الشرير فريق باشا / حب في ظلال طاووس ملك / رواية في قيد الكتابة


حمودي عبد محسن
2012 / 10 / 10 - 22:47     


... فصل من رواية ـ حب في ظلال طاووس ملك ـ
رواية في قيد الكتابة
الشرير فريق باشا
في يوم من أيام هذا الشتاء القارص أصابت الحمى الحارة الجد ، فراح طريح الفراش ، تارة يئن وتثار عنده جروح الماضي ، وتارة يستيقظ هلعا ، وقد تصبب جسده عرقا وهو ينظر إلى ميرزا الذي كان يغط في نوم عميق ، فيتألم قلبه وهو يكافح ضد هذه الحمى اللعينة التي لم يعرف كيف غزته على حين غرة ، فيضع رأسه على الوسادة وتأخذه كوابيس مرعبة تشده إلى ظلال التاريخ ، هو الشرير ــ فريق باشا شبح خرج من رماد معتم أو خرج من تجويف مظلم أو من مقبرة مظلمة أو إنه متوحش ليس من رس الجنس البشري . بعدئذ صارت عيني الجد في نصف إغماضة ليتكيف مع كابوس الحلم ، ليظل الجد ساكنا في فراشه ، كان ذلك صعب جدا ، حيث خارج غرفته كانت تسحب الرياح ذيولها في أزقة بحزاني ، تتوسع ، وتشتد مسرعة ، تقود غمائم ، وتسوق سحاب قطع صغيرة متدانية بعضها فوق بعض ، تتفرق متراكمة مكللة السماء بها تارة غليظة ، تارة رقيقة ، بعضها يركب بعض في تلبد واكفهرار ، وسحاب يتعلق بسحاب ، فأبرقت سحابة صادقة صواعق ، وأخرى جرت أهدابا ، فارتجست رعدا ، ولمع برق ، وقد حارت به الرياح ، فحفت الغيوم بوارقها ، وقد تجلجل رعد في ضحك وبكاء ، وراحت لوامع تبتسم ، وتمد جناحيها على بحزاني النائمة في دفء وحنان ، بل في ليلة ظلمة تنام ، إذ صار سراجها ومض برق يمحى السواد ، فجعلت من برقها المتبسم ضياء ليلغي عبوس وجه الظلام ، وثنيت سواد الغمام مطرا ، وثنيت بحزاني من أجفان ماء . أهي الرعود ألبست الجد ظلا موغلا في زمان مجرورا إليها بأنفاس الرياح ؟! الشرير في عيني الجد ليس حيوان ، والشرير كلمة لا تعني كائن جسده نصف إنسان ونصفه الآخر حيوان أو وجهه مركب على جسد حيوان ، وقد اختلفت الروايات والحكايات حوله ، فهذا يقول أنه عفريت ، وذاك يقول أنه ثعبان ، وهذا يقول إن حجمه أكبر من الذئب يسرق الفتيات الجميلات ، وذات مرة وجد شعر رأس فتاة وحليها على صخرة ، فالشرير وحش في كل الأحوال ، وأولئك يقولون أنه جن ، وغيرهم يقول أنه غول ، لكن يتفقون جميعهم على أنه غريب الأطوار سواء كان حيوان أو إنسان ، إنه متوحش ، ومن أبرز ميزته تقدح عيناه دائما شررا ، ويعيش في الظلمة ، إن هذا الشرير العجيب الغريب يظهر ويختفي ، ولا أحد يعرف متى ظهوره ، وكم تستغرق مدة غيابه ، ولا أحد يعرف إنه يفنى ويزول ، والأكثر من هذا أتفق أهل بحزاني إنه الشرير الأوحد الذي يضاف إلى قاموس الأشرار ، وأن روحه عدوانية متوحشة ، متعطشة دائما للدماء ، وإنه يكره بحزاني ولطف أهلها وغابات زيتونها ومياهها العذبة لذلك كان يتربص لها ، وينتظر الفرصة لتدميرها ، ولا يريد لها سوى الخراب ، لأنه بارع في التدمير ، وهو بارع في الانقضاض على فريسته أي إنه بارع في القتل ، وله خبرة في فن القتل ، إذ إنه يتلذذ به كأي متوحش جائع خرج من التاريخ فهو يعتقد بمقولة : أن التاريخ يصنعه تارة الجهلاء ، وتارة أخرى يصنعه القتلة . لذلك شاعت أخبار مشوهة يطغي عليها التضخيم في القرى البعيدة والقريبة أن الشرير