اليسار الجذري... واليسار الإصلاحي، أو يسار الوسط


داود تلحمي
2012 / 9 / 25 - 22:10     

أصبح اليسار في فرنسا، بلد منشأ هذا المصطلح أبان الثورة الفرنسية، وفي أوروبا عامةً، في أواسط القرن التاسع عشر، يتشكل من تيارات سياسية واقتصادية- اجتماعية متنوعة تأثرت بمناخات الثورة الفرنسية بتنوع مشاربها، وبالثورات اللاحقة التي حدثت في بلدان أوروبية أخرى في ذلك القرن. وهو ما اتضح من المدارس المختلفة التي كانت سائدة في إطار الإنتفاضات العمالية التي شهدتها عدة مدن فرنسية في العام 1871، وخاصة في العاصمة باريس، حيث استولى العمال هناك على السلطة لعدة أسابيع في ثورة عمالية باتت معروفةً باسم "كومونة باريس".
لكن الغلبة في صفوف اليسار الأوروبي أصبحت، في أواخر القرن، وخاصة بعد قمع كومونة باريس، للمدرسة الفكرية التي أسسها في أواسط القرن المفكران اليساريان الألمانيان كارل ماركس وفريدريش إنغلز، وعُرفت، حتى في حياة كارل ماركس، باسم الماركسية.
وقد شهدت تلك الفترة، كما والسنوات الأولى للقرن العشرين، معركة أيديولوجية وسياسية حادة نشأت، في عدة بلدان من القارة الأوروبية، وخاصة في ألمانيا، بين اليسار الذي بات يميل الى اعتماد الطريق البرلماني بالأساس كوسيلة لتغيير أو تحسين الوضع الإجتماعي والسياسي للمواطنين، والذي عُرف باسم التيار الإصلاحي، واليسار الأكثر جذرية الساعي الى تغيير عميق، ثوري، يتجاوز النظام الرأسمالي باتجاه التحوّل نحو نظام إقتصادي- إجتماعي آخر، المعروف باسم النظام الإشتراكي، والمستند على مبدأ الملكية العامة لوسائل الإنتاج.
وعشية الحرب العالمية الأولى، التي اندلعت في أواسط العام 1914، وقعت خلافات حادة في أوساط قوى اليسار الإشتراكي في أوروبا وفي ما بينها. ومعظم هذه القوى، كما ذكرنا، كان متبنياً للماركسية. فعشية "الحرب الكبرى"، كما كانت تُسمّى الى أن اندلعت حرب عالمية أخرى في أواخر الثلاثينيات فأصبحت تُعرف باسم الحرب العالمية الأولى، برز اتجاهان رئيسيان في الأممية العمالية (الأممية الثانية)، التي كانت قد تأسست في العام 1889 وشارك في تأسيسها فريدريش إنغلز (كارل ماركس توفي عام 1883، بعد أن كان، مع إنغلز، من مؤسسي الأممية الأولى عام 1864، والتي كانت تعرف عند تأسيسها باسم الرابطة العالمية للشغيلة): اتجاه داعم، خاصةً في برلمانات الدول المتحاربة، لموقف الحكومات اليمينية في كلٍ منها من الحرب، حيث قام نواب هذا الاتجاه بالتصويت لصالح اعتماد موازنات الحرب، واتجاه آخر معارض لكل هذه الحكومات ومناهض للحرب، التي اعتبرها "حرب ضوارٍ" بين دول كلها إمبريالية، وكلها تحاول عبر الحرب إعادة رسم خارطة أوروبا وإعادة اقتسام مستعمرات دولها في أنحاء العالم.
