القيم ما بين العقل و الدين 2


محمد فيصل يغان
2012 / 9 / 21 - 13:58     

في هذا القسم (الثاني) ضمن نسق هذا البحث, فإن ما يعنينا هو الدور الاجتماعي والسياسي الذي تلعبه الأديان كمستودع للقيم وتطور هذا الدور مع تطور المجتمعات البشرية. ويكفي لتحقيق هذا الهدف أن نعتمد تصنيفًا أوليًّا للأديان قائمًا على مبدأي الوحي والعقل, حيث نرى أن مبدأ الوحي قد ارتبط بإنشاء الدولة المركزية وإدارتها وإدارة المجتمع التابع لها على أساس شريعة قائمة على عقيدة كشرعية مرجعية. ويظهر الوحي كضرورة في مرحلة متقدمة نسبيا من التطور الاجتماعي, أي عندما تبدأ بالتفشي آفات اجتماعية تهدد المجتمع وبقاءه, وذلك حين تستفحل الطبقية داخل هذا المجتمع نتيجة لسوء توزيع فائض الإنتاج وحقوق ملكية وسائل الإنتاج, أو ضرورة مواجهة خطر خارجي يهدد الكيانات الاجتماعية الممزقة والمتفرقة, فيظهر النبي الضرورة, النبي المخلص. واضح هنا أن الخلاص الجماعي يتطلب بالضرورة الانفصال واعتماد الوحي كمصدر واحد موحد للجهود الجماعية, فلا تعدد في الشرعيات عن طريق الاتصال.
في ديانة الوحي يكون الاستسلام في الانصياع للشريعة, في الالتزام بالجماعة, في طاعة الوحي سواء في حضوره أو بعد انقطاعه من خلال ممثليه (الشرعيين) (و أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم). أما دعوى استمرار الوحي بالنزول فتقدم نفسها (كنقيض على المستوى الديني) إن جاز التعبير, في مواجهة المؤسسة السياسية القائمة على الوحي, وأسطع مثال لهذه الظاهرة هو ظهور الحركات الشيعية في الإسلام. وهذه الحركات هي اتصالية بمعنى تواصل نزول الوحي وانفصالية بمعنى حصر الوحي في الأئمة, أي أنها ثورية في لبوس إصلاحي.
أما مبدأ العقل والديانات العقلية أو الطبيعية, فهي قائمة بالأساس على هدف الخلاص الفردي من خلال شعائر قائمة على عقيدة, والعقيدة مصدرها في مرحلة التطور البدائية هو (العقل) بشكله البدائي الموحَّد, وبالأخص فعاليته الفكرية الباطنية كما ورد سابقا. ولاحقا في مراحل التطور المتقدمة, يصبح مصدر العقيدة هو العقل بفعاليته الفكرية الموزونة (حركة التنوير في أوروبا).
حتى في المشاعة البدائية, حيث لا تناقض ما بين الفردي والجماعي (من خلال تناغم شكلي الملكية الفردية – المنفعة والجماعية – الرقبة), يتحقق الخلاص الفردي كما تتحقق كافة شروط وجود الفرد الأخرى, من خلال الجماعة. فالطقوس الجماعية هدفها خلاص الأفراد, وأما الكاهن أو الشامان فهو يؤدي (وظيفة) اجتماعية تدرب لها وتمرس فيها بهدف حفظ الطقوس وطرق التواصل الأخرى مع قوى الطبيعة من الضياع, ولربما كان هذا أول شكل واضح لتقسيم العمل القائم على التخصص. والمثال الأوضح عن هذا الدور التخصصي في الديانات الوثنية القديمة ما كان يقوم به قائد المجموعة المحتفلة بعيد الإله ديونيزوس لدى قدماء اليونان كما ورد في الاقتباس التالي (.. يبدأ الاحتفال بإشارة من قائد الخورص – الخورص هو جماعة المحتفلين م.ي. – أو الأكزرخوس, أما الغناء فنُواحٌ وعويل, يصحبهما نفخ في الناي, وقرع الطبول ورنين الصنوج. ويرتجل الأكزرخوس اللازمة أولا , ثم المقاطع الأخرى. وبين مقطع وآخر يردد الخورص اللازمة نفسها...) " المدخل إلى المأساة والفلسفة المأسوية, د. أنطوان معلوف, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت", فالأكزرخوس هذا لا يميزه عن حشد المحتفلين سوى قدرته على الارتجال المناسب للحدث وتخصصه في هذا المجال على أساس من (موهبة) نادرة, وهو ما حوله لاحقاً إلى مؤلف المسرحيات المأساوية.