فاتك جبار قبيح الوجه ، فمه كبير يبتلع الفريسة ، ويمضخها في أنيابه التي تشبه أنياب ذئاب ، بقرنين كبيرين ، وجثة ضخمة ، يكسو جسده الشعر الأسود ، وشعر رأسه طويل يتدلى على كتفيه ، إنه الكائن الخرافي ، لكن الشرير الحقيقي الذي كان يتلاطم شكله في الحلم الكابوس لدى الجد هو الفريق باشا ، هو الشرير الذي فتك بالأيزيدين ، ليطعم غريزته الدموية ، ويطيب قلبه برائحة الدماء ، فهو يذبح مثلما يريد ، وهو صاحب الصدر الأعظم في الآستانة ، المليء صدره بالنياشين والأوسمة ، وتفترش على كتفيه الرتب ، وهو صاحب الكفاءة العالية في تنفيذ المهام في المذابح لتتلاءم مع العقيدة العثمانية ، فهذا الشرير الشرس صار هو المتسلط المستبد والجلاد الطاغية المشهور في بحزاني ، فقد سمع عنه أهل بحزاني أشياء تثير الرعب والجزع من جرائمه ، فهو يترك ذبيحته تموت ببطء حتى تستفرغ دماءها ، عندئذ يغمس سيفه في بقعة الدم كأن ذلك أمرا إلهي ينفذه بأبرياء ، وغالبا ما يترك سيفه مغروزا في عتبة بيت الضحية أو في واجهة باب المنزل ، إنه الشرير صاحب المآثر البطولية العظيمة في تنفيذ القرار السماوي المطلق الذي يأتيه من واسطته السلطان الأعظم الجالس على عرش الإمبراطورية ، لذلك أصبح الشرير مشهور جدا ليس في بحزاني وحدها ، وإنما في سائر العالم الأيزيدي ، ذات مرة أجلس أيزيدي على خازوق ، ثم قطع يده اليسرى ، ورماها إلى الأيزيديين المربوطين بحبال ، ثم قطع يده اليمنى ، ورماها إليهم ، وهو يصرخ : موت ... موت... ثم ضرب عنقه . ثم وضع مئات الرؤوس على أسنة الرماح بين جثث الموتى ، وكانت تتعالى أصوات جنوده ابتهاجا لعظمته ، وهو كعادته يرفع رأسه إلى أعلى ساكنا ، لا يتأوه ، وعندما وطأت قدماه سنجار فلم تنج منه قراها ، ذبح كما أراد ، وأحرق أحياء في بيوتهم لتشويهم النار ، وباع أطفال في سوق النخاسة بالموصل ، هو الفاتح الجبار، المتوحش المختار ، الذي لا نظير له في العدوانية ، ولا نظير له في تعذيب البشر ، فكلمة الشرير تنطبق على همجيته المتوحشة ـ روح شريرة من قوى شريرة ـ لا علاقة له بشيء أسمه رحمة أو شفقة أو حياء ، وقد تجاوز عصره إلى ما قبل التاريخ في إجرامه لأن قلبه من حجر ، وكان بحذائه الأسود الطويل يدوس كل قوانين البشر ، فهو مذهل في التعذيب ، والعنف ، وأساليبه مقرفة ودنيئة ضد ناس أبرياء ، وإذا تساهل في التلذذ فإنه يضرب الضحية بأخمص البندقية أو الجلد على الظهر ، وقد اشتهر بربط أيدي الأيزيديين في الموصل إلى حيوانات ، وتم سحلهم في الشوارع ، تنهال عليهم الهراوات والحجارة والأسواط ، ذات يوم وضع أيزيديا في قدر كبير يغلي ماء تحت نار ملتهبة متأججة ، ومرة استبد به الحزن وهو يسأل نفسه : كيف يمر اليوم دون أن أقتل أحدا . أمر آنذاك بتعليق جثث الموتى في الساحات والطرقات ، عندئذ نفخ البوق ، ودق الطبل ، وصرخ المنادي : إعدام ... إعدام ... وجاء بالأبرياء ، أجلس البريء على ركبتيه ، وقطع رأسه بضربة سيف في عنقه ، ثم أتوا إليه بالثاني ، والثالث ، والرابع حتى وصل تلذذه إلى المئة ، حينئذ غادره الحزن بعد ضرب الأعناق ، حينها جنح خياله بعيدا إلى الإبادات الجماعية ، واستقرت أحلامه المجنونة في بحزاني ، بيد أن الشرير فريق