وكان الروسي فلاديمير إيليتش أوليانوف (المشهور باسمه الحركي، لينين) أحد أبرز رموز التيار الأخير. وبات أكثر بروزاً بعد انتصار الثورة التي قادها في روسيا القيصرية في أواخر العام 1917، وبعد خروج روسيا ما بعد الثورة من الحرب. ومن بين المعارضين الآخرين لهذه الحرب في الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وهو الإسم الذي كانت تحمله معظم الأحزاب الملتزمة بالماركسية آنذاك، زعيمة الجناح اليساري الجذري في الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني (وهي من أصل بولوني) روزا لوكسمبورغ، التي انتهت، مع رفيقها في قيادة هذا الجناح كارل ليبكنيشت، بالسقوط ضحية قمع الأوساط المناهضة لهذا اليسار الجذري في ألمانيا في مطلع العام 1919، إثر محاولات لم تنجح لتنظيم ثورة عمالية في هذا البلد، الذي خرج من الحرب العالمية الأولى مهزوماً ومأزوماً، إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
وفي العام 1919، وبعد حملات وصراعات أيديولوجية حادة قادها لينين، خاصة، ضد هذا اليسار "الشوفيني والمساوم" في أوروبا، حصل الطلاق النهائي في إطار ما كان يُعرف قبل الحرب باسم الأممية العمالية، أو الأممية الثانية. حيث قام القادة الثوريون المنتصرون في روسيا (الإتحاد السوفييتي تأسس في نهاية العام 1922 وأُقر دستوره الفيدرالي في مطلع العام 1924) بتأسيس أممية جديدة للحركة العمالية اليسارية العالمية، مركزها في موسكو، حملت إسم الأممية الشيوعية (كومينتيرن، وهي صيغة دمج للمقاطع الأولى للكلمتين في اللغة الروسية)، وعُرفت أيضاً باسم الأممية الثالثة، تمييزاً لها عن تلك التي تأسست في العام 1989 وانتهت الى الإنقسام. والذين بقوا في مناخ التيار السابق المهيمن على الأممية الثانية عادوا فتجمعوا لمواجهة تحدي التجربة السوفييتية الجديدة، وأطلقوا على تجمعهم لاحقاً اسم "الأممية الإشتراكية"، أو "الدولية الإشتراكية".
هذه الأحزاب اليسارية الأخيرة التي اتخذت منحى إصلاحياً يعتمد بالأساس على النشاط البرلماني والسياسي، وغالباً ما احتفظت لنفسها بلقب "الإشتراكية الديمقراطية"، الذي كان سائداً، كما ذكرنا، في الأممية الثانية، استمرت في الحضور السياسي في بلدان أوروبا وبلدان أخرى في أنحاء العالم الى يومنا. علماً بأن نفوذها في حقبة ما بين الحربين العالميتين، التي شهدت صعود الفاشية والنازية في أوروبا، كان محدوداً نسبياً. وهي اتسعت في نفوذها وتأثيرها بعد الحرب العالمية الثانية. وتجاوزت طابعها الأوروبي بالأساس، مع حضور لها في بعض الدول التي استوطنت فيها مجموعات أوروبية، مثل أستراليا ونيوزيلاندا وجنوب إفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية، ثم في عدد من بلدان العالم التي كانت مستعمرة في آسيا وإفريقيا، حيث انضم بعض الأحزاب في هذه البلدان الى "الأممية الإشتراكية"، التي أسستها بعض الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية في مدينة فرانكفورت الألمانية عام 1951.
وقد تخلّت غالبية هذه الأحزاب رسمياً، منذ عدة عقود، عن تبنيها للماركسية، التي ورثها معظمها من الأممية الثانية في أواخر القرن التاسع عشر. فالحزب الإجتماعي الديمقراطي الألماني (ويُترجم اسمه أحياناً بصيغة الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني، مع أن الصيغة التي أوردناها أقرب الى الترجمة الحرفية للإسم الحالي)، وهو أقدم حزب في ألمانيا حيث تأسس في صيغته الأولى في العام 1863، هذا الحزب تخلى رسمياً عن تبنيه للماركسية في المؤتمر الذي عقده في مدينة باد غودسبرغ عام 1959.
