه خطابات كانتورك وهم في الخطوط الأمامية للموت ازداد مقتهم واشمئزازهم من القومية و الوطنية. و يحملّون في بداية الرواية ، كاتورك موت جوزيف بيهن المبكر، مدعين أن المعلّم لم يدرك أن الأفكار الفارغة والغطرسة لا يمكنها حماية الشخص فيزيائيا أو نفسيا أو عاطفيا في قلب المعركة.
السلاح الرئيسي للرواية الموجه نحو فكرة الوطنية هو ببساطة تصويرها القاسي لصور الدماء والأشلاء البشرية و الحيوانية الأخرى. فكل مشهد لأية معركة تنقلها الرواية هي صور للعنف الإجرامي و أوصاف دموية للموت والإصابات .مشاهد المستوصف الميداني تنقل للقارئ تعابير رهيبة عن الجروح المروّعة مستحيلة الالتئام بسبب شحة الأدوية والوسائل الطبية الأخرى. وبينما يحمل باول الجريح كات على ظهره لينقله إلى موضع آمن، فتصيب شظية شربنل رأس كات.
وبسبب جفاف مشاعر الجنود يتعاملون مع الموت بكفاءة لا شخصية: الطباخ يتساءل إن كانت الضوابط العسكرية تسمح بإعطاء جراية الجنود القتلى إلى الجنود الباقين على قيد الحياة.، و حين يلفظ كيمريخ أنفاسه الأخيرة، لم تيبس الدموع في مآقيه بعد حتى يتسارع جنود لإخلائه لإشغال سريره. وفي أجواء العنف الرهيبة هذه ، تفقد الخطابات القومية والوطنية قوتها الاقناعية و تكشف عن وجهها الريائي المضلل.

يشير ريمارك في هذه الرواية إلى أن أي جندي لكي يعيش هذه الأجواء الحربية عليه إطفاء ذاكرته والتحرك وفق ما تملي عليه الغرائز، وأن يتحول إلى أقل من كائن بشري ، و أسمى شيئا ما من الحيوان. يتصور باول نفسه "حيوانا إنسانا"، وبقية الجنود الناجين من الموت في المعارك تحركهم الغرائز أيضا. معايشة المعارك بهذه الطريقة حيوانية تماما في هذه الأجواء، حين يطيع الجنود غرائزهم بدل العقل والحكمة ويستشمون كالكلاب إمكانيات الأمان حيثما كانت. وبهذا تتحطم إنسانية الجنود، وتسلبهم الغريزة الحيوانية إمكانية الشعور ما يجعلهم يسلكون كوحوش لا كبشر اجتماعيين.

لا يكثر ريمارك في روايته " كل ّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" من توظيف الرموز ، لكن أهم رمز في الرواية هو جزمة كيميرخ التي يتناوب على امتلاكها عديد من الجنود بعد موت مالكها. كيمريخ نفسه انتزعها من جثة طيار مقتول، وبينما كان كيمرخ يستلقي على فراش الموت يبدأ مولر حالا بالمناورة لاستلام الجزمة العسكرية. يأتي باول بها لمولر بعد موت كيمرخ ، ويأخذه لنفسه بعد مقتل مولر في الرواية. بهذه الطريقة، تمثل الجزمة رخص الحياة البشرية أثناء الحروب و سلطات القوى القومية. فردتان جيدتان لجزمة هما أثمن و أطول دواما من حياة البشر. والسؤال من سيرث الجزمة يظلل موت مالكيها. الجزمة ترمز أيضا إلى البراغماتية الضرورية التي ينبغي لكل جندي أن يحوزها. ولا يمكن لأحد أن يخنع لعواطفه بين أنقاض الحرب، بل عليه أن يردم منابع الحزن و اليأس مثل أية ماكينة.