ماركس بين الزيرجاوي وكركوكي


أنور نجم الدين
2012 / 9 / 26 - 10:13     

في أحد تعليقاته على موضوع في الحوار المتمدن، يقول الأستاذ جاسم الزيرجاوي:
يقول ماركس: لقد اكتفى الفلاسفة في تفسير العالم بشتى الطرق، المهم هو تغييره.

ويطرح الأستاذ آكو كركوكي السؤال الآتي:
الصديق جاسم الزيرجاوي أودُ لو أطرح على حضرتكم سؤال عما ورد في تعليقكم، ماذا يقصد ماركس بتلك المقولة: هل يقصد (تغِيير) العالم بفعل الفلاسفة أي الإنسان أم يقصد (تغَّيُر-بشد وفتح الغين) العالم بفعل قوانين التأريخ والتطور الخارجة عن إرادة الإنسان؟

يجيبه الأستاذ الزيرجاوي لاحقًا:
ونؤكد على: يقصد (تغِيير) العالم بفعل الفلاسفة أي الإنسان .. الواعي والمدرك لحركة التأريخ.

أما ماركس نفسه فيقول:
"من المؤكد اننا لن نكلف أنفسنا العناء كي نفسر لعلمائنا الفلاسفة أنهم حين يحلون "في الوعي الذات" الفلسفة واللاهوت والجوهر وكل متاع الإنسان، حين يحررون "الإنسان" من الدكتاتورية التي لم تثقل عليه أبدا، لم يقدموا خطوة واحدة "بتحرير" "الإنسان"، وانه لا يمكن تحقيق تحرير فعلي إلا في العالم الواقعي وإلا بوسائل الواقعية، وانه لا يمكن الغاء العبودية بدون الآلة البخارية والنول الآلي ودولاب الغزل، ولا الغاء الرق بدون تحسين الزراعة .. ان "التحرير" فعل تاريخي وليس فعلا ذهنيا، وهو يتحقق بفضل شروط تاريخية، تقدم الصناعة والتجارة والزراعة".
(كارل ماركس، الايديولوجية الألمانية، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، ص 32-33).

إن الأمر لدى ماركس لا يتعلق مطلقًا بتحرير البشر من خلال تحريرهم من قبل الفلاسفة من الخرافات والأديان والأفكار غير المعقولة عن العالم. وإن أول النقد المادي الموجه للفلسفة من قبل ماركس، هو أن نقد الفلاسفة للعالم، لم يغادر قط ميدان الفكر. فحسب ماركس لم يسأل أي من الفلاسفة ما الرابطة المادية التاريخية بين نقدهم للعالم وبيئتهم المادية (نفس المرجع السابق، ص 24)، وعلى النقيض من الفلسفة التي تهبط من السماء إلى الأرض، فإن الصعود يكون من الأرض إلى السماء (ص 30).
وهكذا، فالتغيرات تاريخية في الأساس لا ذهنية، فلا يحدث أي تغيير في العالم المادي وعلاقات البشر من خلال ما يقوله الأفراد أو العلماء أو الفلاسفة عن العالم، والفلسفة بالتحديد تأتي من ميدان الفكر لا من المقدمات المادية للتاريخ الإنساني. وهذا ما يحاول ماركس دحضه. فحسب ماركس يجب تحليل عملية التطور العملي للبشر، ويجب أن تحل معرفة واقعية مكان الفلسفة، وان المادية التاريخية لا تقدم في حال من الأحوال، مثل الفلسفة، وصفة أو مخططا يمكن وفقًا له تكييف العصور التاريخية (ص 31).

ينتقد ماركس الفلاسفة على العموم وبوصفهم لا يرون العالم إلا مقلوبًا، وهو يقول:
"ان جاك المغفل، الذي يجهد (للتخلص بأسرع ما يمكن) من التاريخ التجريبي، يوقف الحقائق على رؤوسها، ويجعل من التاريخ المادي نتاجا لتاريخ الأفكار" (ص 135).