وحتى الحزب الشيوعي الإيطالي العريق، الذي تأسس في العام 1921 كوريث لغالبية الحزب الإشتراكي الإيطالي الأقدم، الذي كان قد تأسس في العام 1892، فقد كان له دور بارز في الحركة الشيوعية العالمية واليسار الدولي طوال عقود طويلة، حيث كان من بين أبرز مؤسسيه القائد والمفكّر اليساري المتميز أنطونيو غرامشي، فقد انتقلت أغلبية منه في العام 1991 رسمياً الى مواقع الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية، بعد قرار حل الحزب الشيوعي وتأسيس الحزب الديمقراطي لليسار، الذي أصبح لاحقاً يعرف باسم "ديمقراطيي اليسار"، وبعد ذلك باسم الحزب الديمقراطي. وهذا الحزب شارك في حكومات إئتلاف يسار الوسط التي تشكلت بعد العام 1996. فيما بقيت أقلية من الحزب الشيوعي الإيطالي السابق معارضة لحل الحزب، ومتمسكة بالإستناد الفكري الى الماركسية. فأقامت، مع قوى وجماعات يسارية جذرية أخرى، الحزب الشيوعي – إعادة التأسيس، ويُكتب اسمه أحياناً بصيغة حزب إعادة التأسيس الشيوعي. وكلا التيارين المنبثقين عن الحزب الشيوعي الإيطالي القديم شاركا في إئتلاف يسار الوسط الذي تشكّل في إيطاليا عشية انتخابات نيسان/أبريل 2006، والذي ترأسه الأستاذ الجامعي ومفوض الإتحاد الأوروبي السابق رومانو برودي، وبعد النجاح في الإنتخابات، شاركا في الصيغة الحكومية التي انبثقت عنها. وتولى أحد رموز "ديموقراطيي اليسار" القيادية رئاسة الجمهورية، وهو جورجيو نابوليتانو. بينما تولى المسؤول الأول لحزب إعادة التأسيس الشيوعي بين العامين 1994 و2006، النقابي العمالي فاوستو بيرتينوتّي، رئاسة مجلس النواب. وفي السنوات اللاحقة، تفرقت مكونات هذا الحزب الأخير وضعف حضوره في الهيئات التشريعية الإيطالية الى حد التلاشي.
وهكذا، نلاحظ أن كلا التيارين الرئيسيين في اليسار الأوروبي المعاصر، التيار الماركسي (الشيوعي) والتيار الإشتراكي الديمقراطي، أو بالأحرى الإجتماعي الديمقراطي، الذي تخلى معظم أحزابه عن تبني الماركسية كفكر موجِّه له، استمرّا في الحضور والنشاط السياسي طوال العقود التسعة ونيّف الأخيرة منذ الثورة البلشفية. مع ان التيار الأول تراجع نفوذه الإنتخابي بشكل ملحوظ في أوروبا الغربية خلال العقدين الأخيرين، على خلفية انعكاس إنهيارات التجارب الإشتراكية في الإتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية منذ العام 1989، ولأسباب أخرى مرتبطة بتاريخ وسياسات كل حزب من هذه الأحزاب.
أما التيار الثاني فتنوّعت في صفوفه المدارس والتأثيرات، واقترب بعضه من سياسات أحزاب اليمين والوسط في الممارسة، خاصة في المجال الإقتصادي، كما هو الحال بالنسبة لحزب العمال البريطاني في مرحلة رئيس الحكومة الأسبق توني بلير، والحزب الإجتماعي الديمقراطي الألماني في مرحلة المستشار السابق غيرهارت شرودر. وكان مفهوماً، في هذا السياق، أن يشهد حزب شرودر، في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، انشقاق التيار اليساري في الحزب وانضمامه الى الحزب الذي ورث الحزب الحاكم سابقاً في ألمانيا الشرقية حتى العام 1990، ليشكّلا معاً حزب "اليسار".
أما في بلدان "العالم الثالث"، فقد تشكلت فيها أحزاب وتيارات يسارية مختلفة بعض الشيء عن النماذج التي تشكلت في أوروبا وبقية البلدان الصناعية المتطورة. وسنتحدث عن هذه الأحزاب في مجال لاحق.

(هذه المادة هي صياغة مطورة لما جاء حول الموضوع في الفصل الأول من كتاب "اليسار والخيار الإشتراكي" للكاتب).