باشا كانت له ميزة فريدة ، وهي كرهه للشمس ليس لأنها تعطي الضوء والدفء ، وليس لأنها شبهت بسراج الأرض أو وجهها إلى السماء وقفاها إلى الأرض أو بالعكس أن وجهها إلى الأرض وقفاها إلى السماء ، بالطبع ليس كل هذا السبب أنه يكره الشمس ، أنه يعرف أنها مستديرة ، وإن لها مستقر في السماء ، ليس كل هذا أيضا ، وإنما كان يجنح بخياله أن يمتلك الشمس ، ويمتد استبداده إلى أشعتها ، عندئذ يقدر أن يتحكم بشروقها وغروبها ، فيجعلها تشرق في الغرب ، وتغيب في الشرق ، عندئذ تكون الشمس في كف يده ، يقبض عليها قبضة قوية متى أراد ، ويخفف قبضته متى أراد فيما إذا غادره الحزن ، فستخر الشمس شاحبة ساجدة بين أصابعه ، وإذا أشاء أن يجعل الدنيا بلا نهار ، أيام كلها ظلام ، فهو يقدر عندئذ أن يتحكم بمصير العالم ، يؤذن لطلوع الشمس متى أشاء ، هو الشرير فريق باشا أراد ما أشاء أن ينزع الموت من الموتى أو أن ترجع الشمس إليه أي ترجع من حيث خرجت من كفه ، ليكون كفه طلوعها وخروجها من سجنها ، هذا هو الشرير فريق باشا العظيم الجبار الغول ، العفريت ، العملاق ، الجن ، الدموي المتوحش ، وكل شيء من هذا القبيل . غالبا ما يتحول حلمه إلى خرافة يتناسب مع خرافته هو أن يحرق ما يريد ، هو الطموح جدا ، الذي أيضا له طموحات أخرى مثلا أن يجعل الكواكب السبعة ملكا لديه ، ويصبح إله اليابسة والمياه ، وإنه قادر أن يفكك الأرض ، حيث يفصل الجبال عن الوديان ، ويجعل غابات الأشجار تذهب راكضة إلى الصحراء ، خاصة أشجار الزيتون تلك الموجودة في بحزاني ، حتى المياه لا تخلص من أحلامه ، فأرادها أن تغلي وتفور ، إن كل ما يريده هي الميزة الوحيدة الفريدة أن يقدر على كل شيء ، فهو في قناعة نفسه أشهر رجل في العالم ، وأشهر من الشمس ، لأنه دائما في طلوع حتى عندما يكون في منامه ، فهو يهذي :
ـ الشرير فريق باشا .
لكن هذا الشرير فريق باشا عندما يكون في بحزاني تكون الشمس في أوارها ، حينئذ ينتابه الغضب الشديد ، إذ ليس بوده أن يقترب من ضيائها أو يتظلل في فيء شجرة ، غالبا ما يتقي الشمس باليد على جبينه لكي لا تغشو عينيه ، دائما كان يفر منها ليس بسبب الحر ، هو يدرك بالتأكيد أن الشمس منيرة دون حاجب ، وهو يدرك كم هي بازغة تبدو ، ثم ترتفع صفراء حمراء ، هي دائما مليحة ينبسط شعاعها على الأرض ، وفي نفس الوقت كم يفرحه أن تكون عليلة في المغرب ، ليس إلا إنه يفهم ملاءتها الحمراء الذهبية تناسب راحته ، بالرغم من ذلك فإنه لا يديم النظر إلى حمرة الغروب ، فكلما نظر إليها وجدها صفراء حمراء ، وهذان اللونان لم يتناسبا مع مزاجه ، ربما ـ أراد أن تكون الألوان كلها وفق ما يريد ، بيد أنه لا يستطيع أن ينكر النهار على الإطلاق بسبب بسيط جدا إن أغلب مهمات سيفه في النهار ، وبمرأى الجماهير المحتشدة الخائفة من جنونه .
الكابوس الحلم اختفى من رأس الجد حينما هز كتفه ميرزا ، وهو يقول بصوت وديع :
ـ إنه الصباح يا جدي .
استيقظ الجد تنضح ملابسه عرقا ليس فقط من كوابس الأحلام ، بل لأن الحمى اشتدت عليه ، لم ينهض من فراش المرض حين فززه ميرزا ، وهو يخرج براته من تحت الوسادة التي حملها معه من لالش ، وقال بصوت متلعثم :
ـ اجلب لي كوب ماء يا ولدي .