إن فكرة "تغيير العالم بفعل الفلاسفة"، قديمة قدم فلاسفة القدمى. أما ماركس فينتقد هذه الفكرة بصفتها فكرة لاهوتية، ابتداءً من مدارسها الإغريقية القديمة الشاكين، والرواقيين، والابيقوريين، وانتهاءً بممثلي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية هيغل وفيورباخ. فها هو ماركس يقول:

"ان جميع المثاليين، الفلسفيين والدينيين، والقدماء والمعاصرين، يؤمنون بالوحي، بالالهام، بالمخلصين، بصنعة العجائب؛ أما ما إذا كان ايمانهم يتخذ شكلا دينيا مبدئيا أم شكلا فلسفيا منقى، فهذا لا يتوقف إلا على مستواهم الثقافي"، ".. فعند المثالي ليس للحركات التي تغير وجه العالم وجود إلا في رأس فرد مصطفى" (ص 587).

وهكذا، فالمادية التاريخية لا تنشأ إلا في الصراع التاريخي بين فكرة "تغيير العالم بفعل الفلاسفة"، وفكرة تغيير العالم بفعل تطور التاريخ الناتج من تطور الصناعة والمبادلة والتناقضات الاجتماعية الناتجة منها، فالقوى المنتجة التي هي في متناول البشر هي التي تحدد الحالة الاجتماعية والوعي الاجتماعي وقوانين وجود هذا الشكل الإنتاجي أو ذاك، ففكرة "تغيير العالم بفعل الفلاسفة"، تبدأ من الفكرة التي ينتقدها ماركس على الشكل الآتي: "إن الفلاسفة منحوا الفكر وجودًا مستقلًّا" (ص 486).

فكم يكون التغيرات الاجتماعية سهلا لو كانت القوانين الاقتصادية تتغير بفعل أفكار الفلاسفة. أما ماركس فليس فيلسوفًا، وهو عالم اقتصادي، يبحث قانون تطور المجتمع الحديث، كما أشار إليه الأستاذ آكو كركوكي. وهو لا يتخيل تحويل العالم بفعل أفكاره، فالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، تاريخية لا ذهنية، فماركس يبحث فقط قوانين تطور التاريخ، فالتاريخ ليس موضوع التأمل بالنسبة لمادي مثل ماركس. فالسؤال إذا هو: ما محرك التاريخ؟

لدى ماركس، حسب المثاليين:
"ان الفكرة التأملية، التصور التجريدي، تصبح قوة محركة للتاريخ، بحيث يرتد التاريخ إلى مجرد تاريخ الفلسفة. وفضلا، عن ذلك، فان هذا التاريخ الأخير نفسه لا يتصور كما قد جرى فعليا، وفقا للمصادر المتوفرة – وأقل من ذلك بوصفه نتيجة العلاقات التاريخية الفعلية – بل كما تصوره الفلاسفة" (ص 126).

وهكذا، فالتاريخ ليس نسخة مطابقة لأفكار الفلاسفة أو العلماء، لا سابقًا، ولا حاضرًا، ولا مستقبلاً، والفلاسفة لا يمكنهم حتى تصور التاريخ من وجهة نظر مصادره المادية، فكيف ترى بمستطاعهم تغيره؟
أما فيما يخص ماركس، فقد انتقد الفلاسفة -محبي الحكمة- بخصوص تصوراتهم المثالية عن التاريخ، فالغرض من أبحاث ماركس ليس تغيير العالم، بل فهم قوانين تغيره، فهو يبحث في أطروحاته قانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث، أي المجتمع البرجوازي، القانون الذي ينص حسب الاقتصاديين البرجوازيين -ريكاردو كان أم فوكوياما- على أنه قانون طبيعي، لا يمكنه أن يتغير للمجتمع البشري. وهذا ما يناقضه ماركس، فالعالم يتحرك ضمن التاريخ لا الأفكار، ومحرك هذا التاريخ ليس الفكر، بل تطور الزراعة والصناعة والتجارة والمبادلة وما يلازمها من الصراعات الاجتماعية.

وأخيرًا، فلا ريب فيه ان لكل مدرسة من مدارس الفلسفية الاغريقية القديمة - والحديثة أيضًا- حكيمها الخاص، كما يقول ماركس، ولكن لا ينتمي ماركس ولا المادية التاريخية إلى أية مدرسة من هذه المدارس، فلا ماركس فيلسوفًا ولا المادية التاريخية فلسفة.