تأويل القديم أم إبداع جديد


محمد فيصل يغان
2012 / 9 / 17 - 22:01     

لماذا فشل الفكر الاصلاحي او كما يسمى النهضوي التنويري في إحداث فرق يُذكر في البنية الثقافية العربية؟
الدعوة التي حملها هذا الفكر تلخصت في إنتاج تفاسير حديثة لنصوص قديمة بدءاً من الأفغاني و عبده و انتهاءً بالجابري و ابو زيد و أركون و غيرهم من المفكرين الذين عجزوا عن التخلص من الهوية التقليدية المترسخة في عقولهم سواء نتيجة فرض هذه الهوية كهوية نمطية من الخارج-الآخر, أو كهوية مثالية مفروضة من الداخل-الذات في الغالب الأعم بسبب انتماءاتهم الفرعية سواء الطبقية أو الاثنية أو الطائفية, أو بسبب جبنهم في مواجهة القمع الفكري و الثقافي سواء الرسمي أو الشعبي التقليدي.
كان من السهل على الفكر التقليدي و بخاصة السلفي محاربة و تشتيت هذه الدعوة طالما أنها (أي الدعوة النهضوية) التزمت بالأسس و المنطلقات ذاتها و اقتصرت دعواها على محاولات إعادة التأويل العقلي للنصوص الأسطورية المؤسسة للفكر التقليدي. فكيف يمكن للعقل بطبيعته النقدية أن يجابه الأسطورة دون أن يعريها و يعيدها إلى حجمها الأصلي كظاهرة اجتماعية تاريخية و كيف له أن يقوم بدوره النقدي مع التزامه بقدسية هذه النصوص الأسطورية؟ هي إذن معركة خاسرة من بدايتها, و مصير أصحاب هذه الدعوة محتوم من البداية.
إذا كان ما ذكرناه يحتمل بعض الصدق في تفسير مصير الفكر الاصلاحي النهضوي في عالمنا العربي, فعلينا أن نتوجه بالسؤال إلى الفكر التقدمي العلماني: لماذا لا نسمع دعوة لانتاج نصوص حديثة تصبح مرجعية لشؤون الحياة الحديثة؟ الم تكن الماركسية مثلا ثورة في انتاج نصوص مرجعية ما زالت قيد التفسير و اعادة التفسير في مجال الاقتصاد السياسي بالذات؟ الم يكن سبب فشل الاحزاب العقائدية العربية المصنفة بالتقدمية عجزها عن انناج نصوص مرجعية تعالج حياتنا الحاضرة مما ادى بنا دوما و في كل انتكاسة للعودة الى نصوص مرجعية قديمة و المحاولة (الفاشلة دوما) لاعادة تفسيرها من منظور حديث لمعالجة شؤون الحياة الدنيوية الحديثة؟ ألم نتعلم بعد أن النصوص القديمة التي تجاوزها الواقع التاريخي للمجتمع لا يمكن أن تقدم الكثير لأهل العصر الحديث؟ فالثمرة كما يقال لا تسقط بعيداً عن الشجرة, و بالتالي فإن أي تأويل مهما تمطى لن يتجاوز المحدودية التاريخية للنص القديم.
المطلوب إذن فكر جديد و نصوص حديثة, و أن تكون قوة هذه النصوص الحديثة صادرة من اعجازية حديثة, تنبع من منطقها الداخلي القوي, من محايثتها للهموم المطروحة, و من علميتها و ارتباطها الجدلي بالواقع. هذه ليست دعوة إلى ايديولوجيا جديدة بل دعوة إلى (ما فوق) ايديولوجيا, إلى فكر حي يترسب في ذهن العامة على شكل أيديولوجيات تكون قادرة على توجيه دفة التطور لعقود أو ربما قرون قادمة مادة خصبة للعقل النقدي.
هذه دعوة لانتاج نصوص على مستوى الحقائق الكونية بواسطة العقل و الفكر الموزون, و هي مهمة مارسها العقل في الماضي تحت ستار الوحي, أما وقد أجمع الناس على انقطاع الوحي, فلا مناص للعقل من أن يفصح عن هويته الحقيقية و عن مصدر شرعيته البشرية. فمن العبث محاولة إرضاء الذات من خلال البحث في الماضي فثمة مفكر مادي يبحث عن جذور أول للمادية (مروة) في التراث و الليبرالي يبحث عن جذور ليبرالية و مختص الفلسفة يبحث عن (جراثيم أولى لها) في التراث و كذلك عالم الاجتماع يحاول عبثاً تنصيب ابن خلدون أباً لهذا العلم. قد تكون هناك نجاحات مبعثرة في عملية التنقيب الأثري هذه, فقد تجد قولا هنا أو فعلا هناك يندرج بجزئيته تحت الاتجاه الذي نفترضه, و لكن كل أعمال التنقيب هذه لم و لن تسفر عن الكشف عما يمكن تسميته أصول أو جذور للفكر الانساني الحديث. و بالمقابل, فان البحث و التنقيب في ارث اوروبا العصور الوسطى لن يكشف هو الآخر عن جذور و جراثيم أولى للفكر الحديث, بل على العكس, فان الثورة على و القطع مع السائد في القرون الوسطى هو من بذر تلك البذور. السلفي يعي هذه الحقيقة جيدا فالحداثة ستعني الثورة على التراث و القطع معه و بالتالي اختار العيش في الماضي عن وعي و هو بخياره هذا صادق مع نفسه. اما الحداثي التصالحي فعبثا يحاول التوفيق ما بين التراث و الحداثة و من هنا خطابه المهزوز.
أما محاولات الفكر الاصلاحي لإزالة ركام الإرث التفسيري عن صدر النصوص القديمة و استبدالها بركام تفسيري حديث, لن يقود الا إلى دورة جديدة من الإحباط و النكوص الحضاري, و الشواهد تملأ صفحات تاريخانا و تاريخ الغرب, هذا التاريخ الذي يشهد بأن القفزات الحضارية في الغرب قامت على ثورات فكرية أنتجت نصوصا مرجعية جديدة أسست لأيديولوجيات قادت دورات التقدم الحضاري في الغرب. ثورات فكرية ذات مرجعية إنسانية و جذور تاريخية موضوعية, و لنا أن نسأل هل يمكن للباحث اليوم أن يجد هناك أي شبه أو تشارك ما بين أوروبا القرن العاشر و أوروبا القرن الحادي و العشرين في كل مؤسساتها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و حتى الدينية؟ حتماً لا, اذن هناك قطع و تجاوز. و ليست الدعوة هنا إلى تبني ما جاءت به هذه الثورات, فشتان ما بين معطيات تاريخنا و واقعنا الحالي و معطيا الواقع الغربي سابقاً و حالياً. و أول المحظورات هو عدم الوقوع في شرك الهويات النمطية و المثالية, فلا الروح الإسلامية " منافية بطبيعتها للفلسفة بسبب انكارها للذاتية و تعلقها بالكلي المقدس الذي يسيرها و يسير كل شيئ" حسب عبد الرحمن بدوي, و لا العقل الغربي برهاني علمي بطبيعته حسب محمد عابد الجابري, فتنميط العقل يمثل حجراً عليه و قيد, في حين أن الحرية هي الشرط الأول و الضروري لفاعلية العقل.