فهرع ميرزا إلى خارج الغرفة ، وعاد مع كوب ماء ، فوضع الجد البراة في الكوب ، لم تمض لحظات حتى صارت البراة تذوب تدريجيا في قدحها وتتعالى حبيباتها إلى أعلى الكوب كأن الماء صار يفور فيه ، وقد تغير لون الماء ليكون لون التراب ، ثم رفع الكوب بيد مرتجفة ، وأطبق بشفتيه على حافة الكوب بعد أن اتجه وجهه إلى لالش ، شرب الماء الفوار داعيا متضرعا أن تغادره الحمى ، ثم طلب من ميرزا أن يجلب له شريطا أسودا وخيطا أحمر ، فذهب إلى أمه ، وطلب منها شريط أسود وخيط أحمر ، وهو يتسلمهما ويقول بصوت حزين :
ـ جدي مريض اليوم يا أمي .
، ثم عاد إلى جده الذي راح يشد الشريط الأسود على رأسه من جهة الجبين ، وأخيرا وضع يده على كتف ميرزا وخرجا سوية من البيت ، والجد يسحب بتثاقل ساقيه حتى وصلا مزار الشيخ مند ، وانسلا فيه ، انحنى الجد على الأرض ورفع من أرضية المزار قبضة تراب ، عفر جبينه بالتراب ، وتقدم إلى نبع صاف تخرخر فيه المياه بهدوء ، غرف بكلتي راحتيه الماء ، وصبه على وجهه ، فشعر ببرودة الماء تلسع وجهه بعد أن رسمت جداولا فيه تنزلق إلى صدره ، ثم تقدم إلى شجرة زيتون ، وقطف ورقة زيتون ، ووضعها في فمه ، وراح يلوكها حتى أحس بمذاقها المر ينخز في بلعومه ، ثم قفلا خارجين من المزار يبحثان عن شجرة الدفلى ، فوجداها ليست بعيدة عن المزار ، فشد الجد الخيط الأحمر في أحد غصونها ، وراح يحل عقد الخيوط ذات الألوان المختلفة التي تشبه قوس قزح التي تزين الغصون ، ويرميها على الأرض ، وهذا يعني أن هؤلاء المرضى قد فلت عقدتهم ، وإنه سيأتي شخص ما ، ويفل عقدة الجد ، وينقذه من الحمى اللعينة ، ثم طلب الجد من حفيده أن يأتيه بجرة فخار مكسورة من البيت ، وهو ينظر إلى أحواض معاصر الزيتون المتروكة ، وقد تجمدت المياه فيها ، عندئذ أدرك شدة الزمهرير ، التقى مع حفيده عند ساقية المياه ، وسارا سوية إلى مزار حجر كرمك في جنوب القرية ، فعفر جبينه بتراب المزار ، وأخذ من حفيده الجرة المكسورة ، وراح يغرف بها المياه ويصبها على حجر كرمك ، ثم قفلا راجعين إلى البيت ، وقد شاع الخبر في القرية أن الجد الكبير قد أصابته الحمى ، وأن وجهه صار شاحبا ، وقد خارت قواه ، وهذا لم يعتاده أحد من قبل عليه إذ أن الجد الكبير قوي البدن ، وقلبه واسع ، وصبره لا ينفد ، وقد صقلته المخاطر والصعوبات ، ربما ـ حسدته عين شريرة ـ هذا ما راح يردده أهل بحزاني بينما كان يمشي الجد متوكئا على كتف ميرزا حزينا صامتا لا حيلة له ، وعند عتبة الباب وجدا ميرزا والجد ديكا مذبوحا ، فأدركا أن الأهل ذبحوا الديك كنذر للشيخ آدي كي يغادر المرض جدهم الكبير.
وفي الليل وعلى فراش مرضه غزته رؤيا تلو رؤيا ، مرة أن الشرير الحيوان اختطف هنار ، فهرع ميرزا حاملا فأسه ليحطم رأس الشرير الحيوان ، وإذا به وهو يبحث عنها وجد حليها وأقراطها وضفيرتيها على صخرة ، عندئذ أدرك أن الشرير الحيوان أكلها ، فذرفت عيناه الدموع ، وبكى بكاءا مؤلما ، فأيقضت هذه الرؤيا الجد من منامه مكتئبا متذمرا حائرا وهو يتصبب عرقا ، وكانت الحمى تشتد عليه ، وهو يضع رأسه على الوسادة ، ويحاول أن ينام ، إنه الآن ينام في رؤيا أخرى : وجه جنائزي جامد ، صارم وقاسي ، يخون الموتى ، نظرته غريبة فيها تهديد ووعد ، تحركها عضلات الوجه بصعوبة ، نظرة غريبة مرعبة ، كئيبة متعمدة ، الآن يرى الوجه قد تغير ، وأتاحت له الفرصة أن يميزها بوضوح ، ففتح الجد شفتيه ، وتمتم بأقوال :
ـ لا ... ليس ميرزا ...