في الديانة الطبيعية أو ديانة العقل, يكون الاستسلام هو لمصدر القوة, ويتجلى هذا الاستسلام بأقصى صوره في الديانات البدائية بالتصوف, والتصوف مهما قيل عنه وعن موقفه من الوحي, فهو ممارسة دينية قائمة على الاتصال (الحلول والفناء) وهدفها الخلاص الفردي. أما ظهور التصوف في الديانات المؤمنة بالوحي وفي الإسلام بالذات فهو نوع من ردة الفعل الرومانسية للفردية سببها ردود فعل الأفراد على النظام القائم, وعجز هذا النظام عن إرضاء الشعور الحدسي لهؤلاء الأفراد بالعدالة. فهي بمعنى من المعاني ثورة احتجاجية على نظام سياسي قائم على دعوى شرعيته العقيدية, ومن هنا تعاطف الحركات الصوفية مع الانتفاضات الشعبية للطبقات المضطهدة (الحلاج) وارتباط الصوفية الوثيق بالحركات الشيعية. إذن وبناء على هذا التفسير لظهور وأنتشار الصوفية, فإن تسرب (اللامعقول العقلي) و(الموروث القديم) بأشكاله الغنوصية الهرمسية إلى الساحة الفكرية الإسلامية " محمد عابد الجابري, تكوين العقل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية" ما كان ليحقق هذا النجاح الكبير لولا الانحرافات التي سادت نظام الحكم في الدولة الأموية والعباسية, وتفشي الظلم والاستغلال.
هكذا, وكلما ساد الظلم وتفشى في المجتمع, عاد الأفراد إلى الأصول, إلى القيم كما هي في الحدس, إلى الدين الذي هو بطبيعته المفارقة يمثل مستودعا لهذه القيم بشكلها الحدسي. ومن خلال هذه العودة إلى الأصول, يتم تحدي شرعية النماذج الممثلة للقيم والتي تفرضها الطبقة المهيمنة وفرض مؤسسات ونماذج جديدة أقرب إلى ما يستشعره الناس في وجدانهم كمثال للقيم. إذن فالشكل الديني يمكن أن يحمل محتوى قمعيًّا استغلاليًّا من جهة, وأنْ يحمل من جهة أخرى محتوى انسانيًّا ثوريًّا. وتحميل الدين بالمحتوى الإنساني الثوري, وتزويده بالنماذج والمؤسسات القابلة للحياة والقادرة على تجسيد القيم بأفضل ما يمكن, لا يكون إلا من خلال الاستفادة القصوى من كافة التجارب البشرية السابقة وتوظيف الدروس المستقاة منها دون إقصاء لأي منها على أساس مواقف مسبقة عقائدية.
بالنتيجة, فإنَّ الدين والفكر الديني بكافة أشكاله وتجلياته هو جزء لا يتجزأ من المنظومة الفكرية البشرية, وأنَّ الفهم الصحيح للدين والاعتراف بالدور الذي يمكن أنْ يؤديه في سبيل تقدم البشرية, يجعل من توظيفه من خلال تضمينه محتوى تقدميا جزءًا من الحل. وهذا يتطلب تخليص الدين من مستغليه وتجاره, الذين يستغلون مكانته في الوجدان البشري لتحقيق مصالحهم وتبرير تجاوزات الطبقات المهيمنة. وهكذا فإنَّ محاولة البعض محاربة الدين واجتثاثه من عقول ووجدان البشر غير مبررة أصلا, لأنَّ الدين ليس أصل الاستغلال, بل توظيفه السيء, ومحاولة الاجتثاث هذه محكوم عليها بالفشل مسبقا كون الدين ومنظوماته الفكرية, هي تجليًا للطبيعة الازدواجية للوعي البشري. فالأصل أنْ نستوعب هذه الطبيعة الازدواجية وأن نقترح نماذج اجتماعية لا تتناقض معها, وإنّما توظفها وتوجهها لما فيه مصلحة الإنسان والمجتمع.