كان قوله أشبه بصرخة في منامه ، وصار الوجه وراء قناع ضخم هائل متوحش ، فأتت الكلمات
ـ أيها الشرير ابتعد عن ميرزا ...
كان هذا يؤلمه ألما شديدا ، إذ الوجع الشديد يؤذيه ، فقد تمثل له الرعب وفظاعة الموت والشهوات المتلهفة للسياط والأغلال والقتل في غزو جديد ، ويبدأ العذاب ، وانتهاك الحرمات ، فالوجه الجامد الميت ، الآن لن يراه وهو يرفض أعوام ألسنة اللهب التي تفرقعت في بحزاني ، ألا يكفي تلك الإبادات التي امتدت قرون ، إذ مذبحة تلو مذبحة ، لم يرد الجد أن يثوى جسده وهو يكافح الحمى العدو ، الشرير العدو ، كان يجاهد في منامه أن يقنع نفسه إنه ينتصر على العدو ، إذ لابد أن يقاوم لتكتمل رسالته إلى حفيده ، وهذا يتطلب سلسلة تتابع أزمنة ، لتكون مسيرة حياة جديدة مليئة بالحنان والمحبة ، فليطرد هذا العدو الظالم القاسي من رؤاه ، هذا هو لغز الخلود الإنساني ، فلم يعرف كيف فز من نومه ، ليرى مدهوشا وجها لوجه قبالة المستبصر ( الكوجك ) الصامت ، وقد راودت الجد رغبة أن ينهض من فراشه إلا إنه تسمر فيه ، وقد احمر وجهه ، وتراقصت أجفانه وهو يسحب نفسه في فراشه ساندا ظهره إلى الجدار ، ساحبا الغطاء إلى بطنه ، ويرى أيضا قد ارتسمت ابتسامة عجيبة على وجه الكوجك الملتحي ، وهو في ثيابه البيضاء ، تعتمر رأسه كوفية حمراء ، ويلف خصره بحزام من قماش أحمر ، كان الكوجك يحمل في يده اليمنى كتابا من عدة صفحات ، وارتسمت على غلافه الخارجي مربعات كثيرة وفي داخل كل مربع حرف كبير . إذن هذا هو الكوجك الزاهد في الدنيا ، المتفرغ للصلاة ، المتضرع للسماء ، المتعبد الذي يصوم مرتين كل سنة أربعين يوما في الشتاء وأربعين يوما في الصيف ، التقي الصالح الذي شاعت حوله في القرى أقاويل إنه صاحب المعجزات والقدرات الخارقة أن يشفى المرضى ، هو الذي يتصل بعالم الغيب ، ويتنبأ بالحدث ، هو الذي روحه نبيلة لا تقبل الأذى للإنسان أو الحيوان أو النبات ، هو صاحب سلطان الخير يدفع البلاء عن شعبه ، ويقاتل قوى الشر ، ويدفعها ، ويبعدها ، ويطردها عن بلاده لذلك منزلته رفيعة عند الأيزيدين ، الآن كان الكوجك مستغرق في عالم روحاني رؤاه بؤرة روحية بين مصائر أرواح الموتى ونعيمها ، عيناه ساهيتان في اللاوجود ، تبحران إلى المنتهى ، وهو يرتقي بروحه الفاضلة في غياب ، فلزم الجد الصمت ، وحل في الغرفة طقس كهنوتي عجيب ، كان الكوجك ساكنا ، ترتجف شفتاه في أعماق السكون ، شيء يلوح للجد أن الرؤى ترتفع في تحدي واضح ، وقد تغيرت ملامح الوجوه في صمت طويل ، حينئذ أغمض الكوجك عينيه وهو يبحث في الغيب ، وربما يبحث في الحقيقة ، ثم ارتجف كما لو أنه في إرادة أخرى ، ثم خيم صمت أزلي متعمد ، ثم فتح عينيه الثابتتين الواسعتين المخلصتين دون حركة أجفان ولا انسياب في خلق آخر . كان ثمة شيء رائع في شروده الذهني عن الوجود ، وشرود عينيه إلى البعد ، فيهما يستبصر ما سيحدث ، ثمة شيء عجيب في جلسته التي تهدلت يداه اليمنى الحاملة للكتاب إلى حضنه ، فصارت مسترخية ، وهو يبحر في خيال أو يسرح إلى بعيد ، كما لو إنه يعيش في مكان قصي ، ثم انحنى رأسه إلى صدره ، ولم تمض لحظة حتى ارتفع وجهه إلى عالم آخر ، لم يعرف الجد أهو كان يخاطب السماء أو يخاطب أحدا آخر ، إذ حل في الغرفة صمت غريبة جدا ، ثم صارت نظراته متحدية فيها تيقظ ، ثم حميمة مصممة فيها ود القلب ، بغتة تبين اللطف والنبل المجمدين في وجه الكوجك ، وهو يداعب بيده اليسرى الحرة لحيته كما لو أنه يبلغ شيئا غامضا عظيما ، يبلغه ويراه ويلتقيه بعيدا عن عالم الوجود ، هذا اللقاء الغيبي لا يعرفه أحد لأنه لقاء أرواح نقية وتقية ومضيئة في محاربة الشر ، فصار جيشا لها من أرواح العباد الأتقياء لمحاربة جيش الأشرار ، قوتان هائلتان ذات عداوة أزلية. كان لغز الكوجك الدنيوي الحاد الذي لا يقوى أن يبتعد عنه ، فهو بقدر ما نزاع بين الجسد والروح في ذات الكوجك ، هو في نفس الوقت نزاع تلك الأرواح ، فلذلك هناك أرواح خير ، وهناك أرواح شر ، ودائما يتفجر الصراع دون مصالحة تذكر ، لابد من مقاومة حتى لو كانت قصيرة الأمد التي غالبا ما تتوج بانتصار الروح الطيبة التي يحملها جسد الإنسان ، فالجسد ثقيل والروح خفيفة ، فروح الكوجك ساهرة ليل نهار لتلوذ عن شعبها ، فما غيبوبة الكوجك إلا ارتقاء إلى عالم آخر ، انغمس فيه بألفة شديدة خارج كينونة الجسد البشري ، ارتقاء مضيء مبتهج ومجاهد ، ذلك الذي انتصر فيه واقتلع من الجد الكبير مخاوفه من الشرير ، لم تمض لحظات حتى التفت الكوجك إلى الجد ليبلغه عن انتصاره الكبير النهائي اللامادي ، انتصار على أحابيل الشر والبلوى ، وتلك كانت مأثرة بالنسبة إلى الجد ، وقد غدا عنصرا آخرا قادرا أن يقهر الشرير دون هوادة ، ولا يخاف على مصير ميرزا .
فجأة وضع الكوجك الكتاب على كفه ، وطلب من الجد أن يضع ابهامه على أحد الأحرف الكبيرة بين المربعات ، فصارت تداعب الأحرف ، وتوقف الابهام عند واحد منها ، ففتح الكوجك الصفحة التي عنونت بذات الحرف ، وراح يقرأ ببطء وهدوء كما لو أنه يترنم بالكلمات والجد يصغي بكل انتباه واهتمام ، وعندما انتهى الكوجك من قراءة الصفحة نهض مع نظرة راعشة صريحة للجد ، حينئذ نهض الجد واقفا من فراش المرض ، فأدار الكوجك ظهره واتجه بخطى بطيئة نحو الباب وهو يقول :
ـ مثل سليمان بتي ...
عندما خيم ظلام الليل نزع الجد ملابسه ، وتعرى ، ثم لف نفسه بعباءة الصوف الحروانية وخرج من البيت ذاهبا إلى معاصر الزيتون قرب الكوم ، مسك حجرا وراح يفتت الثلج الذي يغطي فتحة أحد معاصر الزيتون ، ويغوص فيها ثم ينط ، ثم خرج وهو يتذكر حكاية سليمان بتي حين نط في الليل العميق من فتحة المعصرة ليطرد الحمى الحارة وخرج عاريا ، وكان في نفس اللحظة قد مر البائعة المتجولين ، وهم يحملون بضائعهم على ظهور حيواناتهم ، فرأوا سليمان بتي يخرج عاريا من المعصرة ، فأصابهم الرعب ، وفروا هاربين ، تاركين حيواناتهم ، وهم يصرخون :
ـ الشرير